هناك أسرة متوسطة الحال، الزوجة لا تنجب، أحضر لها زوجها طفلة من إحدى دور الأيتام لكي تكون ابنةً لها، وفور أن أحضرها أنجبت، فربت الأم البنت اليتيمة ولكنها لم تنسى أنها ليست ابنتها فتحولت مع مرور الأيام إلى خادمة في المنزل بعد إن كانت إحدى أعضاء الاسرة.
منذ اليوم الذي التحقت فيه فرح بالخدمة في بيت سهام، نمت بينهما صداقة وطيدة، وتآلفت روحاهما، واطمأنت كل منهما للأخرى كل الاطمئنان، وأحبت كل منهما الأخرى حبًّا جمًّا.
وفرح رغم هذه الصداقة الوطيدة ورغم تعلق سهام بها، ورغم أن سيدتها الصغيرة أشركتها معها في ألعابها، وأشركتها حتى في كراسات مدرستها المليئة بالرسوم والكلمات وأنصاف الكلمات والحروف الكبيرة… ورغم أنها أشركتها معها في حجرتها، وأفردت لها مكانًا بجوار فراشها الصغير، رغم كل هذا، فإن فرح كانت تقوم بعملها على خير وجه، كانت تعمل منذ الصباح وطول اليوم حتى يوغل الليل، كانت نشطة ذكية لا تهدأ، ولا تتعب، ولا تكل، ولا تدع صديقتها في حاجة إلى شيء.
إذا أرادت سهام شيئًا فعلته فرح قبل أن تطلبه، وإذا احتاجت لشيء، قامت به فرح من تلقاء نفسها، وكأنها تقرأ أفكارها.
وكل ما مرت الأيام، تعلقت سهام بفرح تعلقًا شديدًا، وأصبحت لا تنام إلا إذا سامرتها فرح، ولا تأكل إلا إذا قدمت لها فرح طعامها، ولا تذوق فاكهة أو حلوى إلا إذا رأت فرح وفي يدها نصيبها منها.
وأحبت فرح سهام، أحبتها حب عبادة، وأصبحت الحياة في خيالها الحاد عالمًا ليس فيه سوى سهام.
ولذلك… فيوم عيد ميلاد سهام، كانت فرح أكثر الجميع سعادة، وأكثرهم اضطرابًا وفرحًا، وأكثرهم نشاطًا.
وليلتها لم تنم فرح.
كان قلبها الصغير يخفق في انفعال شديد، وسرت في جسدها رعدة نشطة، ولكنها حارت فيما ستقوله، وفيما ستفعله، ولما سألت سيدتها الكبيرة قالت لها أم سهام وهي تضحك في مرح: قولي لها كل سنة وانتي طيبة، وعقبال ميت سنة.
وكانت فرح تعرف كيف تقول كل سنة وانتي طيبة، ولكنها نسيت في البداية عقبال ميت سنة، ثم تذكرتها، ثم ظلت ترددها طوال اليوم، ثم أخذت ترددها في سرها دون توقف، رددتها وهي تغسل الأطباق، ورددتها وهي تكنس الأرض، ورددتها وهي تنظف حذاء سيدتها وحذاء سيدها وحذاء صديقتها الصغيرة، ثم رددتها وهي تأكل، وأخذت ترددها بعد أن نام الجميع، وألقت بجسدها الصغير فوق فرشتها المكونة من لحاف قديم ووسادة وغطاء يقيها البرد، وكان جسدها مكورًا فوق الأرض بجوار سرير سهام، وعيناها مفتوحتان، ونظراتها معلقة بالظلام العميق الذي كان يسود الحجرة، وأذناها تتسمعان أنفاس سيدتها الصغيرة وهي تتردد في سكون الليل، وشفتاها تتمتمان بلا توقف: كل سنة وانتي طيبة يا ستي سهام
كانت تريد أن تكون أول من يقولها، ولذلك قاومت النوم، وقاومت جفنيها وهما يثقلان ويسقطان فوق عينيها، وكانت تنتظر طلوع النهار.
ولكن النوم انتصر عليها
وحملتها الأحلام متهادية، ثم هبطت بها في حفل بهيج، كان حفلًا صاخبًا زاهيًا حلوًا… زينات وموسيقى وضحكات وناس… ناس كثيرون، أشكال وألوان… ورأت في المنام أمها مع الناس تلبس فستانًا فاقع اللون، وفي قدميها حذاء لامع جميل، وفي يدها حقيبة يد مليئة بالنقود… نقود فضية براقة، كانت تتلألأ وتضوي فتخطف الأبصار، وفتحت أمها حقيبتها وغرفت من النقود الفضية البراقة وأعطتها، وأخذت فرح تملأ جيوبها، وكان فستانها مليئًا بالجيوب، جيوب كثيرة كثيرة امتلأت وفاضت، فملأت حقيبة يدها الصغيرة، حقيبة كتلك التي تملكها سهام تمامًا، وامتلأت الحقيبة هي الأخرى، وفاضت، فتركت أمها وعدت تسابق الريح وتبحث عن سهام حتى وجدتها، ورأتها جميلة جميلة، صغيرة رقيقة، فأخذت تغترف من النقود الفضية وتعطيها، وضحكت سهام، وضحكت هي معها، وضحك الناس، ألوان وألوان، وموسيقى وبهجة، ونادت سيدتها على سهام، فسارت بجوار صديقتها، ثم امتدت يد، يد خشنة هائلة ضخمة، وجذبتها بعيدًا عن صديقتها، فصرخت، ولم تسمعها سهام ومضت سعيدة نحو أمها التي كانت تبتسم لها، وصرخت فرح ثانية، صرخت بكل صوتها، ولكن صوتها اختنق وضاع ثم تلاشى، وابتعدت عنها سهام، وابتعدت، وابتعدت، وصرخت هي، وصرخت، وصرخت، ثم همت جالسة في مكانها وقلبها مضطرب يدق في عنف، ودموعها تسيل على وجنتيها، والعرق البارد يغرق جسدها.
كان الظلام حالكًا في الحجرة، وكانت أنفاس سهام تتردد في هدوء وانتظام، وكانت فرح ترتجف بشدة، وذراعها النحيلتان مضمومتان إلى صدرها، ودموعها تنهمر بلا انقطاع، ورأسها ثقيل ثقيل، وخدر عنيف يتسرب إلى جسدها الضئيل، فأمالت رأسها ووضعته فوق الوسادة، وراحت في سبات عميق.
ولكنها استيقظت مبكرة.
وعندما استيقظت كان النور قد تسلل إلى الحجرة خافتًا شاحبًا، وكانت متعبة مكدودة، ودارت ببصرها في الحجرة، ووقعت عيناها على جسد صديقتها الممدد في الفراش الصغير، وكانت سهام قد ألقت غطائها عن جسدها كالعادة وعرت ساقيها الناصعتين
فنهضت فرح على عجل، ودثرت سهام بالغطاء من جديد، وانطلقت خارج الحجرة
ومر الوقت بطيئًا.
كانت الصغيرة قد نفضت عن عينيها وجسدها غبار النوم، وراح حلمها البغيض في طيات النسيان العميق، وأخذت تردد من جديد ما كان عليها أن تقوله في ذلك الصباح، وكانت تعمل في المطبخ عندما صك سمعها صوت صديقتها الرقيق، فهرولت لا تلوي على شيء، وقلبها يضطرب في صدرها بعنف، واندفعت إلى الحجرة كالسهم، وهمت أن تلقي تحيتها عندما اصطدمت عيناها بسيدتها وسيدها وهما يضاحكان سهام ويلاعبانها، وتوقفت فجأة، واضطربت أنفاسها، وترددت برهة، وعم السكون، وتحولت إليها العيون في بشر، ثم قالتها: كل سنة وانتي طيبة يا ستي سهام
وابتسمت سيدتها، وقالت لها سهام: وانتي طيبة يا فلح.
كم تحبها عندما تقول لها يا فلح فهي لا تزال صغيرة لا تعرف كيف تنطق اسمها صحيحًا وتقول فرح
ومضت الساعات
وعلقت الزينات
ومضى النهار
كان الجميع في فرح، والبيت كله قد انتابته حمى لذيذة من السعادة، سعادة كانت تغمر كل شيء فيه، وكانت فرح أكثر الجميع سعادة، لم تذهب ستها سهام يومها إلى المدرسة، وبقيت معها، وشاركتها في العمل، وجهزت معها حجرة المائدة، تلك المائدة الطويلة التي كانت فرح تسير بجوارها وتدور حولها خطوات وخطوات حتى تنظف سطحها.
وحفلت المائدة بالحلوى، أشكال وألوان، أشكال عدة وألوان زاهية، ورائحة تنبعث منها فيسيل لها لعاب فرح، بل جعلتها تهم بأن تغترف بإصبعها الصغير قطعة طرية بيضاء، ثم تضعها فوق لسانها وتوقف جريان لعابها، ولكنها تذكرت النار التي حدثتها عنها سيدتها، والتي ستشوي جسد السارق يوم القيامة، ولن تسرق فرح، وهي لم تسرق أبدًا، ثم هي تخاف النار وترتعب منها، وانكمش أصبعها فجأة والتوى داخل كفها، وارتد ذراعها إلى بعيد، وظلت ترقب تلال الحلوى من بعيد.
وعندما ارتدت سهام فستانها الجديد، وحذاءها الجديد، وأمسكت في يدها حقيبتها الصغيرة الجديدة، ارتدت فرح حذاء سهام القديم، وبدت وقتها حلوة، واختلست النظر إلى المرآة لبرهة، مجرد برهة، مرت فيها بكفها الصغير على شعرها الذي مشطته لها سيدتها، ثم ابتسمت عندما ظهرت سهام بجوارها في المرآة، وتضاحكت الصديقتان في سعادة ومرح.
وتوافد الضيوف
أطفال كثيرون، كانوا جميعًا يضحكون ويلعبون ويصرخون ويقبلون سهام ويقولون لها كل سنة وانتي طيبة يا سوسو، ورجال ونساء، كانوا يرفعون سهام بين أذرعهم ويقبلونها ثم يقدمون لها الهدايا، هدايا كثيرة، ولعب حلوة بهيجة، ورقص قلب فرح من السعادة، فلسوف تشارك سيدتها فيها بعد انصراف الضيوف، باكر، وبعد باكر، وطول العمر، وغمرتها السعادة، وأخذت تلبي طلب هذا وتجري نحو تلك وتحمل أكواب الماء وفناجين القهوة، وتروح وتجيء ولا تهمد، وتمتص كل ما يحدث دون أن تفوتها ضحكة أو حتى ابتسامة، وكانت تضحك مع الضاحكين، وتبتسم مع المبتسمين.
ثم أضيئت الشموع
وأطفئت الأنوار
وهلل الجميع وصفقوا
وهللت فرح وصفقت، وانتابتها رعدة عنيفة، وتشابكت أصابعها في انفعال واقشعر بدنها، فانكمشت في ركنها، وسبحت الحجرة في الضوء، ودوت الضحكات والتهاني، وقال الجميع: كل سنة وانتي طيبة يا سوسو، وقالت فرح: كل سنة وانتي طيبة يا ست سوسو، ولكن سهام لم تسمعها، فقالتها مرة أخرى، ولم تسمعها سهام، فزاحمت السيقان الطويلة، ومدت يدها فجذبت ذيل فستان صديقتها، والتفتت إليها سهام، وانفرجت السيقان الطويلة توسع لها مكانًا في دهشة، وفي لحظة، جالت فرح بعينيها على كل العيون التي انصبت فوقها من عل فأصابتها رعدة، وسرت البرودة في جسدها، وتلعثمت وتلجلجت، وحاولت أن تنطق، حاولت جاهدة أن تقول شيئًا، دون جدوى.
فولت الأدبار، وهربت خارج الحجرة.
وسرعان ما علت الضجة من جديد، ووزعت الحلوى، وملئت بها الأفواه، وقالت سهام لأمها: وفلح يا ماما، وفلح
وقالت لها أمها وهي تقدم لها طبقًا مليئًا: بعدين يا سوسو، بعدين.
وعندما قالت لها أمها: عاوزه شاي يا سوسو؟
قالت سهام في قلق: ومناب فلح يا ماما، ومناب فلح
وهمست أمها في أذنها: بعدين يا حبيبتي، بعد الضيوف.
وعندما رأت سهام الأفواه الكثيرة تلتهم الحلوى فتختفي تلالها من فوق المائدة، جذبت ذراع أمها وهي تقول بقلق: وفلح يا ماما، فلح مخدتش.
وكانت فرح وقتها سعيدة، سعيدة للغاية، عيناها تلتهمان الوجوه في دهشة، ولعابها يسيل في فمها المطبق فتحس له بمذاق الشهد، وكانت تضحك ملء قلبها عندما سمعت سهام تناديها
كانت صديقتها تمد لها يدها بقطعة كبيرة من الحلوى وهي تقول في سعادة: خدي يا فلح منابك، ولم تتردد فرح، واندفعت تمد يدها إلى صديقتها، وما كادت أصابعها تلمس قطعة الحلوى حتى سمعت صوت سيدتها الكبيرة:
ميه يا فرح، هاتي ميه.
وانطلقت فرح بلا وعي تحضر المياه، وعندما عادت كانت سهام قد نسيتها
وأحزنها هذا لفترة، ولكنها كانت فترة وجيزة غرقت بعدها بين أقدام الضيوف، تلبي طلب هذا، وتسرع إلى ذاك، وتحمل المياه وتصنع القهوة، ولا تكف عن العمل.
وأنهى الضيوف على الطعام كله.
ذلك أن فرح عندما انصرفوا، نظرت إلى المائدة فلم تجد أثرًا لشيء، كانت تلال الحلوى قد اختفت، وكانت الأطباق ملقاة في إهمال، فارغة.
وسرعان ما نشطت للعمل.
وأخذت سيدتها تجمع لها الفتات في طبق واحد، وسرعان ما تسلقت فرح المقعد الصغير أمام حوض المطبخ، وفتحت الصنبور، وبدأت العمل في نشاط وحنكة، وأكوام الأطباق القذرة تتناقص، ثم تصف في الناحية الأخرى نظيفة لامعة.
كانت فرح غارقة في العمل، وكانت الدقائق تمضي وتحمل لها في ذهنها ذكرى الحفل الجميل، ولكنها عندما انتهت من عملها، كان الظلام يسود البيت كله، وكان الجميع قد ناموا.
تسللت فرح إلى الخارج، وأحست فجأة بالسكون عميقًا عميقًا، فوقفت حائرة، لا تدري ماذا تفعل، كانت حيرتها شديدة، ودهشتها أشد من حيرتها، وتحركت في النهاية قدماها الصغيرتان، وعادت إلى المطبخ من جديد.
وجالت عيناها في المكان، وعندما اطمأنت إلى أن كل شيء في مكانه، امتدت يدها إلى طبق الفتات، وضمته إلى صدرها في رفق، ثم زحفت إلى ركن المكان وتكورت فوق الأرض العارية، وأخذت تلتهم ما فيه.
ولم تشعر فرح وهي في جلستها تلك بالشبح الصغير الذي كان يتسلل في الظلام في خفة القط.
كانت سهام تخترق البيت حافية القدمين، وكانت في لهفة من أمرها تسرع إلى حجرة المائدة دون أن تتحسس طريقها المظلم، وتسللت إلى الحجرة، ودارت حول المائدة الطويلة، وتفادت مقعدًا… ومقعدين، ثم توقفت أمام الدولاب، وركعت على ركبتيها العاريتين، وامتدت يدها في الظلام تبحث عن شيء، وسرعان ما عثرت أصابعها على الكنز المخبأ، فأطبقت عليه، وضمته إلى صدرها بحنان، وعادت تتسلل من الحجرة واتجهت إلى المطبخ.
رفعت فرح عينين داهشتين وقد انتابها اضطراب مفاجئ عندما رأت صديقتها، وتقدمت منها سهام في سرعة، وقبعت بجوارها، والتصقت بها، وانكمش جسداهما الصغيران، ووضعت سهام قطعة هائلة من الحلوى في طبق الفتات أمام فرح وهي تقول: خدي يا فلح، أنا خبيت لك منابك.
ودهشت فرح لبرهة، مجرد برهة، ثم ابتسمت، ثم امتدت أصابعها فانغرزت في قطعة الحلوى بشهية، وسرعان ما أخذت تلتهم منها في سرعة وكأنها تخاف أن يختطفها منها أحد، ونظرت كلتا الصديقتين إلى بعضهما، وتلاقت عيونهما في سعادة… ثم انفجرتا في الضحك.