أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

شارك على مواقع التواصل

سعت ليزا بحسن نية، ونقاء طوية أن تضع حدًا للتوتر المتفاقم بين ميرفت، وأبيها، وهي إذ اجهدت الفكر لتنتهي بهذه العلاقة إلى مرفأ آمن اهتدت أخيرًا إلى حل لائق من أجل إشاعة سلام دائم بین میرفت، والأب، وهو أن تقود ميرفت اليه لطلب عفوه؛ فأشارت عليها أن يذهبا معًا إلى الأب للاعتذار له، فالأسف غير المشفوع بخطأ هو ما سيغير مناخ قلب أبي، ويعيد إليه رشده، ثم أردفت تقول:
- هيا يا ميرفت نلتمس عند أبينا العفو، ونقدم له فروض الولاء، أنا أدرك تمامًا أنه الجاني، ولكن ليس ثمة وسيلة تدفع المخطئ إلى الندم أكثر من الاعتذار له، إن الاعتذار الآن لا يحمل سوى دلالة واحدة، وهو أنك لازلت باقية على أبوته لك رغم القسوة.


ابتسمت میرفت ابتسامة خفیفة خففت عنها حدة التوتر الذي انتابها طوال النقاش، وقالت، وهي تسبح بفكرها في المجهول:
-القسوة مطلوبة في الأب لكي يكون محبوبًا، والنار لا يعيبها الإحراق أليست الممالئة، والتدليل هما اللذان يدفعان أي فتاة مهما كانت رباطة جأشها، وقوة أعصابها إلى السـقوط، وإذا كان الحنان مشروطًا بالقسوة؛ فأهلا به رغم أنني لم أذق قسوة من حنانه، بل من بغضه، وضغنه.
- ليس وقت تذكر أخطائه الآن، بل لتتقمصي دور المذنبة عن آخره، هيا نذهب إلیه الآن.
سارت میرفت، وليزا إلى حيث يجلس الأب في حديقة القصر، وما إن أشرفت میرفت على الاقتراب منه حتى تسمرت قدماها، وإذا بها تهمس إلى ليزا قائلة:
- " أشعر بقوة مجهولة تحبس خطاي، وصوت قوي یهیب بي ألا أذهب.
- همي یا أختي، ولا تضيعي علينا الفرصة السانحة.
وهنا اقتربت ليزا من أبيها، ومن ورائها ميرفت خجلة تسير على مهل، ولم تلبث الابنتان أن عانقتا الأب صامتتين؛ وإذ ذاك رسم الأب ابتسامة امتدت بين سوالفه الشقراء، وتلاشت من نظرته آيات البرود، والاستعلاء، وأخذ يرمق ميرفت بمجامع عينه رمقة ملؤها الحنان ألهمت فيها شجاعة نادرة، وجعلتها أقل خجلًا وتحفظًا.
وأخذ الأب يتحدث إليها بصوت لطيف، وبعبارات منمقة لم تكن ميرفت قد تعودتها من قبل؛ لذلك بدت غارقة في السعادة من حفاوة هذه المقابلة، وما هي إلا دقائق معدودات حتى استأذن الأب ليزا، ودعاها إلى السماح له بالحديث مع ميرفت على انفراد:
-فعندي من الشيء الكثير ما أود البوح به إليها.
، وهنا قالت ليزا لأبيها:
- " حسنًا إني طوع أمرك يا بابا ".
وما إن انصرفت ليزا حتى أخذ قلب ميرفت يدق دقًا شديدًا، وإذا بلون الرجل، وقد تبدل، وانقشعت الحفاوة التي كانت ترين على ملامحه، وحل محلها الازدراء العميق، وومض بريق الاحتقار على سيمائه، وأخذ يحدث ميرفت بصوت حاد أجش قائلاً:
- " ما الذي أتى بك إليّ الآن؟ "
أجابت ميرفت، وهي تخفض رموشها:
-شعوري الدائم بالذنب، والاستياء لغضبك منى، ولأنني لم أفلح في إرضائك يومًا؛ لقد أتيت لكسب مودتك، وعطفك.
وهنا ابتسم الرجل ابتسامة مسموعة، وعلى الرغم من أنه تكلف الابتسامة فإن ضحكته كانت من طرف أسنانه كضحكة الكلب ثم قال:
- أخيرًا اكتشفتِ أننى إنسان، وأن لديّ عطفًا؛ آسف يا ميرفت إن ما عرفتِه يا ابنة الناس أتى بعد فوات الأوان.
ثم أردف قائلاً، وهو يخرج زفرة:
-وأعتقد أننا جيمعًا قد قمنا بدورنا معك على أكمل وجه؛ ربيناك، وعلمناك، وما عليك إلا أن تجدي في البحث عن أهلك بمجرد أن ينتهي امتحان التوجيهي؛ ليكملا معك ما بدأناه نحن أو تنصرفين إلى عمل ترتزقين منه، وتتولين منه إصلاح شؤونك، وأعتقد أنك كفء لذلك.
ثم أنهى كلامه بوقاحة لا متناهية قائلا:
- لسوف يتحتم عليك بعد انتهاء الامتحان الذي اقترب أجله أن تفارقينا، ولن أغير موقفي؛ فقد سبق السيف العزل.
كان وقع هذه الكلمات على ميرفت كوقع انفجار طوربيد ضخم على الأذن، وتساقطت هذه الكلمات على مشاعرها كالمسامير الحادة التي تخترق اللحم، ولا يعوقها حتى العظم، وظلت تستمع إلى كلماته الغثة مولهة الخاطر، شاردة الأذن، وبقيت عيناها محدقتين في الأفق، مشدوهة من هول المفاجأة، وانتشر فوق محياها العبوس الشديد.، وكأنما غيرت الكلمات البشعة من هيئتها، وهي لهول صدمتها. شعرت بخوف طاغ، وشديد؛ فتخيلت نفسها في عرض الطريق خالية الوفاض، ولكنها انتبهت إلى عزبتها الجديدة التي كتبتها الأم لها. فأخذت تضمر الصبر تحسبًا للفرصة المتاحة، وإذا بها تكبت في جهد مستمر من شجاعة جبارة دمعة نبتت خلسة في ركن عينيها ولا يزال الرجل يكيل إليها الكلمات المسفة، والمجرحة حتى سقطت دموعها التي طالما حبستها، وغطت رقعة كبيرة من وجهها، لقد أصابها إسفافه السمج الممعن في الوقاحة برعشة، وطنين في أذنيها. ولا يزال يكيل إليها التوبيخ، وينعتها بالطفولية.، ويرميها باللوم طيلة الربع ساعة. لإستمرارها في العيش معهم. حتى انفجرت صرخة عالية إلى كبد السماء كادت تشققها. صرخة لشدتها كانت قادرة على أن تصم ملائكة الموت، والحياة معًا، وإذا بها تنهار من هول الصدمة، وتفقد وعيها كله مرة واحدة.
وهنا سمعت ليزا، وأمها صرخة ميرفت، واستغاثتها المتألمة فهَرَعنا إليها ملء رئتيهن، وطوين المسافة بين مدخل القصر، وحديقته فى كسور من الدقيقة، وما إن اقتربتا من ميرفت حتى انتابهما الذعر، والهلع، وجن جنون الأم إذ رأت ميرفت ملقاة على الأرض أشبه بالجثة، وعيناها مغرورقتان بالدمع، وبدا وجهها، وهى متوسدة على الأرض أشبه بمستنقع صغير الدموع تملؤه من كل جهة، وإذا بالرجل واقف بالقرب منها محني الرأس في ذل كمحكوم عليه بالإعدام؛ أخذت الأم ترمقه من مقلتيها بنظرات الإحتقار، وإذا بها تنهال عليه لعنًا، وإسفافًا، وهي تقول:
- إن السماء، وإن بدت كيسة فإنها تضمر التدبير، وسوف تنظر ظلمك قريبًا بعين ملؤها العدالة.
ثم انحنت ترفع ميرفت من الأرض، وقد ساعدتها ليزا، والخادم، وحملنها جميعًا داخل غرفتها بالقصر.
ظلت ميرفت قرابة الساعة راقدة في سريرها في شبه غيبوبة لا تقوى على الحراك، أو الكلام، أو الإيماء، وإذا بها بعد ذلك تحرك جفونها برمشات شبه واعية، وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت مخلصة لوجومها، وشرودها فلم تنبس ببنت شفة. كالخرساء من هول الصدمة.
أمضت الأم إلى جوار ابنتها الساعات الطوال، وقد فقدت السيطرة على عقلها، وقلبها، وكاد وجوم ميرفت أن يقتلعها من مكانها، وأخذت تستحلف ابنتها طويلاً أن تتكلم؛ فقد أضناها حال ابنتها، وأثكلها شوق عزيز لأن تسمع صوتها، ولا زالت تحثها، وتستحلفها متوسلة بها أن تتكلم. حتى انهالت ميرفت في بكاء عنيف، وتناثرت الدموع على ثوبها المخملي من كل جهة.
وبينما هي تسترسل في البكاء، كاد قلب الأم ينفطر، وأخذت تجفف عنها دموعها، وهي تقول:
- أجيبي. أي ويل أذاقك إياه هذا الخسيس.
- ثم تحدثت إليها ليزا قائلة:
أفصحي يا ميرفت هل ضربك بابا؟
لم تتكلم ميرفت
فعادت تسألها:
- هل طردك؟
- فأومأت ميرفت برأسها إلى أسفل، وكأنها ترد بالإيجاب عن استفسار ليزا؛ وهنا بهتت الأم، وتمكن منها الغضب المدمر، قائلة:
-طردك!
يا له من سفيه مغرور!
ولا زالت الأم توبخ فيه من فرط غضبها، وتواسي میرفت حتى خرجت ميرفت عن صمتها، وأنشدت تقول موجهة حديثها إلى ليزا:
- لقد صدقني قلبي، ولم يخدعني. ألم أقل لك ونحن نقترب منه إنني أشعر بقوة مجهولة توقف خطاي، وصوت قوي يهيب بي ألا أذهب، نعم يا ليزا إن شيئًا خفيًا كان يحدثني بذلك؛ فأبوك لم يحدثني بشيء لم ينبئني به قلبي من قبل.
ثم وجهت حديثها إلى الأم، وهي تقول:
-" لقد طفحت المكاييل يا ماما "
قالتها، وهي تئن من الحزن حتى إن الدموع أقبلت على عين الأم، وليزا معًا، ولكن لازال هناك الشيء الكثير الذي تود الأم معرفته، لقد أرادت أن تلم بكل ما حدث، واستطاعت أن تقف على تفاصيله حينما أهابت بميرفت أن تستفيض.
- لقد صب عليّ جام لومه، وسخطه، وكال إليّ الكلمات المذعورة، وأنا التي ذهبت لأعتذر له، وهو المخطئ في حقي (مستطردة في غضب) إن أعمر ألف سنة فلن أنسى قسوة هذا الرجل الذي ينضح بكل خصال القحة، والصفاقة، إنه يحقد عليّ أشد الحقد، نعم هو يمعن في حقدي، وقد علمني عبوسه، ونذره إلى أي مدى يستطيع الإنسان أن يكون حاقدًا، وخائنًا فهو كالبحر يزأر، ويغضب متسلحًا بالعواصف، والأنواء ثم في دقيقة يمكنه أن يغير شكله إلى جميل وديع هادئ رغم ادخاره للعواصف، يا لتلك الأوجاع التي ألمت بي من جرَّائه!! یا لفواجعي!!
سأملاً العالم بلعنات أصبها على حظي، وعلى ذلك المخلوق الشرير الذي اضطرتني العناية إلى العيش معه تحت سقف واحد، لقد قال لي بامتعاضة، وهو يرمقني بنظرات الاشمئزاز أعتقد أننا جميعًا قد قمنا بدورنا على أكمل وجه نحوك ربيناك، وعلمناك، وما عليك إلا أن تجدي في البحث عن أهلك بمجرد أن ينتهي امتحان التوجيهي الذي بقي عليه شهران ليكملا معك ما بدأناه أو تنصرفين إلى عمل ترتزقين منه، وتتولين منه إصلاح شؤونك، وأعتقد أنك كفء لذلك.
وقد انتابها الذهول، والهياج قال هذا في الوقت الذي ذهبت فيه لأعتذر له عن أخطائه التي لا تغتفر في حقي، لقد تساقطت كلماته الحادة على مشاعري تساقط الغيث الهتون، ثم أردف يحدثني بصوت خفيض، وعبارات قاسية قائلاً سوف يتحتم عليك بعد انتهاء الإمتحان الذي اقترب أجله أن تفارقينا، ولن أغير موقفي فقد سبق السيف العزل.
فابتدرتها الأم التي كانت تتميز من الغيظ:
-أي سیف، وأي عزل سأجرده من كل سيوفه، وسأجعله يهيم في الدنيا كصعلوك متشرد، خففي عنك يا عزيزتي، وسأدرأ عنك ما استطعت سهام كيده.
وما زالت میرفت تسترسل في شكواها، وقد خنقها الألم، وهي تقول:
- لماذا يرميني بالضعة، والحقارة؟، وأي وصمة في ذات نفسي أو تكوين جسدي أستحق بها فتور هذا الرجل، وصدوده عني؛ إنه يشعر بالعار، والأذى لإيوائه فتاة لقيطة، ولماذا أنا لقيطة يا ماما؟ ألست مليحة الخلقة، جيدة الرسم كأحسن ما تكون ابنة الحلال صورة، كما أن ما يحسن صنعه البشر العاديون أراني مؤهلة لصنعه، وإذا بها تستعيد ذكرى مولدها الذي يشذ بها عن كل الكائنات لا لم أكن مليحة الخلقة أو جيدة الرسم كأحسن ما تكون ابنة الحلال صورة، بل كأحسن ما تكون ابنة الحرام تصميمًا؛ فهذا اللقب ولد معي، فأنا مخلوقة تكاد الطبيعة تخجل من الاعتراف بها، أنا صفر بلا رقم. ابنة حرام، لم يدبر لها الله مولدًا حسنًا؛ لكي لا تجد إلا الازدراء من الجميع، وقد رفعت رأسها إلى السماء، وناشدت الله، وهي تزفر قائلة: " أيها الإله الرحيم اشدد من أزر أبناء الحرام لأجل خاطري ".

وهنا ابتدرتها الأم، وهي تلهث قائلة:
- لا لست ابنة حرام أبدًا، أنت ابنتنا نحن، ابنتي، أنا أمك يا ميرفت، أنت ابنتي، ويعلم الله كم كنت أود طائعة مختارة أن أهبك أنت، ولیزا کل دمي، ولحمي بالتساوي، صدقيني؛ فأنا أضمر لك من المحبة ما يهون عليَّ التضحية بمباهجي، ومتاعي كيما أهيئ لك مستقبلاً يليق بك، إن اللقيط إذا وجد من يعترف به، وينسبه إليه لا يصبح على الإطلاق ابنًا محرمًا.

ثم أردفت ليزا تتحدث إلى ميرفت قائلة:
-" لا تعيري كلمات أبي أي أهمیة، ودعيه يموت في حقده، دعيه يموت في حقده؛ فالموت في الحقد أسوأ من الموت في القبر، لأن هذا الموت لن يجرؤ البعث على اللحاق به.
ثم هبت الأم واقفة، وشرعت في الخروج، وإذا بها تقول، وهي على مقربة من باب الغرفة:
- سأذهب الآن ألتمس منه تبريرًا لما حدث، وسآخذ عليه عهدًا بعدم تكرار ما حدث، وأن يكف من الآن فصاعدًا عن إهانتك.

ثم ذهبت إلى زوجها الذي كان جالسًا في غرفته يدخن غليونه الصغير، ووقفت على بعد ياردات منه تسأله:
- خبرني بحق السماء! ما الذي جنته میرفت كي تلاقي منك كل هذا العنف، وهذه القسوة؟ ألا تكفيك قسوة قدرها.
( في استذكار لما تقول )
- إن قسوة قدرها هي التي تجعلني أقسو عليها هل تريدين مني أن أكون أکثر رحمة من الله بها؟
- تبًا لسذاجتك؛ فإن الله يحبها أكثر مما يحبني، ويحبك.

-وإذا كان يحبها كما تزعمين فلماذا لم يدبر لها مولدًا حسنًا؟ لماذا لم يأتِ بها إلى الوجود على سنته؟ هل يحبها أكثر من سنته؟ كفاك أوهام؛ فلا أحد يحبها سواك حتى إنك تفضلينها على ابنتنا.
- وما ليزا، وميرفت؟ أليستا أختين؟! وقد تربيتا معًا.
- دعك من المجاز الذي يزيف الحقائق؛ فلیست میرفت، ولیزا أختين، وإذا به يصيح قائلاً ميرفت لقيطة يا هانم؛ هذه هي الحقيقة التي تتعمدين الالتفاف حولها في كل مناقشة، ووجودها بيننا هنا يؤرقني، ويقض مضجعي .
- ( وهي تكز من الغضب، والانفعال ) يا لك من حاقد جهنمي! يا لك من مستبد مغرور! تبًا لحقدك الماكر الملعون، إن قسوتك هذه لن تجر عليك سوى الخراب إذا لم تكن قد جرته بعد .. ميرفت لن تترك المنزل، وهي ليست وحيدة في هذا العالم كما تتوهم؛ فإنني معها، وليست فقيرة؛ لأنها من مالها تطعمك! ميرفت لن تغادر المنزل هل تعي ما أقول، وإذا كان من إصرار عندك فسنتركه سويًا.
كانت ميرفت تستمع في حسرة إلى هذا الحوار الضاري، ومعركة الكلمات، وحرب النفس الطويلة التي دارت رحاها بين الأم، وزوجها، وقررت على أثر ما سمعته أن تغادر القصر في الصباح الباكر دون أن يعرف بقرارها أحد؛ کي تنقذ برحيلها كرامتها، وكيانها من أنياب الحقد التي تعض في وجودها الشريف، ولتنقذ أيضًا برحيلها كرامة أمها؛ حتى لا تصبح هي الأخرى عرضة لهمجية هذا الوغد، وإسفافه.
وفي المساء ذهبت الى سريرها تستجدي النوم؛ فقد صار رأسها أشد ما يكون ثقلاً، ونامت في تلك الليلة نومًا رديئًا، واستولت عليها الظنون، والخواطر الرهيبة المزعجة؛ فقد عكرت عليها الكلمات الأخيرة التي تفوه بها الرجل ما بقي في رأسها من صفو.
وفي الصباح أعدت ميرفت عدتها للرحيل؛ فرتبت ملابسها في حقيبة صغيرة، ووضعت معها كتبها، وهمت بالفرار من القصر؛ حفاظُا على استقراره الذي بات متوقفًا عليها، ومحالاً معها، وقبل مغادرة القصر تركت رسالة لأمها وضعتها فوق وسادتها، وانصرفت، وما إن خرجت من باب القصر حتى أخذت السماء تبعث إلى الكون بغيث منهمر أهي الحجب قد تكشفت لها أم أن السماء تبارك فرارها؟ .. أخذت ميرفت تفتش في رأسها ما عساه المكان الذي تتوجه إليه لقد غربلت ذهنها فلم تجد سوى مكان واحد لائق؛ هو أن تسافر إلى صفاء في الإسكندرية، وبالتالي فلن تضيق بمضايفة ميرفت، لقد توجهت میرفت إلى محطة القطار، وقررت السفر، وإذا بها أثناء، وقوفها بالمحطة تفكر في أمها، وكادت تعود ثانية إلى المنزل؛ إشفاقًا على هذه الأم إلا أنها عزمت على الرحيل؛ إشفاقًا بالأم أيضًا. كما أن لهذا السفر مميزات أخرى، وهي أنه سيضمن لها بعدًا عن أحقاد الأب، وزجره، كما أنه سينسيها إهاناته، وإسفافاته إلى حين، ولكنه أبدًا لن ينسيها أمها، وحاجتها الماسة إلى حنانها، إنها الآن لا سلوى لها سوى الحرمان بعدما قضى عليها أن تترك الحضن الذي لا تشبع من موارده أبدًا، لقد اضطرتها قسوة الأب أن تترك حنان الأم ليس عن استغناء، وها هي الآن، وقد صارت طريدة هم، ووحيدة غربة بعدما فارقت أمها التي كم تتعذب بدونها.
وصلت ميرفت إلى الإسكندرية حيث تقيم صفاء هناك في حي الشاطبي، بشارع محمد شفيق غربال، في العمارة رقم 190 بالطابق الثالث، على بعد خطوات من كلية الآداب، كانت صفاء في ذلك الوقت جالسة تستذكر دروسها عندما طرقت میرفت باب شقتها، وإذا بها تستقبل ميرفت بقبلات أحر من أن توصف، وبصورة تنم عن كرم الوفادة، ولكنها لم تقاوم دهشتها من هذه الزيارة التي تأتي في وقت لم يبق فيه على امتحانات ميرفت أكثر من خمسة أسابيع فقط، ولم تشأ ميرفت أن تكاشف صفاء بشيء أكثر من أنها قالت إن سوء تفاهم قد حدث بينها، وبين أبيها، وعلى أثره قررت ترك المنزل؛ حتى تتجنب تجهمه.
أما سوء التفاهم هذا فلم تحدده میرفت جيدًا أكثر من أنها قالت لصفاء إنه موضوع جد خطير، ومتشعب ولا يحسن الكلام فيه الآن، لكنني أعدك بأن أشرحه لك كله جملة، وتفصيلًا، أما الآن فأنا مجهدة من عناء السفر، وأرغب في نوم عميق.

ونامت ميرفت في تلك الليلة نومًا أفضل من سابقتها، وكأنما غسل النوم البعيد عن جدران القصر بعض غضبها.
وفي اليوم التالي سألت صفاء ضيفتها ما إذا كان يرجح حدوث اتصال تليفوني من الأم فضيلة لتطمئن على سلامة وصولك؟
وإذا بميرفت تقول:
- لن يحدث شيء من هذا؛ لأنني لم أخبر أحدًا أنني قادمة إليك.
- ( في دهشة ) كيف هذا يا صديقتي؟! كيف طاوعك قلبك المرهف على هذه القسوة؟! يجب أن تبعثي برسالة واتس لأمك تخطرينها فيها بأنك هنا؛ فلولا أنني أقدر حبها الجارف لك، وما الذي قد يجنيه عليها غيابك من سوء لما أخذت الأمر على محمل دهشة.
بعثت ميرفت هذه الرسالة، وقلبها يعج بالثورة الطافحة بعدما أسخنه الفراق رغم قصره، وقد استقبلت الأم هذه الرسالة بسعادة لا متناهية
، وسرعان ما تضاربت مشاعرها بين الفرح الطاغي، والحزن الكئيب، وبدا هذا واضحًا، وهي تضم رسالة الهاتف إلى صدرها، وتضحك، وتبكي في آن واحد قائلة إنه الألم اللذيذ الذي أرسلته في رسالتك يا ميرفت؛ فها أنا أضحك، وأبكي في آن واحد، ولن أفصل في مشاعري قبل رؤيتك؛ فما كان من الأم بعد أن فرغت من قراءة رسالة ابنتها إلا أن سكبت دموعًا مدرارة، وخرجت عن وداعتها خروجًا غير مألوف، وإذا بها تهب مستصرخة زوجها بصرخات قوية مجلجلة توقظ من في القبور، وهي ممسكة بالهاتف تردد منه بعضًا من عبارات ميرفت بعصبية متكلفة لتشهد زوجها على حجم المعاناة، والجروح التي تركها فيها للغربة تنقحها.
- اسمع شكواها التي لم تقو الأميال على إخراسها؛ لتبقى شاهدة على ما قاسته منك.
وأخذت تتنهد، وهي تقرأ رسالتها بقلب موجع اخترقت الكلمات شغافه، إنها تقول لقد تحملت فوق استطاعتی غرور أبي، وصلفه لأجلك؛ ففراقك مما أكابده الآن .
إنها تحملت ضعف طاقتها غرورك، وعجرفتك حتى إنه ما عادت بها بقية لم يستشرِ فيها حقدك الأسود، وإذا بها تنهره إنها تتحمل لأجلي فلماذا لا تتحملها لأجلي ( بعصبية ) ارحمني في شخصها، وإذا كنت تضمر الحقد الأسود للقطاء فأنا لست لقيطة، وهي تتوسل به ارحمني، وأعد إليّ ابنتي، ثم عادت الأم تقرأ عليه فقرة أخرى من رسالة ميرفت، وإذا به يشيح بوجهه، وهي تأمره أن يسمع اسمعها ماذا تقول .
لست أدري للحرية مذاقًا؛ فحريتي هناك بين قيودك (، وإذ بها تصرخ في زوجها ) قائلة إن حريتها هنا في هذا المنفى، إنها تشيد بحريتها في منفاك.
ثم قرأت عليه هذه الفقره " ليتنى أفدي ليزا بعمري، لا بل أفديها بشيء عزيز؛ فعمري ليس مما يناسبها، لقد افتديتكما برحيلي؛ حتى لا ينهار استقرار البيت، ويصبح مصير أختي مشوهًا کمصیري".

إنها تخشى على ليزا إن اهتز استقرار البيت أن يصير مصيرهما فى الغروب سواء، يا لمرارتي! أهذه من كنت تحث ليزا على معاداتها، وإشعال الفجوة بينهما؟
أهذه ما كنت تطالب ليزا بالتخلص منها سلمًا أو حربًا؟ على هذه الأخوة الشامخة جرؤت دسائسك أن تمتطي، هل هذه هي النطفة المهينة، والدم السمج ؟ فخبرني بحق خالق النطف كيف تكون النطفة إذا سمت؟
إن في طبعك نواقص متأصلة فما أقل العقل، والدين في رأسك الأصلع فأنت نذل، نذل بالفطرة، أحط في نذالتك من كل الوحوش الكاسرة، ثم توقفت عن توبيخه قليلاً، وإذ بها تقول له في لهجة آمرة.
اذهب الآن إلى صفاء، وأعد إليّ ابنتي، ثم كررتها عليه في لهجة أقرب إلى التوسل اذهب، واعتذر لها، ولتعي جيدًا أن وجودي في البيت مرهون بعودتها.

وهنا استغل الرجل قلب زوجته المتفطر لكي يساومها على أوجاعها، وآلامها؛ فاشترط على زوجته أن تكتب له العزبة في مقابل إعادته ميرفت للمنزل من جديد، وهكذا ظهرت أطماع الرجل في زوجته، تلك الأطماع القائمة في داخله منذ زمن، وطالما أخفاها، ولا بد أنه قد جال بخاطر الأم وقتئذ أن حملة الكراهية التي يشنها زوجها علی میرفت إنما قصد بها إيقاع زوجته في الشرك؛ ليتسلل إلى أملاكها، إنه يحفر في صميمها فجوات عميقة، ثم يساومها عليها، ويجدر الظن أن مساومة الرجل زوجته على عزبتها يرجع إلى شكه من أنه قد تتقاسم زوجته، وميرفت العزبة، وتحرمه منها حرمانًا أبديًا رغم اعتماد المدابغ التي تغذي مصنعه بالجلود على خيرات تلك العزبة من الثروة الحيوانية؛ لذلك أراد ان يقطع دابر شكه، ويحافظ على تجارته قائمة. لا سيما، وقد لمس في لهجة زوجته تهديدًا من أنها قد تحرمه من العزبة حينما قالت " إنها سوف تستأصل الريف من أثر المدينة " تلك العبارة التي قالتها المرأة لزوجها في العام الماضي بعدما عادوا من إجازة الصيف التي أمضتها العائلة في الريف، ولكنه لم يكن قد فهم هذه العبارة قبل اليوم في ظل التوتر الذي يخيم على مناخ المنزل، وما كان من الأم إلا أن اشتعل غضبها من زوجها من مساوماته الحقيرة، وأطماعه الدنيئة، وصاحت فيه تقول:

- آه أيها الرعديد الجبان، يا أحط من الوحوش القذرة، لا بد أنني التي منحتك فرصة هذه المساومة، إن تحقيق أغراضك أمر محال؛ فأنت لا تقل وهمًا عمن يحفر في الماء، إنك تساوم أمومتي بأطماعك، وتقايضني على التضحية بالأمومة أو الثروة؛ ولن أتخلى عن أيهما، فلن أكتب لك العزبة حتى لو قبلت أقدام ميرفت، كما لن أتخلى عن ميرفت بل، وأكثر من ذلك لن أجعل مصنعك من الآن فصاعدًا يعتمد في شيء على عزبتي، سأحقق وعدي لك سأذيقك الويل، والفقر عقابًا على هذه المساومة؛ لقد جررت الخراب الشامل على نفسك، فلتذق عاقبة ما اقترفته يداك، ثم قالت كلمتها الحاسمة " إن وجودي في البيت أصبح مرهونًا بوجود میرفت بلا قيد أو شرط "، وإلى أن يحدث ذلك سأترك لك القصر خاويًا على عروشه، وأذهب لأقيم مع أختي، وما إن تعتذر لميرفت، وتقنعها بالعودة إلا، وسأعود ..
ما كان من الرجل إلا الإذعان، وهو الذي ظنها فرصة سانحة لإملاء شروطه، وسافر إلى ميرفت الإسكندرية ليعتذر لها، ويعيدها ثانية إلى القصر، استقبلت صفاء الرجل بحفاوة شديدة ثم دعته ليدخل إلى ميرفت غرفتها، وإذا بالرجل يتسلل إلى غرفة ميرفت في هدوء، وكانت ميرفت تستمع إلى أغنية " من غير ليه " للموسيقار محمد عبدالوهاب، كانت الأغنية تقول لحظة دخول الرجل " جايين الدنيا ما نعرف ليه ولا رايحين فين ولا عايزين إيه "، وإذا بالرجل يفاجئ میرفت بوجوده قائلًا أما أنا فأعرف لماذا جئت، وإلی أين أذهب، وماذا أريد، وهنا بهتت ميرفت، ولم تصدق، وإذا بها تقول في حدة
أنت! أنت!، وسرعان ما فترت حدتها، ودهشتها، وأردفت تحدثه قائلة:
- ولماذا جئت اذن؟
- تقصدين لماذا جئت إلى الدنيا أم إليك؟
- في لهجة مقتضبة، وحاسمة " أقصد الاثنين .
-، وإذا بالرجل يبتسم ابتسامة قلقة تنذر بخيبة سعيه، ثم أردف يقول جئت للدنيا من أجل الحب.
-، ونعم المجيء، يا له من غرض نبيل يخول لك الإقامة الدائمة فيها، ولكن لماذا أتيت إلي إذن؟
- الحب الذي أتى بي إلى الوجود هو عينه الذي قادني إليك.
-، وهنا ضحكت ميرفت ضحكة ساخرة من الخسة، والحماقة الرائعة، وقالت في حدة يمكنك أن تخدع ملائكة الحياة، والموت بشأن وجودك، ولكن أبدًا لن يستطيع نفاقك أن يمتطي جمجمتي، يمكنك أن تخدع الدنيا بمجيئك إليها أما أنا ... فلا.
وما إن لمس الأب عدم حفاوتها به حتي قال لها:
- لم أستطع أن أمنع نفسي من المجيء إليك؛ إنني أريدك في مناقشة شفهية.
- فأردفت تقول بعصبية، وهل هناك نوع آخر من المناقشة.
واذا بالرجل يقول في طيبة قلب متراخية:
-أنا أبوك يا ميرفت.
- أبي إن أبوتك مما آسف له بشدة؛ لأنها تؤذي مشاعري، فأنا يمكنني الفخر بكوني ابنة امرأة زانية لقيطة مجهولة الأب، فهذه هي اللحظة الوحيدة التي حري باللقيط فيها أن يفخر بمنبته، أما انتسابي إليك فكفيـل لأن يجلب لي الاحتقار إن لم يكن من الآخرين فمن ذاتي.
- أقسم لك بأن عظيم الشرف كان سيحدث لى إن أنا أنجبتك من صلبي.
- وهنا قالت ميرفت في دهشة عظيم الشرف كان سيحدث لك بكل هذه السهولة! كان من السهل على العار أن يغير مذهبه، ويتحول إلى شرف إذا كان سيغذي عاره! عظيم الشرف كان سيحدث لك ممن تراه عين عارك !
- ألم أكن أنا ابنة الرذيلة، وضريبة المجون؟ المزيج المروع من إرادة جهنمية، وابنة الغجر!
- وهنا أخذ الأب يقبل جبهتها رابتًا على رأسها بكفيه، مستغفرًا لها بعبارات مليئة بمسوح الود، والتبجيل، ولكنها لم تستطع في أول أمرها أن تكافئه بالتوبة؛ فآلامها أفدح من توبته، فلم تكافئه الصفح الذي يرتجيه، بل أخذت تؤنبه؛ ليقينها بأن صفحها ليس مطلوبُا لذاته قائلة:
- " إلى هذا الحد استطاعت ابنة الحرام أن تزعزع رجولتك ".
وأخذت تسائل نفسها ما الذي مزق هذا الكبرياء شر ممزق؟! أهو نفوذ الحب كما يزعم أم نفوذ المادة؟ كان هذا موضوع السؤال الذي راود عقلها وقتذاك، ولكنها تفهم جيدًا الإجابة الملائمة عليه؛ فقد فطنت لتوها أن الأم حتمًا قد هددته بعدم استغلال أراضيها، لذلك فهو يقبل الذلة إلى أن يتحقق مأربه؛ لقد انهارت فيه الغلظة، والفجاجة، واكتسبت كلماته المتوسلة معاني رقيقة، وغرب كبرياؤه، وبدا متحدثًا لبقًا كأعظم شيوخ البرلمان، وانصبت محاولاته كلها على هدف واحد هو استدرار مغفرة میرفت، وإقناعها بالعودة، وإذا بها تجيب على رجائه قائلة:
- أفلا تخشى أن يصمك الناس بالعار، والشنار؛ لإيوائك فتاة لقيطة، ابنة لامرأة مستهترة ساقطة تحت سقفك؟
- لقد أخطأت في حقك بما لا يدع مجالاً للشك، ولكن ألا يستحق ندمي شيئًا من مغفرتك؟!
- أستميحك الصفح فلا تؤاخذيني بعد على أي مما قلت
- وهنا قالت ميرفت تؤنبه أنا لا أواخذك على أي مما قلته بل أؤاخذك على كل ما قلته؛ لأنك لم تكن تريد به إلا ما أحدثه في نفسي، ولتتقبل اعتذاري عن الصفح عن جرائمك؛ فأنا كما تعرف لا أصلح للصفح أو الإثابة؛ فأبناء الشياطين قساة قلوب أفظاظ، أکباد أمهم زنت فيهم، الشر يلذ لهم فعله أيما لذة، لا يتجاوبون مع الخير، لا يتوبون، ولا يقبلون توبة من أحد، فقد كتبت على صدورهم المعصية بطريقة أصعب من أن تمحى، اذهب إلى ملائكة السماء؛ فهم أدرى مني بقانون التوبة.
- ( متوددًا )، ولكنك لست ابنة شيطان .
- (، وهي تستدير ) كف عن تلونك، واغرب الآن عن وجهي؛ ففي السماء ملائكة نزيهة، ولديها مزيد من الوقت للنظر في التوسلات فاذهب، والتمس لديها صفحًا.
- ، ولكن شكواي لا تدخل ضمن اختصاص ملائكة السماء، بل هي من اختصاص ملاك الأرض، من اختصاصك وحدك يا ميرفت.
- النطفة المهينة المتهالكة أصبحت تنافس الملائكة في المكانة !
أنت تحول الملائكة إلى شياطين، والشياطين إلى ملائكة وفق مصالحك، وأهوائك، هل لإرادة الضعف كل هذه القوة؟! تأتي لتستجدي التوبة ممن كان شيطانك، وتسعى لاستعادة ثرائك ممن هو بائس! يا لها من كوميديا شيطانية!! إنها إرادة المال الذي لم أكن ممن يستخدمونه إلا فيما ندر، المال الذي لم أكن من أبناء طبقته أو أهله هو الذي أعاد إلي كرامتي من أهله.

لم تثبط ردود ميرفت القاسية من عزم الرجل، وإصراره على إقناعها بالعودة، ولم تحبطه الإجابات المدروسة المنتقاة من دروس التجربة، وإن بدا مأخوذًا لسماع تقريعها صاغرًا متخاذلا، وهو يقول في لطف، وأدب:
- ليس من شيمتك المتسامحة أن ترددي على مسامعي كل أخطائي، وأن تبادليني عجول الألفاظ هكذا.
ولا يزال يلح عليها، ويمعن في الإلحاح بالعودة إلى القصر معززة، وهو الذي ود من قبل لو دسها حية فـي جوف ثراه متوسلاً بصحة أمها، وامتحاناتها التي أشرفت على بدايتها، وهو يقول:
- لا تتقاعسي يا ميرفت؛ فحياة ماما في خطر إن أنتِ تماديت في الغياب، ومستقبلك هو الآخر في خطر إن أنتِ کابرتِ، واستمرأتِ البقاء هنا.
-ها هي ساعة المؤامرات قد أوشكت، هات ما ورائك، ما الجديد الذي يدخره حقدك لي.
إن محاولات الرجل لم تستنفد عبثًا؛ فأخذ يتوسل إليها بالدين، والمقدسات، والأدباء، وبليزا التي تكابد الوحشة من دونها، ثم عاد يتوسل إليها بامتحاناتها التي اقتربت، وحرصه على أن لا تتخلف يومًا واحدًا عن هذه الامتحانات المصيرية، ثم عاد مرة أخرى يتوسل إليها بماما فضيلة التي تركت البيت، وهددت بترك الحياة، وبصحتها التي أخذت في التراجع من أثر غياب ميرفت، وإذا به يقول لها، وقد أوشكت أنفاسه أن تنقطع من الإلحاح:
- ربما ألتمس لكِ المعاذير باستغنائك عن أبوتي لك، أما ماما فضيلة فلا أظنك تحتملين الحياة بدونها، ولا أظنها كذلك؛ فقد تركتها، وقد أشرف صبرها على النفاد، وفؤادها كاد أن يفرغ، فقد تركت المنزل من أجلك، وبقيت ليزا وحيدة في القصر تكابد الوحشة من دونكما؛ فالظروف تحتم عليك العودة إن لم يكن من أجلنا نحن فمن أجلك أنت؛ فامتحانك كما قلت أوشكت، ولدي الرغبة الملحة، والحرص الزائد على إكمال تعليمك حتى النهاية.
-، وإذا بميرفت تبتسم ساخرة، ولكنها لم تكن إلا ابتسامة من خسة الحياة، ولم تكن إلا احتقار للناس الخساس، وأخذت تقول في دهشة حتى النهاية، وأين تكون النهاية إذن؟ ألم تكن قد حددت لتعليمي نهاية منذ ثلاث سنوات مضت، ألم يكن التعليم في شريعتك التربوية هو حجة الكسالى ؟!
- وهنا قاطعها الرجل قائلا أرجوکي یا میرفت اقبلي توسلي، وتضرعي، وانسي الماضي قليلاً من أجل ماما، وليزا اللتين تتمنيان عودتك على أحر من الجمر.
وإذ بقلب ميرفت، وقد لان، وفترت حدتها، وصرامتها، وبدا واضحا تجاوبها مع إلحاحات الرجل، وتوسلاته؛ مما جعله يتنفس الصعداء لنجاحه في إقناعها بالعودة، لقد عرف كيف يداعب في داخلها الوتر الذي يعقل النغم حينما أخذ يوثق اعتذاراته بآيات من القرآن الكريم، ويستند إلى الحديث الشريف، ولا أدري کیف أسعفته ذاكرته، وعقله بهذا النوع من الكلمات، تلك الذاكرة التي كم فسقت، وذلك العقل الذي كم فسق وتلون.

انتهت ميرفت إلى الموافقة على العودة مع الأب بعد شديد إلحاحه، والحقيقة أنها لم تتخذ هذا القرار بدافع الإلحاح، ولكن خشيتها على أمها، وشوقها إليها، ومن ناحية أخرى أنه لم يبق على امتحانها سوى أيام معدودات؛
ولذلك فقد رتبت ملابسها، وكتبها، ونسيت كل مصائبها، وتأهبت للعودة مع الرجل.

وقف الأب ينتظر ميرفت في سيارته، وهنا وجدت صفاء الفرصة ملائمة للاستفسار من ميرفت عما دار بينها، وبين أبيها، وإذ بصفاء تقول لميرفت بانكسار، ودهشة هل ما سمعته هو الحقيقه أم خانتني أذني هذا الرجل ليس أبوك، وليزا ليست أختك، وماما فضيلة لیست .... ؟
- ( في ثقه، وجرأة ) نعم يا صفاء هذه هي الحقيقة، وكل ما سمعته هو حقيقتي، وكل ما قرأتِه في قصتي " حورية من الجحيم " ليس إلا تاريخي أنا ، وقد أسقطته على الآخرين؛ لأنه يثقل كاهلي، نعم يا صفاء فتاريخي يثقل كاهلي؛ أنا الحورية التي أتت من الجحيم.
- إنني أنحني للحرام الذي أنجبك، ليتك تاريخي يا ميرفت.
وهنا قبلتها ميرفت، وودعتها، وقبل أن تهم بالانصراف أشارت صفاء قائلة:
- " أعیدی قراءة الخطاب الذي كتبته حواء لآدم في قصتي حورية من الجحيم " فهذا هو الخطاب الذي كنت قد كتبته لأدهم لأكاشفه بحقيقة ذاتي، ولما لم تتوج علاقتنا قررت إدخاله في سياق قصتي؛ إنها مشاعري یا صفاء فطالعيها بعناية، إنه ماضيّ فلا تؤاخذينى به، إنها حقیقتي فأرجو أن تلتمسي لي المعاذير عنها.
قالت هذا، وودعت صفاء، وحثتها على مداومة الاتصال بها ثم تركتها، وانصرفت عائدة إلى القاهرة .
- وما إن انصرفت میرفت حتى أخذت صفاء تبحث في قلق، وشوق بين أوراقها عن قصة میرفت حتى عثرت عليها، وأخذت تتصفحها بلهفة إلى أن توقفت عند الخطاب؛ فأخذت تقرؤه بانتباه كامل، وهي تنفعل مع كل كلمة فيه، وهذا نص الخطاب " آدم أنا لست سليلة هذه الأسرة العريقة الأصل كما يبدو لك بل، ولست سلیلة أسرة بذلك المفهوم التقليدي أو المعاصر لتكوين، وحياة الأسر، وما تواتر قط أو أذيع عن أسرتي شيء، ولو ضئيلاً في النبل، فمثلهم كمثل من يحرقون الفضيلة بلا استحياء في مواسم، وأعياد الإثم، فليس للطهارة من مذاق عذب على أجسادهم المحمومة، وليس للإيمان لديهم شيء من الجلالة، والعظمة ولا لمعناه أي صدى أو لمحتواه شجن أو لرنينه موسيقى، هذا فوق أنني ليس لدي ثراء مما تعرفه عن أبناء الطبقة الأرستقراطية التي أنتمي إليها، وليس لي من المزايا ما يجعلني أهلُا لك، كل ما أملكه هو تلك الخواطر البارقة التي تراود أذهان العباقرة أليس من الحماقة بل، وتهور البصيرة أن أفكر فيك بعد كل هذا؟! لقد ولدت في ليلة كأباء تحت نجم سيء الطالع مشؤوم؛ فلقد وصمنى قدري بحكمة الشاعر دانتي حيث يقول " أنا الطريق الممتد إلى مدينة الأحزان، والآلام الأبدية، والمؤدي إلى عالم الضالين، أقامتني القوة، والحكمة، والمحبة، ودفعت العدالة صانعي العظيم إلى إنشائي، ولم يخلق قبلي سوى الكائنات الخالدة، وسوف أخلد مع الزمن؛ لذلك فأنا أرجو الله أن يعفيك من مغبة التفكير في مثلي، فستقودك حبائل أفكارك الممتدة في أعماق أصلي، وستتوحل هذه الأفكار في لفيف من الخطايا التي أنا ضريبتها، فليس في جسمي بوصة واحدة لا تسبب لي الفزع؛ فأنا أكره نفسي، وأتمنى بعد موتي أن يبقى كل شئ على وجه الارض كما لو كنت لم أعش يومًا، ، وأسفي فلم يتفضل قضائي بأحد ممن يرجع إليه نسبي لكي يحدثني عمن هم أسلافي الآخرون، أما أنت فقد ولدت تحت نجم سعيد، وطالع بشر مشرق الجبين؛ فلا أريد أن ألوث عليك أحلامك من فيض كآبتي المضادة للأحلام، ولا أريد أن أدنس عليك طهارتك بأصلي المزعج، ولا أريد أن أجلب عليك شيئًا من التنغيص؛ فأنا أعرف مرارة التنغيص على أنه ليس الدم الذي يستودعه فينا أهالينا هو الذي يحدد هوية أعماقنا ألم يصرخ شكسبير لنفسه قائلاً :
- "كلنا أبناء غير شرعيين حتى ذلك الرجل النبيل الذي كنت أدعوه أبي لا أعرف أين كان يوجد يوم مولدي"
فلا يكون المرء نبيلاً في سلوكه ما لم يكن نبيلاً في أعماقه، وإحساس المرء بأنه موصوم بأخطاء لا يد لانفاعالاته فيها يجعله يتمسك بأهداب الاحترام، والرزانة؛ فلقد آن لي الأوان أن أغير لون دمي ما دام هذا اللون لم يزد عن كونه قناعًا، إن مجرد التفكير في ذاتي، وإعادة النظر في صفحات ماضي تكبلني بأطواق من الضيق، والخجل، وتمنحني إقامة دائمة في دوامات مغلقة ليست لحلقاتها ثقوب، فليس الماضي قذارة فوق سور الحديقة يجب إزالتها كلا إنه أعمق من ذلك. الدهشة البائسة التي أنطوي عليها هي أن هذا الماضي الذي لم أشارك فيه بقول أو فعل هو ماضي، إنني لا أطمع في عزاء عن كل هذا الماضي الذي لا يزال يلتهب في جوانحي، ولكن كل هذه الأحزان الثقيلة التي تتراكم على كاهلي كجثث من الأحجار كل هذه الأحزان، والآلام الأبدية الصامتة، والمتحركة تنصهر في أعنف موسيقى كلما تذكرت الله.
، وما إن فرغت صفاء من قراءة الخطاب حتى قالت وهي تأخذ زفرة عميقة:
- نعم فنحن ندين بهنائنا لله، ولكن مواصلة الهناء رهن بطاعتنا له، فلنثبت عليها، ثم أردفت تقول، وقد غلب على كلماتها مسحة أسی، واعتذار ليتني كنت لقيطة ليوم واحد؛ لأفهم حجم معاناتك، وأرثوها إذا لم أستطع أن أخففها عليك، ولكنها إرادة الله أن تشق الطهارة طريقها من بطن الإثم ،فالبنود يجب أن تتعفر في التراب لكي يصبح صوتها هادئًا، وفخورًا، ما أعظمك يا ميرفت! لقد أوجدتك اللذات، ولكنك لم تركضي مع أفراسها، إنه الله الذي يخرج الحي من الميت قد أخرجك.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.