مرت الأيام ببطء، ثم صارت شهور وسنين. أربع سنين كاملة قضاها فؤاد بلبنان، بين المعامل والورشات، بين غربة ووجع ما بيعرفو غير يلي جرّبوه.
كان يشتغل من الصبح للمسا، يرجع على غرفة صغيرة مستأجرة بمطرح فقير، ينام على فرشة رقيقة، ويحسب كل ليرة وفرها. أكله بسيط، عيشته قاسية، بس حلمه كان أكبر من كل تعب.
أحيانًا، لما يخلص شغله ويروح يتسطّح عالفرشي، كان يغمض عيونه ويتخيّل بيت صغير بصافيتا، فيه حنين قاعدة عالشباك عم تستناه. كان يتذكر ضحكتها، وهاي الصورة كانت تنقذو من الاستسلام.
بس الغربة ما كانت رحيمة. شاف كتير شباب مثله، ضايعين بين شغل شاق وأمل بعيد. بعضهم انهار، وبعضهم انحرف. أما هو، كان كل ما ضعف يتذكر وعده لحنين، ويشد حاله أكتر.
مرت السنين، وجمع قرش فوق قرش. ومع الوقت، صار عنده رأس مال صغير، فتح فيه ورشة نجارة بسيطة. اشتغل بإيديه وتعلّم أسرار المصلحة، وبلش يكبر شغلو شوي شوي. ما كان الطريق مفروش ورد، بس كل نقطة عرق نزلت من جبينه كان بالنسبة إلو وسام.
وبعد أربع سنين، فؤاد ما عاد نفس الشب اللي طلع من صافيتا محطم. رجع رجل، راسه مرفوع، قلبه مليان أمل.
ركب الباص ورجع لسوريا. أول ما وصل، وقف قدام بيت أهله. قلبه كان يدق بسرعة، بس هالمرة مو من خوف… من شوق.
فتح الباب، وأول شي شافو كان وجه أمه. دمعت عيونا وهي تضمو وتهمس:
– "يا روحي… رجعت!"
أبوه كمان حضنو بقوة، وصوتو ارتجف لأول مرة:
– "كبرت يا فؤاد… والله كبرت. فخور فيك."
ابتسم فؤاد وقال بحزم:
– "بابا… هالمرة جاي أطلب حنين. مني ولد. عندي بيتي، شغلي، وحياتي. لازم أوفي بوعدي."
أبوه هز راسو وابتسم بفخر:
– "هلق… هلق نحنا معك."
كانت لحظة انتصار حقيقية… مش بس على الظروف، بل على نفسه كمان.