لطالما تابعت منشوراتك وقرأت كتاباتك ودونت ملاحظاتك بخط يدي وتفكرت في مقتطفاتك واقتبستها وعملت بها. تابعت أخبارك وتأملت صورك وتلك الساعة في يسراك والخرز في يمينك.
حلمت بك والتقيتك في ليلة مطيرة واحتسيت قهوتي بصحبتك وعاتبتك على مجاملتك لإحدى معجباتك وخاصمتك لأيام طوال لانشغالك عني وعدت وصالحتك بتعليق يثني على أصالة قول من أقوالك.
يوم أعلنت عن مسابقة تطلب فيها استكمال بيت شعر كتبته، ووعدت باستضافة الفائزين الثلاث لتكون رابعهم في أمسية شعرية خاصة، وجدتني استسلم لفيض المشاعر المنساب كحبات المطر اللؤلؤية. نثرت الغبار عن شغف الكتابة الذي سكنني فكتبت ونثرت وغنيت. سطرت كلماتي تحت منشورك لاستكمل أبياتك بقصيدة كاملة، وقضيت ليلتي أتابع التعليقات والردود.
بت أحلم أنني من الرابحين بجلستك وأمسيتك الشعرية "الخاصة"، وكيف سيكون لقاءنا الأول، وهل سيرافقني إليك فتيات أم لعلهم جميعاً رجال؟ وهل ستلحظ وجودي أم ستكون جلسة مجاملة فقط؟ وتجددت أحلام يقظتي وبت أعيدها واسترجعها وزاد شوقي لسطوع شمس عيناك في سمائي. وأن تلتقي أيدينا في سلام يبدو للغير عاديا، لكنه يحمل نبض قلبي ودفء روحي وثورة كياني مطرزة على أطراف أصابعي.
مرت ليلتي بين تأهب وشوق وأمل وانتظار وانتهت بدموع استعذبت سقوطها أدخلتني في سبات أفقت منه على تنبيه استلام الرسائل. بعين واحدة منتفخة من البكاء فتحت الرسالة لأجدها من المشرف على صفحتك الرسمية يطلب رقم هاتفي للتواصل معك.
جعلت أفرك عيناي ... قفزت ... غسلت وجهي ... فتحت النوافذ ... استنشقت الهواء. أنا الآن متيقظة ومستوعبة ومتنبهة. عدت لهاتفي لأتأكد أن الرسالة حقيقة لا حلم. دون حروف كتبت أرقامي الإحدى عشر.
مرت الساعات ثقيلة حتى حمل الغروب اتصالاً من رقم خاص، ظننته بداية من شركة الاتصالات لذا أجبت بضجر معتاد، لكن الرد على همهمتي كان صوتك المميز.
- هل الوقت مناسب؟
تسمرت في مكاني ثم وقفت أتحسس الأرض بقدمي، لعلِي اشعر بالاتزان ولا أطير سعادة، تنبهت كل حواسي وجاء ردي بعد استعجال.
- ألو!
- حقيقي!!!
- آثرت الاتصال دون الرد كتابة على أبياتك الرقيقة.
- تفضل
- لم أقرأ منذ فترة نظم نسائي بهذه البراعة والجرأة وكأن الغزل مقصور على الرجال. هل لك تجارب أخرى؟
- لا
- هلا تنضمين لورشة كتابة تحت رعايتي؟
- ...
- هل تسمعينني؟!
- نعم
- انتظرك اذن في تمام العاشرة في مكتبي لتتعرفي على أعضاء الورشة وقواعدها، سأرسل لك احداثيات المكان عبر التطبيق.
أربع كلمات نطقتها طوال محادثنا الأولى والأخيرة. لعله من صمتي لا يصدق إنني كاتبة الكلمات التي مدحها والتي كانت سبب انضمامي لورشة العمل التي حدثني عنها.
إذن لقاؤنا في العاشرة صباحاً.
ارتدي قميصي الأبيض الرسمي، لا الزهري أكثر تألقاً، الجاكيت الأحمر سيكون مبالغاً فيه، إذن اللون البني يحمل العمق والغموض المطلوبين. وأسدل شعري على كتفي.
كوب الينسون الزجاجي يؤنسني قبل نومي لعله يدخلني ممر الأحلام. استنشقت الخزامى "اللافندر" وغرقت في ثبات عميق لاستيقظ قبل موعدي بساعة أراقب دقات العقارب وحركاتها المتوائمة ومرت الساعة دهراً كاملاً. احتسيت خلالها قهوتي الصباحية وارتديت جاكيت أسود وبنطال جينز أزرق، ما أجمل الملابس الرسمية الممزوجة بروح العصر.
إيقاع الحذاء الأسود ذو الكعب العالي كان بمثابة موسيقى تصويرية تحد من الصراعات التي تدور بداخلي وتزاحم الكلمات والأفكار.
مارست تدريبات ضبط إيقاع التنفس؛ شهيق ... زفير، حتى وصلت لباب مكتبه، أطرقت، فسألني مساعده هل أنت بخير؟ فأجبت بابتسامة. مشاعري تترد بهمس على طرف لساني، شوقي لعيناه يلمع في عيني، احتياجي ليديه ينساب على أطراف أصابعي. توتري يندفع عبر شرياني التاجي إلى رأسي.
ما أجمل البدايات!! أنيقة ورقيقة ومبهجة تشعرك بأن العالم يفوح بعطر الياسمين ويلفه رذاذ الندى وتغمره شمس ناعمة ترسم البسمة على وجوهنا.
يُفتح الباب عن شمس ساطعة في مكتبه، شمس تخصه تسطع من نوره، ترسم حوله هالة من الهيبة. سرت بهدوء وخجل نحوه أحاول جاهدة التماسك ورسم الحكمة والعمق على ملامحي.
ها أنا أعيش اللحظة التي طالما حلمت بها. سأسلم عليه وألمسه، سأترك عطري في راحته لعله يطارده بقية يومه، فيعلن استسلامه أمام عيناي المرسومتان بالكحل الأسود.
كان يقف بجوار النافذة واستدار عندما تنبه لصوت الباب. تركني مساعده بعدما ذكره باسمي وسبب الزيارة. تركني وحدي في حضرته، لأغرق في عالمه أحاول جاهدة مد ذراعي لأسلم عليه دون أن تشي بي رعشة يمناي.
اقترب متفحصاً ملامحي بابتسامة لم أفهمها، وبادر بالحديث، أنت أجمل من صورتك الشخصية التي تزين صفحتك.
ومد يده فالتقت يدانا.
صعقت ... حرارة جسده عالية ... كفه ندي ... عيناه تتفحصان جسدي بأكمله دون خجل ... رائحة عطره ودخانه طاغيين.
سحبت يدي بصعوبة وبإحراج من قبضته، فأشار إلى أريكة من الجلد البني منزوية تحت النافذة وعيناه مثبتتان تجاهي. جلس على الأريكة فاتخذت من الكرسي الملاصق لها مقعداً. فوجئت به ينهض ويجلس على المنضدة لتحكم ركبتاه حركتي وأنا جالسة على طرف الكرسي الذي يرغمك على الاستلقاء لو استسلمت له.
تندى جبيني عندما لامسني، واتكأ بيديه إلى ركبتيه ليزيد الوضع سوءً حيث لفحت أنفاسه اللاهثة وجهي وقال بصوت واثق
- كثيرات يتمنين الجلوس بانفراد إلى، وكثيرات يتمنين القرب الذي تقاومينه الآن.
- اعجبتني أبياتك وصورتك وخجلك عبر الهاتف كما يعجبني اختيارك لقميصك الأبيض الذي يخفي ما أرغب في استكشافه.
لم تخجلني كلماته بل أفزعتني، وتبدلت مشاعري للترقب والذعر. دفعته بعيدا وعدوت نحو الباب. لم يتبعني ولو بنظرة وكأنه مشهد مكرر بالنسبة له.
حافظت على رباطة جأشي لكنني لم أشعر بالأرض إلى عندما وصلت أول الشارع، انهرت بالبكاء، لطخ الكحل قميصي الأبيض، خلعت الحذاء العالي وسابقت السيارات.
بت ليلتي أصارع أحداث اليوم التي لاحقتني وأغسل يدي من بقايا عطر "مقاول الكلمات".