أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

شارك على مواقع التواصل


مقدمة
محبة الصحابة الكرام للرسول  تظهر في صور ومواقف متعددة، ومن عظيم حبهم له امتثالهم أمره في كل ما يقول، وسماع رأيه وإجابة ما يأمر به، والانتهاء عما ينهي عنه، وذلك من صدق حبهم رضوان الله عليهم له.
ويمكن أن نؤكد أن محبة رسول الله- - فرض أوجبه الله تعالى على كل مسلم ومسلمة، فقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحب إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [ التوبة: 10 ].
وإذا كانت محبة رسول الله- - متوجبة على كل مسلم ومفروضة، فإنها لدى صحابة الرسول- - أشد وأقوى؛ فلقد أحبه الصحابة رضوان الله عليهم حبًّا فاق كل حب، فآثروه على المال والولد، وقد روي أن عمر قال للرسول- : "والله يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي"؛ فقال رسول الله-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه"، فقال عمر: "فأنت الآن والله أحب إليَّ من نفسي"؛ فقال رسول الله-: «الآن يا عمر».

صور حب الصحابة للرسول
وقد كان حب الصحابة رضوان الله عليهم للنبي-- يأتي في صور عديدة، منها على سبيل المثال:

1- الدفاع عنه:
لقد خاض الرسول-- في سبيل نشر الدعوة المباركة حربًا شرسة دائمة مع الكفار، وأخذت الدعوة المحمدية تغزو معاقل الشرك وتجتث عروش المشركين، فقابلها الكفار بمحاولة إيذاء النبي-- والتعرض له في كل مكان حتى إنه لم يسلم من إيذائهم حتى وهو قائم يصلي في محرابه، وكان المسلمون يدافعون عن رسول الله-- وينافحون عنه، ويبذلون أنفسهم فداء له، فهذا أبو بكر الصديق خليل رسول الله-- بينما هو جالس في ناحية من نواحي المسجد الحرام إذا به يبصر عقبة بن أبي معيط أحد رؤوس الكفر متجهًا صوب رسول الله-، ورسول الله-- يصلي؛ فأخذ أبو بكر يترقبه، فإذا هو يخلع ثوبه ويضعه حول عنق رسول الله-- ليخنقه، فما أن رأى ذلك حتى انطلق كالسهم تجاه هذا الكافر، ثم أخذ بمنكبه ودفعه دفعة شديدة، ونجا رسول الله-- من كيده، ثم أخذ يردد الآية الكريمة: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ» [غافر: 28].

2- خوفهم من فراقه
ومن حبهم رضوان الله عليهم له خوفهم من فراقه، ومن يألفه عليه الصلاة والسلام ويتعامل معه فلا شك أنه سيجزع لفراقه، فهو مصدر أمن وأمان لأصحابه؛ كيف لا وهو الذي قد أنقذهم من جاهليتهم العمياء بنور الإسلام المبين، وقد كان الرسول-- يعاملهم كل حسب طبعه وسنه، فهو الأب الحاني لكل طفل، وهو الأخ العائن لكل مسلم، وهو النصير المساعد لكل محتاج، وهو السند والذخر لكل يتيم. أخرج أحمد عن معاذ بن جبل-رضا الله عنه- قال: لما بعثه رسول الله-- إلى اليمن خرج معه رسول الله-- يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله-- يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري»، فبكى معاذ جزعًا لفراق رسول الله-- (مجمع الزوائد: 9/25).
ولم يكن خوفهم من فراقه يقتصر على الدنيا، بل تعداه إلى خشيتهم من فراقه في الآخرة، أخرج الطبراني عن عائشة- رضا الله عنها- قالت: "جاء رجل إلى النبي-- فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إلى من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك"، فلم يرد عليه النبي-- شيئًا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 36] ( مجمع الزوائد: 7/10).

3- تفضيله عليه السلام على من سواه
ومن حبهم له-- تفضيلهم إياه على أهليهم وذويهم، بل أيضًا على أنفسهم؛ وهذا ما أمر الله به المسلمين جميعًا، أخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضا الله عنه قال: "لما كان يوم أُحد خاض أهل المدينة خيضة، وقالوا: قُتِل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم، استقبلت بهم أولًا، فلما مرَّت على أحدهم قالت: "من هذا؟ "قالوا: "أبوك، أخوك، زوجك، ابنك"، تقول: "ما فعل رسول الله ؟ "يقولون: "أمامك"، حتى دُفعت إلى رسول الله-- فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب" (حلية الأولياء: 2/377).

4- التنافس في محبته
ومن صور إخلاصهم رضوان الله عليهم في محبته عليه الصلاة والسلام، السعي والتنافس في محبته، فكل منهم حريص على أن يفوز بحب رسول الله-- له أكثر من غيره، وهكذا اجتهدوا رضوان الله عليهم في محبته وإخلاص النية في وده. روى أسامة بن زيد عن أبيه قال: "اجتمع على وجعفر وزيد بن حارثة فقال جعفر: "أنا أحبكم إلى رسول الله "، وقال علي: "أنا أحبكم إلى رسول الله "، وقال زيد: " أنا أحبكم إلى رسول الله "، فقالوا: "انطلقوا بنا إلى رسول الله-- نسأله، فقال أسامة: "فجاءوا يستأذنونه"، فقال: «اخرج فانظر من هؤلاء»، فقلت: "هذا جعفر وعلي وزيد"، فقال : «ائذن لهم»، فدخلوا، فقالوا: "يا رسول الله من أحب إليك؟" قال: «فاطمة»، قالوا :"نسألك عن الرجال"، فقال: «أما أنت يا جعفر فأشبه خلقك خلقي وأشبه خُلقي خُلقك، وإنك مني وشجرتي، وأما أنت يا علي فختني وأبو ولدي، وأنا منك وأنت مني، وأما أنت يا زيد فمولاي ومني وإليَّ وأحب القوم إليَّ»، ففضل زيدًا وكرَّم الآخرين (مجمع الزوائد: 9/277).

5- تقبيلهم جسده الطاهر
ومن حبهم له تقبليهم جسده الطاهر، فعندما كان الرسول-- يسوي صفوف المسلمين إذ لامس بطن سواد بن غزية بجريدة كانت بيده، فانتهز سواد تلك الفرصة، وقال: "لقد أوجعتني يا رسول الله!" فكشف رسول الله-- عن بطنه الشريف، وقال: «استقد مني يا سواد»». فأسرع سواد فاحتضن رسول الله ثم جعل يقبل كشحه، ثم قال: "يا رسول الله، لقد ظننت أن هذا المقام هو آخر العهد بك، فأحببت أن يمس جلدي جلدك كي لا تمسني النار!" (السلسلة الصحيحة: 6/808).

6- فداؤهم له
ومن صدق حبهم له أنهم كانوا يتلذذون بأصناف العذاب في سبيل نجاة النبي-- وسلامته من الأخطار، بل إنهم لا يكادون يتصورون راحتهم وهناءهم حال إيذائه وتعذيبه. ومن ذلك قصة زيد بن الدثنة، عندما ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يُقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتله: "أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك؟ "، قال: "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي"، فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا ثم قتله نسطاس".

7- امتثال أمره
ومن عظيم حبهم له امتثالهم أمره في كل ما يقول، وسماع رأيه وإجابة ما يأمر به والانتهاء عما ينهي عنه، وذلك من صدق حبهم رضوان الله عليهم له. فعن عبدالرحمن بن أبي ليلى أن عبد الله بن رواحة رضا الله عنه أتى النبي-- ذات يوم وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: «اجلسوا» فجلس مكانه خارجًا عن المسجد حتى فرغ النبي-- من خطبته، فبلغ ذلك النبي فقال له: «زادك الله حرصًا على طواعية الله وطواعية رسوله». (الإصابة: 2/306). ومن ذلك أيضًا ما أخرجه سعيد بن منصور عن المغيرة بن شعبة- رضا الله عنه- قال: "خطبت جارية من الأنصار فذكرت ذلك للنبي-- فقال لي: «رأيتها؟» فقلت: "لا"، قال: «فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما». فأتيتها، فذكرت ذلك لوالديها، فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقمت فخرجت، فقالت الجارية: "عليَّ الرجل"، فوقفت ناحية خدرها، فقالت: "إن كان رسول الله-- أمرك أن تنظر إليَّ فانظر، وإلا فإني أُحرِّج عليك أن تنظر"، فنظرت إليها فتزوجتها، فما تزوجت امرأة قط كانت أحب إليَّ منها ولا أكرم عليَّ منها (شرح السنة: 5/14). وأخيرًا هذه خلاصة مقتضبة لصور من حب الصحابة رضوان الله عليهم للنبي ، لعلها تكون لنا نِبراسًا يضيء لنا الطريق، فنحب رسول الله-- ونتبع هديه عليه السلام ونتجنب ما نهى عنه.

المحبوب هو محمد بن عبدالله 
أما نوع الحب فيكفي أنه حب أنطق الحجر، وحرك الشجر، وأبكى الجذع، وأسكب دمع البعير، فما بالك بإنسان له جنان يفيض بالحب والحنان؟

القصة الأولى: الجذع يحن
عن جابر بن عبدالله- رضي الله عنهما قال: (كان المسجد مسقوفًا على جذوع من نخل فكان النبي-- إذا خطب يقوم إلى جذع منها فلما صنع له المنبر وكان عليه، سمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار حتى جاء النبي-- فوضع يده عليه فسكن) رواه البخاري.
عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما أن النبي-- كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل، يا رسول الله ألا نجعل لك منبرًا، قال إن شئتم، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي-- فضمها إليه تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها) رواه البخاري. وزاد في سنن الدارمي بسند صحيح قال: (أما والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزنًا على رسول الله ) فأمر به فدفن .
كيف ترقى رقيك الأولياء *** يا سماء ما طاولتها سماء
إنما مثلوا صفاتك للناس *** كما مثَّلَ النجومَ الماءُ
حن جذع إليك وهو جماد *** فعجيب أن يجمد الأحياء

كان الحسن رحمه الله يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله-- شوقًا إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه .

القصة الثانية: الحمامة تشتكي
عن عبدالله بن مسعود عن أبيه- ، قال: (كنا مع رسول الله- - في سفر ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما، قال فجاءت الحمرة إلى رسول الله-- وهي تصيح فقال النبي-- من فجع هذه بفرخيها، قال فقلنا نحن، قال فردوهما) رواه أبو داود والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
جاءت إليك حمامة مشتاقة *** تشكو إليك بقلب صب واجف
من أخبر الورقاء أن مقامكم *** حرم وأنك منزل للخائف

القصة الثالثة: الجمل يبكي
عن عبدالله بن جعفر، قال: (أردفني رسول الله- - خلفه ذات يوم فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أحدث به أحدًا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله- - لحاجته هدفًا أو حايش نخل، فدخل حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه ناضح له، فلما رأى النبي-- حن وذرفت عيناه، فنزل رسول الله-- فمسح ذفراه وسراته فسكن، فقال من رب هذا الجمل، فجاء شاب من الأنصار فقال أنا، فقال ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكاك إليَّ وزعم أنك تجيعه وتُدْئِبُه) رواه الإمام أحمد.
عن يعلى بن مرة الثقفي- رضي الله تعالى عنه- قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول الله- - بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه، قال فلما رآه البعير جرجر فوضع جرانه، فوقف عليه النبي- - فقال: (أين صاحب هذا البعير) فجاءه فقال النبي-: بِعْنِيه، قال: بل نهبه لك، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، قال: أما إذ ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه، قال: ثم سرنا حتى نزلنا منزلًا فنام النبي-- فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها فلما استيقظ رسول الله-- ذكرت له فقال: (هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول الله فأذن لها)، قال ثم سرنا فمررنا بماء، فأتته امرأة بابن لها به جنة، فأخذ النبي-- بمنخره، ثم قال: (اخرج إني محمد رسول الله) قال ثم سرنا فلما رجعنا من مسيرنا مررنا بذلك الماء فأتته المرأة بجزر ولبن، فأمرها أن ترد الجزر، وأمر أصحابه فشربوا اللبن، فسألها عن الصبي فقالت والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبًا بعدك. قال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين والطبراني وصححه الألباني.

القصة الرابعة: الحجر والشجر يسلم من فرط الحب
عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله : (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن) رواه مسلم والترمذي وأحمد.
وعن علي- رضي الله تعالى عنه- قال كنت مع النبي-- بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله.

القصة الخامسة: الطعام والحجر يسبح
روى علقمة عن عبدالله قال إنكم تعدون الآيات عذابًا، وإنا كنا نعدها على عهد رسول الله-- بركة لقد كنا نأكل الطعام مع النبي-- ونحن نسمع تسبيح الطعام، قال وأتي النبي-- بإناء فوضع يده فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فقال النبي-- حي على الوضوء المبارك والبركة من السماء حتى توضأنا كلنا) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
عن أبي ذر- - قال: "إني لشاهد عند رسول الله في حلقة، وفي يده حصي فسبحن في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحهن من في الحلقة". أخرجه الطبراني في الأوسط مجمع البحرين، والبزار وإسناد الطبراني صحيح رجاله ثقات .
لئن سبحت صـم الجبال مجيبـة *** لداود أو لان الحديد المصفـح
فإن الصخور الصُـــمَّ لانت بكفه *** وإن الحصى في كفـه ليسبِّـح
وإن كان موسى أنبع الماء من العصـا *** فمن كفه قد أصبح الماء يطفـح

القصة السادسة: الحجر والشجر يسجد
عن ابن عباس قال: جاء رجل من بني عامر إلى النبي-- كأنه يداوي ويعالج فقال: يا محمد إنك تقول أشياء هل لك أن أداويك؟ قال: فدعاه رسول الله-- إلى الله، ثم قال: (هل لك أن أريك آية )؟ وعنده نخل وشجر فدعا رسول الله-- عذقًا منها فأقبل إليه وهو يسجد ويرفع رأسه، ويسجد ويرفع رأسه، حتى انتهى إليه-- فقام بين يديه، ثم قال له رسول الله-: (ارجع إلى مكانك) فقال العامري: والله لا أكذبك بشيء تقوله أبدًا، ثم قال: يا آل عامر بن صعصعة والله لا أكذبه بشيء) رواه ابن حبان، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
وفي قصة رحلته صلى الله إلى الشام التي رواها الترمذي وصححها الألباني، قال الراهب: (هذا سيد العالمين بعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش ما علمك؟ فقال: إنكم حيث أشرفتم من العقبة لم يبقَ شجر ولا حجر إلا خر ساجدًا ولا يسجدون إلا لنبي وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه..) الحديث
أكرم بَخَلق نبي زانه خُلُق *** بالحق مشتملٍ بالبشر مُتّسمِ
كالزهر في ترفٍ والبدر في شرفٍ *** والبحر في كرمٍ والدهر في هِمَمِ
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة *** تمشي إليه على ساقٍ بلا قدمِ
يا ربُّ أزكى صلاةٍ منك دائمة *** على النبي بمنهَلًّ ومنسجمِ
ما رنّحت عذبات البان ريح صبا *** وأطربت نغمات الآي من أُمم

القصة السابعة: الجبل يهتز فرحًا برسول الله 
عن أنس رضي الله عنه قال صعد النبي- - جبل أحد ومعه أبوبكر وعمر وعثمان- رضي الله عنهم- فرجف بهم الجبل، فقال: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) رواه البخاري.
قال بعض الدعاة وإنما اهتز فرحًا وطربًا وشوقًا للقاء رسول- - وصحبه
لا تلوموا أُحدًا لاضطراب *** إذ علاه فالوجد داءُ
أُحد لا يلام فهـو محبٌّ *** ولكم أطرب المحب لقاءُ
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه: أن رسول الله- - طلع له أُحد فقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرَّم مكة وإني أحرِّم ما بين لابتيها) رواه البخاري.

القصة الثامنة: الشجر يطيع النبي ويستأذن في السلام عليه
وعن يعلى بن مرة عن أبيه قال: سافرت مع رسول الله- - فرأيت منه شيئًا عجبًا، نزلنا منزلًا، فقال انطلق إلى هاتين الشجرتين، فقل إن رسول الله- - يقول لكما أن تجتمعا، فانطلقت فقلت لهما ذلك، فانتزعت كل واحدة منهما من أصلها فمرت كل واحدة إلى صاحبتها فالتقيتا جميعًا، فقضى رسول الله حاجته من ورائهما ثم قال: انطلق فقل لهما: لتعد كل واحدة إلى مكانها، فأتيتهما فقلت ذلك لهما، فعادت كل واحدة إلى مكانها.
وأتته امرأة، فقالت إن ابني هذا به لمم، مس من الجن، منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين، فقال رسول الله- : (أَدْنِيه) فأدنته منه، فتفل في فيه، وقال: اخرج عدو الله أنا رسول الله، ثم قال لها رسول الله إذا رجعنا فأعلمينا ما صنع، فلما رجع رسول الله استقبلته ومعها كبشان وأقط وسمن، فقال لي رسول الله- : خذ هذا الكبش، واتخذ منه ما أردت، قالت والذي أكرمك ما رأينا شيئًا منذ فارقتنا، ثم أتاه بعير، فقام بين يديه، فرأى عينيه تدمعان، فبعث إلى أصحابه، فقال: هذا البعير يشكوكم؟ فقالوا: كنا نعمل عليه، فلما كبر وذهب عمله تواعدنا عليه لننحره غدًا، فقال رسول الله- : (لا تنحروه، واجعلوه في الإبل يكون معها) صححه الحاكم وصححه الأرناؤط .
وعن عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما- قال كنا مع النبي – - في سفر فأقبل أعرابي، فلما دنا قال له رسول الله- : (أين تريد؟) قال إلى أهلي، قال: (هل لك في خير؟) قال: ما هو؟ قال (تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله) قال: من شاهدٌ على ما تقول؟ قال (هذه الشجرة) فدعاها رسول الله-- وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدًّا حتى جاءت بين يديه فاستشهدها ثلاثًا فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي، فقال إن يبايعوني آتك بهم وإلا رجعت إليك فكنت معك) رواه الدارمي .

القصة التاسعة: الأسد يودع مولى رسول الله
عن محمد بن المنكدر: أن سفينة مولى رسول الله- - قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، فركبت لوحًا من ألواحها، فطرحني اللوح في أجمة فيها الأسد، فأقبل إلى يريدني، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله-- فطأطأ رأسه، وأقبل إليَّ فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة، ووضعني على الطريق، وهمهم فظننت أنه يودعني، فكان ذلك آخر عهدي به. رواه الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
فتأمل أخي تعظيم هذا المخلوق وتوقيره ومحبته لرسول الله، فما إن سمع اسم رسول الله حتى طأطأ رأسه، وبدل من أن يهم بمولاه دله على الطريق وودعه .

نماذج من حب البشر :
القصة الأولى: أبوبكر الصديق
عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص- رضي الله تعالى عنهما- أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله- - قال: بينا رسول الله  يصلي بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقا شديدًا، فأقبل أبوبكر فأخذ بمنكبه، ودفع عن رسول الله ، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ}. رواه البخاري.




القصة الثانية: الصديق يبكي فرحًا
قالت عائشة- رضي الله عنها: (فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحدًا يبكي من الفرح).

القصة الثالثة: خشيت ألا أراك
روى الطبراني عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: جاء رجل إلى النبي- - فقال يا رسول الله إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وأني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك فلم يرد عليه النبي- - شيئًا حتى نزل جبريل عليه السلم بهذه الآية: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرسول فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69) قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح إلا عبدالله بن عمران وهو ثقة .

القصة الرابعة: أسألك مرافقتك في الجنة
عن ربيعة بن كعب- : (كنت أبيت مع رسول الله- - فأتيته بوضوئه، وحاجته، فقال لي: (سل) فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: (أو غير ذلك) قلت: هو ذاك، قال: (فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم .

القصة الخامسة: كل مصيبة بعده جلل
روى ابن جرير الطبري في التاريخ عن سعد بن أبي وقاص- - قال: مرَّ رسول الله-- بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله-- بأُحد، فلما نُعوا لها قالت: فما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرِنِيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل؛ تريد صغيرة.

القصة السادسة: لا أرضى أن يشاك بشوكة
عن أبي هريرة  قال: بعث رسول الله-- عشرة رهط سرية عينًا، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهو بين عسفان ومكة، ذُكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا لهم قريبًا من مائتي رجل كلهم رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرًا تزودوه من المدينة، فقالوا هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد، وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدًا قال عاصم بن ثابت أمير السرية أمَّا أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصمًا في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري، وابن دثنة، ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم فقال الرجل الثالث هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن في هؤلاء لأسوة، يريد القتلى، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم، فأبى فقتلوه، فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا، فأخبرني عبيدالله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته بأنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها، فأعارته فأخذ ابنًا لي وأنا غافلة حين أتاه، قالت فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال تخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك، والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من قطف عنب في يده، وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول إنه لرزق من الله رزقه خبيبًا فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب ذروني أركع ركعتين فتركوه، فركع ركعتين، ثم قال لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتها، اللهم أحصهم عددًا.
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا *** على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله بن الحارث، فكان خبيب هو من سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرًا، فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب، فأخبر النبي-- أصحابه خبرهم وما أصيبوا وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قُتل ليؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قد قتل رجلًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث على عاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسولهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئًا". أخرجه البخاري والنسائي وأبوداود.
وفي بعض الروايات: فقال له أبو سفيان (أيسرك أن محمدًا عندنا نضرب عنقه وإنك في أهلك؟ فقال لا والله ما يسرني إني في أهلي وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه).

القصة السابعة: الصديق يتمنى سرعة اللحاق
عن عائشة رضي اله عنها قالت: إن أبا بكر- - لما حضرته الوفاة قال: (أي يوم هذا؟) قالوا: يوم الاثنين، قال: (فإن مت من ليلتي فلا تنتظروا بي الغد، فإن أحب الأيام والليالي إليَّ أقربها من رسول الله ) رواه أحمد وصححه أحمد شاكر.

القصة الثامنة: لا يخلص إلى رسول- - وفيكم عين تطرف
عن زيد بن ثابت- - قال: بعثني رسول الله  يوم أُحد أطلب سعدًا بن الربيع، فقال لي إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له يقول لك رسول الله  كيف تجدك؟ قال فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، فقلت يا سعد إن رسول الله  يقرأ عليك السلام، ويقول لك أخبرني كيف يجدك؟ فقال وعلى رسول الله-- السلام قل له يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول  وفيكم عين تطرف، وفاضت روحه من وقته. رواه البخاري، 844، ومسلم 3408.

القصة التاسعة: غدًا ألقى الأحبة
عندما احتضر بلال  قالت امرأته: واحزناه، فقال: (بل واطرباه غدًا نلقى الأحبة محمدًا وصحبه) فمزج مرارة الموت بحلاوة الشوق إليه .

القصة العاشرة: أطيب الطيب
عن أنس : دخل علينا النبي- - فقال عندها (أي من القيلولة) فعرق، وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب". رواه مسلم .

القصة الحادية عشرة: ابن الزبير يشرب الدم
كان النبي-- قد احتجم في طست، فأعطاه عبدالله بن الزبير ليريقه فشربه، فقال له‏:‏ ‏(‏‏لا تمسك النار إلا تحلة القسم، وويل لك من الناس، وويل للناس منك‏‏)‏‏.‏
وفي رواية‏:‏ أنه قال له‏:‏ ‏(يا عبدالله اذهب بهذا الدم، فأهريقه حيث لا يراك أحد)‏‏ فلما بعُد عمد إلى ذلك الدم فشربه، فلما رجع قال‏:‏ ‏(‏ما صنعت بالدم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ إني شربته لأزداد به علمًا وإيمانًا، وليكون شيء من جسد رسول الله- - في جسدي، وجسدي أولى به من الأرض‏، فقال‏:‏ ‏(أ‏بشر لا تمسَّك النار أبدًا، وويل لك من الناس وويل للناس منك‏‏‏)‏ رواه الحاكم والطبراني، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم وهو ثقة‏.‏

القصة الثانية عشرة: نحري دون نحرك
كان أبوطلحة الأنصاري  يحمي رسول الله  في غزوة أحد، ويرمي بين يديه، ويقول (بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك) رواه البخاري.
وعن قيس بن أبي حازم قال: (رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي- - يوم أحد) رواه البخاري.

القصة الثالثة عشرة: آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك
روى ابن اسحاق أن رسول الله-- عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال استوِ يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله- - عن بطنه، فقال استقد، قال فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد، قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله- - بخير] رواه ابن اسحاق، وقال الهيثمي في المجمع رواه الطبراني ورجاله ثقات .

القصة الرابعة عشرة: وما كنت أطيق أن أملأ عيني
عن عمرو بن العاص- رضي الله عنه: (... وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله- - ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه..) رواه مسلم.
القصة الخامسة عشرة: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا
عن أبي سعيد الخدري، قال: لما أعطي رسول الله-- ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم لقي رسول الله- - قومه فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال يا رسول الله إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال فأين أنت من ذلك يا سعد، قال يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال رسول الله : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال فأتاهم رسول الله-- فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضُلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم. قالوا بل الله ورسوله أمنُّ وأفضل، قال ألا تجيبونني يا معشر الأنصار، قالوا وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل. قال أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصُدِّقتم، أتيتنا مُكذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فأغنيناك. أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله- - في رحالكم. فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبًا وسلكت الأنصار شِعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا، ثم انصرف رسول الله- - وتفرقنا. رواه الإمام أحمد وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن.
فتأمل أخي المبارك إلى فرح الأنصار بفوزهم برسول الله قسمًا، تأمل بكاء الفرح وهم يقولون بقلوبهم قبل ألسنتهم (رضينا برسول الله قسمًا وحظًّ ).
طفح السور على حتى أنني *** من كثر ما قد سرني أبكاني

القصة السادسة عشرة: عشر إليهم يحن قلبي
عن عبدة بنت خالد بن معدان قالت: [ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله- - وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار يسميهم ويقول: هم أصلي وفصلي وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم فعجل ربي قبضي إليك حتى يغلبه النوم].

القصة السابعة عشرة: البكاء عند ذكر النبي 
قال إسحاق التجيبي: كان أصحاب النبي- - بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا.
وقال مالك، وقد سئل عن أيوب السختياني: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه :وقال: وحج حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي-- بكى حتى أرحمه .
وقال مصعب بن عبدالله: كان مالك إذا ذكر النبي- - يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك، فقال لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه. الشفا ج2صـ32



القصة الثامنة عشرة: أعطني عينيك أقبلهما
قال ثابت البناني لأنس بن مالك رضي الله عنه: أعطني عينيك اللتين رأيت بهما رسول الله- - حتى أقبلهما .
لماذا كل هذا الحب؟ سؤال يتكرر، إنه حب لم يشهد الكون علويه وسفليه مثله .
رجل كل شيء في الكون يحبه، السماء بمن فيها، والأرض بمن عليها، كل يحبه ويشتاق إليه، فما أعظمه من رجل، وما أجله من نبي وأعزه من رسول .
كأن الثريا علقت في جبينه *** وفي جيده الشِّعرى وفي وجهه القمرُ
عليه جلال المجد لو أن وجهه *** أضاء بليلٍ هلَّل البدو والحضرُ

مشهد بين يدي معركة بدر الكبرى
في شرح النووي على مسلم- رحمهما الله تعالى: عَنْ أَنَسٍ بن مالك ، أن رَسُولَ اللَّهِ- - شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُوبَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إلى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا.
قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ-- الناس، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا.
قال العلماء: فَلَمَّا عَرَضَ الْخُرُوج لِعِيرِ أَبِي سُفْيَان، أَرَادَ أَنْ يَعْلَم أنهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ أَحْسَنَ جَوَاب بِالْمُوَافَقَةِ التَّامَّة، فِي هَذِهِ الْمَرَّة وَغَيْرهَا.
وجاء في الروض الأنف: وَأَتَاهُ الْخَبَرُ (للرسول ) عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ الناس، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ. فَقَامَ أَبُوبَكْرٍ الصّدّيقُ، فَقَالَ وَأَحْسَن. ثُمّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَقَالَ وَأَحْسَن. ثُمّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! امْضِ لِمَا أَرَاك اللّهُ فَنَحْنُ مَعَك، وَاَللّهِ لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: "اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا أنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا، أنا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ. فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، لَوْ سِرْت بِنَا إلى بَرْكِ الْغُمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَك مِنْ دُونِهِ حَتّى تَبْلُغَهُ". فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ-: "خَيْرًا"، وَدَعَا لَهُ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ- : "أَشِيرُوا عليَّ أَيّهَا الناس". وَأنمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارُ...فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ ، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاَللّهِ لَكَأنك تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: "أَجَلْ". قَالَ: لَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك، وَشَهِدْنَا أن مَا جِئْت بِهِ هُوَ الْحَقّ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودِنَا وَمَوَاثِيقِنَا، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا، إنا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ. لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقُرّ بِهِ عَيْنُك، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ. فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ-- بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشّطَهُ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ-: "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإن اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْن، وَاَللّهِ لَكَأني الْآنَ أَنْظُرُ إلى مَصَارِعِ الْقَوْم".

في غزوة أحد :
ظهرت صور كثيرة من حب الصحابة للنبي- - بصورة عملية، وذلك حينما حاصر المشركون رسول الله- - ومن معه، وخلال هذا الموقف العصيب سارع المسلمون إلى رسول الله-- وأقاموا حوله سياجًا بأجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في الدفاع عنه، فقام أبوطلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله-- ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، ويقول: "نحري دون نحرك يا رسول الله".
وأبو دجانة يحمي ظهر رسول الله-- والسهام تقع عليه ولا يتحرك، ومالك بن سنان يمتص الدم من وجنته، ـ حتى أنقاه، وعرضت لرسول الله- - صخرة من الجبل فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض عليه، فقال : أوجب طلحة) أي الجنة).

في صلح الحديبية :
لمَّا قدِم عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ مفاوضًا للنبي، ، من طرف قريش وحلفائها، قال واصفًا ما رآه من حب الصحابة وتعظيمهم للنبي، : " والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت ملكًا قَطْ يعظِّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له" رواه البخاري .

أبوبكر :
استأذن أبوبكر الصديق، ، النبي، ، في الهجرة، فقال له: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا" فلما أذن الله، عز وجل، لنبيه بالهجرة قدم على أبي بكر يخبره بالأمر، فقال له أبوبكر:" الصحبة يا رسول الله". فقال له: الصحبة. تقول عائشة، رضي الله عنها: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ) رواه البخاري).
وفي طريق الهجرة كما ذكر ابن القيم في زاد الميعاد، والبيهقي في الدلائل: "أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله، ، إلى الغار، كان يمشي بين يديه ساعة، ومن خلفه ساعة، فسأله، فقال: أذكر الطلب (ما يأتي من الخلف) فأمشي خلفك، وأذكر الرصد (المترصد في الطريق) فأمشي أمامك، فقال : "لو كان شيء أحْبَبْتَ أن تُقتل دوني؟"، قال: "أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار، قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فاستبرأه".
وعن البراء بن عازب، ، قال: ابتاع أبوبكر من عازب رحلا فحملته معه، قال: فسأله عازب عن مسير رسول الله- - قال أخذ علينا بالرصد، فخرجنا ليلًا فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة، فأتيناها ولها شيء من ظل، قال: ففرشت لرسول الله- - فروة معي ثم اضطجع عليها النبي ، فانطلقت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعٍ قد أقبل في غنيمة يريد من الصخرة مثل الذي أردنا، فسألته: لمن أنت يا غلام؟، فقال: أنا لفلان، فقلت له: هل في غنمك من لبن؟، قال: نعم، قلت له: هل أنت حالب؟، قال: نعم، فأخذ شاة من غنمه، فقلت له: انفض الضرع، قال: فحلب كثبة من لبن ومعي إداوة من ماء عليها خرقة قد روأتها لرسول الله ، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت به النبي ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله- - حتى رضيت، ثم ارتحلنا والطلب في إثرنا) رواه البخاري).

ثوبان :
قال الله تعالى: "وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقً" } النساء: 69).
قال البغوي في تفسيره: "نزلت في ثوبان مولى رسول الله، ، وكان شديد الحب لرسول الله، ، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغيَّر لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له الرسول،- : ما غيَّر لونك؟، فقال: يا رسول الله، ما بي مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أني لا أراك، لأنك تُرفَع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية.

النساء:
اسمعوا أيها الأحبة لما فعلته الصحابية الجليلة، نَسِيبَةُ بنتُ كعبٍ، في يوم أحد، هذه المرأة الجريئة الشجاعة البطلة المجاهدة في معركة أحد، ماذا فعلت، كانت قد بايعت الرسول، وكانت تخرج معه في الغزوات، وفي يوم أُحد لما رأت أن القوم تكاثروا على رسول الله، أي أحاط به الكفار وحاصروه، ماذا فعلت نَسيبةُ بنتُ كعب؟! استلَّت سيفَها، ودخلت بين صفوفِ المقاتلين، تضرِبُ يمينًا وشمالًا، حتى وقفت بين يدي رسول الله، وجعلت تقاتِلُ دونَه، وتدفَعُ عنه، وهى تردُّ الضربات، بجسدها عن رسول الله ، حتى قال الرسول ومَن يُطيقُ ما تُطِيقين يا أمَّ عُمارة؟! هذه الصاحبية نَسيبةُ بنتُ كعبٍ أمُّ عُمارة، صارت تدفع بنفسها بجسدها، تقاتل وتضرب يمينًا وشمالًا، إلى أن رأت ولَدَها قد أُصيب في المعركة، ابن لها ضُرب، جُرح، وقع، لم تترك الدفاعَ عن الرسول، بقيت تقاتل دونَ الرسول، وهي تحرِّض ولَدَها وتقول، يا بنيَّ قم فاضربِ القوم، يا بنيَّ قم فاضرب القوم، وهي تدافع عن الرسول، لم تذهب لأجل ابنها، لم تترك الدفاع عن النبي لأجل ولدها، حتى قال الرسول ما التفتُّ يمينًا ولا شمالًا يومَ أُحد إلا ورأيتُ نَسبيةَ تقاتل دونى، خرجت من المعركة، وقد أصيبت وجُرحت، وكانت ضربةٌ قوية في عنقها، فجعلت تعالِجُها سنة وهي تنزِف، وقبل أن يَجِفَّ الجرح الأول، سمعت المنادي ينادي، فعَصبت جُرحَها، ربطته، وأخذت سيفها، وخرجت تقاتل في سبيل الله حتى قُتلت.
وكذلك، امرأة من بني دينار في غزوة أحد، أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله- ، فلما نعوهم لها قالت: "ما فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟، قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرُنِيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، أي صغيرة.

الشباب :
قال عبدالرحمن بن عوف : "بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟، قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟، قال:أُخبِرْت أنه يسب رسول الله- ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله- - فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال- : كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء. رواه البخاري .
لقد كان الدافع على حرص الأنصاريين الشابين على قتل أبي جهل هو حبهما لرسول الله، ، ونصرتهما له، وذلك لما علماه من أن أبا جهل كان يؤذي ويسب رسول الله- ، وهكذا بلغت محبة شباب الأنصار لرسول الله- - إلى بذل النفس في سبيل الانتقام ممن تعرض للنبي- ، بالأذى .
هكذا ترجم الصحابة، رضوان الله عليهم، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً، محبة رسول الله- ، حبًّا قدموه فيه على أنفسهم وأهليهم وأموالهم والناس أجمعين، فأين نحن من ذلك؟!
إن محبة النبي، ، الصادقة حياة من حُرمها، فهو من جملة الأموات، يقول ابن القَيّم: "المقصود أنه بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله، سبحانه- علَّق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح، والعزة والكفاية واللذة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة".

قصة في حب الصحابة للرسول
بلال رضي الله عنه
أول من رفع الأذان بأمر من النبي- - في المسجد الذي شيد في المدينة المنورة، واستمر في رفع الأذان لمدة تقارب السنوات العشر. هذه المعلومات كثير منا يعرفها ودرسها أو قرأها لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أين كان بلال رضي الله عنه بعد وفاة حبيبه وحبيبنا محمد بن عبدالله ، ذهب بلال  إلى أبي بكر  يقول له: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله - يقول: أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله.. قال له أبوبكر: (فما تشاء يا بلال؟) قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت... قال أبوبكر: (ومن يؤذِّن لنا؟؟)... قال بلال  وعيناه تفيضان من الدمع: إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله....قال أبوبكر: بل ابقَ وأذِّن لنا يا بلال. قال بلال : إن كنت قد أعتقتني لأكون لك فليكن ما تريد، وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له... قال أبوبكر: (بل أعتقتك لله يا بلال)....فسافر إلى الشام  حيث بقي مرابطًا ومجاهدًا.
يقول عن نفسه: لم أطق أن أبقى في المدينة بعد وفاة الرسول ، وكان إذا أراد أن يؤذن وجاء إلى: 'أشهد أن محمدًا رسول الله' تخنقه عَبْرته، فيبكي، فمضى إلى الشام وذهب مع المجاهدين. وبعد سنين رأى بلال  النبي  في منامه وهو يقول: "ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟"... فانتبه حزينًا، فركب إلى المدينة، فأتى قبر النبي - وجعل يبكي عنده من ذلك اليوم. وعندما زار الشام أمير المؤمنين عمر- - توسل المسلمون إليه أن يحمل بلالًا  على أن يؤذن لهم صلاة واحدة، ودعا أمير المؤمنين بلالًا ، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها، وصعد بلال وأذن.....فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله- - وبلال  يؤذن، بكوا كما لم يبكوا من قبل قط، وكان عمر أشدهم بكاء.

ثمرات محبة الرسول 
1- الفوز بمحبة الله تعاللا
قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
قال ابن كثير رحمه الله: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله.
قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ".
قال ابن القيم: لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه.

2- حلاوة الإيمان والسعادة والهناء :
عن أنس عن النبي-- قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام: فالثواب على ما جاء به الرسول والنصرة لمن نصره والسعادة لمن اتبعه وصلوات الله وملائكته على المؤمنين به والمعلمين للناس دينه، والحق يدور معه حيثما دار، وأعلم الخلق بالحق وأتبعهم له أعملهم بسنته وأتبعهم لها. منهاج السنة ج5 233.
يقول ابن القيم رحمه الله: لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضا الله ألبتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها. فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال بل أعظم ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي وما لجرح بميت إيلام.
وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي-- فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. زاد المعاد ج1 ص68.

3- مغفرة الذنوب وذهاب الهموم
عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله-- إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: (يا أيها الناس أذكروا الله اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه) قال أبي قلت يا رسول الله: إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: (ما شئت) قال قلت الربع قال: (ما شئت فإن زدت فهو خير لك) قلت النصف قال: (ما شئت فإن زدت فهو خير لك) قال قلت فالثلثين قال: (ما شئت فإن زدت فهو خير لك) قلت أجعل لك صلاتي كلها قال: (إذًا تُكفى همك ويغفر لك ذنبك) رواه الترمذي وحسنه الألباني 4/ الرحمة والنور في الدنيا و الآخرة :
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الحديد28

4- مرافقة الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء :
قال تعالى: "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرسول فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا" النساء69.


5- الشفاعة يوم القيامة :
عن جابر بن عبدالله أن رسول الله- - قال: (من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة) رواه البخاري .

6- صلاة الله على العبد عشرًا
عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي  يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) رواه مسلم.

7- ورود الحوض
عن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله- - قال (يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض، فأقول يا رب أصحابي؟ فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى) رواه البخاري
عن حذيفة أن رسول الله- - قال: بين حوضي كما بين أيلة ومضر آنيته أكثر أو قال مثل عدد نجوم السماء، ماؤه أحلى من العسل وأشد بياضًا من اللبن وأبرد من الثلج وأطيب من المسك من شرب منه لم يظمأ بعده، قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.

8- نضارة الوجه
قال : (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) رواه أحمد والترمذي.
قال الخطابي: معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعيم والبهجة. وقال السيوطي رحمه الله: (قال أبوعبد الله محمد بن أحمد بن جابر: (أي ألبسه الله نضرة وحسنًا وخلوص لون وزينة وجمالًا، أوصله لنضرة الجنة نعيمًا ونضارةً، قال تعالى(وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة): (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (المطففين:24).
قال ابن القيم رحمه الله: (فإن النضرة البهجة والحسن الذي يكساه الوجه من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتلذاذه به فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارة على الوجه، ولهذا يجمع له سبحانه بين البهجة والسرور والنضرة) مفتاح دار السعادة صـ89ـ
قال المباركفوري رحمه الله: نضر الله امرأ: المعنى خصه الله بالبهجة والسرور لما رزق بعلمه ومعرفته من القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا ونعمه في الآخرة حتى يرى عليه رونق الرخاء والنعمة. تحفة الأحوذي صــ 2025ــــ
قال الشيخ بن عثيمين: المراد بذلك أن النبي- - دعا للإنسان إذا سمع حديثًا عن رسول الله فبلغه أن يحسن الله وجهه يوم القيامة. شرح رياض ج 4 صـ 517.
وتمام ذلك أن يفوز بالنظر إلى وجه لله عز وجل فينال من النضارة والنعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فطوبى لك أيها الداعية يوم أن تكون ممن قال الله عنهم: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (المطففين:24) وقال سبحانه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة:23).
قال السعدي رحمه الله: [{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} أي: حسنة بهية، لها رونق ونور، مما هم فيه من نعيم القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: تنظر إلى ربها على حسب مراتبهم: منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيًّا، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وجماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالًا إلى جمالهم، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا معهم، تيسير الكريم الرحمن صـ 899ـ900.
أسأل الله الكريم الجواد البر الرحيم بمنه وكرمه وجوده وإحسانه أن يرزقنا محبة رسوله- صلى الله عليه وسلم- واتباع سنته، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يجعل محبتنا له أعظم من حبنا لأنفسنا وآبائنا وأمهاتنا وزوجاتنا وذرياتنا وأموالنا، وأن يعمر ظاهرنا وباطننا بمتابعة سنته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.