Enasmhanna

شارك على مواقع التواصل

كاد علاء أن يجن جنونه عندما رأى زوجته من خلال المرآة الصغيرة بهذا المكان وأخذ يصرخ على اللعبة التي جلست بكل هدوء على الطاولة وأمامها الكتاب المفتوح .

- أيتها الحمقاء الغبية أخرجيها من هذا الجحيم إنها تتألم ...روحها لا تحتمل هذه الشناعة.
وبقيت اللعبة صامتة لا تتفوه بحرف وقد سالت دمعة من عينيها الصغيرتين .

-سحقا ......ما بك أجيبيني ..لماذا تذرفين الدموع ..قلت لك أخرجيها وأنهي هذه المهزلة الآن "
وركل الكرسي والغضب قد اخذ منه مأخذا .
-لا استطيع ....وبدأت اللعبة بالنواح حتى ركض باتجاهها وبدأ يهزها ، كيف لا تستطيعين ؟ أنتِ أقحمتها بهذا الأمر الأحمق وعليك إنهاءه.... يا إلهي لا أصدقُ أني أـحدثُ مع لعبة!! "
-لا أقدر ...ليس باستطاعتي أن أخرجها حتى تكتمل أوراق الكتاب الناقصة.
-إذن ...

-إذن ستبقى عالقة بين سفاحات التاريخ حتى تجمع كل الأوراق المبعثرة وبعدها ستعود بشكل تلقائي إلى الحاضر...فأنا لا املك تعويذة عودتها...هي من بين تلك الأوراق التي ستجدها..
-يا إلهي....
و كيف ستعرف .؟ كيف ستعود
ما هذا الذي سيحصل لها الآن " ،وخر على ركبتيه وقد تجمد الدمع في عينيه واختنقت الكلمات في حنجرته..
-أنا آسفة علاء ليس باستطاعتنا سوى أن نراها كيف ستتصرف عبر هذه المرآة الصغيرة.

◇◇◇◇◇
*فداء*

كنت حبيسة ذلك المعسكر في رافنسبورغ ومسئولة عن نقل النساء أحياء أو أموات إلى المحارق ....توالت أيامي أستمع لصراخ النسوة والأطفال،شهدت آلامهم وعذابهم ، شهدت تلك المجازر المخيفة التي كانت تقام بحقهم يوميا وتلك التجارب العلمية اللا أخلاقية التي كانت تقام على أجسادهم.
كان المعسكر يضم السجينات السياسيات المعارضات للحكم والمرضى العقليين والأطفال والمجرمات، واليهوديات كن يشكلن النسبة الأكبر وطبعا كان يتم سجنهن من دون أي إجراء قانوني فقد أقيمت هذه المعسكرات لإبادة اليهود بالدرجة الأولى .

إن أول معسكر أقيم في أعقاب استياء هتلر على السلطة عام 1933 وإلى العام 1943 أنشئ حوالي 22معسكرا رئيسيا وآلاف المخيمات الصغيرة ناهيك عن الأعداد الهائلة التي تم اعتقالها في هذه السنوات القليلة ، وأشد ما آلمني أني كنت أشارك بشكل أو بأخر بعمليات الإبادة والوحشية ، كانت النسوة يعاني الجوع والمرض والذل ناهيك عن انتهاكهن بوحشية من قبل بعض الجنود ...لم أتخيل يوما أن أستلم منصباً بهذه القسوة !!!.

فعندما تحكم بالموت على أشخاص من غير عرق أو حتى من رأي سياسي مختلف فلتنفذ الحكم بطريقة عادلة وميتة رحيمة ..لا أن تستلذ بالتعذيب وسفك الدماء وانتهاك الأعراض...لا أن تقتل الأطفال بهذه الوحشية وكان الذي أمامك مجرد حشرات لا قيمة لهم ، هنا كان السجين كالحشرة إما أن يتم إعدامه وإما أن يموت بسبب الجوع أو المرض .
كنت أقرأ في الكتب التاريخية عن هذه الأنواع من الجرائم ضد الإنسانية ولكن لم أستطع تخيل ولو لجزء بسيط كيف يكون الوضع والمعاناة في الواقع...
الأسير ....حالة صعبة حقا ، عمليات إعدام عشوائية كانت تقام يوميا .... وصل العدد لأكثر من مليون ونصف المليون أسير لقوا حتفهم في معسكر الاعتقال في أوشفتز وحدها !!! وهذا رقم يضاهي عدد الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية ...

كانت مهمتي الرئيسية أن أضعهم في المحارق وثم يجمع رمادهم ويرمى في النهر مع سجلاتهم ليتم التعتيم على عدد الضحايا طبعا هذا غير التجارب العلمية الوحشية والغير أخلاقية التي كانت تقام عليهم وكأنهم يعيدون أعمال الطبيب أو السفاح الياباني شيرو إيشي وما كان يفعله بالأسرى الصينيين ، فالنساء كن يحقن كالأرانب للاختبارات الطبية البشعة التي كانت تمارس من قبل الجيش الأحمر.

أما بالنسبة ل إيرما جريس ولدت في 7 أكتوبر 1923 هذا الاسم الذي ذاع صيته في معسكر الاعتقال بين المعتقلات أو حتى السجانات الأخريات ...كانوا يطلقون عليها عدة ألقاب منها (ملاك الموت) و ( الشيطان أشقر الشعر).
إن عمرها الآن لا يتجاوز العشرين عاما ولكنها وبأعوامها القليلة تلك ابتكرت أساليب قتل وتعذيب وأرسلت مئات الضحايا إلى مثواهم الأخير .

كنت أشهد كيف تقوم بتجويع كلابها ومن ثم تطلقهم على النسوة وهي تراقب تمزقهن تحت أنياب كلابها الشرهة وتضحك ، فلكم أن تتخيلوا كيف يتم تمزيق اللحم وكيف تتطاير الأشلاء وتنتشر الدماء وكأن الأسرى مجرد حيوانات عديمة القيمة .
شهدت كيف كانت تستلذ بتعذيب الصبية الصغار بعد أن تحلق شعر رؤوسهم وتجلدهم حتى الموت أو تخنقهم بغرف الغاز .

وكانت الفتاة التي أخذت أنا مكانها في هذا المعتقل واسمها جيني ايندا ليست بأحسن حالا وعلمت من ملفي الذي قرأته أنها ولدت في هامبورغ عام 1922 كذلك وتنقلت بين عدة مخيمات منها شتوتهوف و رافنسبورغ.وكانت كذلك تشارك في تلك المجازر الوحشية بقلب ميت .

كنا الآن في أواخر العام 1943 وصدر أمر من الجهات العليا بانتقال إيرما جريس إلى معسكر الاعتقال في أوشفتز وطبعا كنت فرحة إلى حد ما لأني سأتخلص منها ومن وحشيتها فاستغللت فترة تعذيبها السجينات ودخلت مكتبها أبحث بين المجلدات علي أرى تلك الأوراق اللعينة وأنتهي من هذا الكابوس ولكن دون جدوى كانت كلها مصنفات للمعتقلات وأوراق رسمية وغيرها ...لا شي

دخلت فجأة إيرما إلى الغرفة وأنا لازلت فيها...نظرت إلي باستغراب فتسمرت في مكاني وقد أحمر وجهي وتلعثمتُ بارتباك : .
-أهلا ايرما ...ك..كنت أبحث عنك .
-ألا تعلمين أني في زنزانة e3؟
- لا اعتقدت أنك انتهيت وحانت استراحتك .. هي اسمعي أود ان أهنئك بانتقالك إلى أوشفتز " وابتسمت لها وقد كنت أتصبب عرقا .
-لها ....ولكنك تعلمين أني لن أنتقل قبل أسبوع يا جيني .

تبا أحرجتني تلك الغبية مرة أخرى!...قلتها بسري و انا انظر لها وأتمنى ذبحها حتى قلت أخيرا .

-حسنا غلبتني أريد أن أتكلم معك بشيء هيا اجلسي .فمشت وخلعت عندها سترة البدلة العسكرية وجلست على الكرسي قائلة:
_ كنت أعلم أتك لا تريدين تهنئتي جيني فلنكن واقعيتين، هيا هات ما عندك يا فتاة ...
-صراحتك تعجبني " قلتها و انا أفكر ما هو الأمر الذي سأخبرها به وتلكأت قليلا قبل أن أردف:

-حسنا لقد ...أ أ ..اسمعي لقد سئمت هذا المعسكر أريد الانتقال إلى أوشفتز كذلك ..أريدك أن تكلمي المسئول هنالك وتقدمي طلب نقلي، أتستطيعين .
تباً ما الذي تفوهت به !! وجزيت على أسناني لهذا الطلب الغبي الذي طلبته .

-لا مانع عندي ...عند وصولي إلى هنالك سأقدم طلبا بنقلك .
ابتسمت لي ابتسامتها الخبيثة فنهضت شاكرة جهودها حتى لمحت ذلك العقد في رقبتها وتذكرت القلادة التي وجدتها في البئر .!!

-عقدك جميل من أين حصلت عليه .؟
-هذا ليس من شأنك .
-حسنا كما تشائين ...أراك عما قريب "

وخرجت مسرعة إلى مهجعي وأخرجت الحقيبة من تحت السرير وتأملت القلادة التي رأيتها في البئر ...كانت غريبة حقا بيضاوية الشكل فضية اللون ومزخرفة حوافها وفي منتصفها بلورة جميلة قرمزية تشبه كثيرا تلك القلادة التي مع إيرما، ارتديتها وخبأتها تحت بذلتي وتناولت الكتاب المدبوغ وفتحته لأشهق بصدمة
-فارغ..!!! أين ذهبت الكلمات ؟!

جحظت عيناي وأنا اقلب تلك الورقات الصفراء للكتاب ولكنه كان فارغ ...مجرد صفحات مصفرة ليس إلا ..ازدادت حيرتي ولم أعرف ماذا افعل به حتى ولجت ماريا خبأته بسرعة تحت السرير وحييتها فجلست على الكرسي تثرثر كعادتها البغيضة .
ماريا مندل والتي كانت صديقتي بشكل أو بآخر وتحبني لسبب لم اعرفه إلى الآن ، منصبها كان رفيع المستوى فهي المسئولة عن المعسكر ،شخصيتها جادة وقوية وتتصرف كالرئيس مع الأخريات إلا معي! وتتباهى بأنها أرسلت إلى الأن ما يقارب 300،000 شخص إلى مثواهم الأخير !! .

بعد أسبوع بتوقيت هذا المكان العجيب غادرت إيرما جريس لتستلم منصبها الجديد كحارسة في اوشفتز وبقيت أشهد عمليات القتل في هذا المعسكر الجهنمي ولم أترك مكانا إلا بحثت فيه عن تلك الأوراق اللعينة ولكن لاشيء .

أتى ذلك الصباح البارد وكنت أقوم بجولة اعتيادية على العنابر حتى وصلت الى الزنزانة d1 .
كانت تجلس فيها امرأة سوداء الشعر نحيلة جدا ترتدي بقايا ثوب أسود اللون وعيناها غائرتان منكمشة على نفسها في زاوية الزنزانة نظرت لها وقد خطرت لي ذكرى غريبة عن البئر .. وذكرى أغرب عن ماض جمعني بها في مكان ما لكن نسيت !!! تلاقت عينانا لوهلة فنهضت تسير بخطى ثابتة نحوي وعيناها لا تفارقانني،ووقفت ممسكة القضبان الحديدية وبصوت كالفحيح همست :
-سأقول لك من أين جلبت إيرما القلادة ولكن أريد منك أن تحرقيني بعدها .

- أي قلادةٍ يا امرأة ما هذا الجنون الذي تتفوهين به ؟
-أنتِ تعرفين جيدا عن أي قلادة أتكلم .
ذهلت من هذه الأسيرة الغريبة وطلبها الأغرب
-من أنتِ ....وما أدراك ؟
-لا شأن لك بي ...إن كنت تريدين معرفة من أين حصلت إيرما على قلادتها سأقول وبعدها ستحرقينني لأتخلص من هذا البؤس ...
-أنت غريبة !!
-الغريب أني لم أمت إلى الآن ومنذ إنشاء المعتقل أليس كذلك يا جيني .
وتذكرت أخيراً لأهتف بها ..
أنت من قطع الحبل أنا متأكدة...!!! ولكن كيف انتقلت معي إلى هنا!!أنا لا أفهم .

وفجأة مدت يدها نحوي وسحبتني بقوة حتى ارتطمت بالقضبان وانتشلت القلادة من رقبتي .
-أيتها المجنونة أعيديها إلي حالا وإلا ستندمين .
-جلست القرفصاء واضعة القلادة على الأرض وأخرجت من تحت ملابسها صفحة ما وبدأت تقرأ ...
كانت كلمات غريبة بلغة غير مفهومة تخرج من بين شفتيها المجعدتين ، ناديت السجانة لتعطيني المفاتيح وهرولت بعدها انظر ذاهلة لما تقوم به .
نظرت لي وتمتمت باقي الكلمات بقوة وعنف فتوهجت البلورة القرمزية بداخل القلادة وابتسمت المرأة ابتسامة قبيحة شيطانية ثم نهضت و البستني إياها من جديد .
-ما هذه الورقة ؟من أين حصلت عليها ،وما الذي جرى للقلادة ؟
فنظرت الى القلادة المعلقة على صدري وصرخت بي
-الكتاب ....... أحضريه إلى هنا .
-ماذا ؟
-أحضري الكتاب المدبوغ الموجود تحت السرير حالا فماريا في طريقها إلى غرفتك وقد رأتك وأنت تخبئينه .

يا إلهي!! ...وقفت متسمرة في مكاني قبل أن أركض كالمجانين إلى المبنى المقابل أدخل إلى غرفتي ، كانت ماريا منحنية أمام السرير عندما فاجأتها بقدومي ووقفت خلفها ألهث ،فارتبكت قليلا وقالت:
-جيني أهلا كنت أبحث عن ورقة ما اعتقد أني نسيتها عندك أرأيتها ؟
-لا ، لم أر شيئا

لم أضف كلمة أخرى ولا هي
تركتني مغادرة الغرفة فأسرعت إلى الحقيبة حملتها مخرجة محتوياتها وخبأتهم في جيوب بدلتي وحملت الكتاب عائدة الى المرأة الغريبة .
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.