في ظل حالة من الحماس الإبداعي المتأجج اعترتني « الأخ الأصغر » جاءت كتابتي لرواية
في الفترة ما بين ٧ مايو ٢٠٠٧ و ٢ يوليو ٢٠٠٧ ؛ أي استغرقت كتابتها ثمانية أسابيع
بالضبط، بدءًا من اليوم الذي راودتني فيه الفكرة حتى اليوم الذي أنهيت تأليفها فيه
(وكان على آليس— التي أهُدي إليها هذا الكتاب — تحمُّلي وأنا أسطر نهاية الفصل الأخير
الساعة الخامسة صباحًا بالفندق الذي كنَّا نقيم به في روما للاحتفال بذكرى زواجنا).
كنت أحلم أن يخرج الكتاب من بين يدي ويكون في صيغته النهائية دون عرق أو جلبة
… لكن الأمر لم يكن بالقدر نفسه تقريبًا من المتعة التي ظننت أنه سيكون عليها، فوصل
عدد ما كتبته من كلمات في بعضالأيام إلى عشرة آلاف كلمة، انحنيت فيها لساعات طويلة
على لوحة المفاتيح في المطارات ومترو الأنفاق وسيارات الأجرة وأي مكان يمكنني الكتابة
فيه. كان الكتاب يحاول الخروج من رأسي بأي ثمن؛ فصرت لا أنام طويلًا، ولا أتناول
الطعام كثيرًا إلى أن بدأ أصدقائي يتساءلون عما إذا كنت على ما يرام أم لا.
عندما كان والدي طالبًا جامعيٍّا في ستينيات القرن الماضي، كان ضمن القليلين
الذين كانوا يرون أن الكمبيوترشيء جيد، فكان الكمبيوتر « المتمردين على الثقافة السائدة »
في نظر أغلب الشباب آنذاك تجريدًا للمجتمع منصفته البشرية؛ إذ يحوِّل طلاب الجامعات
لا تثنِ هذه البطاقة أو تخرمها أو » : إلى أرقام على بطاقات بيانات مُثقبة مكتوب عليها
أنا طالب: لا تثنِني » : ما دفع بعضالطلاب لارتداء شارات تحمل عبارة ؛« تطوِها أو تتلفها
كان يُنظَر للكمبيوتر على أنه وسيلة لزيادة قدرة .« أو تخرمني أو تطوِني أو تتلفني
السلطات الحكومية على فرضنظام صارم على الناس وإخضاعهم لإرادتها.
حين كنت في السابعة عشرة من عمري، بدا وكأن العالم في طريقه نحو مزيد
من الحرية، فكان حائط برلين على وشك السقوط، وانتشرت أجهزة الكمبيوتر — التي
الأخ الأصغر
« المودم » كانت قبل ذلك الحين بسنوات قليلة شيئًا غريبًا وعجيبًا — في كل مكان، وكان
الذي كنت أستخدمه للاتصال بأنظمة لوحات النشرات المحلية يصلني آنذاك بالعالم
أجمع عبر شبكة الإنترنت وخدمات تجارية إلكترونية، مثل خدمة جيني. وازداد افتتاني
— الذي لازمني طوال حياتي — بقضايا النشطاء عندما رأيت كيف أن المشكلة الرئيسية
في ممارسة النشطاء عملهم؛ وهي التنظيم، غدت أيسر على نحو يتزايد بسرعة البرق
(لا أزال أذكر المرة الأولى التي تحولت فيها لاستخدام قاعدة بيانات بنظام الدمج البريدي
من إرسال الرسائل الإخبارية بالبريد مع استخدام عناوين مكتوبة بخط اليد). استُخدِمت
كذلك في الاتحاد السوفييتي أدوات الاتصال لتوصيل المعلومات — والثورة — إلى أقاصي
أكبر الدول الاستبدادية التي شهدتها الأرضعلى وجه الإطلاق.
بيد أنه بعد مضي ١٧ عامًا، اختلفت الأمور كليةً؛ فاستوعبت الأنظمة أجهزة الكمبيوتر
التي أحبها، وصارت تُستخدَم للتجسس علينا، والتحكم فينا، والوشاية بنا. فتنصَّتت
وكالة الأمن القومي الأمريكية على الخطوط الهاتفية بسائر الولايات المتحدة في مخالفة
منها للقانون، وأفلتت من العقاب. وتراقبنا كذلكشركات تأجير السيارات وهيئات المرور
والنقل العام أينما ذهبنا، وترسل لنا تذاكر مؤتمتة، موشيةً ببياناتنا للمتطفلين ورجال
الشرطة والمجرمين الذين يتمكنون من الوصول غير القانوني لقواعد البيانات الخاصة
للممنوعين من » بهذه الجهات. هذا فضلًا عن احتفاظ إدارة أمن النقل الأمريكية بقائمة
تضم أفرادًا لم تسبق إدانتهم بأية جريمة، ومع ذلك يُعَد سفرهم جوٍّا أمرًا « السفر جوٍّا
بالغ الخطورة. إن الأسماء بالقائمةسرية، والقانون الذي يفرضتطبيقهاسري، والمعايير
التي تحكم إضافة الأفراد إليهاسرية. فتضم هذه القائمة أطفالًا يبلغون من العمر أربعة
أعوام وأعضاءً بمجلسالشيوخ الأمريكي ومحاربين قدامى حائزين على أوسمة؛ أي أبطال
حرب حقيقيين.
مَن أعرفهم من ذوي السبعة عشر ربيعًا يدركون تمام الإدراك ما يمكن أن ينطوي
عليه الكمبيوتر من خطر، فكابوسالاستبداد — الذي شهدته حقبة الستينيات من القرن
العشرين — عاود من جديد. إن الصناديق الصغيرة المغرية الموجودة على مكاتب هؤلاء
الشباب أو في جيوبهم تراقب جميع تحركاتهم وتطوقهم، مجرِّدةً إياهم على نحو منظم
من تلك الحريات الجديدة التي تمتعت أنا بها، وأحسنت استغلالها في مرحلة الشباب.
هذا فضلًا عن الاستغلال الواضح لهؤلاء الشباب كحقل تجارب لدولة تكنولوجية
من نوع جديد كلنا نمضيفي الطريق نحوها؛ وهي الدولة التي يُعَد فيها التقاط صورة ما
إما قرصنةً لمصنفات الآخرين (في دور السينما أو المتاحف، بل والمقاهي أيضًا)، أو إرهابًا
(في الأماكن العامة)، بينما يمكن فيها التقاط صور لنا وتعقبنا وتسجيل ما نفعله مئات
المرات في اليوم من جانب أيصاحب متجر أوضابط أو مسئول بيروقراطي، أو ديكتاتور
حقير. إنه عالم يمكن فيه تبرير أي إجراء — بما في ذلك التعذيب — بالتذرُّع بهجمات
الحادي عشرمن سبتمبر من عام ٢٠٠١ بالولايات المتحدة حتى يصمت المعارضون كافة.
لكن ليس علينا الاستمرار في هذا الطريق.
إذا كنت تحب الحرية، وتعتقد أن الخصوصية تمنح الإنسان كرامته، وكذلك حقه في
فعل ما يريد دون تدخل من أحد، وتجربة ما يرِدُ بذهنه من أفكار غريبةشريطة ألا يُلحق
الضرر بالآخرين؛ فلديك قضية مشتركة مع أولئك الشباب الذين تُستخدَم برامج تصفح
الويب والهواتف المحمولة خاصتهم لتتبعهم وملاحقتهم في كل مكان.
إذا كنت تؤمن بأن الرد على الكلام السيئ هو المزيد من الكلام — وليس الرقابة —
فهذه معركتك إذن.
إذا كنت تؤمن بمجتمع قانون يفرضفيه الحكام علينا القواعد، ويخضعون لها في
الوقت نفسه، فأنت جزء من الصراع الذي يخوضه هؤلاء الشباب عندما يطالبون بحقهم
في العيش وفق ميثاق الحقوق ذاته الذي يخضع له الراشدون.
يَهدُف هذا الكتاب لأن يكون جزءًا من النقاشحول ما يعنيه مجتمع المعلومات: هل
يعني المراقبة الكاملة أو حرية لم تُعرَف من قبل؟ إنه ليساسمًا فحسب، بل فعل …شيء
تفعله.