كنت جالسة في المتجر على إحدى الأرفف مع مجموعة من الحقائب الأخرى، دخلت زبونتان االمتجر، أو عميلتان كما يقول دائما السيد صاحب المتجر
الفتاة الصغرى كانت تحضر الحقائب للفتاه الأكبر لكي تختار منها ما تريد، وبعد وقت، أحضرتني أنا مع مجموعة من الحقائب الأخرى إليها لكي تقارن بيني وبين ما اختارت من حقائب
تلمستني برفق ثم قالت: اخترت دي
من أنا؟
حسنا، أنا حقيبة ظهر، أو كما يطلق المصريين عليّ، أنا شنطة ضهر
سألت عن السعر، وأتبعت سؤالها بسؤال؟ هي دي جلد طبيعي؟
انظري إليها جيدا، أنها تبان بالعين، وكذلك اللمس، ولكن للأسف يبدو أن صاحبتي الجديدة لا ترى الأشياء بعينيها، وإنما تراها بيديها أو بإحساسها.
وبعد فصال بين صاحبتي وصاحب المتجر، دفعت الثمن وأخذتني الى منزلها، أخذت تحكي لأسرتها عني، وكم أنا جميلة، وكم أنا أتحمل، وطبعا لم ينسى أحد أن يسأل السؤال المعتاد؟ هي دي جلد طبيعي؟
إذا كانت صاحبتي لا ترى الأشياء بعينيها، لماذا لم ينظر أحدهم إلي، من النظرة الأولى سيكتشف انني جلد طبيعي
لقد تلمستني صاحبتي في منزلها بانبهار، وأخذت تمرر أصابعها على كل جزء من الخارج، ومن الداخل أيضا
يبدو أنها معجبة بي، وأحقاقا للحق، لقد أحببتها أنا الأخرى من اللمسة الأولى
لقد كنت سعيدة في منزلها، بل كنت في قمة السعادة، ولكن بين السعادة والشقاء يوم، أو ساعة، أو دقيقة، ما بين غمضة عين وانتباهتها، يغير الله من حال إلى حال.
لقد ذهبت روعة البداية، وسرعان ما تركتني أغوص وحدي داخل خزانة غرفتها
إذا كانت غاضبة مني فعليها أن تتركني، لماذا أحضرتني إن كانت لن تأخذني معها حينما تخرج، هل هي غاضبة مني؟ عشرات الأسئلة دارت في مخيلتي ولم أجرؤ على التفوه بها، ليس لأني لا استطيع النطق فحسب؛ بل كنت أغوص بداخل أحزاني بسبب أهمالها لي، لقد كانت تأخذ معها حينما تخرج البتاع الصغير ده اللي اسمه موبايل او تليفون او محمول معرفش بيسموه ايه بالظبط، أحيانا يقولون فون، وأوقات يقولون موبايل، وسعات يقولون تليفون، لقد كنت أغار منه؛ فهو يستحوذ على كل وقت صاحبتي الجديدة، حتى شعرت أنها تناست وجودي، وكأنها لم تحضرني وتشتريني من الأساس، كم كنت أبكي وحدي على هذا الإهمال المتعمد
ولكن جاء يوم، سمعت صاحبتي تقول لإحدى صديقتها في البتاع ده: أنا هسافر بكرة، وهاخد الشنطة الجديدة معايا، لم أتمالك نفسي من الفرح، بحثت عني لكي تضع بداخلي الأشياء، أقبلت إلي؛ بل انا من أتيت إليها مهرولة، أخذتني بين ذراعيها وأخذت تكفف عني دموعي، وتنظفني من التراب، ماذا تفعلين أيتها الحمقاء، أنا لا يوجد على جسدي ولا ذرة تراب، ولكن حسنا، يبدو أنها تريد أن تعتني بي، لا بأس، لقد كنت أشتكي من الإهمال، يجب أن أكون سعيدة بالإهتمام، حتى وإن كان مبالغاً فيه.
وضعت أغراضها بداخلي: مجموعة من زجاجات البرفان الفارغة، لا بأس، مناديل ورق، أشياء نسائية عجيبة، ما هذا أيضا، جهاز كمبيوتر صغير، يطلقون عليه لاب توب.
وفي الصباح، استيقظت صاحبتي متأخرا كالعادة، بعد ما ايقظها كل من في المنزل تقريبا، تحسست الزفت الموبايل برفق لكي تعرف الوقت بالتحديد، كدت أجن منها، أدركت أن الوقت تأخر، تململت في فراشها قليلا، ماذا تفعلين أيتها الحمقاء، لقد تأخرنا
نهضت متثاقلة كالعادة، وبعد قليل رأيتها مقبلة نحوي، تلمستني برفق، ثم طلبت من إحدى المتواجدات في المنزل أن تعاونها على أن تحكم ارتدائها لي
خرجنا من المنزل أخيرا، ذهبت واستقلت كائن عجيب من الحديد المغطى بالقماش، يطلقون عليه هنا "توك توك"
ما هذا أيتها الصديقة العزيزة لم نتفق على هذه المعاملة! لقد كان يسير مترنحاً وكأنه سكران، أخذنا نتشال وننتفض كأننا في مصنع من مصانع الحقائب الجلدية، اقسم لكم اني تضايقت من كل هذه الهزات العجيبة، أخيرا وصلنا، مكان عجيب مشمس حار، يطلقون عليه " الموقف"
كان هناك مجموعة من الأشخاص يتصايحون بصوت عالٍ مزعج، ويتحدثون بصوت مرتفع أجش: "مصر، مصر، مصر"
اختارت صاحبتي إحدى هذه الكائنات التي يطلق عليها المصريين ميكروباص، استقلت أحدهم، ولم تكد تستقر على الكرسي حتى بادرها وغد من الأوغاد بسؤال أربكني أنا شخصياً؟ ولكنها تعاملت مع السؤال بهدوء سرعان ما عاد إلي أماني من جديد
السؤال: اعتذر لقد نسيت أن أخبركم به، لقد سألها، تحبي تحطي الشنطة فوق يا ابله؟ خفق قلبي بشدة حينما أشار نحوي، ما شأنك بي أيها الوغد، أتريد لي أن أكون في الشمس أعلى الكائن الذي تجلسون بداخله، يبدو أن صديقتي شعرت بي، أحتوتني برفق بين ذراعيها قائلة: لا هــــاشيلها على رجلي
ابتسمت لها ونمت في سبات عميق
كنت استيقظ من الحين للآخر على صوتها تتحدث في ذلك البتاع المسمى موبايل، لماذا لم تتركيه في البيت يا عزيزتي؟
تشعرون بالعداوة بيني وبين ذلك اللعين؟ أجل، اقسم لكم أنها عداوة مبررة، ولم تكن الغيرة وحدها هي المتسببة في هذا العداء، بل هذا الكائن سيكون سبب شقائي، وستعلمون ذلك بعد حين.
كانت تتحدث في الزفت كثيراً حتى اني كدت أطلب من السائق ان يتوقف او يعود للموقف ويسألها نفس السؤال، تحبي تحطي الشنطة فوق يا ابلة، تمنيت أن أصرخ أنا في وجهه، خذني أرجوك إلى أي مكان، المهم أن ابتعد عن هذا الكائن، ولكني لم اتمالك نفسي فاستيقظت مجددا من هذا الحلم على صوتها تسأل إحدى الجالسات بجوارها: هو احنا فاضل لنا وقت كتير على ما نوصل؟
قالت لها: لا خلاص، قربنا من "المترو" كدت أطير من الفرح، لقد كنت أستمع باصغاء الى المتحدثين في المتجر عن هذا الذي يطلقون عليه "مترو" وكدت أجن من الحديث عنه، يقولون انه قطار يسير داخل أعماق الأرض، لقد أحببت صاحبتي الجديدة، يبدو أنها شعرت بما أتمناه، فأرادت أن تأخذني الى هذا "المترو"
دقائق وكنا داخل المحطة؛ ها هو الحلم يقترب، الموبايل عاد للصراخ مجددا، ولكن هي لم تعيره انتباهاً، كانت تتشبث بي بقوة خشية أن يسرقني أحدهم، كنت سعيدة باهتمامها بي، حتى وإن كان اهتمامً لحظيً، صعدنا سلمً كهربائيً وفجأة وجدت نفسي أنا وهي داخل "عربة المترو" لم أتمالك نفسي من الفرح، كدت أرقص طربً على هذه الهدية، كنت ممتنةً لها، لقد أصبحت أهيمُ عشقً بها، يبدو أنها شعرت بي، فاحتوتني بحنانها، وأغمرتني في رعايتها.
وأخيرا وصلنا إلى وجهتنا، بعد ما غيرنا العربة بأخرى لكي نصل في النهاية الى هذا الكشك الذي يبتاعون منه المياه والعصائر، ماذا تفعلين عزيزتي، هل تشترين من هذا الرجل، ولكن بالله عليكي لا تضعي هذه الأشياء بداخلي، أنا شنطة محترمة مش سلة تسوق، يبدو أنها شعرت بي، لم تقترب مني، أخذت أغراضها وذهبت الى واجهتها.
علمت من الحديث الدائر بينها وبين إحداهن أنها داخل مكان يطلقون عليه السكن الجامعي، ها هي معلومة إضافية عن صديقتي عرفتها اليوم، يبدو أنها طالبة بإحدى الكليات، تبدو لي غامضة، يبدو أن الكائن الموبايل ده يعرف عنها أكثر مما أعرف، حسنا، لن أشغل نفسي بكل هذه التفاصيل، فأنا أريد أن استريح ولو قليلا، صحيح أنا لست من دم ولحم، ولكن
"جلد طبيعي"
وضعتني على فراشها بمنتهى القوة، شعرت بغصة ولكن كانت غصة داخلية، لم تلاحظ هي بأني شعرت بها، حزنت كثيرا من هذا التصرف ولكن لم أشأ أن افسد يومها، فهي تبدو متعبة، اقبلت نحوي، تلمستني برفق، ثم أخرجت من حقيبتها اللاب توب وأغلقتني وتركتني اغوص داخل أحزاني من جديد.
كانت تخرج وتعود ولا تلتفت نحوي أبدا، وكأنها لم تحضرني ولم تأتي بي إلى هنا، كدت انوح من الألم، كنت مع أصدقائي في المتجر نتحدث وكل حقيبة تمني نفسها بصديقة ترافقها وتعوضها عن أوقات الشقاء والحرمان، يبدو أن رفيقتي لن تشعر بي مجددا، لقد حزنت من أجل ذلك، ولكني لم أشأ أن أتسبب لها في ازعاج.
تركت نفسي اغوص داخل أحزاني مجددا، ولكني شعرت بها يوما تقترب مني، ولكن سرعان ما ابتعدت مجددا، يبدو أنها كانت تبحث عن شيئ ما، وتذكرت أنه ليس بداخلي.
كنت شغوفة بالشمس التي كنت أسير تحت لهابها من أيام، ولكنها لم تشعر بشوقي اليها، فلم تعيرني اهتماما.
شعرت في تلك اللحظة بأني مقاتلة حقيقية، ولكن نفذت ذخيرة سلاحي، وسرعان ما تذكرت حكمة صينية تقول: المقاتل الحقيقي تبدأ معركته حينما تنفذ ذخيرة سلاحه.
كانت تأخذ الموبايل معها في الذهاب والعودة، كانت تتحدث اليه كثيرا، ماذا تريدون، لا ، لا، تريدون معرفة المواضيع التي كانت تتحدث الى ذلك الوغد بها أمامي؟ لا، لا، فهناك ميثاق شرف نقسمه نحن الحقائب على أن لا نبوح بأي شيئ مهما كان خطير او تافه الى أي شخص، ولا حتى بدافع الفضول او الانتقام من الموبايل الذي اكرهه لانه مغرور وبغيض.
سأخبركم فقط بأمر مهم، لقد أتى لصديقتي اتصال من إحدى دور النشر تخبرها بأنها عازمة على تسليمها غدا 50 نسخة مطبوعة من كتابها الجديد، أخبرها مندوب الدار أن الكتب موضوعة داخل صندوق من الورق سيرسله لها صباح الغد في هذا المكان العجيب الذي يسمونه "الموقف" حمدت الله على أمرين، الأول أني سأكون معها في الغد أطول فترة ممكنة تحت الشمس أمارس وظيفتي الحقيقية التي صنعت من أجلها، والأمر الثاني، أنها لن تقوم بوضع الكتب بداخل أحشائي، فأنا كما تعلمون على الرغم من أني جلد طبيعي، إلا إني صغيرة على الكلام ده، وصاحبة مرض كمان لو ده هايحوش عني الحاجات دي، فأنا أجيد أدعاء المرض، وبإمكاني تعليق أزرار إغلاقي وأفسد عليها رحلتها، ولكن لا داعي لهذا، فقد أضافت اللاب توب إلى أحشائي وانصرفنا نحو "الموقف"
حسبت أنها ستستقل صديقي "المترو" ولكنها لم تفعل، واختارت شيئ آخر يطلقون عليه كريم، على الرغم من استيائي من هذا التصرف إلا اني كنت سعيدة، فـكريم هذا كان مكيف وكانت تخرج من أحشائه مجموعة منطقاه من أغاني بهاء سلطان مطربي المفضل، لم يفسد علي استمتاعي إلا هذا الموبايل الذي يتربع على عرش يديها ولا تتركه أبدا، بل تستخدم جرابه أيضا كـمحفظة للنقود.
وصلنا الى واجهتنا، وجدت المندوب داخل "الموقف" يبدو انه جالس من مدة، رأيت الضيق على وجهه، يبدو أن رفيقتي لم ترى هذا الضيق، ولكنه عبر عنه بالتصرف قائلا: اتفضلي حضرتك الكتب اهي، وقبل أن تشكره صديقتي تركها وغادر المكان مسرعا، يبدو أن الشمس كانت حارقة، والكسولة استيقظت متأخرة كالعادة وتركت المندوب يحرق أسفل هذه الشمس الحارقة التي تداعب جلدي من وقت لآخر.
طلبت رفيقتي من أحد الأشخاص أن يوصلها هي والصندوق الى إحدى عربات الميكروباص، أوصلها الرجل الى هناك، واستقرت على كرسيها، وأخذت تتحدث في الموبايل، متخيلة أن صديقنا الذي اوصلنا الى هذا الميكروباص قد وضع الصندوق داخل السيارة، لقد رأيته وهو يبتعد بالصندوق، أردت أن أخبر صديقتي ولكنها كانت تتحدث في الموبايل.
قبل أن تتحرك السيارة، انتبهت صديقتي الى شأنها وسألت في خفوت: هل صندوقي بالقرب مني؟ كانت تسأل هذا السؤال الى إحدى الجالسات بجوارها، وجاءت الإجابة بالقطع لا، بحثت عنه ولم تجده، نزلت من السيارة، تجمع المارة، كل منهم كان يسأل وهي تجيب بنفس الجواب تقريبا، لقد رأيتها وهي تنهار أمامي، اقترح أحد الأشخاص أن تذهب للقسم فهو بالقرب من هنا، شجعها الآخرين على المضي قدمً حول تنفيذ هذه الفكرة التي لم تروق لي، ولكنها في النهاية ذهبت رغمً عني، نسيت أن اخبركم في تلك اللحظات العصيبة، لم يتوقف الهاتف عن صراخه، ولكنها لم تعيره اهتماما، كنت أنظر اليه وأضحك، على الرغم من أن الموقف لم يكن به أي شيئ يستدعي الضحك، لكن اقسم لكم اني ابتسمت للمرة الأولى، وهي تحاول اسكات صراخه، لو كان لي لسان لكنت أخرجته نحوه، ولكن هيهات، نحن معشر الحقائب لا يوجد لدينا لا لسان ولا أسنان.
ذهبت الى القسم، تقابلت مع امين شرطة، حكت له الحكاية، يبدو انه تعاطف معها، حرر لها محضر، وقال بصوت منخفض: حظك حلو، المحاضر طالعة النيابة دلوقت، ممكن اخدك معاية بدل ما تروحي ويستدعوكي تاني
شكرته على معروفه، ولكن هو كان يريد شيئا آخر، فهمت هي الموقف، اخرجت 20 جنيه من الجراب وأعطتها إياه
تهللت اساريره وأخذها معه الى النيابة
دخل الأمين على سكرتير النيابة وأخبره بواردات المحاضر وأرقامها، كاد أن ينسى صديقتي، لولا انها سألته: طيب وأنا، تذكرها الأمين وحكى عنها باختصار الى سكرتير النيابة الذي نظر إليها نظرة ابوية حانية ثم تابع: هبلغ موضوعك لوكيل النيابة، ويا رب يقابلك النهاردا، تركنا في الغرفة ثم انصرف وتبعه الأمين، وبعد دقائق، عاد السكرتير وطلب منها الذهاب معه الى الوكيل، كان يريدها ان تستبقيني بالخارج، ولكنها أصرت على أن تأخذني معها، أنا الأخرى كنت أريد أن أطمئن عليها، وذهبنا سوياً الى حضرة وكيل النيابة.
كان واضحاً منذ دخلنا إلى مكتب وكيل النيابة، أن هناك مشكلة ما تنغص صفو حياته، وتجعله عصبياً ومتوتراً وكارهاً لكل ما ومن يحيط به، خصوصاً تلك الروائية الشهيرة التي جاءت لتشغل وقته في قضية سرقة صندوق ورقي به مجموعة من الروايات، بصحبة تلك الشنطة الضخمة رثة المظهر التي لم يتبين هل هي شنطة الكاتبة أم حارسها الخاص.
وكما بدا من تعبيرات وجهه المشمئذ، لم يصدق صديقتي حين قالت له: إنني شنطتها دفعاً للحرج، حين لاحظت نبرات الجفاء في سؤاله عمن أكون، وعن سبب وجودي داخل مكتبه
حتى ذلك الحين، كان وكيل النيابة ذلك أول شخص أراه يعامل صديقتي بجفاء لا يبذل حتى جهداً في تلطيفه أو إخفائه، وهو ما كان مربكاً للغاية لصديقتي التي كانت تُعامل دائماً بحفاوة شديدة ومستحقة لكاتبة كبيرة ومحبوبة، لم تتورط قط في فعل مشين أو مستفز للناس، بل ولم يكن أحد يراها في غير أعمالها الأدبية، بحكم نفورها من الحوارات الصحفية والبرامج التلفزيونية، مما يقلل فرصة أن يكون وكيل النيابة، مثلاً قد غضب منها بسبب تصريح مخالف له في الرأي، وبدا لي أن التفسير الوحيد هو: كون وكيل النيابة من غُلاة الأهلاوية الذين يكرهون جهر الكاتبة بزملكاويتها.
كنت وحدي المشغولة بمحاولة فهم دوافع جَلْيَطة وكيل النيابة، أما الصديقة العزيزة فقد أذهلتني بقدرتها على تطنيش كل الاستفزازات التي كانت تعلنها لغة جسد وكيل النيابة ونبرات صوته وحركاته المتقافزة ما بين شباك المكتب وسماعة التليفون وجرس استدعاء عامل البوفيه والكرسي الذي يستقر عليه لاستئناف أخذ أقوال المجني عليها، وهي هنا صاحبتي صاحبة الصندوق المسروق التي ردت على كل الأسئلة بهدوء، وحتى حين كان يوجه لها سؤال مكرر، لم تكن ترد بعبارات من نوعية سبق أن أجبت على هذا السؤال، أو زي ما قلت قبل كده، بل كانت تعيد إجابة السؤال بالتفصيل وبنبرات هادئة، جعلت كاتب التحقيق ينظر أكثر من مرة إلى ملامح وكيل النيابة، ربما لكي لا يُحرم من رؤية مشاعر الغيظ التي تعتريه بسبب أداء الرفيقة التي تقمصت فجأة شخصية ممثلة عديمة النيرف في مسلسل بطيء الإيقاع.
وصلت الصديقة إلى ذروة ذلك الأداء التأملي، حين أخذت تجيب بجدية على سؤال وجهه لها وكيل النيابة حول أوصاف الصندوق المسروق، فأخذت تصف صندوقها الضائع، بما يشبه طريقة مندوبي إعلانات شركة جوميا للتسويق التلفزيوني، ولكن بإيقاع هادئ وصوت درامي، مصممة على أن تستخدم كلمة (الصندوق) وهي تقول: يتميز صندوقي العريق بتصميم كلاسيكي فريد يعطيه طابعاً مهيباً، لكنه في نفس الوقت لا يسرق عين المشاهد بعيداً عن إطاره الفضي العارض للأشياء الموجودة بداخله، وكلام كثير من هذا القبيل، كان يدخل فعلياً في بند الهَذَر، لكن يستحيل في نفس الوقت وصفه رسمياً بالهذر، لأنه يمثل إجابة على سؤال ميري ينبغي على من طلبها أن يتحمل سماعها وتدوينها، وكان واضحاً أن طريقة صاحبتي جعلت وكيل النيابة يزداد غيظاً، ويدرك أن مهمة استفزاز هذه الروائية لن تكون سهلة، ولذلك قرر أن ينهي استجوابه في أسرع وقت ممكن، لكي ينزل علينا بالقاضية.
طيب استأذن أنا سعادتك؟، قالتها الكاتبة لوكيل النيابة الذي أشرق وجهه بالابتسام للمرة الأولى منذ دخلنا مكتبه، ثم رد قائلاً: لا تمشي فين يا استاذة هو إحنا بنتشرف بحضرتك كل يوم، إحنا خلصنا الشغل الرسمي، ولازم نشرب سوا فنجان قهوة.
استغربت أن محاولة الاستاذة في التملص جاءت تقليدية، ربما لأنها كانت مندهشة من تغير أتتيود وكيل النيابة بهذه السرعة، ففي العادة تقول بطريقة تسوق الهَبَل على الشيطنة أشياء من نوعية معلش أصل خالتي كتب كتابها دلوقتي، ولازم أحضر أحسن عريسها يزعل، فيفهم محدثها أنها ليست مستعدة للبقاء معه فترة أطول، لكن مقام جلستنا لم يكن مهيَّأً لقول أشياء عابثة، خاصة أن وكيل النيابة قرر أن لا يكتفي بمجاملات السؤال عن المشاريب، ليقول للكاتبة بلهجة تصور أنها ستثير فضولها: أنا بقى هاضايفك على حاجة هتعجبك، حاجة مش هتشوفيها في أي مكان تاني، مش إنتو بقى بتعملوا روايات عن مشاكل المجتمع، أنا بقى هاوريكي قضية تعرفك إن اللي بتكتبوه في الروايات ده ولا حاجة جنب اللي بيحصل في الواقع.
لم تكن لهجة وكيل النيابة مثيرة فقط للفضول الإنساني والدرامي، بل كانت مليئة بنوع من التحدي، كان يدرك أن عزيزتي سترغب في مواجهته، وقد كان، حيث وضعت الكاتبة ابتسامة عريضة على شفتيها، وأخذت تقول عبارات من نوعية: وماله يا فندم .. منكم نستفيد.. إحنا يسعدنا نعرف مجتمعنا أكتر لإن هو الهدف من شغلنا كله، وأظنها لو كانت ستعرف كُنيه القضية التي قرر وكيل النيابة أن يضايفنا عليها، لقالت له بذات الابتسامة العريضة: لا معلش ده أصلاً مش دوري كروائية، ممكن أبعت لسيادتك حد من زملائنا الكتاب، إنما أنا لازم أمشي حالاً عشان خالتي كتب كتابها كمان شوية.
بعد ثوانٍ أعقبت ضغط وكيل النيابة للجرس الموصل بمكتبه، دخل عسكري المراسلة إلى المكتب مؤدياً تحية عسكرية مبالغاً فيها، فقال له وكيل النيابة بتهكم رزيل: هات لي يا ابني العائلة الكريمة اللي كنت باحقق معاها النهارده الصبح، وحين نظر العسكري إلى الكاتبة ، كأنه ينبه الباشا إلى أنها ما زالت موجودة في المكان، كان نصيبه زغرة مُدغمة بشخطة اتحرك يا بَجَم، فطار العسكري على إثرهما مغلقاً باب المكتب، ليتركنا في صمت مطبق، ونحن نتبادل النظرات، مخمنين طبيعة العائلة الكريمة التي سنمثل في حضرتها رغماً عنّا.
حينما حكت الكاتبة الحكاية لأختها بعد ما روحت البيت قالت إنها توقعت دخول عائلة من أب وأم وأربعة أطفال يعملون معاً في السرقة والسطو على البيوت، بحكم كوننا في مكتب وكيل نيابة يحقق في قضايا السرقات، أما أنا ولأنني بحكم خبرتي القصيرة في المجتمع المصري كـشنطة ضهر وضعوها على الكرسي بمجرد دخول صاحبتها الى هذا المكتب افترضت الأسوأ، فقد توقعت أن تدخل علينا عائلة يقوم فيها الأب بتسريح زوجته وابنتيه في الدعارة الصيفية، وهو ما تأكد لي حين دخل إلى المكتب رجل بدا في الخمسين من عمره، وامرأة أربعينية، وبصحبتهما فتاتان إحداهما تبدو عشرينية، والأخرى تبدو أصغر بكثير، لكنها كانت تحمل على كتفها رضيعاً، كان يغُطّ في نوم عميق.
اكتفيت بتفحص الداخلين على مكتب وكيل النيابة، كان يبدو على وجههم الشحوب ولا تكاد تلتقط اصواتهم مقلة الأذن
نظرو جميعا على الكرسي المقابل لوكيل النيابة، كانت تجلس صغيرتي صاحبة الصندوق محاولة أن ترسم الاهتمام على وجهها ولكن محاولتها بائت بالفشل
افقت من شرودي على وكيل النيابة وهو يشير الى الكاتبة قائلا: الهانم مبعوتة من وزارة العدل عشان تسمع تفاصيل قضيتكو ونحاول نشوف لها حل عشان ما يبقاش فيه فضايح ولا شوشرة، قبل أن يتحدث بلهجة تحذيرية عن ثمن الفضائح الذي سيدفعه أطفال العائلة الأصغر سناً، والذين يسألون بالتأكيد الآن عن سر اختفاء أبيهم وأمهم كل هذه المدة، ليتضح لنا مما قاله أن الموجودين في المكتب ليسوا كل أفراد تلك العائلة، وأن للموضوع جذوراً أكثر تعقيداً بشكل قلّل من نسبة فضولنا، وزاد من نسبة حذرنا، خاصة أن وكيل النيابة لم تكن تفارق وجهه ابتسامة غتيتة مُقبضة.
خليك انت في الآخر، أنا عايز أسمع الأم الأول، احكي يا ستي إيه اللي حصل بالضبط، قالها وكيل النيابة مُسكتاً الرجل الذي كشفت عبارة وكيل النيابة ضِمناً أنه الأب، أو ربما كان زوج الأم، ربما لأنني تمنيت بذلك وقوع أخفّ الضررين، وهو أن نكون بصدد قضية مألوفة البشاعة لكن الأم لم تحقق رغبتي وبدأت تحكي حكاية العائلة الأليمة بلهجة لم تتخلص من لكنة ريفية ما، وهي تنظر إلى الحائط الذي يعلو رأس وكيل النيابة، كأنها تقرأ سطوراً تتحرك على الحائط ببطء
ما فيش يا باشا، عيالي حظهم خرا، أبوهم غير كل الأبّهات اللي في الدنيا، راجل كافر ابن وسخة، بقى له سنين بينام مع الكبيرة دي، لغاية ما جاب منها العيل اللي سعادتك شايفه، ونام بعدها مع الوسطانية دي، ودلوقتي حِبلى في تلاتّ شهور، والحمد لله إن الصغيرّة نفدت منه، وأنا مش عارفة نعمل إيه يا باشا، أنا باقول تعدموه وتعدموني وتقتلوا العيل ده والعيل التاني اللي في بطن البتّ دي وتريّحونا كلنا عشان أني خلاص تعبت يا باشا وما عدتش قادرة خلاص.
حين بدأت السيدة في إلقائها الهادئ لتلك العبارات التي وقعت على رؤوسنا كالصواعق، كان وكيل النيابة قد التفت بكامل جسده إلى حيث تجلس الكاتبة ، مصوباً نظره عليها وهو يبتسم، كأنه يستمتع برؤية قناع صغيرتي الرزين وهو يتمزق على الفور، ليكتسي وجهها بذهول يزيد شحوب الموقف، ثم وزع نظراته الزائغة بين الأم والبنتين والرضيع والأب، قبل أن ينظر إليّ
زاد ارتباكنا حين علا صوت وكيل النيابة وهو يسأل البنت الكبرى: قولي للاستاذة الكلام ده حصل يا هدير ولا أمك بتتبلى على أبوكي؟، هزت البنت رأسها موافقة، وقد ارتسمت على وجهها علامات تحدٍ، مصحوبة بابتسامة باهتة لم يطل غموضها كثيراً، حين تطوع وكيل النيابة لتفسيرها قائلاً بذات ابتسامته الصفراء المقبضة: أصل هدير هي اللي بلّغت عن أبوها، لما عرفت إنه بينام مع أختها، زي ما تقولي كده حسّت إنها مش مالية عينه، مش خوف على أختها يعني، لأ دي غيرة نسوان، آه والله زي ما باقولك كده، مش صح كده يا هدير؟، هدير لم ترد هذه المرة، ولم تهز حتى رأسها، بل صوبت نظرات عدائية إلى أختها، التي أذهلني أن أعرف من وصلة الكلام التالية التي أدلى بها وكيل النيابة، أنها في الخامسة عشرة من عمرها، مع أن تكوينها الضئيل كان يوحي بأنها أصغر بسنتين أو ثلاث.
كانت قوى صاحبتي قد خارت، فلم تعد قادرة على التحمل، وحين ظهر عليها أنها تغالب رغبة قوية في التقيؤ، مد إليها وكيل النيابة منديلاً ورقياً وكوب الماء الموجود إلى جواره، وهو يقول لها بذات الابتسامة الغتيتة: مش قلت لك يا استاذة، اللي بتكتبوه في الروايات ده ما يجيش حاجة جنب اللي بنشوفه كل يوم، لتجد رفيقتي في تلك العبارة فرصة سانحة لقطع تدفق العفن الذي وجدنا أنفسنا غارقين فيه فجأة، فنهضت من كرسيها قائلةً لوكيل النيابة وهي تنتزع ابتسامة باهتة: الله يقويك يا باشا، إحنا لازم نمشي عشان نسافر ونسيبك لشغلك، وفاجأني أن وكيل النيابة هبّ من كرسيه، وأمسك بيدها بشكل غريب، فخشيت للحظات أن يجبر الموقف صديقتي على أن تقوم بدفعه أو ما هو أكثر من ذلك، فندخل في دوامة تفضي إلى أخبار من نوعية كاتبة مشهورة تعتدي على وكيل نيابة، وغيرها من الأخبار التي تحب الصحف تداولها، خصوصاً في تلك الأيام الجميلة المسكونة بخواء سياسي مرعب، حيث الناس يبحثون في ظلها بلهفة عن أي فضائح ممكنة، ولم تكن الدولة تبخل عليهم بها، مفبركة أو حقيقية، لإرضاء عطشهم إلى الشعور بأن هناك شيئاً ما يحدث في واديهم الطيب الأمين.
رايحة فين بس يا استاذة، دي أمانة عليكي ومسؤولية إنك تشوفي الواقع بنفسك، عشان لازم تعالجي المشكلة دي في عمل أدبي ينبه الشعب لخطورة اللي بيحصل في العشوائيات، قال وكيل النيابة ذلك بلهجة جادة هذه المرة، بعد أن ظهر له ربما أن استمرار ابتسامته الصفراء المستفزة، سيدفع صديقتي للإصرار على الخروج، وللحظات شعرت أن كل ما قابلنا به من غتاتة، كان مبعثها وطأة ما شهده خلال تحقيقه مع تلك العائلة، وهو شعور أدركت أنه ساور الكاتبة، حين وجدتها تجلس على كرسيها، وهي تحاول أن تهدأ، ليقول لها وكيل النيابة بنفس لهجته الجادة الطارئة: ما تزعليش مني يا أستاذة ، بس تخيلي اللي انتي ما قدرتيش تستحملي تسمعيه الكام دقيقة دول، أنا شغّال فيه بقالي كام يوم، طب والله أنا ما صدقت إني ألاقي حد يساعدني ويشيله عني ولو حتى بالسَمَع بدل ما أنا لايص فيه لوحدي، ولا أدري لماذا خطفت حينها نظرة إلى كرسي كاتب النيابة، لأكتشف أنني لم آخذ بالي من خلوّه، وأن الكاتب الحويط غادر الغرفة بهدوء، فور دخول العائلة إليها، لأنه بالتأكيد لم يطق فكرة الاستماع إلى تلك الفظائع مجدداً.
جاء صوت صغيرتي مرتعشاً وهي تقول لوكيل النيابة: أنا مقدرة اللي سيادتك بتقوله لكن أنا فعلاً مش قادرة أتصور اللي أنا باسمعه ده وأعتقد إني لو كملت ممكن أقوم أخنق الحيوان اللي واقف ده وما أسيبوش إلا وهو ميت، وكأنني حين أشارت رفيقتي بيدها إلى حيث يقف الأب، كنت أنتظر أحداً لكي يشجعني على قرار شديد الصعوبة، هو أن أنظر مجرد النظر إلى وجهه، الذي لا أظن أنني رأيت حتى الآن وجهاً أكثر بشاعة منه، رغم أن ملامحه بدت لي عادية للغاية، حين دخل إلى المكتب قبل قليل
كان الأب يرتدي جلباباً متسخاً، ويقف مطأطئاً رأسه، وناظراً إلى نقطة غير محددة في بلاط المكتب، دون أن يتحرك رأسه إلا للحظات، حين زغده عسكري المراسلة لكي يلبي وكيل النيابة ببدء الحديث، ليغمغم قائلا: هأقول إيه بس ياباشا أمر الله وَنَفَذ، ويعود إلى صمته، مطأطئاً رأسه من جديد، ليسدد عسكري المراسلة إلى قفاه، أكثر من عشرين صفعة في زمن قياسي، وأظنه لم يكن ليتوقف عن صفعه بكل ما في الدنيا من غل، لولا أن وكيل النيابة شخط فيه لكي يتوقف عن الصفع، مغمغماً بعبارة من قبيل ما يصحش اللي إنت بتعمله ده، كان واضحاً أنها مجرد طق حنك لتسجيل موقف قانوني في حضور غرباء، حتى لو كان متأكداً أنهم من فرط ما بهم من قرف وغل، راغبون في مساعدة عسكري المراسلة في مهمته التي بدا من ملامح الأب أنها عبثية ومحكوم عليها بالفشل، لأن هذا الجسد المتخشب لن تفلح كل آلات التعذيب الجهنمية في أن تنتزع منه آهة ألم، فضلاً عن عبارة ندم على ما اقترف في حق الجثث الحية التي كانت تقف إلى جواره، وقد أرسلت كل صاحبة جثة نظراتها الخاوية في بقعة من فضاء الغرفة، دون أن يبدو أن هناك ما يشغل أياً منهن، سوى أمل الوصول إلى نهاية سريعة لما يشهدنه الآن، لعل ذلك يكون بداية لأي خلاص يحسم عذابهن الأزلي.
فجأة تبدد الصمت المطبق على الغرفة، حين انفجر الرضيع باكياً، فيما بعد قال وكيل النيابة إن البنت الوسطى هي حتماً من قرصت الرضيع، لكي يستيقظ باكياً، فينهي بواخة تلك المواجهة، وأنا وجدت رأيه وجيهاً، خاصة أن كل أفراد الأسرة اكتشفوا بعد ما دار بين وكيل النيابة والرفيقة الكاتبة ، أن الضيفة القادمة لا علاقة لها بوزارة العدل، وأن تلك المواجهة لم تكن إلا فُرجة منصوبة لضيفة سعادة وكيل النيابة، ولذلك كان لا بد أن تنتهي.
الغريب أن بكاء الرضيع المتعالي والحاد، جلب حياة مفاجئة إلى العيون التي ظننتها ميتة، فقد انهارت الأم فجأة في نشيج حاد، وتبعتها بعد قليل الابنة الكبرى التي اختفت ملامحها المتحدية، وتبدلت إلى بؤس لا سبيل إلى وصفه، أما أختها التي لم نعرف لها اسماً سوى الوسطانية، فقد ظلت رابطة الجأش ومكتفية بهز الرضيع بعصبية، قبل أن تفقد تماسكها، وتبكي هي الأخرى بحرقة، بعد أن خلعت أمها البُلغة التي كانت ترتديها، وأخذت تنهال على نفسها بالضرب بقوة، ليتعامل معها وكيل النيابة وعسكري المراسلة ببرود، كأنهم يعتبرونها إجراءً تطهيرياً لا يصح إثناء الأم عنه، في حين ارتسمت على وجه الأب اللعين ابتسامة لم أري أغرب منها في حياتي، قبل أن يقول بغلظة شاخطاً: ما تبَسّ بقى.. ما تبَسّ بقى.
أصابتنا مداخلته المفاجئة والقصيرة بحالة من الذهول، بمن فينا عسكري المراسلة الذي نظر إلى وكيل النيابة منتظراً منه مجرد هزة رأس، ليسمح له بأن يضرب ذلك الكائن اللعين على قفاه حتى الموت، ويبدو أن وكيل النيابة لم يكن سيمانع، لولا أنه سمع فجأة صوت صديقتي وهي تجهش ببكاء مرير فشلت طويلاً في كتمانه، ليعلو مع بكائها أصوات بكاء الأم وابنتيها، ويظهر حرج شديد على وكيل النيابة، الذي حاول إظهار تعاطفه بمد علبة المناديل وكوب الماء من جديد، في حين ظللت أنظر إلى الرفيقة بملامح جامدة، وأنا أحسدها من كل قلبي، لأنها تمكنت من أن تجد دموعاً في تلك اللحظة، التي لم أشهد أحقر منها في حياتي حتى الآن، ولا أذكر أنني نجحت أبداً في البكاء حين أتذكرها، وأنا كثيراً ما أتذكرها، ففي كل مرة، يتملكني شعور خانق مُمضّ، تبدو الدموع معه وبعده عسيرة المنال.
أشار وكيل النيابة إلى عسكري المراسلة، بأن يخرج العائلة من المكتب فوراً، ليقوم العسكري سريعاً بنزع البُلغة من يد الأم، التي لم تكن قد كفّت للحظة عن ضرب نفسها بها، ويرميها على الأرض لتضع الأم قدميها فيها، وتزحف خارجة خلف الأب الذي أخذ يسير في المقدمة مطأطئ الرأس، وقد صدّر قفاه للعسكري الذي انهال عليه فجأة بصفعة مدوية، نظر بعدها إلى وكيل النيابة بنظرة اعتذار، مفادها أن تلك الصفعة كانت لازمة له لكي يمتلك قوة معنوية تساعده على تحريك هذه الجثث نحو مستقرها من جديد.
فجأة، كفّت البنت الكبرى عن البكاء، كأنها لم تكن تبكي من قبل، وخرجت وهي توزع علينا نظراتها المتحدية التي استعادتها فجأة، في حين استمرت أختها في السير باكية، وهي تواصل هدهدة الرضيع، الذي عرفنا فيما بعد من وكيل النيابة، أنها تتطوع دائماً لحمله، لأن أختها الكبرى ترفض لمسه، وكذلك ترفض أمها الاقتراب منه، فهي كما قالت لوكيل النيابة تشعر أن حمايته مسؤوليتها الشخصية، خاصة أن الاثنتين كما أقسمت مراراً حاولتا قتله، كما حاولتا إجهاضها حين علما بحملها، بل إنها أعربت لوكيل النيابة عن استعدادها لتقبل عقوبة الإعدام التي اقترحتها الأم، فقط لو تعهد لها وكيل النيابة بأن أخاها الرضيع الذي أنجبته أختها من أبيها، وأخاها الذي لا يزال في بطنها، سيتم إيداعهما معاً في دار أيتام يلقيان فيها حظاً أفضل من الذي شافته هي وإخوتها.
بعد أن خرجت العائلة من المكتب، تحدث وكيل النيابة عن تفاصيل كثيرة، كانت لازمة لإكمال صورة ذلك المشهد اللعين، أهمها أن تلك العائلة تسكن في منطقة عشوائية مجهولة للكثيرين، تقع بين الدويقة والعمرانية ، وأن العائلة المكونة من سبعة أفراد، تسكن في شقة صغيرة من غرفتين صغيرتين، وتشارك ثلاث أسر أخرى في دورة مياه، وأن الأب ضبط ابنته الكبرى متلبسة بالتنزه مع ابن الجيران قريباً من مشارف بولاق، فمنعها هي وأختها من الخروج من المنزل بتاتاً، لتُحرما من إكمال تعليمهما الذي كانت الأم تصر عليه، لعلهما تحصلان على مستقبل أفضل من خدمة البيوت التي قَطَمَت وِسْطها.
كانت البنت الكبرى في بدايات قيام أبيها بممارسة الجنس معها، تظن أنه يؤدبها على خروجها مع ابن الجيران، خاصة أنه كان يبدأ عادة بضربها وجذبها من شعرها وقرصها في مناطق متفرقة من جسدها بـغلّ شديد، قائلة إنها لم تكن تفهم في البدء لماذا يقوم الأب بضرب أمها حين كانت تبكي عقب انتهاء الأب من فعلته، لكنها حين سألت جارة لها أكبر منها سناً بقليل، شرحت لها ما يفعله الأب، ونصحتها بالصمت المطبق لأن أحداً لن يصدقها إن اشتكت، وأنها ستخرب على نفسها لو تحدثت، فلن يتقدم للزواج منها أحد في المستقبل، لتظل تحت قبضة الأب الحيوان إلى الأبد، وهو ما وافقت عليه الأم بشدة، مكتفية بالشكوى إلى الله ومحاولة إيقاف الأب عن الاستمرار في محاولاته، مهما كلفها ذلك من ضرب واعتداءات، وحين وقعت الطامة وتم اكتشاف حمل البنت، تواطأ الجميع لحبك تمثيلية أن الأم حامل، قائلين للجيران إنها ستذهب لكي تلد في البلد، وستضطر لترك أبنائها الأصغر سناً مع أبيهم وأختهم الوسطى.
مع اقتراب موعد الولادة، ذهبت الأم مع البنت الكبرى، للإقامة في غرفة في أحد شوارع منطقة ( بولاق ) قام الأب بتأجيرها لكي تلد البنت فيها، وسط تعاطف من أهل الشارع، الذين قالت لهم الأم إن زوج ابنتها مسافر للعمل في ليبيا، ولم يكن أحد يتوقع أن علاقة الأب بالبنت الوسطى ستبدأ في تلك الفترة، بعد أن خلت له بها الشقة التي كان يعود إليها مخموراً ومخدراً كل ليلة، كما تعود بعد أن ينهي عمله في الفلاحة في أرض زراعية قريبة يمتلكها أحد بلدياته، ملقياً خلال دفاعه المتبجح عن نفسه، باللوم على زوجته التي أهملت نفسها فلم تعد تملا عينه، ومنهياً وصلة ذلك الدفاع الكريه في كل مرة، بلعن خلفة البنات التي لا تجلب سوى العار والفقر.
أنهى وكيل النيابة حكاية ذلك الكابوس اللعين، ليسأل الصديقة بحيرة مريرة عما تقترح عليه فعله في قضية كهذه، لكن قدرة صغيرتي على التماسك كانت قد انتهت، فتوجهت إلى وكيل النيابة برجاء حقيقي، قائلةً له بصوت تمكن منه الأسى والإجهاد: أرجوك يا فندم لو سمحت ممكن استأذن فوراً.. بعد إذن حضرتك لازم امشي حالاً، ووكيل النيابة أدرك الألم التي عانت منه الرفيقة، فلم يكرر سؤاله أو حتى طلبه بالبقاء قليلاً، ولم ينطق بما هو أكثر من: شرفتينا يا أستاذة.. يا ريت ما تزعليش مني.. بس أنا كنت حاسس إني هاموت لو ماحدش غيري شاف اللي أنا شفته، والصغيرة هزت رأسها دون أن تجد كلمات تقال، ومدت يدها وسحبتني من على الكرسي، وخرجت مسرعةً من الغرفة، وأنا بين ذراعيها، فلم تقوى على حملي، ولا ندري كيف وجدنا طريقنا إلى المكان التي أوقفت به تاكسي، ولا كيف سار بها إلى منزلها مباشرةً.
بكت صديقتي كثيرا حينما ذهبت إلى منزلها، ولم تستفيق من تلك الحالة إلا حينما باغتتها اختها بسؤال: حلوة شنطتك الجديدة، فأمسكت بي، وأتت بمقص من المطبخ وجعلت تمزقني وتلقي بي من البلكونة لأتحول الى تراب، لم يكن يشغل اهتمامي حينها إلا سؤال واحد، ما هو مصير الطفل الرضيع؟ وكذلك الطفل الموجود داخل أحشاء الأنثى الوسطانية التي لم نتمكن من معرفة اسمها؟؟؟؟