أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

شارك على مواقع التواصل

حضرَت ذات يوم إلى منزل الأم فضيلة ثلاث فتيات بينهن اثنتان صديقتا ليزا في المدرسة، وهنّ عفاف، وشيرين، أما الثالثة، وتدعى "صفاء" فهي تمت بصلة قرابة "لشيرين"، وهي طالبة بقسم الاجتماع بآداب الإسكندرية، وقد كانت ليزا على علاقة وثيقة بالفتيات الثلاثة. أما عن السبب في تواجد صفاء بالقاهرة رغـم دراستها بالإسكندرية هو أن أسرتها تقيم بالقاهرة، أما هي فتعيش بالإسكندرية بحكم دراستها هناك، وقد كانت في هذه الآونة في زيارة قصيرة إلى منزل الأسرة. بدت الفتيات الثلاثة، وقد علت سيماهن جميعًا إشراقة، وضياء؛ كن فتيات جميلات بكل ما تحمل لفظة الجمال من معنى، فوق كونهن ذوات ميول أدبية إلا أن مزاجهن غلب عليه التفاؤل على العكس من "ميرفت" التي حضرت تواجدهن، فحب الحياة كان قادرًا لأن يعفيهن من الهموم هذا فوق عدم وجود ذكريات مخزية تلوث ماضيهن، وهن من هذه الناحية لا يتساوَين مع ميرفت في النشأة، والميلاد.
لقد بدت ميرفت، وهي تجلس بينهن كأنها مكلفة بمهمة عظيمة؛ فقد كان رأسها يعـج بالأفكار المتداخلة التي شغلت عليها بالها.
ولم تكن لتتورط على الإطلاق، وتروي لهن شيئًا عن ميلادها أو حياتها التي ترعبها، وكذا شأنها مع كل من تعرف؛ فلم يكن ماضيها في عين الآخريـن رغـم ثرثرته، وتدفقه سوى كتاب مغلق، سر لا يعرفه إلا أسرتها فقط، وكانت هي آخر من يعرفه؛ فهذا السر ضُمِّنَ في كتاب مغلق، وموثوق بأختام لا يقرؤه أحد.
أما نزوع ميرفت للعزلة، وإيثارها للكتاب على الصديقات كان أمرًا واضحًا للعيان فلم تستطع إنكاره، كما لم يتسن لأحد إغفاله، إن فتاة نزاعة للوحدة، والاستقلال
لا تتحدث إلا عن الكون، والفساد، والوجود، والعدم، ومشكلة الحب، والميلاد، والروابط الزوجية المقدسة، وجدوى الأصدقاء في عالم أناني يجب أن تصبح حياتها موضع اعتبار من الجميع.
كانت میرفت في هذه الآونة في المرحلة الثانوية، وقد شرعت في كتابة قصة، ونجحت في وضع الخطوط العريضة لمضمون هذه القصة، وقد أضناها البحث عن اسم لقصتها هذه، وانتهت الى وضع اسم لها هو "الأم اللقيطة" رغم ما أحدثه لها هذا الاسم من ضيق، ونفور، وظلت متكتمة على هذا العنوان فلم تستفت فيه أحدًا.
كانت هذه القصة ثمرة لرحلة الصيف التي أمضتها ميرفت في أحضان الطبيعة التي شرعت تميط اللثام عن أعبق عبير لها اختزنته من الشتاء في صدرها فأبقته مكنونًا حتى رحلة الصيف.
وعلى الرغم من هذا فإن الجانب الإبداعي في القصة قد أملاه عليها الماضي بأمانته المملة؛ فإلى الماضي وحده تعزو القصة، وليس إلى الريف فميرفت المأخوذة بأسئلة شاردة، وعميقة تبحث في يأس عن مخرج من ميلادها، وهذا ما جسدتـه في قصتها، وقد هداها إعمال العقل، وطول الفكر إلى مخرج ألا وهو الزواج؛ فربما يكون الزواج تعزية عن هذا القدر الكئيب؛ إذن سأقدم نفسي قربانًا للزواج افتداءً لجرم والدي "متسائلة"، ولكن هل ينسيني الزواج حقيقة نفسي، وتاريخ مولدي؟، وما لبثت أن تحدثت بصوت فخور وهادئ كبنود معفرة في التراب.
نعم فالزواج سيكون مخرجا لى من حقيقة نفسي فلن أكون لقيطة، وأنا أم "ثم قالت، وهي تبتهج" ذلك لأنني سأصبح مسئولة عن عائلة، سأصبح أمًا شرعية لأبناء يعرفونني تمام المعرفة (وقد انخرطت في البكاء) أم شرعية سأكون أمًا أم لقيطة شرعية؟ أمًا لأبناء يعرفونني أمًا، ابنة لا تعرف آباءها؟ إن التوتر الذي تعاني ميرفت مرارته هو ما جسدته في قصتها، ولم تستفت فيه أحدًا إن شعورها بالذنب كافٍ لإهلاكها دونما عون من سلاح، ووجودها يجعل مزاياها نادرة جدًا مهما بلغت، فالعار الذي يكلل جبينها قادر على إسكات النبض فيها سكوتًا مبرمًا، ولكن استنادها للعقل، والمنطق، وخشيتها من العذاب الذي يتربص باليائسين من الرحمة جعلاها تتحلى بالصبر على هذا القدر.
جلست الفتيات يتبادلن أطراف الأحاديث الودية، تطرقت صفاء التي تكبرهن جميعًا إلى الحديث عن طبيب الأسنان الذي أساء فهم ألمها، وشكواها؛ فقد كانت صفـاء تعاني من قبل من ألم في عصب ضرسها، وبادر الطبيب بإعطائها مسكنات عديمة الجدوى، وما لبث هذا الطبيب، وصرح بضرورة إجراء جراحة في عصب الضرس " متسائلة في تهكم "، ولكن ماذا كانت حيلتي وقتذاك إلا أن أكشف عن عصب الضرس لأمر العلم "متندرة" "ومتوجهة بالحديث إلى ميرفت"
-إنها همجية الطب أليس كذلك؟
وهنا قالت ميرفت التي كانت تجلس في ركن بعيد:
- إن ما يفعله الأطباء أصبح منافيًا للعلم؛ فليست هذه هي سنة العالم أو رسالته، ما الذي يبرر للعلم أن يتسلط فوق إرادتنا، بل وحياتنا، بهذه الحرية؛ إن إجراء عملية جراحية ما كان ليكون بكل هذه السرعة، بل ينبغي إجراؤها في حالة اليأس من كافة الحلول البديلة، وعلى كل فأنا لا أتفق، والأطباء في كل ما يفعلون؛ ففي اعتقادي أنهم يذهبون للشفاء مــن طرق ضيقة جدًا رغم أن الشفاء كما نعلم جميعًا يأتي لا محالة.
وهنا علقت ليزا على هذا الكلام قائلة:
- ولكنه الطب يا ميرفت، وأنت تدرين ما معناه؛ إنه العلم الذي تعشقينه، وتحيين من أجله، فالأدب، والفن، والشعر إلخ تخدم العقل السليم، أما الطب فيخدم العقل، والروح؛ فالطب إذن له شرف السـبق على كثير من العلوم الأخرى.
وهنا هبت ميرفت قائلة:
- ولكن الأدب، والفن، والموسيقى يا ليزا لا تستخدم المعوجات، والأنابيب، ومواقد الكحول؛ فأنا أشعر بالقشعريرة تنتابنى إذا أنا تجولت على مقربة من مشرحة، ولكن لا ينتابني شيء من هذا الشعور حينما أدخل نادي القصة أو المكتبة أو حتى المسرح.
عندئذ همت شيرين بالمشاركة في النقاش:
- ولكن لا تنسي إن كثيرًا من الأدباء كانوا أطباء، والعكس فهناك بالطبع أطباء كانوا فلاسفة على قدر علمي "فبرتولت بریخت" كان طبيبًا قبل أن يؤلـف للمسرح، وأيضًا كان سومرست طبيبًا، وكذلك الشاعر إبراهيم ناجي، وإبقراط، وهو أبو الطب في كل العصور كان فيلسوفًا، ولا أظن أن التباين موجود بين الأدب، والطب.
انتاب میرفت شعور بالدوار، والملل فأرادت أن تغير مجرى النقاش إلا أنها لم تستطع:
- لندع صديقاتي كل هذا الجدال، فكيف حال ضروسك الآن يا صفاء أليست بخير؟
- نعم لازال فيها خير، ولكني أشعر بأنها كان من الممكن أن تصير أفضل لو لم يجرِ الطبيب عليها عمليته.
وإذا بميرفت، وقد طاف عقلها شاردًا مجنحًا:
- إذن كان كل من "موليير" و"برنارد شو" محقين في ثورتهما الانقلابية على الأطباء في زمنيهما، وفي كل العصور.
- وهنا قالت صفاء لميرفت:
ولكن من أين أتتك كل هذه الثقافة؟
في اقتضاب:
- من الكتب.
- لقد حدثتني ليزا كثيرًا عن ولعك بالأدب، وشغفك بالثقافات.
- الأدب تسرية عن الذهن القلق، ووسيلة للاستجمام، والتعزية معًا ... فأنا ألتمس الراحة لنفسي في طوافي على المعارف.
- عندئذ شاركت عفاف في المناقشة، وقد عادت بالنقاش إلى أدراجه الأولى "موجهة سؤالها إلى ميرفت" معذرة إن الفضول يدفعني لمعرفة ما إذا كان تحاملك السابق على الأطباء وراؤه تجربة شخصية؟
عندئذ أمسكت ميرفت بأهداب الذكريات المترسبة في ذهنها، وأخذت تتذكر أول مرة ذهبت فيها للطبيب النفسي؛ حينما كاشفها عدلي بحقيقتها المخزية، تلك الحقيقة التي أسلمت رأسها للخوف، والهلع، وقد كانت في حالة تستوجب الرثاء، والحزن الشديدين فلم يكن بمقدورها وقتذاك أن تميز ما إذا كانت يقظة أم نائمة، حية أم ميتة، لقد كانت تتشكك فيما إذا كان ما عليها من لحم جسدها أم لا، وفي غمرة هذه الهواجس المستبدة
اقترب الطبيب، وهو أستاذ الطب النفسي، وإخصائي جراحة المخ، والأعصاب، وسألها:
-ما الذي يؤلمك يا ابنتي؟
وهي ترزح تحت وطأة الإعياء:
-إنه الماضي.
قالتها، ولم تزد عليها، كانت هذه الكلمة من الوضوح بحيث لا تقبل إضافة.
وهنا ابتدرها الطبيب بسؤال ينم عن ضيق أفق، وسوء فهم شديدين:
-وأين يسبب لك الألم؟ أنا أعني ما الذي يؤلمك في جسدك في أعضائك الملموسة لي.
-"فكررتها في ثقة " إنه الماضي هو الذي يؤلمني في جسدي لأن جسدي ثمرته.
ولم يفهم أي من كلماتها، ولم يحاول وقد اختنق، وارتفع صوته قليلاً:
-وهل ما تسمينه ماضي هو عضو موجود بين أعضائك؟، وإذا كان كذلك فأين موقعه؟ هل تعرفين أم آتي لك برسم يوضـح تركيب الجسم البشري لتشيري إلى ما يؤلمك؟!
- لا لا حاجة بنا إلى رسومات أو خرائط؛ فالماضي يقع هنا في ذاكرتي، وهنا تنفس الطبيب الصعداء، وهو يقول إذن فأنتِ تشعرين بألم في الرأس، ولم كل هذا الغموض، ولغة المجاز هذه التي لا يفهمها أمثالنا لقد كان حريًا بك أن تقولي إنني أشعر بألم في رأسي، وحسبك أن تقولي في مثل هذه الحالات إن ما يؤلمك هو الماضي فكل ما في الذهن ماضٍ.
متألمة، وقد شاب كلماتها الحزن:
-يا دكتور لا أحس بألم في رأسـي بقـدر ما أشعر بفداحة الماضي ...
وهنا استشاط الدكتور غضبًا:
-وماذا تريديني أن أفعل، هل أجري جراحة لماضيك أأستئصله إذن لنبتر الماضي، (مستطردًا في ضيق) لا لا أريد لغة الرموز، لا أريد الأمراض العلوية هذه، وأخيرًا كتب لها الطبيب أدوية هي " تريلافون "، و" موتيفال "، و" باركينول " أوقفت لديها حرية الوعي، وأخرست الماضي، والتاريخ كله في ذهنها، وأبقتها في شبه غيبوبة، وكان أحرى بالطبيب النفسي أن يعايش حالتها، ويتفهم معاناتها، وإلا فما الاستبطان، وما جدواه؟
فرغت میرفت من استرجاعها لهذه الذكرى المؤلمة.
وهنا هبت صفاء في دهشة، وفضول يا لها من ذكرى صعبة، ولكن ما الذي كان يزعجك من الماضي كل هذا الانزعاج؟
- مايزعجني هو أننى وجدت نفسي فيه!
- ولكننا جميعًا وجدنا أنفسنا في الماضي!
- لا يا صفاء أنت لم توجدي في الماضي كيف وجدتِ في الماضي إذن، وأنت لا تعرفينه، وهل أنت موافقة على الماضي؟
- بالطبع موافقة يا ميرفت
وإذا بميرفت، وقد بدت آسفة متحسرة:
-ولكنني أتمنى لو استاصلت المـاضي من ذاكرة التاريخ، والزمن، سأثأر من الماضي بضربات أعمق من أن تمحى؛ فأنا لا أحب الماضي، فهو زمن مطبوع بكآبة الحنين.
فللماضي في ذكراي ظلال عتية كشجرة الصفصاف تشوه البستان.
لقد بدت كلماتها غامضة؛ لأنها لم تشأ أن تكاشف أيًا من الأصدقاء بحقيقتها، لقد كان جل طموحي أن أوجد في المستقبل.
-وهناك قالت صفاء بتلقائية شديدة:
هذا مطلب يسير فلك أن تكوني في المستقبل، وتتجاوزينه.
- لا إن من وجد في الماضي أولاً لن يوجد في المستقبل، ألم يكن المستقبل على هذا النحو هدية من الماضي.
ثم صمتت قليلاً، وأردفت تقول:
- إنني أرتاب من هدايا الأعداء يا صفاء، (وسرعان ما أخذتها الثورة) ولماذا وجدت في الماضي أولاً؟ وكان من اللائق أن أوجد في المستقبل أولاً ثم أصنع ماضي بنفسي، أما أن أجده مصنوعًا، بدون علمي، وعلى طريقة لا أقرها، ولا أحترمها فهذا عمل يدفع إلى السأم، إن العذاب الذي يفترسني كلما حلت برأسي فكرة مولدي، والذي أستحقه يفوق في قسوته نسر برومیثیه.
كادت كلمات میرفت المنفعلة أن تنفجر مفصحة عن المعنى الذي أبت كشـفه، ولطالما أبهمته. ورغم أن النقاش قد بدا للفتيات أنه نقاش رمزي يدور حول حقيقة مجهولة. إلا أن انفعال ميرفت، وتوترها كاد يحطم ستر الكلمات، لولا ليزا، التي فطنت في سرعة، ودهاء إلى ما قد يؤول إليه الحديث من عاقبة وخيمة لن تحمدها ميرفت لو تورطت فيها، فأرادت بدورها أن تغير مجرى الحوار، وأن تنقل الحديث إلى مرمى آخر فقالت، وقد اصطبغ وجهها بالاحمرار قسرًا عنها من شدة قلقها:
- ولكن لماذا تضنین یا میرفت على ضيوفنا الكرام بمطالعة قصتك التي تفوح بعبق الإبداع. إن صفاء تتمنى لو ترى ثمرة محاولاتك مع القلم.
وعندئذ نهضت ميرفت من جلستها، وذهبت إلى غرفتها لتأتى لصفاء بما كتبته (مشيرة إلى صفاء، وهي تحمل معها ما كتبته):
-هذه قصة قصيرة أسميتها "حورية من الجحيم"، أما هذه فهي الأفكار الرئيسية في بناء الرواية التي لم أنته من كتابتها، وقد وضعت لها عنوانا هو (الأم اللقيطة).
وإذا بصفاء، وقد انزوت في أحد أركان المنزل لتطالع ما كتبته میرفت، وما لبثت أن طلبت من ميرفت السماح لها بأخذ القصص إلى بيتها لتقرأها هناك بإمعان، وتدبر، وكان لها ما أرادت. ثم قالت لميرفت:
-سوف أغادر القـاهرة خلال خمسة أيام عائدة إلى الإسكندرية لاستئناف دروسي فهل لديك ما يمنعك من قبول دعوتي بقضاء أسبوع في صحبتي بالإسكندرية؟!
لقد عرضت فكرة الرحلة على كل من "ليزا"، و"صفاء"، "وعفاف" اللاتي أبدين الموافقة إلا أن ميرفت واجهت هذه الدعوة بالإرتياب.، واعتبرتها تواطؤ من الصديقات للحيلولة بينها، وبين وحدتها، وقد رأت ميرفت أن توجه تهمة التورط لكل من يحول بينها، وبين وحدتها ولكل من يحول بينها، وبين الكتاب.
صفاء "في مرح":
-إذن فلتأخذي معك مكتبتك إذا شئت.
وهنا شاركت عفاف في الحوار قائلة:
- أنا سأتحمل تكاليف النقل إذا وافقت.
عندئذ استكملت صفاء حديثها:
-ولكن حسبك أن تحرمينا مـن تواجدك بيننا؛ فالإنسان يفتخر بالفلاسفة إذا تعذرت عليه مهمة الاستفادة منهم.
میرفت:
-ليس ثمة ما يمنعني مشاركتكم رحلتكم التي قصدتم بها إسعادي، والحقيقة أنه لا ينتابني ثمة شك من أنني سأكون ملأى بالحبور، والاستجمام.
- حبور. !، وأي حبور "قالتها صفاء" ستكون متعتك أعظم من ملك كسرى، وسيقدر لرحلتك هذه أن تكون أكثر ذيوعًا من رحلات ماجلان، وابن بطوطة، وماركو بولو؛ فستبقى رحلتك هذه في ذمة التاريخ. تستلهمين منها القصص حيث تشائين.
-إذن هيا لنستأذن ماما.


كانت الأم قريبة تستمع إلى الحديث فـي أدب دون أن يبصرها أحد. فقالت على الفور:
- إن كل ما يسعدك لن يفعل بقلب أمك إلا السعادة، اذهبي يا ميرفت، وألقي بالحزن وراءك، واعلمي أنه إذا كان نصيبك اليوم من السعادة هزيلاً فإن نصيبك من الشقاء لن يتفاقم. هيا اذهبي يا ميرفت مع أخواتك إلى كعبة الإسكندر.
اغتبطت ميرفت لموافقة أمها. بعد أن وهنت أعصابها، وبعد أن قاست من العناء، والفزع الشيء الكثير، لقد نجحت الأم بهذه الموافقة أن تنتزع منها صيحة فرح. ثم قبلت أمها قبلة حارة، وقوية. التفتت إلى صديقاتها سائلة، وقد غلبتها البهجة:
- إذن فلتحدثنني عن برنامج الرحلة.، وماذا سنفعل؟
- سنركب الفلوكة، والبنسوار.
قالتها صفاء
-وسنلعب الشطرنج
قالتها شرين
وقالت عفاف:
-وسنصطاد الأسماك
-وسنقرأ الروايات.
قالتها ميرفت، وكأنها تحذر تحذيرًا ساخرًا
-نعم بالطبع، وهذا ما نتمناه
-إذن هيا جميعًا لنرتمي في حضن عروس البحر.
وما إن حل موعد السفر حتى ظهرت آثار الغبطة، والفرح عن الفتيات جميعًا كان البشر يملؤهن، وكأنهن في طريقهن إلى أرض جبريل، وفى الساحل الشمالي جلست صفاء تحاور ميرفت في أمر قصتها القصيرة " حورية من الجحيم "، وقصة " الأم اللقيطة "
- لقد قرأت قصتك باهتمام شديد، وإعمال عقل، والحقيقة أننى امتلأت شغفًا باطلاعي على عالمك الأدبي. ذلك العالم الجديد الذي لم أحظ بمصادفته في الواقع. كنت أتشوق لمعرفة هذه العوالم التي لا ترى بالعين المجردة، بل بالتجربة إن كتاباتك جيدة، وفلسفتك فيها واضحة. فما لا شك فيه أنه لا يقدر على كتابة قصة كهذه (مشيرة إلى الأم اللقيطة) إلا فيلسوفة، أو لقيطة، أو كلاهما معًا، ولكن حدثيني إذن من أين أتتك هذه الأفكار، وأنت سليلة الأرستقراطية، وابنة المحتد العريق.
- (في تململ) بل من أين أتاني هذا الواقع؟
- ماذا تقولين!
- أقول إنها ليست أفكارًا، ليست أفكار يا صفاء. بل هي حقائق، وكل الأفكار حقائق، وما ليس بحقيقة ليس بفكر.
- على أية حال فالعالم الذي تطرقت إليه عالم جد مثير، وقد بدت براعتك في التعبير المذهل عنه، لقد عرضت قصتك القصيرة على أبي الذي أعجب بها أيما إعجاب، وقرر نشرها فماذا ترين؟،
وهنا انفرجت أسارير ميرفت، وطغى على ملامحها جلال يفوق جلال البشر، واستحالت قسماتها إلى نوع من الضحكة القوية.
وأردفت تحاور صفاء:
-أحقًا ما تقولين؟
- نعم بالطبع.
- يا إلهي. الآن، والآن فقط أستطيع أن أقطع من غير ادعاء بأنه ليس على الأرض كائن أسعد حالاً مني "، وقد تركت جلستها، ونهضت واقفـة " فأنـا أسعد المخلوقات؛ لقد آن لي الآوان أن أتخلص من المجهول الذي يعرفني تمام المعرفة، ويداعبني بشؤمه، سوف لا أكون مجهولة بالنسبة للآخرين کوالداي بالنسبة لي سيعرفني الناس، وسأصبح في أشهر معدودات علامة مضيئة، ونقطة بارزة سیستحیل شخصي نارًا على علم، وسيأتي إلي المعجبون بأسلوبي، وأفكاري من كل صوب، لن يرتبط مصيري بعد الآن بمن استحبوا لذواتهم الركود، والانحطاط، وسأحاكي النجوم فالطموح وحده هو الذي لا تؤثر فيه جاذبية الأرض؛ فهو يعشش في السماء. لذا لا بد، وأن أتربع حيث لا تجرؤ الطيور على التحليق.
سأصبح أديبة مشهورة، وسيشار علي بالإبهام، وسيخلدني الناس، والتاريخ "

ثم قالت في لهجة شابها الغيظ:
-" لا بل أنا التي سأخلد التاريخ.
وما إن انقضت رحلة الإسكندرية التي مرت على عجل، والتي أمضتها "لیزا"، و"عفاف"، و"شيرين" في الاستجمام، ولعب الشطرنج، والراكت بينما صفاء، وميرفت فكانتا أكثر رشدًا أمضتاها في مناقشات متواترة، منها الحديث عن قصة ميرفت، وملابساتها إلا أن صفاء لم تنجح في الوصول إلى أي من الملابسات الحقيقية لهذه القصة، وذلك بفعل تكتم ميرفت فيما يتعلق بأسرارها، وبحكم إيمان صفاء بأن ميرفت لا يمكن أن تكون إلا صاحبة محتد أصيل لكونها ابنة الأرستقراطية، وما إن عادت ميرفت، وليزا إلى القاهرة حتى كاشفت ميرفت أمها فيما وعدت به صفاء من أنها ستحقق لقصتها فرصة النشر، وإذا بالأم، وقد بدت عليها علامات الذعر.
ثم قالت:
-أهي القصة التي تحكين فيها لحظات المعاناة من طفولتك؟
- نعم يا أمي بكل تأكيد.
- ماذا تقولين؟! أنا لا أوافقك على تقديم هذه القصة للنشر. أنت تعرفين أنني لم أكن موافقة على تدوين ذكريات من حياتك بهذا التفصيل الدقيـق لا یا میرفت. ليكن تعاملك مع ماضيك على أنه خواطر باهتة ليس إلا، ولا يجب أن يعاقب الإنسان نفسه بماضيه في كل لحظة، ولا يجب أن تتاجري بماضيك يا میرفت؛ فتاريخ الإنسان لا يخضع للعرض، والطلب فكم تمنيت أن أخفى سرك حتى عن نفسي!، وكم طلبت مني أن أتعامل معك كأم أم فقط هذا على الرغم من أنني لم أبدِ لك في أي من الأوقات عكس ذلك، ولم أضمر لك غير الأمومة.
أنت لحمي، ودمي يا ميرفت.، وأعز عندي ألف مرة من أطراف جسدي؛ لذا فلا أريد وضع ماضيك بين يدي العامة، والخاصة.
ما الذي حولك؟ الآن تريدين عرض سيرتك على الملأ. بكل فخر ولا أدرى لهذا التبدل سببًا إلا إذا كانت هذه هي حيلة مدبرة منك لإخفاء سرك بين صفحات الصحف، إن أسرارك غير مباحة للنشر، وحياتك ملك لك، وليست ملكًا للآخرين، ونشر قصة بهذا التصوير. ستثير فضول العامة لمعرفة المزيد عنك، وإذ بك، وقد، وجدت أسرارك في كل عقل، وماضيك، وقد فاحت رائحته في كل أنف. لا یا میرفت لا ترفعي الستار عما خفي من أسرارك.
كانت هذه هي أكثر المرات التي توجه فيها الأم تقريعًا حادًا لميرفت، وكلمات جمعت بين العنف، والتوسل فلم تكن ثورة الأم ناتجة عن إنهيار العواطف أو خمولها. تجاه ميرفت. لا بل إن حرص الأم على ابنتها، ومعرفتها بسريرة نفسها النزاعة للشك، والتأنيب. هم اللذان دفعا بها لإبداء مثل هذا التحفظ الذي أدهش الفتاه في البدء، ولم تلبث ميرفت، وأن استجابت لرغبه أمها في وداعة صامتة، وتأدب ملحوظ:
-هذه وسيلة لترويج نفسي للصحف، ولقراء يهتمون بسقطات الكاتب، وسأكون في نظرهم أنا البطلة وراء كل الأسماء لأن الماضي بيننا واحد، وليس مستعارًا مثل أسمائهم، لقد أودعت نفسي هذه القصة، ونفسي ملك لي، وليست ملكًا للآخرين.
وسرعان ما تذكرت كلمات أمها. لقد دفعها الحرص على ابنتها لأن تؤجل شهرتها؛ ذلك أنها ترى أن الشهرة على هذا النحو هي تشهير.
وقد أخذت الأم تواسي ميرفت قائلة:
-أنت ابنتي يا ميرفت.، وأنت تعرفين ذلك جيدًا، ويعلم الله أنني لا أفضل ليزا عليك في أي شيء فأنتما ابنتاي، وأعتقد أن عاطفتي لم تخني في هذا العدل، إلا أنه لو كانت هذه القصة قد كتبتها ليزا لم أكن لأقف بينها، وبين نشرها. كوقفتي لك الآن، وأظنك تعرفين لماذا؟

ولم تلبث الأم أن أشارت على زوجها فيما ارتضته لماضيها من أن يصبح في متناول كل يد، وذلك بتطلعها لنشر قصتها التي أوجزت فيها ذلك الماضي المريب، ولم يبد الأب شيئا من الاكتراث إلا أن إيماءاته كانت تعبر عن موافقته لما ارتضته ميرفت، وأردف قائلاً:
- إن ميرفت أدرى بماضيها منا، وأعتقد أن لهذا الماضي صلاحية مفتوحة لأن ينشر مرة، واثنين، وثلاث..
- (وإذا بالأم، وقد عنفته قائلة) ماذا تقول؟ أنت تدري جيدًا أو لعلك لا تدري أن ميرفت مرهفة إلى حد كبير، وحساسة بصورة تفوق المعقول، وهي، وإن شعرت أن أسرارها، وسر مولدها قد أصبحا عرضة في كل يد، وفكرة في كل ذهن. ستأخذها الغيرة على الماضي الذي تمقته، وستحاول جاهدة أن تجنبه فضول القراء.، وهي لا محالة ستفشل. مما يدفعها لإخفاء نفسها، وبدنها عن هذا الماضي الذي بدا حضوره قائمًا في كل ذهن.
وهنا ابتسم الرجل ابتسامة انشرح لها صدره فابتدرته الأم بقولها:
-أنا أعرف أن غضبها أو حتى موتها ليس مما يخيفك، فلم تكن لها أبًا رحيمًا في أي وقت مضى، لا يا عدلي إنك لست الليلة حصيفُا ولا كيسًا.
دع حصافتك تدلني هل من العدل، والكياسة. أن تعاقب شخصًا على خطأ ارتكبه غيره؟

في إيماءة متعالية تنم عن عزة النبيل التي بلغت عنفوانها، مجسدًا شـهامة القضية الخاسرة:
-كلهم متورطون في هذا الذنب. دعي أمرها، واتركيها تبحث عن شركاء جريمتها فلتنفضي إحساسك بها فأنا لا أوافق أن تنتشر الذريات الخسيسة في حضرة أصحاب البيوتات كانتشار السرطان أو الطاعون.
ألم تقدري مبلغ الإهانة التي تطحنني؟! ألم تقدري مبلغ الشعور بالذنب الذي يعتصرني لإيوائي ابنة حرام في محتدي العريق، إن أولاد الحرام قساة قلوب مهما بدوا غير ذلك. أمهم زنت فيهم، الشر يلذ لهم أيما لذة، إن اللقطاء أناس سقطوا على أشواك الحياة؛ لذا فلا بد لهم من أن ينزفوا لا بد لها، وأن ترحل کي تنقذ برحيلها کرامتها من ثورة أصلي.
- قسمًا برب الوجود إن الكلمات المذعورة لتتراجع، وتأبى أن تقوم لتعبر عن مثل هذا الأمر الخطير، أواه، لشد ما تنقصك العينان اللذان تقرأ بهما دخيلة نفسها. لماذا تخوض في إتعاس، وتشريد نفس لم تكن في أي وقت براء من الألم؟ (منفعلة) إذا كانت السماء قد احتملت مجموعات لا تحصى من اللقطاء المعذبين المنكودين أفلا نستطيع نحن احتمال بقاء واحدة بيننا. هي أكثر فضلاً، ونبلاً من كل الفتيات الشرعيات ذوات المحتد العريق. أنفض إحساسي بها؟ مـن ذا الذي نصبك رقيبًا على مشاعري، أيها الجائر، هل لي أن أقيم حسـابًا لغضبك على أمومتي.
لقد تكفل ذكاء الأم بإحباط سعي الرجل، وإخراس مكائده، وأخذت الأم تشهد تدابيره الضالة، وهي تخفق، وما إن تركت زوجها حتى وقفت تهمس لنفسها. إن مرفت تعيش في إهانة مستمرة. هذه الإهانة هي وجودها الذي تكاد تزدريه. فما ذنب القراء أن تحملهم هذا الوزر معها إذا كنت بالفعل حريصة على ابنتي فلا بد، وأن أوقف هذا الطموح المغامر الذي غشيته البراءة عن سوء العاقبة، سامحيني يا محبوبتي هذه هي المرة الأولى التي أتعمد فيها إهدار طموحك أو مسه بأذى، ولا شك أن مس طموح كهذا بسوء هو عين الإحسان إليه.
لم تكن ميرفت موجودة لتستمع إلى الحوار الساخن الذي دار بين الأم، وزوجها، وكان من المنتظر لو استمعت إلى صفاقة عدلي، وقسوته أن تبدد حياتها التي تكاد تزدريها، أما عدلي فرأى أن يستفيد من عدم تواجد زوجته، وأن يتودد لها من أجل إنجاح مؤامرته عليها بوضعها على حافة الانهيار النفسي، كان عليه أن يستغل رغبة میرفت في نشر قصتها كحيلة للتقرب منها، وخطب ودها، إلا أنه خاب سعيه، ولم يكسب من ورائها إلا كراهيتها، لقد تحدث إليها مدللاً، وإنه لمما یدهش حقًا هو كيف استطاع أن يخفي شكيمته بهذه البراعة، وأين ذهب عبوسه الشديد الذي يفيض حقدًا، ويبز غيطًا فلم يعد فيه شيء من عصبيته التي ما كان ليجيد الحديث مع ميرفت بدونها، وإذا به يقول بلهجة ناعمة:
-لقد عرفت من "ماما" أنك كتبت قصة قصيرة، وهي حسب ظني بها عمل درامي متفـوق. ورغـم امتناني من جهودك الأدبية. إلا أنني لا أكذبك يأخذني الغضب منك؛ لأنك أهملت أبوتي لك، ولم تشركيني، ولو بالرأي في أي من أنشطتك الكتابية، على الأقل كان من الممكن أن أحقق مطمعك، وصفوة حلمك في طبع قصتك، ونشرها على نفقتي، وهنا تذكرت ميرفت لتوها قحته، وصفاقته القديمة معها، وكلماته الصارخة، وعباراته التي تخلو من وقار، وأدب، تذكرت إهاناته الوحشية، ورغبته أن يخرجها من التعليم تذكرت قوله لها.
" التعليم هو حجة الكسالى ليوغلوا في الكسل، وهو في اعتقادي التبرير الوحيد لإهمال المسؤولية أو الهروب منها "
عندئذ بادرها الرجل محاولاً أن يزيحها عن شرودها:
-فيما تفكرين يا ميرفت؟ ماذا أصابك يا ابنتي؟! ولماذا لم تنفرج أساريرك كما كنت متوقعًا؟! لماذا لم يرتسم الابتسام على وجهك من عرض كان من الممكن أن تقاتلي من أجله.
- ولكني لا أريد نشر قصتي يا أبي، وأشكرك على هذا العرض؛ لقد اعتدت ألا أرفض لك تحقيق مطلب، ولكن من حقي أن أرفض تحقيق أي من مطالبي إذا كان في تحقيق هذا المطلب معصية، وتعاسة.
- معصية لمن، وتعاسة لمن؟
- معصيه لأمي، وتعاسه لي، وأعتقد أن من دلائل صدق العاطفة. ألا تخلف وراءها منغصات، وألا تخوض في إتعاس نفس ليست براءً من الألم.
لقد عرفت الآن
- ما الذي عرفتِه إذن؟
- إن من يريد إشعال نار ضارية يضع جذوتها في القش الضعيف.
عندئذ تخلص الرجل من أقنعة هدوئه المزيفة، وعادت حدته أشد من ذي قبل، ودوى صوته دويًا أجهد حنجرته:
-ماذا تعنين أيتها اللقيطة؟! يا حثالة البهائمية، وابنة الغجر.
أخذت میرفت تكظم غضبها في صلابة متناهية من إهانة تستحق محق الجنس البشرى بأكمله، لقد بدا لونها مثل بركان تثيره قوى الرياح الحبيسة، كـانت الجراح الغائرة من أثر الرعود تغضن وجهها، وكان الهم يقبع فوق خديها اللذين بديا ذابلين، ولكنها ظلت منتصبة الهامة فلم يحنها إسفاف الرجل، أرأيت إلى نيران السماء حين تحرق أشجار البلوط في الغابات، وأشجار الصنوبر على الجبال فتظل قامتها المهيبة رغم عريها، وشيب رؤسها منتصبة على الربا الجرداء.


قالت ميرفت للرجل، وهي تنتفض غضبًا:
-لتمعن في تجاوزك إنه ليطيب لي الاستماع إلى السباب ينصب على رؤوس آبائي، وأجدادي لأنه الشيء الوحيد الذي يربطني بهم.
ثم رفعت عنقها إلى السماء، وأردفت تقول:
-أي أبوايّ هذه النار التي تأكلني من الخارج، والداخل هل تكفي ثأرًا على رغباتكم الحمقاء.
ثم عادوت النظر إلى الرجل تسأله:
-لماذا تصر على التفكير فيّ بلغة الماضي. لماذا تتحدث عنى كما لو أننى أعيش هناك في الماضي؟!
- وإذا بالرجل يقول في عجرفة أنت تتشدقين بماضيك، وكأنه وسام فخر خلعه عليك أبواك، اسمعي أنا لا أعرف الماضي أكثر منك؛ لأنني لم أجربه، ولو لم يكن هناك فتيات قد أتين إلى الوجود على طريقتك ما كنا نسمع عن شيء يدعى بالماضي، فإلى أمثالكن يعزى تقسيم الزمن إلى ماضي، وحاضر، ومستقبل، ثم ردد قول الشاعر نعيب زماننا، والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا، والحق أن هذه الكلمات الممعنة في التجريح، والفظاظة بلغت من فاعلية الحقد حدًا جعلها قادرة على إقصاء أفضل الشمائل في الوجود.
ثم واصل بذاءته: هل تسعين لتوريط عاطفتي البريئة في مكائد هي من صنع شيطانك الأحمق الغرير؟ ما أقساك كيف طاوعتك الجرأة على رميي بالسعي وراء إتعاسك؟، وهل في نشر قصة لكاتب وسيلة لتوريطه، وإتعاسه؟، والا فما معنى إذن أن يؤلف أديب قصة في مطالعتها من القراء إبراح لآلامه؟ أجيبي أهل أخوض بشهامتي هذه في منغصات لك؟، واستمر يكيل لها التقريع حتى عادت الأم، وسمعت السباب ينصب على رأس ميرفت، وإذا بالرجل يسارع بالتغطية على إساءته؛ تفاديًا لغضب زوجته فقال يحدثها: اسمعي أي الإهانات ترشقني بها في غير شفاعة، وأي التهم ترميني بها من دون معصية، ثم حول دفة الحديث إلى ميرفت كان هـذا جزاء تعليمي لك؛ أن تتجرئي على من منحوك أصلهم، ومنبتهم، ثم توجه بكلامه إلى الأم وددت لو ضربتها؛ لألقنها درسًا في أدب السلوك، إلا أن شيئًا من هذا لم يخل على الأم، وشعرت لتوها بعمق الإهانات التي تلقتها ميرفت من هذا الرجل .
- فقالت تواسي ميرفت خففي عنك يا ابنتي. أنا أم، وكل أم يرفع الله عنها الحجب قليلاً، وإلا فما معنى أن يضع الجنة تحت أقدامها؟
"وإذا بميرفت، وقد انخرطت في موجة بكاء عنيف" سمعت ما يقوله:
-إنه ينسب إلى نفسه فضل الإشفاق علي، وإنقاذي فعندما لا يذبحني يعتقد أنه يصفح عني، وعندما يتوقف عن إدانتي فإنه يبرئ ساحتي.
ثم أخذها الغضب، ومضت تقول:
- عندما يتوقف دقائق عن التشهير بحقيقتي يعتقد في قرارته بأنه حامي حمى أسراري، والآن يتمنى لو يحرقني في ندمي بعرضه على نشر قصتي.
وهنا قالت الأم لميرفت:
-لقد سمعت الحديث كاملاً.
ثم وجهت حديثها لزوجها
-أخالك لم ترد شيئًا من وراء عرضك المغرض أكثر مما اتهمتك به ميرفت.
ثم رمته بنظرة احتقار، وأردفت توبخه:
-أيها العفن الصدئ وا أسفى إذ أرى هذه الفتاة الطاهرة لا تسلم من سلاطتك. لا تظن أن عظم حفيظتها الممتلئة حتى فوهتها ستجعلها تعلن على الملأ ألمها العظيم. إن إهاناتك المخجلة، وأوهامك الحاقدة التي لا جدوى منها لا يمكنها إشاعة الاضطراب في العقول السوية ألم تقنع بقسوة أقدارها؟ لماذا تضيف كراهيتك إلى عذابها.
وهنا تحدثت ميرفت فقالت لأمها:
- آه إن الألم ليخنقني، ويكاد يزهق أنفاسي يا أمي، إنه لم يذكرني بأخس مما يتحدث به عن قمامة حثالى الأيرلنديين.
لقد ضاقت ميرفت بتلك الأنياب السامة. أنياب الحقد التي تعض في قلبها الشريف؛ فسوء معاملة هذا الرجل لها كفيلة بإقصاء أفضل الشمائل في الوجود، وإذا بها ترسل زفرات هائلة، وأخذت تختنق غضبًا من إهانة تستحق محق الجنس البشري.
وإذا بالأم تخفف عن ميرفت:
-حنانيك ابنتي أو يتحكم فيك الألم إلى هذا الحد لا تفزعي. فأنت بذلك تخدمينه لو تركت نفسك نهبًا للقلق.
ثم وجهت بصرها نحو الرجل:
- أهكذا غدت ابنتي موضع سخرية، وازدراء لتقلبك، وكيدك أيها الشيطان، إن الطبيعة لا محالة سوف تغير سنتها، وتعذبك أنت أيها الوغد.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.