فجأة وجد كل منهما نفسه أمام الآخر، تلك اللغة المشتركة التي تحدثا بها منذ أن التقيا لأول مرة حتى قالت هي ما قالت دون قصد، وحتى فعل هو الذي فعله بجنون ولسبب بدا لها رهيبًا.. راحا يصرخان ويتحاوران ويتخبطان فإذا كل منهما يسبح في عالم من الضياع بلا نهاية، وإذا بالعش الهادئ يصبح كابوسًا.. وإذا الحب يقف على شفا هاوية بلا قرار. وإذا هما يتمزقان معًا ويدمعان معًا.. ثم لم يجد كل منهما ملاذًا من عذابه إلا صاحبه
ليست قصة حبهما عظيمة ولا غريبة ولا هي قصة حب تصلح للكتابة أو السرد أو التسجيل، فهي واحدة من ملايين قصص الحب التي تحدث كل يوم في كل حي أو شارع أو حارة أو شركة أو مصنع أو مصلحة حكومية، ثم إنهما لم يلتقيا لقاءً متميزًا، بل كان لقاؤهما عاديًّا.. كان هو يحمل أوراقًا من الشركة التي تعمل هي بها.. الأوراق في حاجة إلى اعتماد، والاعتماد في حاجة إلى مراجعة، والمراجعة في حاجة إلى نظر، والنظر في حاجة إلى رئيس ينظر، ورئيس يسأل ورئيس يقبل، ورئيس يرفض، ورئيس يحيل الأوراق إلى رئيس.. هو يعرف هذا جيدًا، ولقد وطن نفسه منذ أن أسندوا إليه هذا المشوار، على قضاء يومين أو ثلاثة في حالة من ضيق الخلق والمداهنة والمحايلة وانتقاء ألفاظ بلا معنى و.. وكل هذه الأساليب التي من الممكن أن تيسِّر ولا تعسر، وتسهل الأمور ولا تعقدها
دخل إلى الشركة التي تعمل بها وسأل عن القسم الذي يريده، فسأله الساعي وهو ينفث في وجهه دخان سيجارة رخيصة عما يريده فما كان منه إلا أن قال إن هذا لايعنيه وإنه يريد القسم وإن عليه أن يدله عليه.. ولم تعجب الساعي لماضته، ولم يعجبه رد الساعي، فتشابكت كلماتهما وتصايحا فإذا بها، وكانت تعبر الممر لشأن من شئون عملها تتوقف، وتسأل عن الحكاية، وإذا هي المسئولة عما جاء من أجله، فطيبت خاطر الساعي، وانتهت المشكلة وسار خلفها حتى دخلا مكتبها، فجاءت له بمقعد اقترضته من مكتب مجاور، وطلبت له كوبًا من الشاي، وأخذت منه الأوراق، وراجعتها، ثم ابتسمت وهي تطوي الدوسيه قائلة إن الأوراق في حاجة إلى اعتماد، والاعتماد في حاجة إلى مراجعة، والمراجعة في حاجة إلى نظر، والنظر.. فقاطعها ناهضًا وهو يشعر بالاختناق: قولي لي أروح فين وأنا أروح
رفعت إليه عينيها في دهشة وهي تقول: وتروح انت ليه، أنا اللي هاروح
ودهش وعاد إلى جلسته، وأخذ يحملق فيها وهي تقول إن الروتين سخيف، وأسخف منه القائمون عليه، وهو عصبي المزاج، وإذا كان قد تشاجر مع الساعي فما الذي سوف يفعله مع الموظفين ورؤساء الأقسام والمديرين وأصحاب التوقيعات؟! قالت هذا وطلبت له شايًا آخر، ثم تركته ومضت
أدهشه ما فعلته، فراح يتأمل ما حدث.. هي ليست جميلة ولكنها بالقطع ليست قبيحة، وهي ليست رشيقة، لكن قوامها ملفوف، وهي ليست خفيفة الظل، ولكن في خدها غمازة تجعل لابتسامتها سحرًا لا يقاوم.. وسبحان الله الذي يأخذ من ناحية ليضيف في ناحية، وسبحان مفرق القلوب ومجمعها على غير موعد.. ولقد كانت الغرفة التي يجلس فيها تضم ما يزيد على السبع مكاتب، وكانت تشغي بالموظفين والموظفات والأحاديث والصيحات والمساومات والمتعاملين والسعاة وكل شيء والجرسون داخل خارج يدندن بالملعقة في أكواب الشاي.. .. ورغم كل هذا فلقد اكتشف أنه منذ دخل هذا المكتب لم يكن قد رأى غيرها، أو سمع سوى صوتها، ولا أحس إلا بها.. وهكذا، عندما عادت إليه بالملف، كان قد أمضى نصف ساعة وهو مستغرق في التفكير يضرب أخماسًا في أسداس، ينظر إلى الآخرين ولايراهم، يستمع إليهم ولايسمعهم، يجلس وسطهم ولايشعر بهم.. وعندما قدمت له الأوراق سألها في توجس غير مصدق: خلاص
جلست على مكتبها وقالت: حظك كويس
هتف: قوي
قالها والحق يقال في حماس واندفاع، ولكنها رفعت إليه عينين انطلقت منهما نظرة نارية فهتف مدافعًا عن نفسه: والله مش قصدي.
بدت عليه خيبة الأمل وهي تقول: يا خسارة
قالت هذا ودفنت نظراتها في الأوراق المبعثرة أمامها ولم يكن أمامه سوى أن ينهض واقفًا
أنا متشكر قوي
فلم ترد عليه، غادرها وغادر الشركة لكنه لم يغادر المكان، ظل يتلكأ في الشارع جيئةً وذهابًا حتى جاء موعد انصراف الموظفين فرآها تنصرف معهم، وحين وقعت عيناه عليها لم يكن يعرف ما الذي يفعله بالضبط وما الذي يريده بالتحديد.. وطوال الساعتين اللتين وقفهما في الانتظار حاول التركيز فلم يستطع.. ولطالما توقف وسأل نفسه بصوت عال، وفي الشارع أمام الذاهب والقادم: أنا عاوز إيه بالضبط؟ ثم ينتبه إلى أنه في الشارع، وأنه يتحدث بصوت عال، فينسى السؤال كما ينسى الجواب ويتخذ القرار بالانصراف، وينصرف فعلًا، لكنه ما إن يصل إلى ناصية الشارع حتى يعود مرة أخرى
وفي حقيقة الأمر فلقد أعجبته تلك الحالة التي انتابته، فهي حالة من تلك الحالات الغامضة اللا إرادية العجيبة التي تعطينا ذلك الإحساس الفائق اللذة بالتمرغ في غموض أهوج.. ولقد حدث كل ما حدث دون قصد بالفعل، فهو عندما اعترض طريقها أثناء انصرافها رفعت إليه عينيها بتلك النظرة النارية فوجد نفسه يقول بصوت أنكره على نفسه:
تتجوزيني؟
- لأ.
- ليه؟!
- لأن معندكش ذوق
هكذا من الباب للطاق، لا هو عرف لماذا قال ما قال، أو كيف قال ما قال.. ولا هو فهم كيف سألها ذلك السؤال!! فهو أبدًا لم يفكر في الزواج ولاخطر بباله ولارتب له ولا استعد، أحس وكأن إنسانًا آخر هو الذي يتحدث من داخله، وأن ثمة قوى خفية أصبحت تسيطر عليه منذ أن رأى تلك الفتاة.. وهو بالفعل أراد مغازلتها عندما قالت إن حظه كويس، ثم أدرك أنها من هذا النوع الذي لايتقبل الغزل عندما رمته بتلك النظرة النارية، فتأسف. ثم ضاع عندما وجدها تتحسر على أسفه فوقع في الحيرة
انطلقت تسير فسار بجوارها، كان يقول كلامًا لايعنيه ولايعيه، وكانت ترد عليه بكلمات كالحجارة لكنها كلمات لاتصد ولاترد ولاتفتح بابًا ولاتغلقه، وكانت النتيجة أنهما تنافرا في الطريق العام، ثم توقفا، عادا إلى السير.. لكن الحوار استمر.. قالت إنه قليل الذوق، لأن السرور كان قد انتابها فعلًا رغم نظراتها النارية - وظنته يريد مغازلتها أو مجاملتها - سيان - لكنه عندما تراجع قالت لنفسها إنه واحد من اثنين: إما أنه جبان يسحب إعجابه لمجرد نظرة غاضبة من فتاة، وإما أنه جبان - أيضًا - لأنه لايستطيع مواجهة الحقيقة بشجاعة
يالهذا المنطق الغريب العنيد الذي ينفذ إلى القلب فيدفعه إلى الخفقان في بهجة.. وكلما أمعنت هي في منطقها، أمعن هو في الإصرار على موقفه، وحتى عندما عرف أين تسكن وذهب إلى والدها يطلبها منه فوجئ بالأب أشد حيرة منه، لكنه لم يدهش لما حدث، فهذه البنت - منذ صغرها - ذات منطق غير منطق الناس، وعقل ركب في رأسها بطريقة تبدو غريبة، هكذا قال له الأب، وهكذا انحاز لصفه بعد أن عرف أصله وفصله ومرتبه وماضيه ومستقبله وسأل عنه واستشار وتداول وناقش ووجده صالحًا ابن حلال.. ثم وافقت هي على مضض، وبشرط أن يوضع تحت الاختبار لستة أشهر!
عندما وضع الدبلة في أصبعها ووضعت الدبلة في أصبعه اعترف لنفسه لأول مرة أنه يحبها، ثم.. وعندما عقد القران وراحا يبحثان عن مسكن، اعترف أنها استطاعت، بمنطقها هذا الغريب، أن تجعله يسير على العجين دون أن يخدش سطحه الأملس.. لكنهما عندما تزوجا كشفت له عن جوهر جعل عقله يترنح وعواطفه تتأجج. ومضت بهما الشهور ناعمة مثل سحابة تتهاوى في يوم مشمس.. ثم برزت مشكلة الإنجاب
في بداية الأمر لم تكن الخلفة مشكلة تشغل بالهما، لكنهما أحسا، بعد مرور عام وبعض العام أنهما لا بد أن يناقشا الأمر مناقشة موضوعية وصريحة - هكذا قالت هي - ذلك أن أمها بدأت تسأل، وأمه بدأت تسأل، وأمها تهمس لها، وأمه بدأت تهمس له، ثم تدخل الأبوان، وراح السؤال يتردد مرة تصريحًا ومرة تلميحًا، وعندما قررا المناقشة قالت: شوف يا أستاذ - فهكذا تعودت أن تناديه مدللة إياه - احنا قدام مشكلة واحدة، لايمكن يكون لها إلا سببين اتنين فقط لا غير
- إيه هما؟!.
- يا إما العيب فيك، يا إما العيب فيَّ أنا!
- وإذا ماكانش فيه عيوب
- يبقى مافيش مشكلة
كان المنطق واضحًا وصريحًا ومباشرًا، لذلك.. فلقد اتفقا على أن تبادر هي وتذهب للطبيب.. ولقد فعلت، كشفت وأجرت التحليلات وجاءت كل النتائج تقول: أن لا موانع لديها على الإطلاق، وهكذا جاء الدور عليه، حسب الاتفاق، كان عليه أن يذهب إلى الطبيب لكنه رفض!! أنا عارف إني طبيعي.. وما عنديش حاجة
- خلاص، يبقى مفيش مشكلة!.
- إزاي؟
- تروح للدكتور علشان يقول لنا الكلام ده
لكنه لم يذهب للطبيب، أصر على الرفض، ولم تصر هي على ذهابه.. وكانا أحيانًا يتناقشان، وأحيانًا يتنافران، لكنهما أبدًا - فيما يختص بموضوع الخلفة - لم يتشاجرا
لكن أمها لم تعجبها الحال.. وراحت أمه تشكك في صحة التحليلات وتطالب بالذهاب لطبيب آخر.. وللحق، إن الأمر كان يضايقه كما كان يضايقها، وكان من الممكن أن تسير الحياة كما كانت لولا ما حدث ذات ليلة.. كانا في زيارة لحماتها، عندما تركها لمشوار كان عليه أن يقضيه، على أن يعود إليها فيصحبها إلى البيت
ما إن غادر حتى بدأت حماتها الزن، والحديث عن الحياة الزوجية والاستقرار.. كانت الأم تلف وتدور حول الموضوع فلم يعجبها هي الحال فسألتها: إنتِ بتتكلمي على إيه يا طنط
يا بنتي ربنا قال: المال والبنون زينة الحياة الدنيا
ضحكت مداعبة وهي تسأل حماتها: طب انتي عاوزة إيه من الاتنين دول
المال.. وادي الله وادي حكمته
آمنت بالله
يفضل البنون
الحمد لله
هي لاتدري لم قالت ما قالت وكيف قالته وبأية لهجة، لكن الذي حدث أوقعها في ورطة، فلقد اجتاحت ملامح الأم سعادة بلا حدود، ابتسمت هاتفةً: إنتي حامل؟
أعجبها الموقف فقالت: في أسبوعين
كانت تريد أن تبتر الحديث في الموضوع. وكانت تعلم أنها لن تخسر شيئًا، فهي تستطيع بعد أسبوع أو اثنين أن تدعي أن الحمل كان كاذبًا أو أنها أجهضت، كان ما يعنيها الآن ألا تناقش المشكلة، ولقد أرادت أن تسبك الدور، فادعت التعب، واستأذنت وانصرفت قبل عودته كي يصحبها إلى البيت.. عادت إلى بيتها وبدلت ملابسها وأعدت عشاءً خفيفًا وطالعت برامج التليفزيون، وقررت أن تعطي لعقلها إجازة في تلك الليلة وأن تشاهد في السهرة فيلمًا عربيًّا
ما إن سمعت صوت المفتاح يدور في الباب حتى استعدت للقاء زوجها بابتسامة أرادت أن تبدأ بها الحديث عن النكتة التي قالتها لحماتها، سمعت خطواته وهو يقترب حتى إذا وصل إلى باب الغرفة كان الشرر يتطاير من عينيه وقد انقلبت سحنته فبدا لها وكأنه تحول من إنسان إلى شيطان، ولأول مرة في حياتهما تشعر بهذا القدر من الخوف، فاعتدلت في جلستها وابتلعت ابتسامتها وأدركت أن كارثة تهب على بيتها وكان القلق - كلما طال صمته في وقفته - ينتشر في أرجائها كإعصار ثلجي.. لكنها قاومت حتى وجدت صوتها التائه فيما بين صدرها وحلقها - فقالت مازحةً: طب قول مساء الخير
- إيه اللي نزلك من عند ماما قبل ما ارجع؟
- أصل أنا حسيت إني…
قاطعها ثائرًا: أنا مش قايل لك اني هاعدي عليكي
- كنت تعبانة
- من إيه؟!
عندما سأل سؤاله أدركت وفهمت ودهشت وذعرت.. إذا به يتقدم نحوها هاتفًا: ممكن أعرف مين هو الأب السعيد لولي العهد اللي جاي
قفزت من مكانها وهي تشعر وكأن قلبها ينفجر انفجارات متتالية توجع صدرها، نفثت عيناها تلك النظرة النارية وقالت وهي تغادر الغرفة: أنا عايزة اتطلق
ترنحت في سيرها فارتطمت بالحائط والباب ومقعد كان في الطريق.. لاحقها هو بصراخ لكنها لم تسمع، أحست بالطعنة نافذة إلى القلب مباشرة، دلفت إلى غرفة النوم وشرعت في إبدال ملابسها وتجهيز حقيبتها وكان هو عند الباب يلاحقها بصراخه فكان صوته يأتيها من أعماق بئر بلا قرار.. في لحظة التفتت إليه فأحست أنه يتعذب عذابًا بلا حدود، تمنت لو يسألها لكنه كان يتمزق أمام عينيها إربًا، وانفجر من عينيها شلال من الدمع لايعرف التوقف، وكان دمعها غزيرًا إلى الحد الذي أطفأ نار غضبه فراح يلهث ويلهث ثم ما لبث أن سألها: أقدر اعرف انتي بتبكي ليه
- علشان أنا مش حامل
ولأول مرة منذ أن التقى بها في ذلك اليوم في مكتبها بشركتها يأتيه صوتها ضعيفًا واهنًا متهاويًا مرتجفًا بحزن بلا حدود، أحس هو بالدوار وقد اتضحت له الحقيقة فانتابه الفزع مما قال وهربت دماء الغضب من وجهه وانسحبت وراءها كل دمائه فبدا شاحبًا شحوب المحتضر.. كانت هي قد ثبتت عينيها في وجهه وتركتهما هناك وقد انتابها فزع هائل لما أصابه، كان يقاوم إحساسًا مريعًا بالإغماء فقال: أمال قلتي لماما إنك حامل ليه
- عشان زهقت من كتر الكلام في الموضوع ده
ساد بينهما الصمت ولم يتوقف الدمع فعادت إلى الصياح: وعشان خايفة كلامهم يجرح شعورك
انتفض في وقفته كالمذبوح، راح يحملق فيها غير مصدق فعادت من خلال الدمع تقول: أصلي انا عرفت كل حاجة من زمان
أراد أن يسأل لكنه لم يستطع
- أنا شفت التحليل بتاعك وعرفت انت خبيته عليَّ ليه
وجد صوته أخيرًا فسأل: عرفتي إيه
- عرفت ان مفيش مشكلة
هتف قائلًا وهو يتقدم منها وقد انفجر بركان الدمع من عينيه
سارة، أنا
وعرفت ان كفاية عليَّ طفل واحد
كاد يسقط في إحدى خطواته: كنت خايف تسيبيني
- واروح فين؟
تلقفته بين ذراعيها، واختلط نشيجهما، كما اختلطت دموعهما وكان كل منهما يشعر أنه يحب الآخر حتى الموت….