Enasmhanna

شارك على مواقع التواصل

١
المطر يتساقط بغزارة ضارباً تلك السيارة التي تسير على الطريق الإسفلتي وماسحات الزجاج تعمل كعادتها الكئيبة مصدرةً ذلك الصوت الرتيب (ززييييق توووك... ززيييق توووك)،
في عتمة ليل هذا المساء ذي السماء الملبدة بغيوم سوداء ترعد بكل قوتها غضباً واحتجاجاً وكأنها تتوعد الخارجين في هذه الليلة الهوجاء بعقابٍ شنيع كانت تقود علها تجد مكاناً ما تبات فيه قبل أن تستكمل رحلتها إلى تلك القرية النائية .
بدأت تلعن حظها العاثر ومدير التحرير الغبي ذو الكرش الذي أرسلها بمهمةٍ في هذا اليوم بالذات، ضربت المقود بعصبية وهي تصيح بغيظ:
وما ذنبي أنا...؟ وكأنني من قلت لذلك الأحمق أن يقتل صديقه الليلة .سحقاً لك ولصديقك وللمدير معاً

حسناً.... يبدو أنكم عرفتم إلى حد ما كيف هي فداء.تلك الصحفية العنيدة ذات الشتائم التي لا تنتهي واللسان اللاذع الذي لا يرحم كبيراً و لا صغيراً فاستحقت وبكل جدارة استلام كتابة القضايا التي تتعلق بالقتل و الانتحار و الاغتصاب وما شابهها ..
قضت أعوامها الثمانية منذ تخرجها الى الآن في هذا المجال حتى أصبحت تملك تلك النظرة الثاقبة التي يمتلكها رجال التحري و الاستخبارات فتستطيع أن تشتم الخبر المفجع حتى قبل حدوثه ! هي امرأةٌ في بداية العقد الرابع من عمرها وجهها أبيض ذا شحوبٍ طفيف و ملامحها صلبة جادة وجامدة اكتسبتها من عملها ولربما تحب أن تظهر بهيئة الصحفية الخطيرة فتبلورت ملامحها وتشكلت على هذا الأساس. .عيناها خضراوان حادتان تقدحان ذكاءً وفطنة وطبعاً لتكتمل الصورة في أذهانكم، ترتدي نظارات ذات إطارٍ ضيقٍ أحمر اللون ، شعرها اسود قصير ، وهي نحيلة جداً تكاد عظامها تخترق طبقة الجلد الرقيقة التي تغطيه ، وفوق كل شيء تدخن كقطارٍ بخاري لا يتوقف للاستراحة بأي محطة !، صفات تتطابق تماما ً مع عمل لا يتطلب أي صفة من صفات

الأنوثة ...فأنوثتها انسلخت منها انسلاخًا منذ تعمقها يهذا العمل الذي لا تريد أن تتعاطف به مع الضحية أو الجاني .هم يريدونها أن تكتب بحيادية وبمنظور الصحافة ' هي العين الثالثة الثاقبة التي لا تفوت صغيرة ولا كبيرة وها هي على مدار كل تلك السنوات تفعل ذلك كالآلة وهذا ما أكسبها نجاحاً وشهرة ً واسعة بالرغم من سنوات عملها المهنية القليلة .
تناست ضربات المطر العنيفة التي تكاد تخترق سقف سيارتها السوداء ورفعت صوت موسيقى الهنود الحمر وكأنها تشاركهم الرقصات المجنونة حول النار اللاهبة .

*****

وبعيداً عن فداء ورحلتها الليلية العجائبية خطى هذا الرجل الى داخل الشقة واستلقى على الأريكة المخملية مسندًا قدميه على الطاولة :
- ( لو كانت هنا لضربتني تقريرً ا وزجت بي في السجن بتهمة تخريب الممتلكات ... هاهاها )
حدث نفسه بتلك الكلمات ساخراً نافخًا دخان سيجاره الخانق ليشكل سحابةً فوق رأسه وحانت منه التفاتة على الورقة الموضوعة على المنضدة أمامه ( أنا في مهمة خارج المدينة ...لن أعود الليلة )

-وكأن وجودك أو عدمه يحدث فرقاً.!! قالها بتهكم واتجه إلى غرفته واستلقى على السرير ليريح أعصابه وجسده المنهك بعد يوم عملٍ شاق ، نظر الى يمينه ثم امسك تلك الصورة المتموضعة على المنضدة بجانبه و تأملها وعادت به ذاكرته لعشر سنواتٍ مضت ...عندما كانت حبيبته الجميلة اللطيفة ذات الأحلام الكبيرة في الدفاع عن المظلومين ومحاربة الفساد ،شعر بالحنين لبراءتها وعفويتها وضحكاتها عندما كان يقابلها يومياً ، تنهد واستدار رامياً الورقة البيضاء مع صديقاتها في الصندوق أسفل السرير ثم وضع يده خلف رأسه وتنهد بعمق .
ككلٍ مرة تغادر فيها فداء تترك إليه ورقة مسجلة أو رسالة مؤلفة من بضع كلمات تقريرية، رسائل جادة وباردة وخالية من أية عاطفة وكأنها تقدم تقريراً لرئيسها في العمل ...نسيت أو تناست كل ذلك الحب الذي عاشاه سوياً فيما مضى وانشغلت بالعمل ولكن أي عمل هذا يمنعك من ان تعيش حياة طبيعية كسائر البشر!! .

*******
"حسناً..ا فداء يبدو أنها أضاعت الطريق فأخفضت سرعتها وصوت المذياع الذي كان يصيح قبل قليل ولا أعرف العلاقة بين اخفاضه والضياع وكأنه طقوس عبادة لا بد لكل ضائع من ممارستها ،وكأن الضائع بمجرد إطفائه للمذياع ستنفرج أمامه تلافيف عقله ليختار الطريق الصحيح !!

أخذت تتلفت يمنىً ويسرى بعد أن تباينت لها ثلاث منعطفات ترابية لكن لا لوحة تشير إلى طريق تلك القرية التي تريد الذهاب إليها ، اختارت الحل الأوسط مكملةً طريقها الى الأمام فعندما تضيع من وجهة نظرها ...لن تعود أدراجك ولن تنعطف ....خيارك الصحيح هو مواصلة الخط الذي تسير عليه وهاهي سارت عليه والمطر يشتد شيئًا فشيئا توغلت أكثر واشتد الظلام والمطر ولم تعد قادرة على الرؤية جيداً حتى لاح من بعيد كوخ خشبي ذو طابقين سقفه من القرميد الأحمر ، انعطفت بسيارتها قاطعةً الأرض الموحلة حتى أصبحت أمامه مباشرة ، ركنت سيارتها بتوجس وحذر وحدقت في ذلك الكوخ الذي تضيء نوافذه بلون أصفرٍ باهت وتمتمت بدهشة: ومن عساه يقطن بهذه البقعة المعزولة!!

تناست ضربات قلبها المتوترة ، استجمعت رباطة جأشها .وترجلت بعد أن أحكمت إغلاق معطفها الأسود الطويل حاملةً حقيبتها فوق رأسها تحميها من حبيبات المطر المجنونة وبدأت بطرق الباب بخفة لكن طال انتظارها دون ان تتلقى إجابة !
دوى البرق وتلاه الرعد مجدداً فتعالت ضرباتها على الباب بحنق وخوف : افتحوا بحق الله
تجاهلت الباب أخيراً عندما لمحت أن النافذة شبه مفتوحة ، خطت تجاهها واسترقت النظر لكنه يبدو مهجورًا فعلا !

حسناً سنصدق أنه كوخٌ مهجور مبدئياً لكن الإضاءة الصفراء الشحيحة من أين مصدرها خاصة وأن المصباح الوحيد المعلق في سقف الغرفة مكسور !!
فداء الآن لم تنتبه لأمر ذلك المصباح، دفعت طرفي النافذة بحذر ، رفعت قدمها ثم قفزت داخل المنزل، رائحة عطن ورطوبة شديدة، بل وكأنها رائحة ألف شيطانٍ يبيتون هنا!

ذلك الشعور المقبض الذي ينتابك و الإحساس القوي بأنك مراقب، لكن ممن! أنت لا تدري حقا !!
إن الأماكن المهجورة فعلا تتعاظم داخلها الطاقة السلبية , هذا ما فكرت فيه فداء هاتك اللحظة وهي تجول ببصرها هذا الوكر الجهنمي !!

خطت إلى الداخل أكثر بعد أن أغلقت النافذة بسبب برودة الجو و تأملت الموجودات من حولها بهذا المكان المهجور كان الأثاث قديماً جداً و مهترئا ً، على الحائط معلقة ٌ صورة مصفرة ألوانها لامرأةٍ في العقد الرابع من العمر تقريباً )
وعلى الجدار المقابل مكتبة صغيرة ترتص بداخلها الكتب بانتظامٍ شديد وفي منتصف الغرفة تبعثرت بقايا طاولة ومقعدين من الخشب المتهالك .
ومدفئة حطب بجانب السلم المؤدي الى الطابق العلوي، ابتسمت بسعادة وكأنها قد وجدت صندوق كنزٍ ثمين وتحركت بخطوات واثقة ناحية المدفأة فتعثرت ببضع أحجارٍ ومطرقة !!، تراجعت إلى الوراء بتلقائية وجزع حينما أدركت رسمة طبشورٍ على الأرض، نجمة سداسية الشكل يحيط بها دائرة كبيرة مليئة بحروفٍ وأرقام عربية ! وبضع صفحات مهترئة متناثرة بالأرجاء،بل والأقبح من ذلك تلك الدماء الجافة المتناثرة على الأرض وكأن الشيطان نفسه كان يقيم جلسة استحضارٍ هنا.

(( بسم الله الرحمن الرحيم, أعوذ بالله من شر ما خلق )) رددت ذلك وهي تتأمل تلك الخربشات ..المكان مهيب جدًا، ومازال إحساسها بأنها مراقبة من أحدهم يثير الرهبة في نفسها، تلفتت حولها بحذرٍ وبتلقائية وبفضولها الصحفي رفعت آلة التصوير خاصتها و "كلييك "

لم ترى ضيراً من تصوير مخلفات السحر و لربما تقوم كذلك بأخذ صورةٍ لسيدة الدار، ولكن عليها الآن أن تنعم ببعض الدفء فالبرد كان عظيماً، أخرجت من الصندوق أسفل الدرج بضع حطبات وأشعلت المدفئة التي بدأت تصدر دخاناً كثيفاً قبل أن تتأجج وتشتعل النار فيها..خلعت معطفها وجلست أمام النار ترتجف بردًا لتلتمس بعض الدفئ حتى تجف ملابسها .
الريح تعوي خارجاً وتضرب النوافذ بقوةٍ وكأنها تود الدخول لمشاركتها النار في الداخل .
أشعلت سيجارها ونفثت الدخان والآن ....الآن فقط لأدركت أن المصباح الوحيد في هذه الغرفة مكسور !
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.