قضت "بتول" ليلة مؤرقة تستجدي النوم العميق لعلها تنسي ذكري حبها الوليد الذي تم وأده بعد ميلاده وقبل أن يكبر بداخل روحها قبل قلبها ؛ فهي أنثي تحب بأخلاص أن أحبت وتجربة "نزار" كانت أولي تجاربها مع الحب ولم تكن تجربة هينة بل صادمة ولا تدري متي يلتئم جرح صدمتها منه ؛ وكم كان والدها حنونا عليها فأخذ يدللها دون أن يعرف ما بها فلقد أستشعر قلب الأبوة بداخله أنها تعيش معاناة فوق أحتمالها لذا لجأت لحضنه وهو منذ صغرها يحترم رغباتها خصوصا عدم أفصاحها عن ما يحدث معها أو ما يخص مشاعرها ؛ لذا كان يستعين بدعائه في سجوده إلي الله علي فك ما بها من كرب ؛ وبينما والدها متوجه لعمله بالسفارة المصرية والتي تقع في طريق جرانج بالعاصمة سنغافورة فمنزله المخصص لأقامته بمدينة كوينزتاون" ”Queens TOWN”والتي تبعد عن العاصمة بمقدار ١٣.٣ كم أي تبعد بمسافة قيادة ١٩ دقيقة للوصول إلي مقر عمله ؛ حيث تتميز تلك المدينة من أقدم الأحياء في سنغافورة، لذا فهي تتصدر الوجهات السياحية المهمة فيها، وذلك نظراً للتاريخ العريق الذي تزخر به هذه المدينة والثقافة الغنية التي تنعكس على جميع شوارعها وأزقتها والتي تبعث حياة جديدة في محيطها.
وأصرت "بتول" أن تعد وجبة الغذاء لوالدها فهو يشتهي تناول الطعام من يديها ؛ وبينما هي منهمكة في الطبخ ؛ وجدت الخادم يبلغها أن هناك ضيف بالخارج فأندهشت لذلك فأي ضيف من المؤكد قادم لمقابلة والدها وهو بالعمل ؛ وشكرته وأعطت له التعليمات في متابعة الطعام فهي كادت تنتهي منه وضحكت لرؤيتها الخادم وقد تلصص علي أواني الطعام ليستنشق رائحة الطعام وتوقفت لتري ردة فعله فلقد أستحسن الرائحة للغاية وأسرع لتناول مقدار ضئيل لتظهر علي ملامحه مظاهر الفرحة والتلذذ بالطعم فضحكت وأطمأنت بأن كمية الطعام وفيرة تكفي ضيف والدها وأيضا الخادم وحدثت نفسها:" يارب ميقضيش عليه ما دام عجبه" .
وتوجهت للصالون الأنيق بالمنزل لتجد رجل لا تري ملامحه فهو يحمل باقة ورود لم تري حجمها الكبير هذا من قبل وحاولت تستوضح ملامحه لذا رحبت بالضيف بالأنجيلزية وهي اللغة الأم بسنغافورة:" مرحبا أهلا وسهلا والدي غادر لمقر عمله " ليكشف الضيف المتخفي وجهه وهو يضحك :" ده أنا وحشتيني أوي " وقفزت فعليا "بتول" ينتابها فرحة طفلة جزلة من كثرة ما أثرت الفرحة قلبها وغمرتها لتسرع مهللة " " ماجد" أنت جيت أزاي أنت مجنون بجد " فرد قائلا : " ما أنتي السبب ؟" فردت متعجبة :" أنا؟!!" فأجاب :" آه .. جننتيني بيكي يا شقية أنتي من أول يوم شوفتك فيه وأنتي آثار بلل المطر مغرقك ومبهدل هدومك حتي لو وقتها صلحتيه .. وضحك بس عارفة كنتي ولازالتي أجمل ما رأت عيني .. هاه حتخليني واقف كتير كده بوكيه الورد تقل علي ايدي أنا خلصت الورد كله اللي في سنغافورة وحتبات من غير ورد.. بس الورد للورد ..اتفضلي يارب تعجبك " فصفقت فرحة :" ده أجمل بوكيه شوفته في حياتي بس عرفت أزاي أني بحب الورد البلدي الأحمر ... أممم أنت طلعت خطير ومش يستهون بيك أنت " ونادت علي الخادم ليحضر كل المزهريات بالمنزل لتضع الورود بها وكم أسعده ردة فعلها لرؤيته وفرحتها به وبباقة الورود وأستشعر بأن قراره بالمجيء فور معرفته بقدومها لسنغافورة؛ رحبت به وقدمت له عصير الأناناس المنعش الذي أحبه لأنه من يديها ؛ ولاحظت شرارة لفرحة تغمر عيونه البنية بأهدابه المكحلة ربانيا فلقد حباه الله الوسامة الرجولية الشرقية المحببة للنفس ؛ وأستغرقا في حديث مرح جعلها تحمد الله علي زيارته لها فتلك الزيارة جاءت بالوقت المناسب لتهون عليها الكثير وأعلمته بأن من حسن حظه بأنه سيتناول الغذاء من صنع يديها ؛ ليمسك ببطنه متألما بأداء تمثيلي :" يعني نبلغ السلطات وطواريء المستشفي " فضحكا سويا بعد أن حلت تكشيرة علي وجهها وتجعد بشفتيها عندما تغضب ولكنها سرعان ما أنفجرت في الضحك معه وعندما توقفا عن الضحك سويا كما بدأه رددت:" أنت بجد نعمة كبيرة من ربنا ليا وجيت في الوقت المناسب .. مش عارفة أشكرك أزاي بجد" فأحتضن يديها بيديه قائلا:" يااه يا "تولا" أنتي لسه متعرفيش أنتي أد أيه اللي نعمة كبيرة أوي ليا وأحساسي أن ربنا راضي عني بيكي آه يا "تولا" لو تعرفي أنا .." وقطع جملته حضور والدها مرحبا به فهو فوجيء بضيف مع ابنته لم يراه من قبل وبعد التعارف فيما بينهما رحب به والدها الذي يتميز بالبشاشة واللطف وشعر بالأرتياح الغريب عند التحدث مع "ماجد" بعد أستأذان "بتول" للأشراف علي تحضير مائدة الطعام ؛ وتناولوا الطعام وسط أستحسان والدها و "ماجد" لطهيها الطعام بنفسها والذي كان عبارة عن دجاج وملوخية وأرز والسلطة الخضروات ذات التتبيلة المميزة حتي الخادم شكرها علي وجبة الغذاء والتي أصرت أن تسكب له الطعام بعد تحضيره للمائدة ليتناولها هو أيضا ؛ وتجاذبوا أطراف حديث مرح ليسأله والدها عن مقر أقامته ليجيبه :" أنا حجزت في فندق بارك رويال في سنغافورة .. أستأذن أنا وأتشرفت بمعرفة حضرتك سيادة السفير " وألح والدها بأن يقوم السائق بتوصيله فأعتذر شاكرا بأنه قد أستأجر سيارة وشكره علي لفتته الكريمة وعند وداعه له حتي باب السيارة ووقوف "بتول" مودعة علي مدخل المنزل ؛ همس "ماجد" بحديث خفي لوالدها قبل رحيله وحاولت "بتول" بماذا همس له ولم يجب وظلت منشغلة بهذا الحديث الخفي.
وفي اليوم التالي فوجئت "بتول" بعدم أتصال "ماجد" بها وأخذت تتساءل هل هو منشغل هل سافر دون أعلامها وهل وهل ... وهل ..كثيرة متعاقبة ؛ وكانت شاردة لدرجة لم تلاحظ قدوم والدها الذي ظل يناديها دون جدوي لتنتبه عليه لتتأسف علي شرودها الغير مقصود وتناولوا وجبة الغذاء و"بتول" لازالت في شرودها ليقطع والدها مخملية الصمت بينهما متسائلا عن ما ألم بها لتجيب بأندفاع:"أصل " ماجد" متصلش بيا وده غريب مكنش بيفوت يوم من غير ما يكلمني أو يطمن عليا ؛ ياتري صدر مني حاجة زعلته؟!!" كانت تتساءل وكأنها تحدث نفسها ولكن بصوت خرج إليه دون أنتباه منها أو أرادة ليصمت الأب وهو ينظر إليها نظرة حانية ؛ وعندما أنتهيا من تناول طعامهما أصطحبها والدها في جولة ليرفه عنها ثم ذهبا لأحدي المقاهي لتناول الآيس الكريم المفضل لها ؛ ليبدأ حديثه :" أنتي أيه رأيك في " ماجد" ؟!!!" فأستغربت لهذا السؤال:" بمعني؟!!" فرد قائلا :" لانه دخل قلبي كده وأرتحت له من أول ما شوفته وده بقي نادر الواحد يقابل حد كده " فأسترسلت :" ااااه يدخل قلبك فعلا وشخصية لطيفة ومخلص جدا جدا ومشوفتش في أخلاقه وتهذيبه أبدا " وظلت تتراقص نظرة فرحة وهي تحكي عنه فقال :" عارفة يا "تولا" تخيلي لما ناداكي تولا عجبني اوي أحنا كنا بندلعك توتا او لولا لكن تولا اسم حلو اوي صح؟ عارفة أحيانا ربنا بيقابلنا بناس تجمعنا بيهم صدفة ويبقوا أقرب لينا من قرايبنا ومن اللي من دمنا ؛ كان نفسي والدتك تشوفك وانتي بقيت جميلة اوي وناجحة وتفرح بيكي زي ما انا فرحان وفخور بيكي " فقالت بحزن:" ياريت الله يرحمها " فقال والدها :" تولا ماجد طلب أيدك للجواز أنتي أيه رايك حبيبتي " فحدقت به محملقة وعيونها متسعة من المفاجاة :" طلبني أنا؟!! طيب أمتي وأزاي ؟!! ايه ده وأزاي ميقوليش ولا يعرفني ياربي منك يا "ماجد" يالله منك " ليتساءل والدها:" أنتي أيه اللي مضايقك العرض للجواز من "ماجد" ولا مضايقك انه مقالش ليكي الأول ولا أيه بالظبط اللي مضايقك منه ؟!!" لتجيب :" حتصدقني يا بابا أني مش عارفة أيه اللي ضايقني منكرش أن ماجد راجل بمعني الكلمة وكذا موقف هو فرحني كتير وأهتمامه بيا كان كبير وعظيم ومش بيسيبني الا ما يطمن عليا ؛ فالمفاجأة أنه معرفنيش وكأنه بيحطني قدام الأمر الواقع مجنني بجد " ليقاطعها والدها :" بتحبيه ؟" فأسرعت قائلة :" لا .. أقصد هو يتحب ولطيف بس مش لدرجة أقول بحبه لان مافيش حاجة أسمها حب دي خرافة ابتدعوها علشان يشغلوا الناس بروايات وافلام وقصص وأغاني ويكسبوا من وراها " ضحك وقال:" زي مامتك تمام في أندفاعها عارفة أنك بتفكريني بيها وكل ما بتكبري بتبقي شبهها اوي ؛ أزاي يا قلب بابا مافيش حب وانه خرافة أومال الحب اللي حبيته لوالدتك وخلانا نعيش في سعادة لحد لحظة ما أختارها ربنا لجواره أيه كان حب وحب كبير كمان وقبل ما تعترضي زي القطة الغضبانة كده وتبين مخالبها ؛ عاوز أعرفك حاجة حبيبتي تحطيها مبدأ في حياتك من أبوكي اللي بيعشقك ومن راجل وشمته الدنيا بوشم الحكمة من كتر التجارب اللي مرت عليا سواء مواقف وتجارب شخصية أو لأصحابي أو قرايبي ؛ أنتي بنتي الوحيدة ونور عيوني وأكيد يوم ما اوافق علي راجل يستاهلك مش حيبقي بالساهل علشان كده بأنصحك"ماجد" ده أول ما شوفته حسيته راجل أوي وأحترمته أكتر أن أتبع الأصول ودق بابي وطلبك للجواز راجل لراجل ملفش من ورايا واتكلم معاكي بحجة انه عصري ومودرن بس هو لا متشبث بالأصول واللي عنده أصل حبيبتي ده اللي ميتقالش بالمال وكمان نصيحتي ليكي في الجواز سواء فكرتي توافقي علي " ماجد" أو غيره ودي حريتك الشخصية طبعا لأن دي حياتك اللي حتعشيها بس كأبوكي بأنصحك خدي الراجل اللي بمعني الكلمة ويكون بيحبك مش اللي أنتي بتحبيه لأن حتلاقي منه حب كبير وتقدير ليكي فوق الوصف ودايما حيعمل المستحيل علشان يكسب حبك وراضاكي عليه أما اللي يضمن قلبك حيعذبك ويعتبرك كارت مضمون لييه ويحس أنه مهما غاب أنتي مكرسة حياتك لييه وبيه فكري حبيبتي بهدوء وحكمة هو كمان قالي انا لحد ما "تولا" تفكر مش حتصل بيها علشان مضغطش عليها وتاخد قرارها اللي ححترمه مهما كان " وغادرا المكان بعد جولة بالسيارة ليتنسموا بنسيم الليل المفعم برائحة الأزهار .