كانت تتوالى أيامي بسرعةٍ كالبرق .لكن ساعتي لأمرها عجيب فهي لم تكمل حتى الأن بضع ساعاتٍ منذ وصولي وكأن الزمان هنا له توقيتٌ خاص! وأنا شاردة بهذا التفكير أتطلع بساعتي وأقطع الخضار لتجهيز العشاء جرحت يدي في سكين المطبخ فأخذت تنزف بغزارة وكانت بجانبي لأجل الصدفة السيدة التي رأيتها في منزلي أول مرة وكان اسمها (سوزي آولاه )...أو الخالة سوزي كما يسميها الجميع هنا, وكانت على ما يبدوا الصديقة المقربة مني ! أو من تلك الشخصية التي انتقلت إلى هذه الحقبة لأمثلها!
-آوه عزيزتي إن حالتك خطرة انتظري قليلاً سأستدعي السيدة جوليا "...وغابت لمدةٍ من الزمن حتى رجعت برفقة امرأة ما علمت أن اسمها (جوليا فازيكاس) ...و هي قابلة وخبيرة بأمور النساء على حد قولها والأهم من هذا أنها كانت الصديقة المقربة للخالة سوزي, كانت فازيكاس أرملةً في منتصف العمر تقريباً، متشحة بالسواد من رأسها حتى أخمص قدميها تشعرك بالرعب للوهلة الأولى! ...كان وجهها جامدٌ ذات تقاسيم غليظة لا تنم نظراتها عن أي عاطفة أو روح فنظراتها حادة ثابتة تعطي شعورًا بالقوة والشجاعة، عملها كقابلةٍ لم يقتصر على التوليد فقط بل كانت أشبه بطبيبةٍ نسائية في هذه القرية الصغيرة وتضمنت خدماتها إجهاض النساء وهو عمل ازدهر في الحرب لكثرة النسوة الراغبات في التخلص من الأجنة الناتجة عن علاقتهن الغرامية خارج إطار الزواج في تلك الفترة ...
يبدو أني عرفت هدفي ....قلت لنفسي وأنا أتفحص تفاصيل هذه السيدة المهيبة السوداوية وعادت كلمات اللعبة تدق ناقوس ذاكرتي(( ابحثي عن كل ما له علاقةٌ بالسحر والشعوذة, ستعرفين الساحرة من لباسها, نظراتها ولربما لهن كاريزما خاصة تبث الرهبة في النفوس))
تفرست في هذه المعالم المهيبة وهي تقوم بتضميد جراحي بمهارةٍ فائقة فتطلعت بي نظراتٍ مبهمةً قبل أن تنتهي وتستأذن للرحيل
*********
وفي الصباح كنت قد قررت زيارتها لألقي نظرة على منزلها وأحاول إيجاد تلك الصفحات فالوقت قد طال و أنا حتى الآن لم أمسك بطرف الخيط ..طرقت بابها أحمل سلة من الحلويات كنت قد خبزتها في المنزل قبل أن أخرج ، فاستقبلتني بترحاب و تصنعت ابتسامة وأنا أقول :
-مرحبا سيدة جوليا أنا ميري ..كنت أود أن أتشكرك لمساعدتي البارحة .
-أهلا ميري تفضلي بالدخول .
أفسحت لي المجال وأشارت بيدها كامرأةٍ أرستقراطية تدعوني للدخول ثم مشت بخيلاءٍ أمامي وتبعتها حتى جلسنا على الأريكة وما تزال تلك السيدة تتسربل بالسواد حتى في منزلها ! كان منزلها بسيطاً كباقي منازل أهل هذه القرية الفقيرة لكنه يحوي مكتبة جميلة .
- تحبين قراءة الكتب سيدة جوليا !
قلتها وأنا أتجه إلى المكتبة مبتسمة وبطأت بإلقاء نظرةٍ على محتواها والتي كانت تحوي مواضيع عن الطب والإسعافات والجراحة وبضع كتب متنوعةٍ عن الأعشاب والعقاقير ونحو ذلك
-نعم عزيزتي ...إني أطور مهاراتي الطبية كما تعلمين أنا شبه طبيبةٍ في هذه القرية الصغيرة وعلي أن اقرأ وأتعلم لأستطيع معالجة النسوة في هذه البلدة .
أومأت لها بتفهمٍ لتزكي أنفي رائحة البخور الغريبة التي تتصاعد في منزلها ! حسناً بخور في منزلٍ مجري ! لا شيء عقلانيٌ البتة يجري معي حتى اللحظة لأقف عند هذه النقطة بالتحديد ولو خرج لي الآن من غرفتها عرافٌ يضرب رجلاً على مؤخرته لإخراج الجن منه فلن أستغرب الأمر أبداً "
وبدأت الأحاديث بيننا تنمو وتكبر وعملي في مجال الصحافة جعلني أستدرجها بالحديث لكن إما أن تكون تلك السيدة ماكرةً جداً أو أنها فعلاً ليست ساحرة! ولكن والحق يقال هي إمرأة قوية فعلاً والغريب أنها لا تتصرف وكأنها امرأةٌ ريفيةٌ بسيطة ....توفي زوجها الأول فانتقلت للعيش في بلدة ناجيريف في عام 1911 ولكنها لم تخبرني من أي مدينة هي وما الذي دفعها للعيش بهذه البلدة الصغيرة على الرغم من أني حاولت بشتى الطرق استدراجها لكني لم أفلح بذلك !.والحقيقة أن لا أحد يعرف من أين دجاءت تلك السيدة فجأةً ، فلم تكن تبوح عن ماضيها لأحد ،فبقي مجهولاً لدى الجميع على الرغم من شهرتها الواسعة ومحبة النسوة لها في هذه القرية المتواضعة
لم يطل الأمر بها حتى تعرفت على رجلٍ من البلدة وتزوجته منتقلةً إلى كوخه .... ولكن ولتعاسة حظها أو حظه ! توفي زوجها الآخر في عام 1913 لتعود أرملةً من جديد ولترث ما تركه لها من أموال ، والغريب أن زوج الخالة سوزي قد توفي بعد ذلك بوقت قصير وبصورةٍ مفاجئة مما أثار ريبة البعض لكنهم سرعان ما تناسوا الموضوع .
ازدادت زياراتي لتلك السيدة يوماً بعد الآخر وعرفت عنها المزيد ...كانت خبيرة سمومٍ على حد قولها تقوم بتجارب متواضعة بسرية بعيداً عن أعين الفضوليين ، لها باع في السحر إذ أني لمحت مرة كتاب كانت قد نسيته على المنضدة يحوي مجموعة خربشات وعندما سألتها والفضول كان يعتصرني ضحكت ملئ حنجرتها وأجابت (ما هي إلا خرافات و استغباء لعقول الجاهلين الذين لا يعرفون السحر
-وهل تستطيعين تمييز الكذب والدجل بمجال السحر ؟؟!
سألتها بلهفة لتجيب ببساطة : نعم
وطبعا قررت أن أدخل هذا المنزل لأفتش فيه وقد أيقنت أنها المقصودة في بحثي ...لكن شيئاً غريباً أثار قلقلي كان كذلك يحدث في هذه البلدة بعد أن عاد رجالها من الحرب!
حتى جاء ذلك اليوم وكنت أحادثها في صالة الاستقبال جعلني أفهم ما يحدث !، طرق بابها و دخلت امرأة ما لمكتبها واستطال الحديث بينهما ....مشيت على أطراف أصابعي ووقفت خلف الباب المواري أسترق السمع ويا ليتني ما فعلت !!!
-تفضلي أمسكي بهذا الدواء "قالت السيدة فازيكاس لضيفتها الصغيرة الباكية التي تشتكي لها أفعال زوجها فتساءلت الشابة وهي تتأمل هذه القارورة البنية الصغيرة وتقلبها بين أصابعها فاقتربت منها فازيكاس وتطلعت فيها بجديةٍ قائلةً بهسيسٍ مخيف :
-ضعي بضعة قطرات منها في طعام زوجك وسينتهي أمره"
شهقت الشابة بعيونٍ متورمةٍ من البكاء وهزت رأسها نفياً وقالت بصوتٍ يرتجف :
-هذا سم؟؟ هل تقصدين أن أقتله أنت تمزحين !! لا أستطيع ..لا أظنك تقصدين ذلك حقاً يا سيدة جوليا, لم تصل الأمور للقتل لن أستطيع "
رفعت جوليا إحدى حاجبيها ونهضت بشموخٍ قائلةً ببرود : ولم لا؟؟ رجلٌ سكيرٌ وقح, يضربك, ألم تخبريني أنه يفعل هذا كل يوم، أنت أخبرتني لي أن الحياة استحالت جحيما ً معه وأنك موقنة أنه سينتهي بك الأمر جثة هامدة على يديه فماذا تنتظرين ؟؟؟ حتى يرسلك هو الى القبر !!
وأردفت بصوت كالفحيح ...بادري أنت وأرسليه إلى حتفه... الرجالُ لا يستحقون الحياة يا صغيرة..
كتمت شهقتي وأنا أستمع لحوارهم ...كانت فازيكاس تتعاطف مع مشاكل النسوة لحد كبير و تكره الرجال بطريقةٍ لم أفهمها ، لكن أيصل كرهها للقتل !!! لإزهاق روح !؟ تراجعت إلى الوراء أجلس على المقعد وقد اعتراني خوفٌ دفينٌ منها
وبالفعل لم تمر سوى أسابيع قليلة حتى كان المسكين يرقد في التابوت في طريقه إلى مثواه الأخير !!!وخلفه مباشرة تمشي زوجته تترنح حزناً وألما على رحيل زوجها العزيز, ومن ورائها كنت أمشي لتشييع جثمانه مع السيدة فازيكاس والخالة سوزي والكثير من النساء المتشحات بالسواد ...كان موكباً غريبا بحق ! وأنا على الرغم من حزني و معرفتي بذلك الأمر حتى قبل حدوثه ولكن ما باليد حيلة فأنت لن تستطيع تغيير التاريخ مهما حاولت ...فالوقائع لا تتغير مع الأسف .
ومع هذا الأمر فقد عرفت ضالتي وعلمت أن صفحات كتابي بيد تلك المرأة المسماة فازيكاس لا محالة .
قوارير فازيكاس السحرية سرعان ما وجدت طريقها لمنازل أخرى في البلدة وبالتدريج أصبح موكب التوابيت منظرا مألوفا لدى سكان مدينة ناجيريف .. وأمام الرأي العام ...سبحان الله الرجال المساكين تأثرت نفسيتهم في الحرب !
عدد النساء اللاتي استعملن هذه القوارير من المؤكد أنهن أكثر من المائة بكثير وقد شكلن ما يشبه النقابة أو الجمعية وطبعًا كنت أنا من عضواتها فقد جاريت فازيكاس بأعمالها حتى أكسب ودها ولم يكن بالأمر الهين أبداً أن تشهد على وقائع قتلٍ منظمة !
بعد تأسيسها الجمعية أطلقت عليها اسم (صناع الملائكة )
-سيدة فازيكاس وما معنى هذا الاسم الغريب ؟!" سألتها ونحن نحتسي الشاي الساخن في دارها فأجابتني بخبث :
-أحقاً لا تعلمين ..
-لا لم أسمع به من قبل "
-إذاً اسمعي ...لذلك الاسم قصة غريبة ومخيفة " و أخذت تروي لي القصة العجيبة :
هذا الاسم يطلق في أوروبا على الحاضنات اللاتي يهتممن بالأطفال مقابل أجرةٍ ماليةٍ في مكان اسمه (مزارع الملائكة) وغالباً ما تتم معاملتهم بقسوة من قبل أولئك النسوة ويتعرضن للإهمال الشديد وأحياناً الضرب مما يؤدي إلى مقتلهم وأحيانا كانت مسئولة الدار تختصر عذاب أولئك الأطفال فتقتلهم بنفسها خنقاً أو تمزقهم في حوض الاستحمام وبعضهم يقومون بؤده حياً " ومن هنا يا عزيزتي ميري جاءت تسمية صانعة الملائكة ...كنوعٍ من التهكم فلا مجال للمقارنة بين الملائكة وهؤلاء الشياطين !"
وقهقهت بصوت شيطاني رفيع حاد مقزز مرعب لأصرخ بفزع بدوري :
-حقاً ... معك حق الرجال لا يستحقون الحياة .!
اقشعر بدني من كلامها ولكني حاولت السيطرة على أعصابي قدر الإمكان وسألتها بشكلٍ مباشر
-نعم ولكن ... أود ان أسألك سؤالا ؛ زوجاكِ كيف ماتا و آسفة إن كنت أتدخل بشؤونك.
-لا عليكِ عزيزتي كلنا في هذه الجمعية نحتفظ بأسرار بعضنا البعض ..أليس كذلك ميري؟ .
سألتني بدهاءٍ وابتسمت لي تلك الابتسامة الماكرة لأومئ لها بامتعاض فأجابت ببساطة :
-حسناً ..زوجي الأول قد أصيب بمرضٍ مزمن ومات فلا دخل لي بذلك, وبعد أن تزوجت بالآخر ؛ قلب حياتي جحيماً بصراخه و ثمله وسوء خلقه ودماثة روحه فلم أعد أرغب به، وببساطة تخلصت منه فمنزله يلزمني .
وابتسمت لي تلك الابتسامة الشيطانية ..... بادلتها الابتسام بدوري وأنا ألعن بسري هذه الشيطانة الخبيثة وأتمنى أن أرى تلك الصفحات وأرحل عن هذه البلدة الملعونة بما فيها من بلاء .
**********************