Enasmhanna

شارك على مواقع التواصل

وشارف العام 1929 على الانتهاء بشكل عجيب ! تتراكض السنوات بي بشكل عجيب لأشهد أهم الأحداث الحاصلة حينذاك ...
أرسلت قوارير جوليا السحرية أكثر من ثلاثمائة شخص إلى مثواهم الأخير وكان أكثرهم من الرجال. تساءلت كثيرا ما سر تلك القوارير الزجاجية الصغيرة ذات اللون البني الغامق و ما هي نوعية ذلك السم الذي تستخدمه وكيف لم تشك حتى اللحظة الحكومة بسر مقتل كل أولئك الرجال !؟.. مئات الأسئلة كانت تحوط بي ولا قدرة لي على حل تلك الألغاز ..
كانت السيدة فازيكاس تستعمل تلك القوارير كنوع من التجارة بحيث كانت تطالب النسوة بدفع مبلغ عشرون دولارا ثمن كل قارورة وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، ولسخرية الموقف كانت بكل مرة تعطي إحداهن قارورة تقول جملتها الشهيرة :
"الزوج الطيب هو الزوج الميت ..لأنه لا يفتح فمه مطلقا"

وكأنها تعويذة انتقاله إلى العالم الآخر!!!

الأهالي باتوا يشعرون بالقلق من تزايد عدد الأموات بهاتك القرية الصغيرة ورجال الشرطة كثفت دورياتها في المنطقة دون الوصول لهدف يذكر والذي يثير الريبة أكثر ؛ أن أغلب الأموات كانوا من صنوف الرجال ! وبسبب ضيق الإمكانات بتلك الحقبة الزمنية لم يكن باستطاعتهم تشريح الجثث لمعرفة سبب الوفاة.
وتوالت اجتماعاتنا في جمعية صناع الملائكة وكل سيدة كانت تحكي تجربتها المثيرة في استخدام هذه القوارير وكأن الأعداد التي قتلت مجرد حشرات لا قيمة لها بينهن ،بل وتفنن في القتل حتى ابتكرن أساليب شيطانية مريعة .
فمثلا هذه التي على يميني بهذه اللحظة اسمها ماري وهي متزوجة_ أو عفوا كانت كذلك _ ولها ولد في الثالثة والعشرين من عمره وقالت بكل بساطة تصف المشهد :
-أكره الرجال ....غلظتهم ، استعبادهم لنا ، ونفسياتهم الدنيئة وكأننا مجرد عبيد لشهواتهم وما علينا سوى أن نطيعهم ، أردت أن أعيش ...أن أكون حرة استقلالية فلدي عملي الخاص الذي اعتلت منه أثناء اقتيادهم على الحرب ولم أعد راغبة في مشاركتهم حياتي واقتحامها بهذا الشكل الفج .
تخلصت من زوجي بعد أن طهوت له أكثر شيء يحبه فمات وهو على المائدة ...أما عشيقي فقد طبعت قبلة ناعمة على رأسه قبل أن اجعله يشرب العصير وقلت له وداعا... فببساطة مللت منك .
ابني تمايلت طربا على صوته الحنون وهو يغني لي أغنيتي المفضلة ولكنه ومع الأسف لم يستطع إكمالها فأخذ يتلوى ممسكا بطنه من شدة الألم حتى صعدت روحه البريئة الى السماء"

أنهت جملتها تلك وهي تحتضن كفيها إلى صدرها مغمضة العين وكأنها تسترجع ذكرى جميلة ليس إلا،
نظرت النسوة وهن يستمعن بنشوى غريبة إلى ماري وأنا ذاهلة أسمع وأرى الذي يجري ...وغير مصدقة أن هذا كله حقيقي وجرى منذ مئة عام على الأقل.!!

تنحنحت السيدة( فارجا )ليتنبهوا لصوتها ثم قالت:
- إحزرن كم عدد قتلاي حتى الآن
صمتت جميع النسوة ينظرن إلى بعضهن البعض وقد قلب اجتماع اليوم إلى مزاد حقيقي لعدد الأموات .

-ممم ...أولا والداي العزيزان طبعا ...لشؤون ميراثية بحتة ،زوجي الحبيب واثنان من أشقائي وابنة شقيقتي ....وهاأنذا ورثت كل شيء من عائلتي الكريمة رحمة الله على أرواحهم، والفضل يعود لك سيدة فازيكاس شكرا لك من كل قلبي "

قاطعتها (ليونا) وهي ذات وجه جامد غريب مخيف وكأنها ألف شيطان بجسد امرأة :

-أما أنا فكنت على موعد مع عشيقي كيم وقد اقترب موعد لقائنا فاضطررتُ آسفة للتخلص من أطفالي الثلاث بعد أن دسست لهم السم بطعامهم فناموا كالملائكة الصغار وارتاحوا من هذه الحياة التي لا تجلبُ سوى المشقة والتعب

'يا لهي يكفي ما سمعته...يكفي :"
همست أحدث نفسي بتوتر وأنا اعتصر كفي يدي و استأذنتهم بحجة أني أريد العودة إلى المنزل وقررت أن ادخل ليلا إلى منزل الشيطانة جوليا لأنتهي من أمري هذا فلم أعد أطيق الإنتظار..فاجتماعهم لن ينتهي قبل الرابعة فجرا .

كانت جوليا هي هدفي الأوحد لأنها تمثل الشر الخالص ...فلا غيرها يستحق لقب ساحرة ولا غريب من أن كتاب السحر ضمن مكتبتها لذلك حسمت أمري حين انتصف الليل ....وهاأنا أسير بخطى ثابتة نحو ذلك المنزل المتموضع بمنتصف البلدة ، خطوت داخل المدخل وتسارعت دقات قلبي كعقارب ساعة بلهاء لا تكف عن احتساب الثواني، وأنا أعالج قفل الباب حتى انفرج ؛ دخلت ذلك المنزل اللعين الذي يعبق برائحة الموت الأحمر أبحث عن الكتاب كالمجانين ولكن دون جدوى، بحثت في أرجاء المنزل ولم اترك ركنا إلا فتشت فيه ،حتى رأيت القبو ..

نزلت درجاته حتى أصبحت بمنتصفه تماما كان معتما كئيبا ولكنه أشبه بمختبر ما ..
كانت على الحائط رفوف ترتص عليها أعداد كبيرة من تلك القوارير السحرية على حد قولها .
تأملتهم وأخذت واحدة وسستها في جيبي ..

كانت هنالك طاولة ومقعد خشبي يتموضع بجانبها صندوق كبير اتجهت ناحيته تلقائيا وفتحته
فصفق باب القبو بقوة، وكانت فازيكاس تهبط الدرجات ببرودها المعتاد والمخيف وهي تحدجني بنظرات قاتلة ،تسمرت بمكاني بعد أن صارت قبالتي وهمست بصوت كفحيح الأفاعي :
-كنت أعلم أنك تنوين على شيء ما يا ميري ..هذا إن كنت ميري حقا "

تراجعت خطوتين إلى الوراء من أثر الصدمة ثم رفعت رأس وقلت بتحد :

-اذا كشفتني ...أيتها الشيطانة ، ولكن اسمعيني جيدا
أنا لا اهتم بك ولا بتلك النسوة أجمعين ...أريد شيئا واحدا فقط ولتذهبي بعدها إلى الجحيم لا يهمني.
-ما هو طلبك ؟ قارورة
قالتها ببرودها المعتاد لأجيبها بحدة :
-لا حاجة لي بها ...أريد الكتاب .

ضيقت عيناها ثم وضعت الشمعة التي تحملها بيدها على الطاولة وعادت تقول :
-أي كتاب تقصدين لم أفهم ؟
عقدت ذراعي أمام صدري وما زالت نظراتي تحمل الكثير من المعاني لهذه الشيطانة التي أمامي،

-سيدة جوليا فازيكاس ...أربد كتاب السحر الذي تعلمتي منه صنع هذه المادة العجيبة المتوضعة في القوارير الصغيرة القاتلة تلك"
ضحكت جوليا....ضحكت وتعالت ضحكاتها وقهقهتها ثم أردفت:
-إذا تريدين كتاب السحر!!

واتجهت إلى الصندوق وفتحته ؛ فتراجعت مجددا خشية أن تخرج شيئا ما تلحق بي من خلاله الأذى لكنها خيبت توقعاتي و أخرجت علبة ما ورمتها باتجاهي ..التقطها وقرأت ما عليها
(( شرائط قتل ذباب ))!!!
-ماذا..... أتستهزئين بي !!

ألقيت العلبة ناحيتها وصرخت بعدما تملكني الهلع :
سلميني الكتاب وكفي عن اللهو وإضاعة الوقت"

ابتسمت لي ببرود غريب ثم أجابت :

-ميري اسمعي ...ليس في الأمر سحر ولا كتاب كما تعتقدين، لست مضطرة لاختراع مركب سحري او ما شابه ! المسألة ببساطة أني آخذ تلك الشرائط وأحلها في الماء حتى يتحلل اللاصق وتتخمر مادة الزرنيخ فيصبح سما زعافا ، وهذا كل ما في الأمر ...لا يوجد سحر في الموضوع ولكن النسوة يعشقن الآكشن لذلك أشعت أنه دواء ذو مركب سحري .

- يا الهي ....زرنيخ ؟؟؟

-نعم ...واستعماله بسيط جدا يا حلوتي....نستخدم في بادئ الأمر بضع قطرات منه مع طعام الضحية لكي يكون أثره بطيء ولا يكتشف أمرنا ونستمر في زيادة الجرعة حتى تظهر أعراض التسمم كالصداع و الاقياء والدوخة...والألم في المعدة ..

وبعدها تتعمد القاتلة إلى الاهتمام والخوف على مريضها والظهور بمظهر الحريص الخائف على صحته كيلا نثير الشكوك .وتذهب إلى الصيدلية لشراء الدواء ...وهذا الدواء الذي من المفترض به معالجة المرض يصبح هو أداة القتل الرئيسية ويستمر هذا الحال بضعة أسابيع حتى تلتقط الضحية أنفاسها الأخيرة ويموت بهدوء وسلام ...

وضعت يدي على فمي امنع شهقة وتلعثمتُ قائلة بارتباك :
.-كيف لك ان تفعلي هذا بدم بارد ...والشرطة أنا غير فاهمة كيف لها ألا تشك بك أو بهن ..لا أفهم ..

- أنا محظوظة لأنه لا يوجد مستشفى في هذه البلدة، فببساطة الجثة لا تتعرض للتشريح...
فهتفت بها بحدة :

-وطبعا تعددت الأمراض والموت واحد.! .....ولكن أريد أن أسألك سؤالا واحدًا فقط و أرجو منك ان تساعديني لأن هذا كله لا يهمني"
-ما هو ؟؟
-أين الكتاب .؟
-إذاً مازلت تصرين على أنه يوجد كتاب سحر لدي ؟
-بكل بساطة ....نعم .
تقدمت مني جوليا بثبات وتطلعت بعيني بحدة مجيبة :
- لا اعرف ما سر ذلك الكتاب معك ولما تريدينه لكن يؤسفني أن أقول لك أنه لا علاقة بي بالسحر لقد أخطأتِ العنوان "

جلست أمامها على الكرسي بيأس وكأني استنجد للخروج من هذه الدوامة المخيفة التي تهت فيها :
-ولكنك قلت أنك تعملين بالسحر "

-تلك كانت....لنقل كلام مشعوذين كاذبين ليس إلا لتصدق النسوة قواريري وتشتريها أما الكتب الموجودة بمكتبتي مجرد خربشات لا قيمة لها وكما يقولون حبر على ورق "

وبضياع سألتها ...إذن "
-إذن أرجو أن تغادري منزلي بكل لطف لأني ولسبب غريب لا ارغب بإيذائك آنسة ميري.

ألا تخشين أن أشكوك للسلطات ؟
تساءلت بصدق حقيقي ؛ فتبدل كل شيء فجأة من حولي تراقصت أفاع مجنونة من رأس جوليا التي استحالت لشيطانة جهنمية الهيئة ... وصرنا نقف على فراغ مخيف لا أشعر فيه بثقل جسمي ...وكأنني أطوف في الفضاء ..

أجابتني بعد أن اصطبغت عيناها بلون أحمر جهنمي وتبدل صوتها ليدوي مكانه صوت يليق بهذا المسخ الذي باتت عليه و جعلني أجفل مكاني.

-لعبتنا بدأت يا فانية "

اقتربت مني خطوات وكأنها لا تلامس الأرض جعلتني أرتعد خوفا و أتراجع بكل خطوة تخطوها نحوي لكن إلى أين سأهرب بهذا الفضاء الذي تنعدم فيه المسافات !!! ، عادت للكلام من جديد :
-كل سر يباح ، من رحم همجيتكم ، تنسلخ عنه ورقة من وريقات الكتاب ...
وفق شروطي يا فانية ...على أرض كوابيسي ستلعبين....
وتندمين ...
ستتألمين ...
وتصرخين ...
ستبكين،

والنهاية ....متصلة بالبداية .

كلماتها تدوي بكل مكان فترتطم ارتطاما ، أشعر بها تخترق أذناي، فأقشعر خوفا ورهبة ...وكأني بعهدة ملك من ملوك الجان ... أو في وكر لمارد شيطان ،
قالت كلماتها و فجأةً عاد كل شيء لما كان"

وقعت جوليا على الأرض بلا حراك ووقفت أمامها كالبلهاء ألهث انفعالا وقد استحلت لورقة خريفية تتراقص قبل السقوط ، تراجعت إلى الوراء شيئا فشيئا صعدت السلم أحدق بها وبالمكان الذي يغلفه السكون وأطلقت ساقي للريح هربا منها ومن كل ما جرى ...

*******

وصلت المنزل ودلف إلى داخله فقلب الظلام إلى نور في الخارج !، من منتصف الليل إلى ذروة الظهيرة بلمح البصر و سمعت جلبة في الشارع ، خرجت من جديد وقد لمحت مجموعة رجال من الشرطة تداهم أحد البيوت القريبة مني وتلقي القبض على أرملة من أرامل البلدة.

_تساقطت حبة خرز واحدة ....وبعدها تبعثرت الحبات الأخرى _ تحت التعذيب اعترفت الأرملة بما حدث ويحدث لقاطني هذه البلدة الملعونة، أما فازيكاس كانت تقف على شرفتها فإذا بها تلمح رجال الشرطة ...فعلمت أن الأوان قد حان ....وأن العدالة لابد وأن تأخذ مجراها مهما طال الزمان .نزلت عبر درجات القبو واستلت إحدى قواريرها وجعلتها تلامس فمها قبل أن تبتلعها دفعة واحدة ...قضي الأمر وحان وقت الحساب وكانت تعلم أن مصيرها إما الموت شنقا أو المؤبد وهكذا قررت إنهاء حياتها بيدها....ارتشفت أخيرا من نفس الكأس الذي لطالما سقت غيرها منه .وعانت لحظات العذاب والألم نفسها التي عاناها غيرها أمسكت حنجرتها تصرخ بصوت مختنق و سقطت صريعة قبل أن تداهم الشرطة منزلها بلحظات .... وصارت النسوة تقدن إلى المعتقل، كل واحدة مات زوجها أو ابنها أو قريبها ...كانت تساق لمصيرها الأسود وكانت العقوبات تترواح بين الشنق والمؤبد .... عرضت كل تلك التفاصيل أمام عيني كفيلم سينمائي متسارع الأحداث..

أما الرجال المساكين فمن حينها أصبحوا يحترمون المرأة بشكل عجيب ويخشون بشدة غضب زوجاتهم فصاروا من ألطف وأنبل ولربما أشرف رجال الأرض .

ومع استمرار رجال الشرطة في الاعتقال كان لابد أن يطالني الأمر فأنا كذلك عضوةً في جمعيتهن، عند مداهمة رجال الشرطة منزلي بغتة لم أرى إلا أن أختبئ في العلية المليئة بالكراكيب ...فصعدت درجات السلم بسرعة، جلت ببصري بالأرجاء لأرى صندوقا كبيرا قديما مهترئا بعض الشيء علي أختبئ بداخله و أنا أسمع أصوات الرجال تبحث في كل أرجاء المنزل ....

دققت النظر فإذا بي أرى مجموعة كتب غريبة الشكل وكأنها مدبوغة من جلد حقيقي...
أبعدتها وقلبت محتويات الصندوق حتى لاحت لي ثلاث صفحات جميلة مكتوبة بلغة ....أؤكد لكم أنها ليست المجرية.

فتح باب العلية ونظر الشرطي لي ملوحا يديه ...
-هي يا امرأة ..أنت رهن الاعتقال"

تذكرت كلام تلك الشيطانة أو الساحرة أو الماردة ..._أيا كان اسمها _

" النهاية متصلة بالبداية "
-فبادلته النظرات وابتسمت.

********
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.