أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

شارك على مواقع التواصل

عادت ميرفت ثانية إلى القصر في صحبة عدلي، وكانت الأم لفرط شوقها لرؤيتها قد سبقتها بالعودة لما تأكد لها نبأ عودتها، ويمكن تفسير عودة الأم من تلقاء نفسها بأنها تريد أن تشتري استقرار الأسرة مهما كانت التكلفة، وأنها تنساق لصوت الأمومة، أمومتها لميرفت، وليزا، لقد تذكرت كلمات سابقة لميرفت ضمنتها خطابها تقول فيها " أخشى إن اهتز استقرار المنزل أن يصير مصير ليزا مشوهًا كمصيرى؛ لهذا السبب خشيت الأم على ليزا "، ولكن لا يجب ألا ننسى أن الأم بجرأتها على ترك المنزل قد وضعت زوجها أمام امتحان قاس، وأنها بهذا الرجوع تحفظ ماء الوجه لزوجها، إن التجربة القاسية التي عاشها هذا الرجل بترك زوجته المنزل مما آلمه، لقد أقامت زوجته الدنيا، وأقعدتها بسبب فتاة كان يعتقد أن أحدًا لن يحتاج إليها في هذه الدنيا؛ لأنها لا تهم أحد، ولأن وجودها لن يثير لدى أحد إلا السخط الكامل لو أدرك حقيقتها، هذا إذا لم يجعل مولدها كل الوجوه تشيح عنها، ولأول مرة تساوم المرأة على استقرار المنزل ببقاء ميرفت التي هي ليست من رحمها، أو من تكوين صلبه؛ مما حرك لدى زوجها المشاعر المتباينة، وأرهف إحساساته الخشنة، فياله من درس قاس سيجعله يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على أن يخطو خطوة مع ميرفت؛ فقد ذاق مرارة المساومة الخبيثة التي بدأها، وأحبطت كل خططه التي نسجها، ولم ينقذه من العاقبة الوخيمة التي كانت تتربصه سوى ضحيته.
دخلت ميرفت إلى القصر في سعادة، وانطلاق شديدين رغم علمها الأكيد بأن حياتها في القصر لن تتوج بالسعادة، وأنها ستكون أكثر شقاء من سابق عهدها، ولكن لا بأس؛ فالشقاء هو العلم العام كما يقـول " ألفريد دي فيني "، وإذا بميرفت تجري مسرعة تلهث الأنفاس إلى حيث تكون أمها كانت الأم، وليزا تنتظرانها في شوق بالغ مثير، وما إن شخصت ميرفت إلى الأمام حتى طالعت أمها، وإذا بها، وقد امتزجت أساريرها بابتسامة عميقة ذات قرار، وصرخت صرخة رائعة من السعادة حينما تبلغ الذروة، ودفنت رأسها في صدر أمها دفنة أبهجت فؤادها؛ فاحتضنتها الأم التي كم تأثرت لغيابها.
، وإذا بالصحة، وقد ترقرقت ثانية في جسدها، وابتهجت ميرفت من فرط نشوتها.
يا إلهي ..، وكأن ضجر العالم كله الذي كانت تنوء بحمله، وقد انزاح عن نفسها إلى غير عودة، وإذا بقلبها الذي استهلكته الخطوب، وقد قام يتألق ثانية كأصحاب الكهف، وإذا بعيناها العسليتين القاتمتين، وقد التمعتا وشع منهما ضوء أخاذ كالبرق من فرط السعادة.
- أخذت الأم تمسح على رأس ميرفت بيديها الرقيقتين الحانيتين.
- وإذا بميرفت تقول لأمها، وهي قابعة في حضنها مستلقاة في خشوع على صدرها " هيا لمسحى ثانية بيديك الرقيقة الأثيرتين على رأسي، فقد استيقظت في صدري الحياة التي نامت لأربع أيام فليس ثمة شيء يعرف كيف يحنوعليّ سواك. هيا دثريني بحبك، واطويني في ظلك؛ فأنا أحبك إلى حد الجنون.
، وإذا بالأم التي كانت عيناها متألقتين بابتسامة عريضة تنحاز مرة إلى الفرح، ومرة إلى البكاء قسرًا عن إرادتها.
- فأخذت ميرفت تداعب أمها، وكأنها هي الأم الحانية، وهي تقول " ستدومين في أحشائي أيتها الأم المدللة ".
-، وإذا بالأم تقول لميرفت لقد استبد بي الملل من دونك، وكاد فؤادي أن يفرغ، وعقلى أن يتفطر، إياك، وترك أمك ثانية.
ثم شخصت ببصرها إلى السماء شاكرة، وأنشئت تقول " ليتك يا نور السماء تزداد إشراقًا بين جوانحي، وتضييء أعطاف الذهن، وتنير ملكاته، وتكسبها عيونًا أخرى.
- ثم انهالت ميرفت بالقبلات، والاحضان على ليزا، وإذا بها تبرر لها رحيلها عن المنزل قائلة " إن خوفي على مصيرك هو الذي ألهمني الفرار ".
لقد عادت الحياة إلى القصر بعودة ميرفت، واستقرت الأمور جميعها، وقر قرار الأم، ولم تعد تستبد بها الحيرة أو يباغتها القلق.، وهدأ روعها، ودمعها بعدما وعدتها ميرفت أنها لن تترك المنزل ثانية لأية فجيعة كانت، وقد نصحت الأم ابنتها بتجنب النقاش الكثير مع الرجل، والاقتصاد في الحديث معه قدر المستطاع، وألا تشق عليه عصا الطاعة؛ حتى لا يضمر لها النوايا السيئة، وختمت حديثها قائلة :
- إنّ بابا إن لم يكن لطيفًا معك في الأيام القادمة فإنه لن يكون قاسيًا كما كان حاله من قبل، بل إنه على أقل تقدير سيكون محايدًا بين القسوة، والمرحمة كفضائل أرسطو.
- ولا يجب أن يغلب عليك الشعور بالأسى، والحزن فلن يتسع صدرى بعد اليوم للدراما الميلادية، ففخر المنبت هو ما يجب ان يملؤك من أخمص قدميك حتى نخاعك؛ لأنك تعيشين في محتد وافق عليك، ومنحك عراقته، ومما يجب التذكير به أن ميرفت على الرغم من أنها عاشت، وترعرعت في بيت توفرت فيـه كل سبل الرفاهية إلا انها لم تكن مرفهة وجدانيًا أو نفسيًا، فهي تشعر بالفقر رغم أنها لا تعيشه؛ لأنها عارية عن المميزات التي تؤهلها لغير ذلك، فهي تفتقر إلى الاستعدادات الفطرية للثراء.
فالماضي الذي يطل برأسه على حاضرها ثم حنق الأب، وكيده الذي هو أقوى من كل ماضٍ هما الخطر الدائم الذي يهدد راحتها؛ فلم يتخلص الرجل بعد عودة ميرفت من كل صلفيته، وغروره كما كان منتظرًا رغم تهديد زوجته ووعيدها له، وأنى له أن يتخلص من أحقاده، وأنانيته، وهو القائل إنه لا يمكنه أن يكون أبًا إلا لـ " ليزا " فقط، غير أن الرجل بالرغم من ذلك بدا أكثر حذرًا، وتحفظًا في كل ما يقول، وأكثر دراية، وتدبيرًا في كل ما يفعل؛ فكان يتصنع الحب، والمداعبة مع ميرفت، وتشابهت معاملته لميرفت بمعاملته لـ " ليزا " مع الفارق الجوهري، وإذا به يبرر تعاطفه مع ميرفت قائلا " إن عواطفي الخشنة قد أرهفت، وأصبحت أحبك مثل لیزا تمامًا فكلتاكما ابنتاي "، ولكن هذا المكر لم ينطلِ على ميرفت؛ فكانت تدرك رياء هذا الرجل، وتحسبه بدقة متناهية حتى إنها صارت تتوقع أفعاله المرتقبة بدقة تدعو للعجب، وكأنها قد نقلتها من كتاب عمره ،كذلك فقد كانت الأم تتربص تصرفات زوجها إزاء ميرفت مما دعاه لأن يكبح جموحاته، ويبادر بالحسنى اتقاءً لغضبها، لقد أشارت الأم على ميرفت بأن تقبع في غرفتها طيلة هذا الشهر؛ كي تستذكر دروسها فالامتحان أوشك، ورهبته بدأت تخيم ظلالها على جو الأسرة، لم تخش الأم على " ليزا " رهبة الامتحان فليس ثمة ما يدعو للقلق عليها؛ لانها في الصف الأول الثانوي، فلم تكن في مرحلة حرجة يخشى بأسها، بعكس ميرفت التي توافرت العراقيل الكافية للحيلولة بينها، وبين التحصيل، والاستيعاب فقد أنضبت الإهانات الأخيرة معنوياتها، وهوت بها إلى الحضيض فالجو النفسي الذي خيم عليها قبل شهر من الامتحان، واضطرارها إلى ترك المنزل، وفراق أمها أرداها في حالة سيئة مضطربة لا تساعد على استذكار أو فهم؛ لهذا رأت الأم أن تحفز ابنتها على النجاح، وتثير في داخلها روعة الطموح الهادي، وترفع معنوياتها التي أحناها زوجها .
- فأنشأت تحدثها قائلة " أعرف أن كل الظروف في غير صالحك إلا أن الرسوب هوالآخر ليس في صالحك بل، وليس في صالحنا؛ فالرسوب قد يدمر الأسرة، ويقوض أساسها، ويقلب امزجتنا جميعًا رأسًا على عقب، فلا تفوتي فرصة النجاح عليك فلتنجحي، وبمجموع مشرف كما فعلت في العام الماضي؛ حتى تقضى على شماتة الشامتين، يجب أن تتفوقي لتعوضيني بنجاحك عن أحزاني، فصحتي في التناقص، وفرحتي بك ستخفف عني الإعياء، فلا تفوتي عليّ السعادة، وإذا كنت تحبين أمك التي صنعتك فاصنعيها .. " كـانـت هذه هي مطالب الأم من ميرفت، ولكن ما إن أصبحت الامتحانات على شفا يومين حتى انتاب ميرفت الارتباك، واستبدت بها الظنون إذ يبدو أن العاقبة لن تكون أقل من وخيمة، ويبدو أن المستقبل يخبئ شيئًا؛ فها أنا أرى صفًا من الأيام المقبلة في حلة حالكة .

وحتى ساعة الامتحان لم تستطع أن تقاوم شعورها بالخوف وبالارتباك؛ إذ بدت شاردة أكثر من أي وقت مضى، تفكر في أمور لا تمت إلى عالمنا بصلة؛ فلم تنتظم عبارتها للإجابة، ولم تملك إلا أن تكتب القليل الذي لا يفي، وما إن ظهرت نتائج امتحانات الثانوية العامة حتى ظهر اسم ميرفت في قائمة الراسبين، في الوقت الذي نجحت فيه " ليزا " التي تصغر ميرفت بعامين كما نعرف .
قابلت ميرفت نبأ رسوبها بالحزن العميق، والأسى البالغ، وأخذت تتخبط كثور هائج، ولم يقر لها قرار .. بالله ما أقسى الظروف .
- (، وإذا بها تتساءل ) في الوقت الذي يأسف فيه الانسان من ماضيه يأسف أيضًا على مستقبله، ويأسف على الحياة التي يعيشها بكل أطوارها، ومن كل زواياها، وأضلاعها، يعيش ليأسف، يعيش ليبقى أبدًا أداة تتمرن فيها المصائب.

وبدت خائرة تفكر ملء رأسها من أجل تفسير ما حدث، وهل كان الفشل، والرسوب محض اختيارها، لا، إذن؛ فهي لم تختر المستقبل مثلما لم تختر الماضي، ولكن لا يمكننا أن نتهم الماضي بأنه هو الذي يجرف في المستقبل بهذه الصورة لا بل إن عنف الأب، واستهتاره بمشاعرها هو المسؤول عن هذه النهاية المأساوية، وليس ثمة وزر على الماضي الذي هو وزر .
- جلست میرفت تندب حظها التعس، وما إن فاض بها كيل الألم حتى نهضت من جلستها، واندفعت تلعن عدلي أنت كافر، كافر وغد! قالت هذا وهي تتذكر الحديث الشريف الذي كان يردده الرجل ليبرر به إبعادها عن المدرسة .
( لا تعلموا أولاد السفلة العلم )، وأردفت توبخه، وقد ارتسمت على محياها ابتسامة ضعيفة هادئة " ابناء السفلة سوف يتركون التعليم لأمثالك أيها السافل.
لقد أرهف الرسوب أعصابها، وجعلها سريعة التوتر، حادة الطبع، وجلست تبكي بدمع سخين، وكادت تنهار من فرط حزنها.
- أما الأم فقد استقبلت خبر رسوبها بالدهشة العارمة، وأخذتها الفجيعة حدًا لم تبلغه من قبل، واستولى عليها الوجوم، ولم تقاوم الصدمة كثيرًا حتى أصابها هبوط مفاجئ، وتم نقلها إلى أقرب مستشفى؛ فما كانت لتحتمل كل المصائب الخبيثة التي تحيق بميرفت، وما إن ذهبت الأم إلى المستشفى حتى لحقت بها كل من ميرفت، وليزا لزيارتها، وهناك قالت الأم لميرفت، وهي تئن في سريرها:
-" نحن الذين علمناك، ونحن الذين قدرنا عليك الفشل ".
قالت هذا، ثم أرسلت تستدعي محاميها، وأملت عليه الوصية الآتية " تسجيل العزبة بكل ما تحتويه كاملة لميرفت عدلي منصور البحيري ".
فقد أضعنا مستقبلها، وهذه محاولة لتأمين ما بقي منه، لقد تم هذا بعيدًا عن سمع الأب، وبصره، ولكن كانت ليزا في هذه المرة شاهدة على هذه الوصية، ولم تبد رفضًا لذلك.
- لقد بررت لها الأم هذا التصرف بقولها ميرفت أختك يا ليزا، وبحق أمومتي إنها لن ترم إلى التغرير بك أبدًا، ميرفت أختك يا ليزا، قلبها لا يعرف جحودًا أو نكرانًا، ولسوف تكمل معك ما بدأته؛ فأنا أؤمن مستقبلها لتؤمن مستقبلك، فلا تعلي غيرتك لهذا التصرف الذي قد يبدو جائزًا؛ فهذا التصرف إن أحسنتِ فهمه قمين بأن يسكب البهجة في نفسكِ.
وأغلب الظن أن الأم كانت ترمى من وراء تجاوزها للحياد بين ميرفت، وليزا؛ حتى لا تمكن الأب من التسلل من حقوق ليزا إلى أملاك ميرفت، وحتى لا تخلق روح المنافسة بين بنتيها إن هي تحرت العدل.
- لم تلبث الأم في المستشفى طويلاً؛ فلقد غادرتها بعد ثمانية أيام، وقد برأت من سقمها، واستردت من صحتها الشيء الكثير.
وفي هذه الأثناء، وفور عودة الأم إلى منزلها تقدم الأستاذ هشام مدرس الفلسفة لخطبة ميرفت من والديها رغم رسوبها في الثانوية العامة؛ فالنجاح أو الرسوب ليسا دلالات كافية على التفوق؛ فلا زالت ميرفت في نظر أستاذها، الفتاة الفريدة وضعًا، وموضوعًا عن بقية التلميذات.
- أبدت ميرفت الموافقة على الارتباط بالأستاذ هشام، ولم تضع العراقيل الفقهية، والفلسفية في الحب، والزواج كسالف عهدها؛ فالاستاذ هشام في رأيها شاب وسيم في مقتبل العمر، لا يتجاوز الثمانية، والعشرين، فوق كونه حجة في الفلسفة، هذا إضافة إلى أن تفكيره تشوبه الواقعية رغم كونه مدرسًا، وهذه هي الميزة المبتغاة؛ فلم تعد عواطف ميرفت تثق في النوايا المثالية بعد مشاهدتها مسرحیة "زوج مثالي" لذلك لم تفكر طويلًا حينما تقدم إليها الأستاذ هشام، حيث أعلنت موافقتها في سرعة مذهلة رغم أن هذا المدرس لم يكن في خيالها زوجًا في أي وقت مضى، ولكن وافقت میرفت دون تردد على الارتباط به، وذلك :
. - أولاً لضيقها، وتذمرها من الإقامة مع والدها
رسوبها، وإخفاقها في الثانوية العامة لذلك لم تبد شروطها القديمة في الحب، والزواج، ثم إنها هنا بصدد أستاذ فلسفة متمرس في مهنة الجدل، ويمكنه التصدي لأي رأي أو حكم، كما أنه يعرف عن الروح بقدر ما يعرف عن الجسد، ويعرف أيضًا ما الذي تعشقه تلميذته، وما الذي تمقته؛ اعتمادًا على فراسته القوية لها أثناء أعوام الدراسة؛ فهي تستهجن الماضي، والميلاد، وتعشق الفكر، والروح، ويستهويها الحب الخالص.

وإذا بالأم تبادره قائلة في إعياء واضح:

- نعم يا أستاذ هشام ابنتي تتوق روحها إلى الحب الخالص، الحب لذاته؛ ربما يعود ذلك إلى ضيقها، وتذمرها بالحالة التي وصلت إليها العاطفة؛ فهي تتطلع دومًا لحب مجرد.
قصدت الأم بقولتها هذه أن تهرب بعيدًا عن ذكر مآسي ميرفت أو أسرارها؛ فسر ميلادها لا بد، وحتمًا أن يظل على حاله سرًا عن هشام؛ حتى لا يتخذ منه ذريعة لاتهامها أو مبررًا لانتقاصها، ولما وجدت الأم من فضول هشام لأن يعرف كل شيء عن ميرفت فقد أخذت تقص عليه من طفولة میرفت، وكيف كانت نزاعة للوحدة، والانعزال.

وهنا بادرها الأستاذ بسؤاله الذي بدا، وكأنه سؤال فلسفي، ولكن لماذا الميلاد لماذا لا يحفل قلبها بالسعادة بمولدها؟
- وقع هذا السؤال على قلب الأم في خضم النقاش كطعنة خنجر، ولكنها لم تستسلم للارتباك، بل أسعفتها ذاكرتها على الفور، وأنشأت تقول:
- ربما يرجع ذلك إلى تأثرها بالفكر الوجودي لا سيما عند الفليسوف هيدجر.
-، وهنا عاد هشام يسأل، ولكن بماذا تجيبي عن السر في رفضها للتاريخ؟!
- قالت الأم، وقد انتابها التوتر هذه المرة:
التاريخ من حيث كونه فكرة أم مادة دراسية، أغلب علمي أن ميرفت كانت متفوقة في التاريخ.
- (، وإذا بهشام يقول في إصرار ) لا بل أعني رفضها للتاريخ من حيث هو فكرة
-، وإذا بالأم تلتمس مخرجًا آخر بالفلسفة، ربما يرجع ذلك لتأثرها بالفليسوف نيتشه، وإميل سيوران الذي تعشقه كثيرًا؛ فهي مغرمة بالفكر الألماني والروماني.
وإذ ذاك أشارت الأم إلى ابنتها لتلتمس منها تأييدًا لما تقول.
- وهنا علقت میرفت قائلة:
نعم بالطبع؛ فرفضي للتاريخ راجع لتأثري بنيتشه وسيوران؛ فكلاهما جدير بأن يثير في مواضع التأثر.

كان الأستاذ هشام يطرح أسئلته هذه بدلال مخيف، رغم أنه لم يرمِ من ورائها إلى اتهام أو مساءلة أو تكهن .. بل هي لغة الجدل، والحوار الحر التي جعلته يزيح التكلف، غير أن تساؤلاته الاستفزازية هذه لم تمس شغاف الرضا من قلب الأم، ولم تبلغ منها مواضع الارتياح بقدر ما أشعلت غيظها، وأخذت تشجب أسئلته في استياء، وهي تقول لميرفت إن طريقة التهكم، والتوليد هذه ليست مستحبة ولا لطيفة إذا استخدمها إنسان يريد التقدم لخطبة، أرايت لهجته في الحديث، ونوع الأسئلة التي يطرحها إنه يطرح أسئلة ذكاء، وكأنه في مسابقه لنيل الجوائز، كان يسألنا، وكأننا تلاميذ في حصة مدرسية بل، وكأننا نحن ضيوفه الغرباء، وليس هو.
أما ميرفت فكانت على العكس من أمها فلم تصيها أسئلة الأستاذ بالقلق؛ لشعورها بأنه إنما يخضع لعادته التي ألفها طويلاً بتحريه الغوص في أحشاء الموضوعات بحكم مهنته.
أخذت زيارات الأستاذ تتكرر بعد ذلك حاملاً معه الهدايا المختلفة للأم، ولميرفت، وللأب، ولعله قد لمس بعد ذلك أن أسئلته تثير غيظ الأم، واشتمئزازها فقرر ألا يغوص في مثل هذه الامور التي تثير قلق الأم، وعصبيتها؛ لذلك اتجه إلى طرق موضوعات أخرى غير تلك التي لا تقابل بحفاوة، فها هو يتخذ قراره بعدم التفتيش في ماضي أحد، لن يعبث من الآن فصاعدًا بتاريخ ميرفت الذي ينطوي على سر غامض، وحلقة مفقودة؛ فكان يتحدث عن مهنته، وعن المعوقات الكثيرة التي اعترضته إبان التخرج من أجل الحصول على، وظيفة، وأنشأ يقول لميرفت، وأمها إن ما يحدث يستوجب الدهشة الأبدية؛ فالطالب ینهي دراسته الجامعية بعدما وظف نصف عمره من أجل هدف واحد هو التعليم ليجد نفسه يقضي الشطر الآخر من عمره في بطالة مستديمة إلى أن يتولاه الله برحمته، ويعثر على مطعم شيك في غفلة من القوى العاملة، ليرتزق منه، هذا في الوقت الذي يكنز فيه الجاهلون الذهب، والفضة، وبعد ذلك ماذا يكون راتب المدرس؛ إن هو عمل بالتدريس ؟ تعاقد بالحصة إنها فضيحة كبری.
أعترف بأنني لم أعقلها في أي وقت مضى ( متهكمًا ) ربما كانت وزارة التربية، والتعليم العصماء تعطيه هذا الراتب الباهظ لتوافر شعورهم بأن البنزين في غلاء مستمر ولا أكذبكم القول بأنه لو أشفق عليّ والداي، وعلماني حرفة مثل السباكة أو النجارة إلخ لكان دخلي في اليوم الواحد مثل الذي أتقاضاه من الوزارة في الشهر؛ فالتعليم، والمتعلم ليسا لديهما كرامة في وطننا، وإلا خبريني لماذا يفر حملة المؤهلات إلى الخارج؛ ففي بلاد الغرب فرنسا، المانيا، يقدرون العالم، والمتعلم، لذلك كان من ضرورة هذا التقدير أن جرت حضارتهم بخطى واثقة، وسبقت الحضارات العتيقة صاحبة السبق، وإذا بالأستاذ بعدما أنهى كلمته يشير إلى ميرفت، وهو يقول:
– "الآن عرفت لماذا ترفضين التاريخ، وأراك محقة في ذلك "، ولكن لا بأس فبعد عقد القرآن قد أسافر إلى النمسا، وهناك سوف أجمع ثروة طائلة؛ لكي أعوض بها ميرفت عن مشكلة الميلاد، ونستعيض بها سويًا عن هموم التاريخ، ونبدأ تاريخًا جديدًا، وميلادًا جديدًا.

إن حديث هشام على هذا النحو قد لاقى استحسان میرفت، وأمها؛ فلم تظهر بعد آثار ملل أو ضيق على ملامحهما، بل كست وجهـيهما السعادة، وغمرهما المرح –، وهنا وجدت ميرفت الفرصة سانحة لتعقب على كلام الأستاذ بشأن مشكلة التعليم، وفساده، وإذا بها تقول " بل، والأدهى مـن ذلك أن وزارة القوى العاملة تسيء التصرف في استخدام ميول الخريجين، واتجاهاتهم؛ فلا غضاضة في أن يدرس خريج قسم الفلسفة في كلية الآداب مادة الدراسات الاجتماعية للصف الإعدادى، وخريج كلية الإعلام يعمل موظفًا في إحدى المكتبات الحكومية، إنها هواية الدولة، وليست هواية المتخرج، قالت ميرفت هذا، وهي تتحدث باعتدال بالغ، ورزانة متكلفة أمام الأم التي جلست تصيغ الأذن للنقاش باهتمام، لم يسعها إلا أن ابتسمت ابتسامة مخطوفة كالمضطرة، وكانت تبتهل إلى الله ألا يسيئا استخدام المناقشة، ويتحولا إلى موضوعات أخرى تجلب القلق مثل أسئلة الأستاذ الاستفزازية السابقة، ولما اطمأنت الأم أن الحديث قد رسا عند مرفأ آمن أردفت تحدث ميرفت بكلمات قصدت بها مد رقعة النقاش إلا أنها أصيبت بالمفاجأة عندما قالت لميرفت، وقد غلبها التفاؤل " غدًا تلتحقين بالجامعة، وتعيدين للعلم هيبته، ووقاره القديمين".
إذا بمیرفت ترد قائلة:
- لا يا ماما لن أعيد الثانوية العامة، سأكتفي بالتعليم عند هذا الحد
- ( وهنا تغير وجه الأم، وكساه الانفعال، وإذا بها تقول في عصبية ) ماذا تقولين إن قرارك هذا أقوى من أن تحتمل سماعه أذن أم رحيمة، تكتفين بالتعليم عند هذا الحد، التعليم لا حدود له، وأين طموحاتك الشامخة هل ذهبت هدرًا، ونيران الحماس التي كم تأججت في رأسك قررت إخمادها للأبد.
- ( في حسرة، وتمزق شديدين ) لا يا ماما لن أفقد بقراري هذا شيئًا من حماسي القديم؛ فأنت تفهمين أن من يقود ملحمة الحماس لا يبادر بإيقافها، ومن له مثل طموحي يجن لو فقد هذا الطموح شيئًا من شموخة أو هیبته أو جنونه.
الطموح يشبه الأجنحة فإذا جردناها من كائنها هل يحق لها أن تتفهم الأجواء، وهي متجردة، سأترك لك حق التفكير في الإجابة، واذكري أن ترك التعليم قبل إكماله لن يؤذي هيبة الطموح، وحسب بل سيدفنه في الوحل كالسون، وعندما يجرح، وهو متألق في طيرانه .
كان لكلمات الأم هذه عظيم الأثر في نفس ميرفت؛ إذ أيقظت في داخلها نيران الحماس التي أوشكت أن تخبو، كما صرفتها عن رغبتها الشيطانية اليائسة في ترك التعلم، وكذلك أوضحت لها تأويل الطموح الذي أساءت فهمه؛ فتجارب الأم الكثيرة، وحسن تفهمها للأمور، وتداركها لما سيؤول إليه مستقبل ابنتها لو أنها ارتاحت للفشل، جعلت ميرفت تقطع على نفسها الوعود بأنها سوف تعيد النظر في كل ما قالت، وقررت بالفعل استجابه لرغبة أمها إكمال تعليمها، وكان قرارها نابعًا عن اقتناع تام من صميمها، ولكن ترى ما الذي تحمله الظروف ليفل من عزيمة میرفت، ويجعلها تقلع عن التعليم مرغمة؟ ما هي المفاجآت التعيسة التي يبعثها المستقبل؟ فالرياح كثيرًا ما تأتى بما لا تشتهيه السفن. فأي رياح هذه، وأي عاصفه التي اشتهتها سفينة ميرفت من قبل، إن الرياح قد اعتادت، وألفت ألا تأتيها إلا بما يغث سفينتها، فلم تمض أيام ثلاثة على الوعد الذي أخذته ميرفت على نفسها بإكمال تعليمها حتى كانت المفاجأة الكبرى التي زلزلت كيان الأسرة، وهي موت الأم، وكانت آخر كلماتها لميرفت " حبي الله.، وصلي من أجله بقلب عامر بالإيمان، فالله عادل، والعادل لا يمكن أن يدان بعدله، وانزعي عنك شـعورك بالذنب فليس لك ماضي يسيئك، فالله لا يحاسب نفس بظلم أخرى؛ وهذا برهان عدله، كما أوصيك بليزا خيرًا من بعدي؛ فقد نصبتك أمًا لها فهي أختك، وابنتك " ثم نظرت الأم لزوجها، وقالت، وهي تتمتم " عدلي أوصيك بالابنتين عدلاً فبالابنتين إحسانًا".
قالت هذه الكلمات ثم أسلمت نفسها للموت، وإذا بميرفت، وقد وقفت مشدوهة لبرهة لا تعير جوابًا، ولا تعرف صوابًا، أما ليزا فأخذت تستصرخ أمها صرخات مدوية، وهي تحدج فيها ولا حياة لمن تنادي؛ لقد انقطع الصوت، وإذا بميرفت، وليزا تبكيان، وتولولان بدمع سخين، إنهما باكيتان من فرط الفجيعة، وستبقيان كذلك لفترة؛ فما أشد تعاسة المرء، وهو يرى أجهزة المنون تخطف كائنًا عزيزًا من ذوي قرباه؛ فإذا بميرفت تتشنج، وتنتحب كمن تلقى طعنة مميتة في أغوار صدره، وسرى التخدر، والتثاقل إلى جسد ليزا، وقلبها، وأخذ رأسها يدور دوارًا كاد ان يصدعها، وغيمت عيناها، وانطفأ بريقها المشع الذي كانت له جرأة اللهب، وصارت في إعياء ووهن، أما ميرفت فقد انخزلت إرادتها بموت أمها كما تنخزل كتيبة مهزومة، وتتقهقر إلى الوراء آلاف الفراسخ؛ فقد تهاوت إرادتها التي لم تهن أبدًا، وصارت تترنح في سيرها من هول الطامة الأليمة مسندة رأسها؛ خشية أن تفقد توازنها، ففي الوقت الذي كانت تأسى على مجيئها إلى الوجود صارت تأسى على فقد أمها، ورحيلها عن الوجود؛ فهكذا باتت تترى أحزانها أكثر اتساعًا، وعمقا من المحيط، وإذا بها تتفوه بكلمات مليئة بالأسى، وهي تبكي.
- حيث أخذت تقول " لقد قبضت اليد التي كم تمرست في محو آلامي، وتفريج کروبي، لقد ماتت مذيبة الضجر، ماتت من كانت تواسي الحزانى، وتغفر الخطايا، لقد ماتت أمي، ولم يعد لي سوى الخيبة، والرجاء ".
أما ليزا فقد ارتمت في صدر ميرفت، وهي تبكي بدموع غزار، وبصوت مسموع حتى كاد قلبها أن ينفطر من هول الفجيعة، وهنا بدت میرفت مصعوقة، وأخذت تصرخ من فرط ذهولها ماتت أمي!، ولكن لماذا ماتت! قالتها، والدموع تتغرغر من عيناها متسربلة على وجنتاها حتى بلغت منها العنق، ثم أخذت تكررها في عنف، وكأنها تستصرخ شيئًا مجهولاً لماذا ماتت أمي؟، وإذا بالأستاذ هشام يواسيها قائلاً " الموت كما تعرفين حق علينا إنها إرادة الله يا حبیبتي.
-، وهنا استأنفت ميرفت حديثها، وهي تقول " إرادة الله، إنك تسعى لإحباط حزني، ودهشتي بهذه الإجابة التي لا تقبل اعتراض أو جدل " أجيبوا بشيء آخر، وليغفر الله لإيماني إن كان خاطئًا، لقد غابت أمي عن دنیاي فمن الذي سرقها من بيننا.
-، وإذا بالأستاذ يقول. إنه الله سبحانه، وتعالى قبض روحها برحمته
-، ولماذا لم يأخذني معها؟!
قالتها بصوت مرتفع تهتزله جدران البيت، وإذ بها تتمتم لنفسها، وهي تشير إلى الأب لماذا لم يأخذ الله هذا الشرير عدو البشر لعل قساة القلوب لا يأخذون نصيبهم من الموت إلا بعد أن يترع منه الأخيار، والمصطفون.
- لقد ارتدت كل من ميرفت وليزا سلاباً فأصبحت ملابسهما سوداء دائمًا فشمل الحداد ملابسهما، وقلبيهما، وإذا بميرفت، وقد تصاعدت على جناح الإيمان إلى كبد السماء المعتمة صلاة حارة على روح تلك الأم التي دفنت على عجل شديد في جوف الأبدية. لقد نصبت الشوادر، وأقيم العزاء، وبدا من الحاضرين الأب الذي غلبه التأثر، والحزن لموت زوجته، وأخيه، وأخو الأم الذي عاد لتوه من السويد التي يقيم فيها لما عرف بنبأ موت أخته، والأستاذ هشام، وشخصيات أخرى كثيرة.
- أما عن النساء فكانت هناك أخت الأم، وليزا، وميرفت، وصفاء، وصديقات ليزا، وفتيات، ونسوة كثيرات من المسؤولات عن دار الشيماء للمسنين التي كانت تتولی إدارتها في الماضي المرحومة فضيلة ظهر كل هؤلاء، وقد ارتسمت على وجوههم الكآبة، والأسى لفقد الأم، والصديقة القديرة.
أما ميرفت، وليزا اللتان كانتا ترتديان سلابًا لموت أمهما فكان حزنهما هو الأبلغ؛ فكانت هذه هي المرة الأولى التي تعلن ميرفت حدادًا على وفاة؛ فعهدها دائما كان حداد على الميلاد، فقد سحقت حياتها سحقًا فلا فرح لها بعد اليوم ليس لها إلا عذاب الذكرى، وعذاب الذكريات، وهكذا نفذت المصائب فيها أبلغ خططها،
فربما كان الموت هو أبغض الحقوق عند الله، وليغفر الله لإيماني بالموت إن كان خاطئُا، وما إن كثرت عليها الأشجان، وغررت بها الأحزان حتى ذهبت إلى المسجد تلتمس عزاء، وسلوانًا عند بارئها، وما إن وطئت بقدمها المسجد حتى شعرت لتوها بقشعريرة الرحمة تراودها من آن لآخر، وكأن كل ما في المسجد من نقوش، ولوحات، ومآذن، وكتب يقول لها خففي عنك إنك في حضرة الرحمن الرحيم، فإراده الله نافذة، وأحكامه مجردة من أي تعسف؛ فهو لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فتكاليفه لا ترهق النفس بل تقويها، وإن لا شيء يكاد يُرِي المعجزات سوى المآسى، والخطوب.
- أخذت ميرفت تتحامل على نفسها من التعب، وتجر قدميها من الإرهاق جرًا حثيثًا؛ فلقد استنزفت المصائب عصارتها، وكل ما بقى فيها من صمود، وصار لونها شاحبُا ممتعضًا، ورغم ذلك فقد شعرت، وهي في المسجد، وكأنها لم تشقَ يومًا؛ فقد ارتاح ضميرها، وغربت أسباب شكواها، وإذا بها تنتبذ مكانًا قصيًا في ركن من المسجد، وتجلس منبسطة تتلو بعض آيات من الذكر الحكيم، وما إن فرغت من قراءتها، وقامت حتى قرأت على إحدى جدران المسجد قوله تعالى " كل نفس ذائقه الموت "، وهنا أدركت أنه ليس ثمة اضطهاد إلهي، وأن ما تصادفه من كروب ليس حربًا يشنها الله عليها؛ فها هو الموت حکم کلي شامل كل المخلوقات حتى التيه كما يقول "تيوفيل جوتيه" سهل الوقوع في هذا الزمهرير الذي تكتسي فيه الطرق أكفانًا بيضاء، فالموت هو قدر الكائنات إذ يطوف ملثمًا يخطف الأرواح في السر، والعلن.
وإذا كان لسان حالها في الماضي يسأل لماذا كان وجودنا خارجًا عن أي إرادة أو أي اختیار منا## فلماذا ندين الله إذن لأنه استرد شيئًا كنا نلقي عليه باللائمة لأنه أوجده دون علمنا##، وبمعزل عن رغباتنا، ولكن لازال موت أمها أقوى من أي أعذار.
لقد أخذت تفكر في هذا الموت، وكيف أرادها وحيدة كما كان حالها من قبل حينما لفظت بها إرادة الحياة دونما أب أوأم.
- استجمعت ميرفت قواها، وأخذت تجر قدميها يغمرها شعور بالإيمان، والحرمان معًا نحو الشيخ الذي كان جالسًا منزويًا تحت قبة المسجد وحده يقرأ القرآن بصوت خفيض، وما إن اقتربت منه حتى ذرفت دمعة أسى، ورغم حشود التساؤلات التي تتربص في صراع على طرف لسانها. إلا أنها تلعثمت من حرقه البكاء، وتعثر في جوفها الكلام، دهش الشيخ من بكائها، وخانته فراسته، وبصيرته؛ فتبادر لذهنه أنها أساءت لنفسها، وارتكبت معصية أو إثما كبيرًا، وأن صحوة الايمان جعلتها تأن من البكاء، وما مجيئها إلى المسجد إلا طلبًا للمغفرة أوالنصيحة.
، وإذ ذاك لمس الشيخ دموعها لمسة حائرة، وكأنه يجس حرارتها ثم تلا قوله تعالى " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله. "
- فابتدرته ميرفت، وهي تبتلع دموعها، ولكني لست أنا المسرفة على نفسي
-، وهنا تبادر إلى ذهن الشيخ أنها إنما ارتكبت الخطيئة رغما عنها فقال يخفف عنها هوني عليك يا ابنتي، واذكري أن الله يغفر الذنوب جميعًا.
- فهمت میرفت تصحح إليه ما التبس عليه فهمه، ولكني لم آت إلى هنا إلا طلبًا للسلوى لا طلبًا للمغفرة.
- ولا زالت بصيرة الشيخ تغرر به، وتخدعه ( فأردف يقول في اقتضاب )، والمغفرة ألا تغني عن السلوى.
- الإنسان يطلب المغفرة عن ذنوبه، وخطاياه لا عن مصائبه، وأكداره
- دهش الشيخ، ولم يفقه فاستفسر قائلًا، ولكن أليس الذنب هو الذي أتي بك إلى هنا؟
ألیست حرقة الندم، وسخط الضمير هما اللذان أوعزا إليك باللجوء إلى الله؟
- حرقة المصير، وليست حرقة الندم
- بدت هذه الإجابة للشيخ معقدة، ووعرة على الفهم فأردف يقول في دهشة أنا لا افهم ماذا تعنين بحق الله الذي أتيت بيته.
- إن مأساتي ليست مما يفهم، وهذا ما دفعني إليك
(، وإذا بالشيخ يقول، وهو يربت على كتفيها ) قصي عليّ مأساتك، وأنا إليك من المنصتين، هوني عليك، وضعي أحمالك على كاهل شيخك؛ فالمأساة إما أن تكون عقابًا، وأما أن تكون اختبارًا، والعقاب يكون للعصاة أما الاختبار فهو للأخيار المصطفين فإن صبروا على بلاء الله يوردهم صبرهم موارد جناته، وإذا بميرفت، وقد ذرفت دمعة ثائرة من وقع كلمة اختبار، وأنشأت تقـول كمن ظهرت براءته، ومادام الاختبار تتبعه الجنة، وما دام كل الذين يدخلون الجنة غير آثمین أو مذنبین إذن فأنا باختباري هذا أكون غير خاطئة.
- ليس هناك من لا يخطئ حتى هؤلاء الذين سيدخلون الجنة كانت لهم في الدنيا سيئات كثيرة، وأخطاء متعددة لم يتغافلها الله، ولكن رحمته وسعت كل شيء.
- (مستطردًا)## فالملائكة في السماء أخطأت باعتراضها على مشيئه الله، وحكمته في خلق الانسان، والشياطين أخطأت باغوائها لآدم، حتى آدم نفسه كان من المخطئين؛ وذلك بمعصيته الله رب العالمين، ورغم ذلك فكثير من أبنائه سيدخلون الجنة.##
-، واذا بميرفت، وقد غشيتها السكينة، وأردفت تقول في فرح افهم مـن ذلك أن خطيئة الأب لا تترك آثارها على الابن؟
-نعم بالطبع؛ فهي لا تخلف أي أثر أو أي صدى في نفس الابن الا إذا استهواه بريق الخطايا، وسلك طريقها.
- ولكن ماذا لو شجب خطايا والديه؟
- إذا شجب خطايا والديه؛ فسيثيبه الله بالمغفرة، والأجر الحسن في الآخرة، وقد يتركه في الدنيا يغالب ظروفًا قاسية؛ ليختبر فيه صدق الإرادة.
-، واذا بالشيخ يحدج في ميرفت سائلاً إياها، ولكني لم أعرف بعد الخطيئة التي تؤرقك، ولم ترتكبيها، خبريني ما الخطيئة التي اذا خلفها الأب لأبنائه كان لها مثل هذا الأثر السيء.
! - (، وهنا قالت ميرفت، وقد انتابها شعور بالغثيان ) العار
؟ - عار تركه لك والداك
-، واذا بدموع تتلألأ في زاويتي عينيها المحمرتين، وأنشدت تقول لا بل تركاني أنا له.
أخذ الشيخ يحدق فيها، وهو يستحلفها بحق نور السماء لتسلمي مأساتك لكلمات واضحة، واكشفي النقاب عن الأحزان التي تفريك، أعرف ان أسباب سخطك، وشكواك غاية في التعقيد؛ فالعار مما يجد الانسان عناء في البوح به، ولكن حدثيني عن طبيعته، وستجدين في أبًا ناصحًا تسترشدين برأيه، سأحمي سرك الى أن يرث الله ذنوب الخلق، وفضائلهم.
-، وإذا بميرفت تقص على الشيخ قصتها كاملة، وقد كشفت لأول مرة عن قصة تواجدها في الوسط الأرستقراطي الذي ترعرعت فيه؛ فقصت على الشيخ سيرتها بقلب خاشع، وجفن دامع، وشعور متقد، واذا بها تقول أنا ابنة غير شرعية ضريبة لواحدة من الحماقات التي يرتكبها البشر لصنم الرذيلة. وهنا سالت مذارف عينيها؛ فحجبت عنها صورة الشيخ، واستطردت تقول، وعيناها ممتلئتان بالدمع:
- يالضعة مولدی، یا لحقارة أصلي من أي دم کریه أتيت؟
-، واذا بالشيخ يربت على كتفيها، ثم جفف دموعها الثائرة بيد حكيمة، وهو يقول هوني عليك يا ابنتي هذا ليس عارك فلماذا تحاكمين نفسك، ومولدك بذنوب الآخرين بحق نور الإله إذا كان هذا هو ذنبك فلا ذنب لك ولا جناح عليك؛ فهذا لوالديك ذنب، ولك قدر؛ إنها حكمة الخالق في اختباره لمخلوقاته، ومعرفة أيه يتقصد الالم، وأيه ينصهر منه؛ فصلابتك شرف لا يمنحه الله إلا للذين اختارهم لجواره.
-، وهنا قالت ميرفت لشيخها على كاهلي إثم؛ فلا أصلح لجوار الله الأبدي.
- إن هذا الإثم خديعة؛ فخطايا آبائك بريئة من أن تكون لك إثمًا، قلت لك إنها إثم آبائك، ولكنها قدرك، والقدر غير إثم، وغير مذنب، ولكن من ذا الذي تولى تربيتك، وكبرك من ذا الذي رعاك، وعلمك؟
- أخذت ميرفت " تقص على الشيخ سيرتها في إيجاز، واقتضاب قائلة لازلت أذكر بداية مولدي؛ فهي تعصف دومًا بذهني كما لو كانت قطرات ماء تتساقط قطرة قطرة، لقد عايشت أيامًا، وسنينًا بالغة السوء، وجدت فيها نفسي نهبًا للتشرد، والضياع فبعد أن أنجبتنی أمي أوصت بي إلى سيدة كانت تخدم بدار المسنين؛ لتقوم على رعايتي، ولم تمض أسابيع حتى أودعتني هذه السيدة في ملجأ للأيتام، أمضيت هناك أول ثلاث سنوات بعد مولدي، ولكن حدث بعد ذلك بأيام قليلة أن عاودت هذه السيدة استردادي ثانیة؛ عملاً بوصایة امي لها، وما إن أخذتنى من الملجأ حتى تلقفتني منها مديرة دار المسنين فـي ذلك الوقت ماما فضيلة رحمة الله عليها، وقررت أن تتبناني كل هذا، وأنا عمري أربعة أعوام؛ فتولتني هذه السيدة الحنون برعايتها لي وحدبها علي منذ نعومة أظافري، وعاملتنى كما لو كانت أمي حتى إنني كنت أنسى بين يديها حقيقتي، وأصلي الذي يندى له الجبين حياءً، ولكن زوج هذه السيدة كان ولا يزال جاف الشعور، جاحد، مغرور أذاقني كل صنوف الذل، والهوان، حاسبني على حياة والداي كلها بطولها، وعرضها، وكأنهم أولادي، لقد كرس ساعات تواجده في البيت لإدانتي، وإحباطي، فإن التأمت جراحي قليلاُ فتحتها كلماته فلم تكن لي راحة من تباريحي سوى في قلب أمي، ليست لدي جرائم أدان بها غير کوني أحمل في رأسي شقوة والدين يستوجبان الرثاء، ليست لدي حماقات سوی أنني أحمل في رأسي بقايا ذكريات فريدة تركها لي الآباء، وما هي سوى أيام، وحتى وقع ما أدمی کیاني؛ ماتت الام التي طالما راعتني، وتركتني لأكابد الوحشة من دونها، ماتت الأم التي لم تحاسبني قط عن جريمة آبائي، بل كلما شرعت أحاسب نفسي تقدمت هي للدفاع عني؛ لقد فجعني موتها فمن سيرثى لمصائبي، ويخفف عني عبء الشكوى؟ من سيقدم عزاءه، ومرحمته الى قلبي؟ من سيصهر ألمي، ويذيب ضجري؟ لقد ذهبت إلى جوف الأبدية دون كلمة وداع، سرقها ملاك الموت، وهو يعرف أنها كل ثروتي، وميراثي، سرقها دون ان يعبأ بحسراتي، وأنيني من بعدها؛ ليبقى حالي أم غائبة، وأم متوفاة، أب مجهول، وآخر جهول "، وهي تحتد " هل تعقل كل هذه المآسي؟ لقد صار الألم معدني مذ ذهبت أمي الى جوف الأبدية، وصعدت روحها لتستقر في السماء، لكم فكرت في الانتحار لأطهر بالموت عقلي من مآسي الحياة، وكانت أمي هي التي تحول بيني، وبين هواجسي الجامحة أما الاآن فأراني أجد أنه ليس ثمة ما يحول بيني، وبين .....
- قاطعها الشيخ الذي كان ينصت إلى حديثها باهتمام شديد حتى إن الدموع اختنقت في عينيه لهول فجائعها، وإذا به يقول لا يا ملاك فلا تدعي للشياطين عليك كل هذا النفوذ، واعلمي أن الله ما قصد بقضائه هذا إذلالك أبدًا، فلم يقصد إهانتك أو إرغامك على تحقير ذاتك بل ليجعل من صمودك عبرة، ومن وجودك آية على عظمته.
. -، ولكنى أرى الألم، وقد اخترق قوتي، ونال من صلابتي.
- إن ما لا يقتل يقوي، وقوتك ليست مما يستزلها الحزن او يرعبها الغضب فصلابتك مستمدة من عدالة السماء أما أحزانك فتدين بوجودها لحماقات الأرض؛ فانصرفي عن التفكير في ماضي آبائك؛ فعناية السماء ليست مشغولة بالتحري لأن هؤلاء المذنبين غير جديرين بأن يوضع إلى جوار أسمائهم حرفًا من اسمك، والأفضل أن تبهت ذكراهم عنك الى الأبد، وأفضل لك ان تتضرعي الى الله؛ طلبًا للمغفرة، والسلوى بدلاً من حساب نفسك، ومسائلتها في أشياء لا تفيد، واذكري الله كثيرًا؛ فإن ذكره يحول ضجيج النفس إلى سكون، ويقذف بالرحمة قذفًا؛ فموت أمك ضرورة كموت كل حي، ربما نقح هذا الموت من أحزانك لكنه لم يكن هو أساسها؛ فأحزانك تنتمي لرذائل الأرض، وحماقات قد يغفرها الله إشفاقًا عليك، ومرضاة لك، وإذ ذاك ربت الشيخ بيديه الطاهرنين المتمرستين في تكميد الآلام على ظهر ميرفت، ثم أراح يديه على أعلى كتفيها وسارا بخطى وئيدة، وجرى حديثهما على النحو الآتي .
- قال الشيخ واعظا أرجو یا میرفت ألا تكون فداحة خطبك قد أودعت في القلب معصية الله، وتمردًا على طاعته، بل حري بهذه النوائل، والشدائد أن تزيد من إيمانك؛ فوجودك على هذه الصورة المشرفة برغم الخطايا التي تستعبد رأسك البريء مما يعزى إلى رحمة الله، وليس الى تدبير من تواضعك؛ لذلك فرجائي ألا تتحاملي على القدر حتى إذا سولت لك آلامك أنه عليك متحامل؛ فالله الذي حرم الظلم لا يقدم على ارتكابه، وما عليك إلا أن تتغاضي عن ماضيك، أو تتعاطفي مع الجرم الذي أوجدك، ولتسلمي حاضرك لتصرف الخالق، واحذرى أن تتكبري على طاعة الله حتى لو أصابك الويل من قضائه فلا بد، وأن نطيعه حتى، ونحن في الجحيم؛ فاحرصي على طاعة الله، وطاعة زوجك، وبري أباك رغم قسوته؛ اعترافًا بما أسداه لك من مال، ومأوى لعل موت زوجته يكون قد أصاب من نفسه مواضع الفتوة، والبطش؛ فيسلم قياده للمرونة، ولين الطبع، ولكن إذا ما قدر لهذا الأب أن يذيقك نغبات أخرى من معين ويله فما عليك إلا أن ترحلي، وزوجك بعيدًا عن عينيه، وسيلقى عقابه الذي يستحقه مـن الله إذا خان الامانة التي أودعتها زوجته عنقه.
وما إن أنهى الشيخ نصائحه لميرفت حتى قبلت يده، وغادرت المسجد، ثم ودعها الشيخ الذي قبل جبينها في حنان أبوي لم تجربه، وما إن انصرفت میرفت حتى رفع الشيخ بيديه الى السماء مبتهلاً بالدعاء بقوله " أيا الله، اشدد أزر أولاد الحرام، وبارك مصائبهم ".
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.