أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

شارك على مواقع التواصل

أمام أحد القصور الفخمة الشهباء التي تكشف عن براعة معمارية فائقة، والواقعة في أحد الأحياء الراقية – في منطقة المهندسين بالجيزة– في أمسية ذلك اليوم العاري من أوراق الشجر من أيام شهر فبراير، كان الجو ملبدًا بالغيوم التي تنخر رويدًا رويدًا، وأخذت الظلمة الحالكة تتبلور إلى قُتام تكاد ترى العين من خلاله الدنيا طيوفًا، أمام حديقة القصر، وكانت تبرز منها الأوراق والزهور منحنية في تناسق متقابل جلس الأب "عدلي" يتحدث مع زوجته "فضيلة" عن مستقبل بنتيهما، لا سيما تلك الابنة التي أتت إلى منزلهما بفعل قدر جيد التدبير، وبدأ الرجل مخاطبًا زوجته:
- لا بد من إيداع تلك الفتاة في أحد الملاجئ؛ لكي تتولى رعايتها.. فأنتِ تعرفين جيدًا أنني لا أستطيع أن أتظاهر بحنان أبوي لمَنْ لم أنجبهم بنفسي، ومن المتعذر تمامًا أن يُظهر رجل عطفًا كاملًا على فتاة لم ينجبها من صلبه.
- ولكن هذه الفتاة الرقيقة ليس لها الآن في الدنيا أحد سوانا؛ فمنذ ثمانية أيام وهي تقيم معنا، ويأخذها الشعور إزاءنا بالتعلق والحب، هذا فوق أني لا أستطيع أن أضن بأمومتي على مَنْ يستغيث بها، لا يمكنني أن أمنع إحساسي بالأمومة عن مَنْ لا أم لهم!! فما جريمة هذه الطفلة البريئة إذا لفظناها من بيننا، ووقعت فريسة لمَنْ لا شفقة فيهم ولا إيمان لديهم؟! ثم ماذا تفعل تلك المسكينة إذا لم نولها نحن أولي الجاه والثراء بعنايتنا؟! إن ثروتنا كافية لأن تغطي حاجة هذه الطفلة، وحاجة كثير من اللقطاء أمثالها، ثم إنها وديعة، ولن تكون في يوم مصدر إزعاج لنا.
- ربما الآن لا يأخذني أي اعتراض على وجود هذه الطفلة في قصرنا (قالها مرغمًا تلبيةً لتمسك الأم بها) ولكن اعلمي أننا بذلك نتيح الفرصة للمتسولين والهمج الكثار من أمثالها، ثم ضحك ضحكةً معدنيةً عالية؛ فابتسمت زوجته قائلةً:
- إذن فليكثر الله من أمثالنا.
كانت هذه الأسرة الصغيرة لا تحتوى من قبل إلا على فتاة صغيرة تدعى ليزا، التي تصغر "ميرفت" الطفلة اللقيطة بنحو عامين، والأب "عدلي"، والأم "فضيلة"، كان الرجل في نحو الثانية والأربعين من العمر، رجل ممتلئ القوام، أشقر، وكان أصلع من أعلى جمجمته فقط؛ كأنه راهب مكلل الرأس، فشعره خفيف وقصير يكاد لا يغطي رأسه كاملًا، وله جزء من الشعر القصير المجعد المذهب، واللامع يحيط بهذا الإطار من اللحم العاري؛ كان رجلًا خبيثًا، ماردًا متوجسًا دائم الحذر رغم نوبات الغباء والعجرفة التي لا يستطيع أن يظهر إلا من خلالهما؛ كشأن كثير من الطبائع الأرستقراطية المتطرفة.
أما عن وظيفته فهو صاحب، ومدير مصنع لصناعة الملابس ذات الجلد الطبيعي الفاخر، والتي يعتمد في جلودها على عزبة زوجته الموجودة بالقليوبية على مقربة من القناطر الخيرية؛ فهو يجلب الجلود من مراعيها في الريف، تلك المراعي التي تبلغ مساحتها 12 فدانًا.
ولا شك أن هذه التجارة ذات الأثر الأول في ثرائه؛ فلقد درت عليه أرباحًا هائلة، هذا وله محل صغير لبيع الملابس الجلدية يديره أخ له يصغره في العمر، ويدعى "خليفة"، وقد كانت حياة السيد "عدلي" حياة فاترة برغم امتلائها بالعمل، والمجهود الدائب؛ وهي حياة موزعة بين الذهاب لمصنعه لمباشرة حركة العمل هناك، ثم الذهاب للنادي لمجالسة أصدقائه؛ فحياته خاوية لا تناهضها عاطفة، وكأنه تمثال من المرمر لا يختلج بالحنان، ولا يعرف للعاطفة معنى، فالحياة كما يرى واجبات يجب أن تؤدى بمعزِل عن العاطفة، ويبدو أنه لما كان في سن الصبا كانت أعماقه تفرز برودًا، وإذا افترضنا جدلًا أنه رجل صاحب أعماق؛ فهي أعماق ثلجية جشعة، ومنفرة، فأي أمل إذًا في الركون، والانزواء إلى هذا الحضن الثلجي؟ لقد وهبه الله السعة في المال ليفتنه، وحرمه طلاوة العاطفة، وفن الحب، والصداقة، وما أمكرها حكمة، ورغم بروده، وجفافه، وغموض أعماقه إلا أن قسوته لم تكن تدرك لأول وهلة، ولكن كل هذه الخصال إذا نفت العاطفة فلا تنفي القدرة على التظاهر بوجودها، فكثيرًا ممَنْ بهتت أعماقهم، وخبا نور وجدانهم، وألهبتهم جذوة المادية، ولذة الحرص عليها، والركون إلى الحياة السطحية، لا تنعدم تعبيرات الحب فوق وجوههم حتى لو كان حبًا باطلًا، ولا تنعدم أطلاله فوق وجدانهم المشروخ أو نفوسهم العقيمة؛ فالجمال قد يسكن فى القبح، والثلوج قد تشع بالدفء، ولكن هذا لا يمنع من أن نقول بأن هذا الرجل هو أحد الموتى اللذين ضلوا الخطى عن القبور، وإذا كانت حياة الإنسان تقاس بما يفرزه من دفء لقلنا إن هذا الرجل ممن هم موتى بلا قبور؛ فهذا الرجل انساق وراء نفسه المتردية، وارتكن على خصاله الفظة الغليظة الطبع، وليس أشد إيلامًا على قلب أي إنسان من أن يواجه مثل هذه الخصال المتحولة، والمتلونة التي تبعث الطعنات بكل لطف، وكأنها إحدى هبات الطبيعة، فتصرفاته أنانية متردية، وجديرة بالاستخفاف، والتردي هو بلادة الحس، وقد كان هذا الرجل ينعم بها على خير وجه؛ فهو دائمًا منصرف لعمله، مؤمن بتصورات أنانية، وقد أمكنه أن يرتقي بتصوراته هذه أمام العامة، والخاصة على كونها مبادئ، ومُثل، ومنهج لا بد وأن يُحتذى، ورغم نعمة الصحة التي منحه الله إياها إلا أن أعماقه كانت وحشية، ومريضة مرضًا مزمنًا، كما أن نظرته للحياة افتقدت إلى الظرف، هذا فوق أنه مريض الخيال لا تصلح أفكاره لشيء، بل إن جملة معارفه، وتصوراته، ومقترحاته كانت هزلية، وسقيمة تفتقد إلى الصلاحية، ولو أن رجلًا مثل هذا لم يرث ما ورثه، ولم يرتكن إلى زوجة ثرية ساعدت على إرباح ثروته، وتجارته، لأصبح موظفًا مهملًا لا تسمع به أبدًا، ولاختفى وراء الأدراج طيلة حياته.. كان يدير مصنعه بطرق برجوازية فاضحة، وبطريقة، وإن ظهرت فيها آثار الخبرة إلا أنها كانت تفتقد إلى الموهبة ... إن كل يوم يمر عليه هو بمثابة تدهور في مكاسبه إلا أنه لم يصل بعد إلى حد الخسارة الشاملة..
أما أصحاب المواهب هم فقراء بائسون مشردون، جائعون، لا يجدون ما يسد رمقهم، ولا يملكون إلا أن يتسكعوا بمواهبهم، بينما هؤلاء الذين فرغت عقولهم من كل فكر، وأي إلهام، أو أي مضمون جمالي، أو تذوقي، أو إبداعي كُتب لهم أن يعيشوا نجومًا يتندرون بأصحاب الطاقات وورثة الإلهام، رغم أنهم دخلاء على أرض النجوم، ومقحمون غصبًا على ورثة الإلهام، وأصحاب الحق الطبيعي في السمو.
أما زوجته السيدة "فضيلة" فكانت على النقيض تمامًا من هذا الرجل، بل يمكن القول بأنهما عَدُّوَّان في الميول، والاتجاهات، ففي الوقت الذي ينزع فيه الزوج إلى الأنانية، وحب المال، والخبث، والتطرف، والاستهزاء بالمشاعر، كانت زوجته نزاعة للطيبة، وحب الآخرين، كما أنها ذات ذكاء شديد يخلو من تطرف أو خبث، أما عن ملامحها فكانت تثير الاهتمام، وتوحي بالجلالة، والعظمة، وعلى وجهها مسحة خشوع، وفي نظراتها وداعة؛ فهي صاحبة مزاج معتدل، وحس ناضج، فقد نقحتها تجارب السنين، وأنضجتها خبرات الزمن، ورغم ذلك فهي تبدو دائمًا جميلة، ولا يستطيع فيض الغضب أو كيل المعاناة أن ينالا من هذه البراءة التي لا زالت مرتسمة على محياها من أثر الطفولة السحيقة.
إن المرأة الرزينة تنطوي على سر الوجود، والمرأة الفاضلة تدري أهمية الخير أما المرأة الرزينة الفاضلة فلديها ما تنطوي عليه السريرة البشرية، ومعرفة مسبقة بهموم الإنسانية، وهي تنظر إلى البشرية نظرة ملؤها الاحتضان، والتعاطف، وتتمنى أن تحوز شرف المشاركة في دفع معاناة الناس، هذا على الرغم من أن حياتها لم تخلُ من مرارة، ومكابدة، ومعاناة.. والمعاناة دومًا هي قدر القديسين، والعظماء فما تواتر إلى الذهن أن سُمع بمعاناة شخص سطحي تافه، والعظماء لا يضيقون بالتعاسة، ولا يختبئون من الهموم؛ فهم يؤمنون بأن الألم فريضة لشروق شمس القداسة ...، وكل القديسات تألمن؛ لذلك صرن قديسات، ولسنا كائنات عادية، وكل العظماء يتألمون؛ لذلك فهم ليسوا مخلوقات سطحية ... هذا، والحقيقة أن محاولة تحليل، وسبر لشخصية هذه المرأة ليس من الأمور الهينة، فهي امرأة عريقة النبل، وأصيلة المحتد حتى إنه لا يداخلك ثمة شك في أن هذه المرأة استقام نسق أسرتها، وتحددت عائلتها منذ الأزل دون أن يعلق بها أي فرع خبيث. كانت تحب زوجها رغم شخصيته الغثة، وأفكاره المادية، وهي التي ترى في المادة إفساد للمزاج الروحي، وإتعاس للمثل الفطرية البريئة. إلا أننا لا نعدم مشاركتها له في حياته هذه، وفي تفكيره كحق من حقوقه الزوجية التي كانت تذعن لها من غير إكبار، وتقبلها من غير عنت، أما عن هوايتها فهي محبة للقراءة، شغوف بالأعمال الأدبية العظيمة، وقد استطاعت بما لديها من حس أدبي، وقريحة شاعرية أن تنشئ في بيتها مكتبة ضخمة تحوي عددًا من المؤلفات الثرية بالفكر خصصت لها غرفة خاصة كدستها بكل ما هو شيق، ونفيس من القصص الأدبية، والروايات، والمسرحيات، وكتب التاريخ، والشعر، والدين، وكانت توزع وقتها بين كتبها تتصفحها في اعتزاز، وتكتب على غرار ما تقرأ، وكم من مرة حاولت أن تكتب أقصوصة عن حياة زوجها، واختارت لها عنون "حياة مَنْ فى القبور"، ولكنها لم توفق في صياغتها، واسترجاعها لهذه النية جعلتها تصف هذا التصرف بأنه إساءة فاضحة لزوجها، وهذا ما لم يمله عليها الضمير؛ لذا أعرضت عن ذلك، أما ابنتها الشرعية "ليزا" فهي فتاة عذبة، وجميلة، ضاحكة، ومرحة؛ فهي نتاج دماء جد متباينة، فتاة وليدة أب فج الحس، وأم مشبوبة الحواس فأخذت من هذا، وذاك .. فكانت طفولتها مثالًا للفوضوية المتوترة، والطهارة المقدسة.. فتاة صغيرة بين المدرسة، والنادي، كما أن لها عقلًا لماحًا متقدًا تهوى القراءة كحال أمها، وتستبيح التسلل إلى مكتبة والدتها بغرض الاطلاع، ورغم حداثة عقلها بالقراءة إلا أنها استطاعت أن تميز تشيكوف بحبكته، وموضوعيته، وإسقاطه للحوار من أجل تحليل الشخصية، ورغم شخصيتها الجادة، والقوية إلا أنها كانت تأتمر بأمر الأدباء، ولقد وقع نظرها على قصيدة بول فاليري الروح، والرقص " هذه الفتاة اللطيفة التي اختزلت فيها الرومانسية اختزالًا أحبت رقص الباليه بعد قرائتها لهذه القصيدة، وقلما كان الشعر نقطة عبور إلى الباليه، ثم قرأت قصة "راقصة الباليه" لأليانور سميث.، وأعجبت أيما إعجاب بالموهبة التي أسعفت "باولينا فارلي" من السقوط.
كانت تعيش مع "ليزا" في هذا المنزل "ميرفت" الابنة غير الشرعية التي تبنتها السيدة "فضيلة"، هاتان البنتان هما الوحيدتان اللتان يعيشان مع الأم "فضيلة" التي أسرفت عليهما الحنان، ولم تميز بينهما في أي وقت، وتحت أي ظرف أو ضغط، تغدق عليهما الحب، والتدليل ما لا يقبل مزيدًا؛ فثقافتها كانت كفيلة بتدريبها متى، وكيف تقسو، والحق أن حنو الأم يفوق قسوتها حتى في عالم الغاب؛ إذا كانت بصدد أبنائها.
والأم العظيمة هي التي لا تعرف التمييز بين أبنائها، وغيرهم إذا كانوا جميعًا يقعون تحت رعايتها.. هذا، ولما كبرت "ميرفت" قليلًا كاشفها السيد "عدلي" الذي تبناها، وأخبرها صراحة أنها ابنة لقيطة، إلا أن الأم لم تكن تريد مصارحتها بهذه الحقيقة.. لم تشأ أن تخادعها فقالت:
-نعم أنت كذلك، ولكن هذا لن يكون حائلًا دون تمتعك بأمومتي كاملة؛ فأنا رغم كل ذلك أمك التي لا زالت تتمني أن تحوز شرف إنجابك.
صعدت الأم ذات مرة إلى منزلها الكبير، ومرت بالردهة ثم طرقت غرفة "ميرفت"؛ بغرض الاطمئنان عليها، وهناك وجدت "ميرفت" جالسة في غرفتها، وقد أحكمت تكتيف يديها، وأراحت برأسها على ركبتيها في كلل واضح، وقد احتواها شرود عظيم، فتأملتها الأم برهة، وأدهشها كل هذا الاستفهام، والاستغراق من "ميرفت".. أرادت الأم أن تفسد على ابنتها هذا التأمل السوداوي، والسأم الصامت:
-أنا أعرف أن البائسين الذين وقعوا في براثن المسغبة، وهم على شفا التشرد قد يضنيهم الفكر، ولا غضاضة في ذلك، ومن الحمق أن نأخذ على تفكيرهم هذا أي جريرة، أما بنات البيوتات فقد لا أجد ذنبًا لهن في التفكير.
ميرفت (ناظرة إلى أمها، وقد احتواها الأسى، وكأن دمعة في عينيها منتظرة على حرف):
-ماما إنك لم تكوني يومًا ما يتيمة؛ لذلك فالتفكير ليس مما يلذ لك.
الأم، وقد برقت عيناها بريقًا خاطفًا، وقد صرعتها كلمة "يتيمة"، وقالت في دهشة:
-"يتيمة"!
ثم خفضت من تهورها، وقالت "مخففة على ابنتها":
-أن تحكمي على نفسك باليُتم؛ فهذا معناه أنك قد حكمتِ عليَّ بالموت. ألا تشعرين بوجودي يا ميرفت؟! ألا تشعرين بأمومتي؟
ميرفت (وقد ارتبكت، ولم تقو على الاحتمال) ضمت أمها في حضنها ضمة تكشف عن الحرمان، والشرود الذي يفترسها.
الأم:
-حذارِ أن تتحدثي ثانية عن هذا الإحساس المرعب، والتطلعات المريضة. ألم أستطع بما جُبلت عليه من أمومة أن أسد نقصًا يعذبك؛ فالأمومة حرفتي يا ميرفت. خبري أعماقك السحيقة التي لا أملك لأغوارها سبرًا بأنه لن يبق بها جرحٌ إلى الأبد. أنتِ حبيبتي، وتعاستك مما يعز عليّ، واعلمي أنني كنت أمًا قبل أن تعلني حاجتك لأمك، بل، وقبل أن تشرفي منزلنا الكبير هذا، على أنني لست ممن تستدر العبرات مشاعرهن رغم رقة حسي. فأنا جديرة بأن أنفق حناني بلا مبررات، ودون شروط؛ فضيق الأم بالصراخ، والبكاء لا ينفي عشقها للطفولة التي تصرخ.
-الصراخ، والبكاء يوليهما الجزعون من الحياة نفس الأهمية التي يوليها الأطفال لهم، والبكاء خير دليل على أن المصائب، والنكبات تسير فى الطريق الذي رُسم لها.
- حنانيك طفلتي إن التأمل في الحياة يزيد أوجاع الحياة.
- إن المحرومين إذا لم يجزعهم التأمل فهو يشفيهم، عرفت إذن لماذا يرى المحرومون في التأمل خير عزاء.
- ليس هناك إنسان يدخل إلى السعادة عن طريق التأمل، لذلك يجدر بنا أن نستبدل باللحظات التي نضيعها في التأمل، لحظات نستثمرها في السعادة، وجدارة الإنسان بالحياة تبدو حينما ينجح في أن يحول كل أفراحها إلى مشاعر حلوة لا غنى له عنها؛ فالسعادة الحقة هي الاجتهاد على تحويل كل حجج الحياة على اليأس إلى حجج على السعادة، واذكري أنه ليس هناك من يجرع نغبات السعادة حتى أعماقه سوى هؤلاء الذين توافر القدر على إتعاسهم، وستكون فرصتك في الحياة أكبر من بنات البيوتات، وقد تجربين الثروة وحدك، وتقيمين لنفسك مجدًا ماديًا شامخًا إلا أنك ستفقدين كثيرًا من ميراثك في السعادة، وستعلمك الذكريات أن أيام البؤس، والتلظي قد تكون مكافأة أو نعمة يجب الاستمرار فيها


الفتاة (مأخوذة بالدهشة)، وقد ارتسم القلق على محياها فأبهت لونها:
-إن أيام البؤس، والحرمان قد تكون نعمة يجب الاستمرار فيها، وقد يشعر الإنسان بالحرمان، وهو يملك كل الأشياء، وينقصه الشيء الصغير، أما هؤلاء الذين لا يملكون سوى الشيء الضئيل فغالبًا ما نراهم مفعمين بالرضا، والسعادة قد تكون لأصحاب الهموم الذين حباهم الله بموهبة الفكر؛ فوضعوا بها حدًا لهمومهم.
الأم:
-لقد كنت قبل إطلاعك على بريق الحياة أكثر حمدًا، وشكرًا من الآن فالحرمان قد نستشعره نحن الأرستقراطيين إلا أننا بارعون في التظاهر، أما، وقد تقلبت بين الفقر المدقع، وبين حياة القصور، والرياش فما الذي يحزنك (لحظة صمت ثم استأنفت) إن كل الفقراء الذين حظوا بحياة الثراء لا يكفون عن التفكير، إنهم يعرفون كيف يستفيدون من الفقر، والغنى في آن واحد.
ثم ابتسمت ابتسامه واعية قابلتها ميرفت بابتسامة مماثلة رغم تكدرها، ولم تلبثا حتى طرقت "ليزا" باب الغرفة، وبادرتهما بالتحية. ثم دعتها الأم للجلوس.


نظرت ليزا في وجه ميرفت الذي أثكله الحزن ثم قالت:
- إلى متى ستصرين على حياة الحزن هذه؟ الانطلاق لما يلذ الفتيات في كل الأعمار، وفي كل الأوساط، وفي كل الظروف.
تابعتها ميرفت (التي انفجرت مبتسمة، وكأنها تتحدى شيئًا في طبيعتها):
-سأعمل جاهدة على ألا يكون في سريرتي أي حزن بعد الآن..
- أتصدقينني القول؟
- نعم لن يكون ثمة حزن من الحاضر، ولا خوف من الماضي ولا رهبة من المستقبل.
ليزا:
-إذن يا فيلسوفتي. فلا تضني عليَّ بمرافقتك إياي غدًا إلى فندق هليوبليس؛ فغدًا ستقام حفلة غنائية بمصاحبة الفرقة الماسية. بمناسبة رأس السنة، وسيحييها عدد من النجوم الشبان، كما ستشارك الفرقة الأوبرالية في إحياء هذه الحفلة.
ثم أردفت موجهة حديثها إلى الأم التي بدت غير موافقة على الذهاب معهما ثم استسلمت أخيرًا لإلحاح ميرفت. التي ما كانت لتعصي لها أمرًا. انصرفت ليزا إثر سماعها جرس الهاتف.
وبعد ذلك قامت الأم بمرافقة ميرفت، وليزا في سيارتها، وفي الحفل جلست كل من الأم، وابنتاها في أماكن متجاورة، واخذن يستمعن للموسيقى الشرقية التي بدأ بها الحفل في متعة متناهية..، وفي الحفل فوجئت الأم بصديق زوجها الأستاذ فريد الذي كان حاضرًا مرافقًا لابنه شريف، وما إن رأته الأم حتى بادرت بتحية معبرة عن سعادتها بهذه الصدفة السعيدة، ثم جلسوا جميعًا في البوفيه يتناولون العشاء.. فانصرفت الأم تتحدث إلى الرجل عن المصادفة السعيدة التي أتاحت لها هذه الفرصة للقائه، ثم أخد الرجل يغط في الحديث باسترسال، وتعمق مسهبًا، وشارحًا لها عن المشروعات الجديدة التي كان قد عرض على زوجها تنفيذها إلا أن زوجها كان يقابل كل العروض المربحة بالرفض. أما هو فقد نجح في تنفيذها بالخارج، وها هو الآن، وقد عاد أكثر ثراءً من أي وقت مضي.
أما شريف فقد انفرد بليزا، وأبدى سعادة بأنه وجد فتاة يتحدث إليها، وهو الذي كان متذمرًا؛ لأنه أتي إلى مثل هذا المكان بغير صحبة.
كان شريف شابًا في مقتبل عمره، أنيقًا، ذا شعرٍ أملس ناعم، وعينين كبيرتين تفيضان مرحًا، وخجلًا فى آن واحد؛ فقد كان الشعور بالخجل يفترسه إذا لم تسعفه المجاملة، وتعينه كلمات الإطراء فى التعبير عما يختلج بداخله، وقد كانت هذه الليلة خالية من اللواعج، والمكاشفات سعدت ليزا كثيرًا، وجلسا يتسامران أما عن حديثهما فكان سريعًا، وسطحيًا، وكذلك تكون أحاديث الشباب المتأنق، فالخمول أحب إليهم من كثير من الشهرة.
أما ميرفت، وقد كانت أكثر حسنًا من ليزا. آه لو رآها "باريس" من قبل لكان قد تردد في إعطاء التفاحة الذهبية لفينوس الوديعة، على أن ميرفت كانت تجمع بين وداعة فينوس، وتمرد ديانا، كانت تلك الحسناء الشابة ذات جمال قاسٍ، وأناقة متأبية، وكمال يبعث على اليأس منها، ولم يكن وجهها المستطيل الدقيق يبدو أنه مصور من لحم، ولكنه منحوت من حجر يماني، أو عقيق لشدة نقاء تقاطيعه، ونبلها، وتجردها من المادية، وكان عنقها الدقيق، كعنق الإوزة يتصل في خط نقي بكتفين ممتلئين في جمال، وبصدر في شرخ شبابه، وفي بياض الثلج، ولا يكشف دقات صاحبته، وكان فمها المائل أشبه بالقوس يطلق السخرية حتى، وهو مطبق، وكانت لعينيها السوداوين ومضات باردة تفلق ثبات الجرأة نفسها، وعلى الرغم من ذلك فقد كانت تقاطيعها ذات جاذبية لا تقاوم؛ فلقد كان شخصها يتألق كله تألقًا عاتيًا، فصارت محض إعجاب الجميع. أما عن شعرها فكان أحد مفاتنها؛ فهو يصلح لمختلف أنواع التمشيط، وبرغم كل هذه الصفات إلا أن ميرفت كانت أكثر زهدًا من ليزا، وأعظم تطرفًا، كانت تدهش الفقراء، والنبلاء بما لها من حديثٍ متأنقٍ، وحكمة لا تدري لها نسبًا، وكأنها تتحدث بلسان ملاك وديع، فجملة تصرفاتها حتى حينما تتوقف عن التصرف تكون آية في الدهشة، والتفرد.. لم يكن من السهل إذًا على "ميرفت" أن تنخرط وسط هذه الضوضاء، فقلبها المثقل بآلاف الأحزان كان بحاجة لالتماس الوحدة الدائمة؛ ليخفي أشجانه.. لقد كان ذهابها إلى الحفل محاولة لتلطيف جروحها. إلا أن هذه الجروح وجدت هناك ما ساعد على تقيحها.
لقد قدمت الفرقة الموسيقية أغنية خفيفة لم تأخد من ميرفت الاهتمام.. بقدر ما نالت على إعجاب الجمع الغفير الموجود بالحفل، ثم عزفت الفرقة الأوبرالية أوبرا فاجنر المشهورة "رينزي"، وما لبثت ميرفت أن اهتزت أوصالها من فرط الذهول، كانت تعشق الموسيقى، وكانت مولعة بفاجنر أكثر من ولع "برنارد شو" به، إن انبهارها بالموسيقى، وعزلتها وسط الآخرين..، وجمالها الأخاذ لفتا إليها أنظار كل المستغرقين الذين يتبادلون أطراف العبارات، والكلمات إلا أنها لم تعبأ بأحد، وبدت فرحة بتفردها رغم مسحة أرق افترشت وجهها، فلم تكن سعادتها خالصة في أي فترة من تاريخها، امتلأ رأسها بأطياف، وأحلام كانت كافية لجذب اهتمام كل الموجودين وقتئذ إلا أنها لم تكن لتُجذب إلا لفاجنر، وكأنها "لوسالوميه" التي عشقته عشقًا مؤبدًا..، وقد بدا في الحفل رجل عربي نظراته ملأى بالشره، ما لبث أن طاف حول ميرفت، ورمى عليها التحية بطريقة مستهترة تخلو من اللياقة؛ فلم تعره جوابًا، وكانت نظراته إليها مملوءة رغبة، وشره، وقد أخذ يقاوم جموحاته، ولكن دون جدوى؛ فاقترب من ميرفت، وأراد ضمها إليه، وهو يقول:
- أنا مولع بفاجنر، وبكل من يأخذهم التأثر بموسيقاه.
وجدت ميرفت في تصرف هذا الغر وقاحة لا يمكن السكوت عليها؛ فابتدرته قائلة:
- ليس هناك إنسان بوسعه أن يتحلل من الأخلاق، ويعشق الموسيقى، ذلك أننا إنما نعشق الموسيقى بحواسنا الأخلاقية، ثم ألا ترى أنه من السخف العظيم أن تسلك مثل هذا السلوك الوضيع متعللًا بالموسيقى، حدثني إذن أي موسيقى تلك التي تبرر الوقاحة.
كانت هذه الردود كفيلة بأن تجعل الرجل يتركها آسفًا لها، ولفاجنر، وللموسيقى، والأخلاق، ذهبت ميرفت بعد ذلك إلى أمها التي كانت تودع جليسها، وودعن جميعًا الرجل، وابنه ثم انصرفن متوجهات إلى المنزل، وفي اليوم التالي، وبينما كانت الأم تشاهد أحد البرامج التليفزيونية عن عروض الأزياء، وبجوارها ليزا فإذا بميرفت، وقد استيقظت لتوها من نومها، وأخذت في الجلوس بالقرب من والدتها.
الأم (مداعبة):
-أرجو أن يكون نومًا هادئًا قد غزا هاتين المقلتين الجميلتين بعد سهرة مرحة ما أروعها.
فاجابتها ميرفت (التي كان يعضها السأم، ويضيق عليها منافذ الحديث):
-لقد هزمني التفكير ليلة أمس، ولم أجرؤ على استمالة النوم إلى عيني، فيا لها من ليلة كئيبة كادت تذهب بكل أحلام البراءة.
الأم (مذعورة):
-أي حدث مروع ذلك الذي طاف بك أمس، ولم أعره انتباهًا.
- أما رأيت النظرات الفاسقة التي كادت تأكلني؟
- إن كل نظرة تمثل محاولة من أجل انتشالي من براءتي، وللحيلولة بيني، وبين قداسة أفكاري، ومشاعري.. (لحظة صمت) إن السعادة المشروطة مجازفة مرفوضة، لم أجد مهربًا بعيدًا عن تلك النظرات التي أحبطت في الحراك. فأنا كما تعرفين عني فتاة يمكن أن يؤذي عذريتها نظرات الرجال.
ثم استطردت:
-سأغفر النظرات لأنه ليست هناك امرأة في الوجود يمكن أن تجرح عذريتها نظرات الرجال، أما ما حدث...
قالتها، وهي تغمغم بالبكاء، ثم هرعت إلى غرفتها؛ فلاحقتها الأم، وقد انتابها الذهول.
قالت ميرفت، وقد خيم على صوتها التأثر:
-ليس للمرأة أي كرامة لديهم إن عزة المرأة في نظرهم أصبحت أمرًا عتيقًا ينبغي أن يعفو عليه الزمان إذا لم يكن قد عفا. على أن المرأة في الأوساط المعدمة قد تجد لها وزنًا عند إنسان كادح (محتدة) لقد اعتاد الأثرياء، وذوى النفوذ أن يشتروا المرأة، وقد يشعرها ذلك بالعزة، والفخر؛ لأنها مما يقبل الرواج، إن هذا الصنف من الرجال ليسوا أكفاء فحسب لجلب الشرور، والعار على أي امرأة تبلغ بها الحماقة حد الدخول في مدارهم المشئوم، بل إنهم فوق كل هذا أناس متبرون تمامًا من الاستمساك بأي من مذاهب الأخلاق (مستطردة) إنهم يتبرمون في قسوة من المبادئ، فالمبادئ في شريعتهم إما بلاهة، وإما عجرفة أو كلاهما معًا؛ فهم ينشدون أقصر الطرق للوصول إلى غايتهم حتى لو كان المقابل هو تحويل كل المثل إلى عملات، إنهم يساومون الأغنياء من ذويهم، ويشترون الفقراء، وهذا ما يعكس غيظ الفقراء، ويحول بين الأغنياء، وبين ممارسة الفضيلة..
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.