على تلال صافيتا، حيث البيوت البيضاء الموزّعة بين أشجار الزيتون، وهدوء القرى الذي لا يقطعه سوى زقزقة العصافير، كان فؤاد ابن الثامنة عشرة يعيش بداية شبابه. شاب بسيط، بعينين واسعتين تفضحان كل ما يخفيه قلبه من أحلام أكبر من عمره، وأكبر من جيبه الفارغ.
كان يهرب كل عطلة صيفية نحو البحر، إلى بانياس الساحلية. البحر بالنسبة له كان ملاذًا، يسكب فيه همه الصغير ويستمد منه شيئًا من الأمل. هناك، في إحدى الأمسيات، تعرّف على "حنين". فتاة بملامح لا تُشبه أحدًا، شعرها الأشقر يلمع تحت غروب الشمس، وعيناها كأنهما البحر حين يهدأ… يضيع فيهما المرء دون رجعة.
لم يكن لقاءً مرتبًا، بل صدفة تركت في قلبه ارتباكًا لم يعرفه من قبل. كانت تجلس مع صديقاتها على الرصيف الحجري القريب من الشاطئ، تضحك، بينما هو مرّ بجانبهن مرتبكًا، يحمل بيده كتابًا صغيرًا يقتل به الوقت. لسبب لا يعرفه، توقفت نظراتها عليه، وحين تلاقت العيون، شعر فؤاد أنّ الزمن تجمّد للحظة.
الأيام بعدها حملت لقاءات متكررة؛ مرة عند البحر، ومرة في السوق القديم لبانياس، وأخرى حين قصدت عائلته بيت أقارب هناك. شيئًا فشيئًا، صار لقاؤهما عادة، وكأن القدر ينسج خيوطه بصمت.
لم يحتج فؤاد وقتًا طويلًا ليكتشف أنه وقع في حبها. حب نقي، يشبه براءته، يشبه عمره الغضّ، ويشبه تلك الموجة الأولى التي تلمس قدميك فتسري في جسدك قشعريرة غامرة. أما حنين، فلم تكن بعيدة عن هذا الشعور. كانت تراه بسيطًا، صادقًا، مختلفًا عن كل من عرفتهم.
وحين جلسا للمرة الأولى وحدهما، قرب شجرة رمان قديمة تطل على البحر، لم يجد فؤاد الكلمات. كل ما استطاع أن يقوله كان همسًا مرتجفًا:
– "حنين… ما بعرف شو صارلي من يوم ما عرفتك. بس بعرف إني ما بدي يوم يمرّ بلا ما شوفك."
ابتسمت حنين، وارتجفت يدها وهي تعبث بخصلات شعرها، ثم ردّت بخجل طفولي:
– "ولا أنا يا فؤاد… كأنك صرت جزء من روحي."
منذ تلك اللحظة، وُلد بينهما وعد غير معلن… وعد بأن يبقيا معًا مهما كبرت العوائق.