الفصل التاسع
خلال نفس العامين وما بين دمشق وحلب عاش بيبرس وسط خضم العديد من الأحداث فالجميع يقودهم طمع الحكم.
ابتليت الأمة بملوك وأمراء لا يفكرون سوى فى عروشهم و نسوا الصليبيين والتتار بل و لم يكن لديهم مانعا أن يتعاونوا معهم في سبيل بقائهم بالسلطة ضد بنى عمومتهم ودينهم.
فالناصر يوسف يرى أن المماليك ما هم إلا مغتصبون لعرش آبائه الأيوبيين في مصر إذ كان حفيدا مباشرا للناصر صلاح الدين الأيوبي وكم حاول فى السابق محاربتهم إلا أنه مني بهزيمة من أقطاي .
لكن مع وصول بيبرس إلى الشام , تشجع الناصر بالخروج بجيشه مرة أخرى تحت قيادة بيبرس محاربا السلطان أيبك بغزة.
تحقق لجيش دمشق النصر أول الأمر لكن مع تدخل من الخليفة العباسي تم عقد هدنة لشهرين بين الطرفين للتباحث.
تمكن قطز خلالها من التواصل ببعض أمراء المماليك الذين كانوا فى السابق يحكمون بعض أقاليم الشام و صعيد مصر وانضموا إلى جيش الناصر رافضين حكم السلطان أيبك
وبسرية تامة استقطب قطز غالبيتهم بعروض سخية ما بين عفو سلطاني وأموالا و اقطاعيات جديده لهم بمصر أو بالشام مع احتفاظهم بكل ممتلكاتهم و مخصصاتهم التي اهداهم بها الناصر يوسف
انتهت الهدنة دون التوصل الى مصالحة واستأنف القتال مرة أخرى ,فجأة وأثناء هجوم جيش الناصر وبخطه مدبرة متفق عليها...
انسحب المماليك الذين اشتراهم قطز بجنودهم تاركين جيش الناصر مكشوفا....منضمين إلى جيش أيبك فانقلبت كفة المعركة و حاصر قطز جيش الناصر الذى أسرع يطلب التفاوض معه.
فما كان من أبيك إلا أن أرسل إليه بشرطين أولهما الانسحاب من غزة وثانيهما تسليمه بيبرس و كل الهاربين, تظاهر الناصر يوسف مبدئيا بالموافقة على الشرطين ليكسب بعضا من الوقت إذ كان قد أرسل باستغاثة جديدة الى الخليفة كي يتدخل مرة أخرى .
ما إن علم بيبرس بهذه الموافقة ودون أن يعود إلى الناصر كي يستوضح منه وخوفا من تسليمه إلى أيبك حتي أسرع بالفرار مع صاحبيه الى ملك الكرك – المغيث عمرو –ابن عم الناصر يوسف المعروف بعدائه له.
وعلي الفور , أرسل الخليفة العباسى وزيره ابن العلقمي لفض الصراع بين الطرفين واتفقا أن يحتفظ الناصر بغزة و آلا يرد المماليك إلى أيبك على ألا يعاود الهجوم علي مصر مرة أخري مع الاعتراف بحكم أيبك عليها ويوقف حربه معه.
الكرك
أحسن المغيث عمرو استقبال بيبرس وأغدق عليه بالأموال ثم قام بتجهيز جيشا له لمهاجمة حدود مصر لكن منى هذا الجيش بالهزيمة.
وأثناء عودة بيبرس بجيشه المهزوم إلى الكرك رأى أن يغير على غزة رغبة منه بالعودة بأي مكسب.
لكن ما أن علم الناصر يوسف بذلك حتى أمر بتجهيز جيش جديد يغزو به قلعه الكرك ذاتها... معقل المغيث عمرو نفسه وإسقاط حكمه عنها وطرده منها .
تملك الخوف من المغيث حين علم بزحف الناصر إلى الكرك ,فأرسل للصليبيين يتفق معهم على حرب الناصر مع وعدا بإعطائهم قلعة جديده من قلاع الناصر.
فتشاجر معه بيبرس متهما إياه بخيانة بنى وطنه ودينه وبيع أرض العرب وحينما لم يجدى مع المغيث نصحا, أرسل بيبرس الى الناصر يوسف يتأسف له و يسترضيه موضحا له أسباب كل ما فعله فسامحه الناصر وأعاده مرة أخرى إلى كنفه وزيادة في ترضيته عينه واليا على فلسطين , فاتخذ بيبرس من نابلس عاصمة له.
من قلعة ألموت خرجت فرقة الفرسان متجهة إلى عتليت محمله بكل احتياجاتها بقيادة قاسم و ما أن وصلوا إلى المدينة قبل آذان المغرب حتى توجهوا إلى بيت أحد أتباعهم بالمدينة ليكمنوا به حتى يحين موعد التنفيذ والمحدد بمنتصف الليل .
كان على صقر الانطلاق مبكرا عن زملائه كى يلحق بموعد الهجوم على القلعة فما أن وصل إلى الشاطئ حتى أبحر متجها الى هدفه بالقلعة ....الجانب الذى به غرفتي الملك .و وزيره فأستقل قاربا صغيرا كان تابعهم قد أعده له .
لساعه كامله ظل صقر يجدف حتى وصل الى الصخور المحيطة بالقلعة حيث ربط قاربه بإحداها وحرص على إخفائه بحيث لا يراه حرس المراقبة أعلى أسوار القلعة , ثم جذب حقيبة الأدوات التى أعدها لمهمته وقفز سابحا فى البحر بها .
قبل منتصف الليل , توجه قاسم ورجاله الخمس مرتدين ملابس عسكر صليبيين ومقدمين أنفسهم لنقاط تفتيش القلعة بأنهم فرقة قادمة من قلعة انطاكيه حاملين رسالة مهمة إلى الوزير.
وتولي أكثر الفرسان إتقانا للغة الفرنسية و المتنكر في هيئه ضابط الفرقة مسئولية التعامل مع نقاط التفتيش. نجحت الخطة وتمكن قاسم وفرقته من اختراق النقاط الأمنية برباطة جأش وإقدام حتي وصلوا إلى باب القلعة طالبين الإذن بمقابلة الوزير لتسليمه الرسالة.
سمح لهم أمن القلعة بالدخول جميعا الى قاعة الاستقبال ثم طلبوا من ضابط الفرقة فقط مصاحبتهم لمقابلة الوزير بمكتبه الملحق بغرفة نومه أعلى القلعة الذي طالب بضرورة صعود نائبه( قاسم) معه لحمله تفصيله مهمة سيكمل بها رسالته, وافق الأمن بعد أن تسلموا منهما سيفيهما وصعد الأثنين يحيط بهما أربعة من الجنود.
على الجهة الأخرى كان صقر قد وصل الى هدفه, ثم بدأ فى فرد حبلا مخصصا للتسلق مليئا بالعقد مربوطا بطرفه خطافا حديديا وبعد معاينه هدفه بحثا عن مكان مناسب يقذفه إليه ...
فوجد ضالته فى مزرابين كبيري الحجم بارزين يقعان على هذا الجانب فوق بعضهما مخصصان لصرف المياه خارج القلعة ...العلوي منهما يقع أسفل السور بمترين تقريبا مما سيؤمن لصقر البعد عن أعين حراس السور أما غرفتي الملك والوزير فكانتا تقعان في المسافة التي تفصل بين المزرابين.
ربط صقر خطاف الحبل بسهم ثم جذب قوسه بقوة مطلقا اياه الى المزراب فوصل إليه من الرمية الأولى و التف الحبل حول هدفه، ثم بدأ بالتسلق بعد تأكده من ثبات الحبل معتمدا على لياقته البدنية وليونته واستخدام نتوءات الصخور التي بنيت بها القلعة.
ما إن وصل صقر إلى المزراب الأول حتى قام بإدخال قدمه اليمنى داخله و مرتكزا بقدمه اليسرى على نتوء صخري قريب ثم مد ذراعه اليسرى ليمسك بنتوء آخر ثم بدأ فى قذف الحبل مستخدما يده اليمنى مستهدفا المزراب العلوى ...و بعد محاولتين فاشلتين تمكن من تثبيت الحبل به وتسلقه حتى بلغ إفريز نافذة إحدى الغرفتين فارتكز بقدميه عليه وممسكا بالحبل جيدا ثم توقف ليلتقط أنفاسه .
بهدؤ , مد صقر رأسه رويدا رويدا لينظر داخل الغرفة مستطلعا من بداخلها وألجمته المفاجأة مما يراه.
داخل القلعة وأمام غرفة الوزير، بدأ قائد حراس القلعة في طرق باب الغرفة طالبا الإذن بالدخول و بجواره الرسولين لكن حين لم يتلقى ردا، انتابه القلق فزاد من قوة طرقاته متحسبا أن يكون الوزير نائما وأشار قاسم لزميله بالهدوء أثناء انتظارهما لفتح الباب .
وحينما طال عدم رد الوزير على طرقات قائد الحرس وطبقا لإجراءات الأمن المتبعة فى مثل تلك الحالات...أخرج ضابط الأمن سلسلة تحوى كل مفاتيح أبواب القلعة ثم دنا من الباب واضعا المفتاح الخاص بغرفة الوزير.
ضابط الأمن : سيدى الوزير ..عذرا فأنا أجدني مضطرا لفتح الباب إن لم تفتحه لنا خلال عشر ثوان .
أخرج الضابط وزملائه سيوفهم وهم يرجعون الرسولين الى الخلف اللذان لم يضيعا الفرصة فانحني كل واحدا منهما بهدؤ و أخرجا خنجرين من باطن نعليهما وأخفياهما خلف ظهريهما و تأهبا للحظة الانقضاض .
ما إن فتح ضابط الأمن باب الغرفة حتى هجم قاسم و زميله عليه وعلى زملائه ذابحين اياهم فى أقل من ثانيتين دون أن يطرف لهما رمشا ثم سحبا سيفين من قتلاهم و اقتحما غرفة الوزير .
فكان بانتظارهما صدمة لم يستوعباها الا بعد نصف دقيقه من البحث والتفتيش داخل الغرفة التى كانت فارغة ...فالوزير لم يكن بها.
هتف المتنكر بهيئة ضابط: قاسم ..ماذا سنفعل ؟ الغرفة فارغة
قاسم متلفتا حوله ( مشيرا الى النافذة ) :أنظر ...النافذة مغلقة ...صقر لم يحضر(ثم مشيرا الى أرضية الغرفة)لا دماء على الأرض...الوزير لم يقتل ومازال حيا , كما أن سريره مرتب ولم يمس ...معنى هذا أنه لم يبت بغرفته
المتنكر: إذن قد يكون بأي مكان بالقلعة ...ماذا سنفعل؟
قاسم : لن نبحث عنه بالقلعة فهذا معناه هلاكنا وزملائنا الآن يقومون بتأمين نزولنا بالأسفل
المتنكر: إذا ؟؟
قاسم :سنعدل الخطة...سنقتل الملك
المتنكر: لكن أوامر الأمير كانت ...
قاسم مقاطعا : هذا أفضل من لا شئ ...وستكون أقوى رسالة ...هلم الى الغرفة الاخرى
أسرع الرجلين حتى وصلا الى باب غرفة الملك التي تبعد عشرة أمتار تقريبا عن غرفه الوزير...إذا ببابها مواربا.
فاقتحمها قاسم ينهشه القلق والشك بأن يكون الملك خارج غرفته هو الأخر فلا يصح أن يكون باب غرفته مواربا هكذا.
ما أن ولج قاسم الغرفة إذا بمفاجأة جديدة لكنها كانت أشد وطأة عليه من الأولى… فبداخل غرفة نوم الملك .. كان كلا من الوزير بول والملك بوهيموند مقيدين ...وراقدين على الأرض أمام سرير الملك والذي كان يجلس عليه آخر شخص توقعه قاسم وزميله أنه صقر...نعم صقر... يجلس مبتسما فوق السرير...
ما أن رآه قاسم حتى ارتد للخلف وكاد أن يفقد توازنه لولا أن سنده زميله من ظهره .
صقر مبتسما : تأخرت يا قاسم ...
قاسم بكل حنق: أيها الشيطان
صقر مبتسما : هلم و تقدم لتنهى ما طلبه أميرنا ...فهاك الإثنان أمامك ( مشيرا الى الوزير وملكه )وهكذا تصل الرسالة إلى الملك عيانا بيانا أم أنا (و هب واقفا متوجها الى النافذة التى دخل منها حيث رأى من خلالها الوزير والملك مجتمعان ) سأعود من حيث أتيت.
عاد الجميع بعد إنهاء مهمتهم الى قلعتهم واستقبلهم ركن الدين والمعلم الأكبر بفرحة النصر و جلسوا معهم ليستمعا من قاسم وصقر تفاصيل ما حدث وما أن إنتهيا
ركن الدين لصقر : لما لم تقتل الوزير وتحوز بالمهمة ؟
صقر : نحن جماعه واحده ..ليس مهما من ينال لقب المهمة...المهم تنفيذها ونجاحها وحضور الملك لقتل وزيره أظن أن وقعه كان عليه أشد
ركن الدين :ولما لم تعد مع زملائك ؟
صقر : لقد رتبوا خطتهم على العودة بدوني .. مثلما خططت لنفسي فأردت أن لا يحدث اضطرابا بيننا.
أمعن ركن الدين النظر إليه أكثر ثم أمر الجميع بالخروج عدا قاسم
ركن الدين : ما الذي فهمته مما فعله صقر معك
قاسم :أظن أنه أراد أن يحوز رضائي
ابتسم ركن الدين :تمام...يمكن الانصراف ( بعد خروج قاسم ) أتعلم ...لقد أيقنت اليوم أن صقر أحق منه فعلا بالقيادة
المعلم متلجلجا: ولما يا سيدى ...لقد نفذ قاسم كل أوامرك
ركن الدين بغضب: لكنه غبي ...عدم قتل صقر للوزير ليس كما يظن هذا الغبي لمراضاته .. والحقيقة هي عدم اقتناع صقر بمبدأ القتل والاغتيال...قلبه نقى وعقله لا يكل من التفكير والتدبر ...لقد دربنا الجميع علي أن يكونوا أسلحة بين ايدينا بلا عقل بلا ايمان ...لكن شيخ الخان ربى لنا فارسا بطريقة تفكيره وبقلبه النقي سيصبح عما قريب خنجرا قويا قد ينهى جماعتنا يوما ما.
المعلم : وماذا تقترح يا سيدى ؟
ركن الدين : قريبا سأجد له مهمة فإما أن يكون معنا أو( ثم صمت) تكون الأخيرة بالنسبة له