كنت حبيسة ذلك المعسكر في رافنسبورغ ومسؤولة عن نقل النساء أحياء أو أموات إلى المحارق ....توالت أيامي أستمع لصراخ النسوة والأطفال،شهدت آلامهم وعذابهم ، شهدت تلك المجازر المخيفة التي كانت تقام بحقهم يوميا وتلك التجارب العلمية الاأخلاقية التي كانت تقام على أجسادهم.
كاان المعسكر يضم السجينات السياسيات المعارضات للحكم والمرضى العقليون والأطفال والمجرمات واليهوديات كن يشكلن النسبة الأكبر وطبعا كان يتم سجنهن من دون أي إجراء قانوني فقد أقيمت هذه المعسكرات لإبادة اليهود بالدرجة الأولى .
إن أول معسكر أقيم في أعقاب استياء هتلر على السلطة عام 1933 وإلى العام 1943 أنشئ حوالي 22معسكرا رئيسيا وآلاف المخيمات الصغيرة ناهيك عن الأعداد الهائلة التي تم اعتقالها في هذه السنوات القليلة ، . وأشد ما آلمني أني كنت أشارك بشكل أو بأخر بعمليات الإبادة والوحشية ، كانت النسوة يعانين الجوع والمرض والذل ناهيك عن انتهاكهن بوحشية من قبل بعض الجنود ...لم أتخيل يوما أن أستلم منصباا بهذه القسوة !!!.
فعندما تحكم بالموت على أشخاص من غير عرق أو حتى من رأي سياسي مختلف فالتنفذ الحكم بطريقة عادلة وميتة رحيمة ..لا أن تستلذ بالتعذيب وسفك الدماء وانتهاك الأعراض...لا أن تقتل الأطفال بهذه الوحشية وكان الذي أمامك مجرد حشرات لاقيمة لهم ، هنا كان السجين كالحشرة إما أن يتم إعدامه وإما أن يموت بسبب الجوع أو المرض .
كنت أقرأ في الكتب التاريخية عن هذه الأنواع من الجرائم ضد الإنسانية ولكن لم أستطع تخيل ولو لجزء بسيط كيف يكون الوضع والمعاناة في الواقع...
الأسير ....حالة صعبة حقا ، عمليات إعدام عشوائية كانت تقام يوميا .... وصل العدد لأكثر من مليون ونصف المليون أسير لقوا حتفهم في معسكر الاعتقال في أوشفتز وحدها !!! وهذا رقم يضاهي عدد الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية ...
كانت مهمتي الرئيسية أن أضعهم في المحارق وثم يجمع رمادهم ويرمى في النهر مع سجلاتهم ليتم التعتيم على عدد الضحايا طبعا هذا غير التجارب العلمية الوحشية والغير أخلاقية التي كانت تقام عليهم وكأنهم يعيدون أعمال الطبيب أو السفاح الياباني شيرو إيشي وما كان يفعله بالأسرى الصينيين ، فالنساء كن يحقن كالأرانب للإختبارات الطبية البشعة التي كانت تمارس من قبل الجيش الأحمر.
أما بالنسبة ل إيرما جريس ولدت في 7 أكتوبر 1923 هذا الاسم الذي ذاع صيته في معسكر الاعتقال بين المعتقلات أو حتى السجانات الأخريات ...كانوا يطلقون عليها عدة القاب منها (ملاك الموت) و ( الشيطان أشقر الشعر).
إن عمرها الآن لا يتجاوز العشرين عاما ولكنها وبأعوامها القليلة تلك ابتكرت أساليب قتل وتعذيب وأرسلت مئات الضحايا إلى مثواهم الاخير .
كنت أشهد كيف تقووم بتجويع كلابها ومن ثم تطلقهم على النسوة وهي تراقب تمزقهن تحت أنياب كلابها الشرهة وتضحك ، فلكم أن تتخيلو كيف يتم تمزيق اللحم وكيف تتطاير الأشلاء وتنتشر الدماء وكأن الأسرى مجرد حيوانات عديمة القيمة .
شهدت كيف كانت تستلذ بتعذيب الصبية الصغار بعد أن تحلق شعر رؤوسهم وتجلدهم حتى الموت أو تخنقهم بغرف الغاز .
وكانت الفتاة التي أخذت أنا مكانها في هذا المعتقل واسمها جيني ايندا ليست بأحسن حالا وعلمت من ملفي الذي قرأته أنها ولدت في هامبورغ عام 1922 كذلك وتنقلت بين عدة مخيمات منها شتوتهوف و رافنسبورغ.وكانت كذلك تشارك في تلك المجازر الوحشية بقلب ميت .
كنا الآن في أواخر العام 1943 وصدر أمر من الجهات العليا بانتقال إيرما جريس إلى معسكر الإعتقال في أوشفتز وطبعا كنت فرحة إلى حد ما لأاني سأتخلص منها ومن وحشيتها فاستغللت فترة تعذيبها السجينات ودخلت مكتبها أبحث بين المجلدات علي أرى تلك الأوراق اللعينة وأنتهي من هذا الكابوس ولكن دون جدوى كانت كلها مصنفات للمعتقلات وأوراق رسمية وغيرها ...لا شي
دخلت فجأة إيرما إلى الغرفة وأنا لازلت فيها...نظرت إلي باستغراب فتسمرت في مكاني وقد أحمر وجهي وتأتأت بارتباك : .
-أهلا ايرما ...ك..كنت أبحث عنك .
-ألا تعلمين أني في زنزانة e3؟
-أه لا اعتقدت أنك انتهيت وحانت استراحتك .. هي إسمعي أود ان اهنئك بانتقالك إلى أوشفتز " وابتسمت لها وقد كنت اتصبب عرقا .
-أها ....ولكنك تعلمين اني لن أنتقل قبل أسبوع يا جيني .
تبا أحرجتني تلك الغبية مرة أخرى ، كم خي خبيثة !!!...قلتها بسري وانا انظر لها وأتمنى ذبحها حتى قلت أخيرا .
-حسنا غلبتني أريد أن أتكلم معك بشيء هيا اجلسي .فمشت وخلعت عندها سترة البدلة العسكرية وجلست على الكرسي قائلة: كنت أعلم أتك لا تريدين تهنئتي جيني فالنكن واقعيتين هيا هاتي ماعندك يا فتاة ...
-صراحتك تعجبني " قلتها وانا افكر ماهو الأمر الذي سأخبرها به وتلكأت قليلا قبل أن أردف:
-حسنا لقد ...أ أ ..اسمعي لقد سئمت هذا المعسكر أريد الإنتقال إلى أوشفتز كذلك ..أريدك أن تكلمي المسؤول هنالك وتقدمي طلب نقلي ...أ أتستطيعين .
تبا مالذي تفوهت به !!!!وكزيت على أسناني لهذا الطلب الغبي الذي طلبته .
-لا مانع عندي ...عند وصولي إلى هنالك سأقدم طلبا بنقلك .
ابتسمت لي ابتسامتها الخبيثة فنهضت شاكرة جهودها حتى لمحت ذلك العقد في رقبتها وتذكرت القلادة التي وجدتها في البئر .!!
-عقدك جميل من أين حصلت عليه .؟
-هذا ليس من شأنك .
-حسنا كما تشائين ...أراك عما قريب " وخرجت مسرعة إلى مهجعي وأخرجت الحقيبة من تحت السرير وتأملت القلادة التي رأيتها في البئر ...كانت غريبة حقا بيضوية الشكل فضية اللون ومزخرفة حوافها وفي منتصفها بلورة جميلة قرمزية تشبه كثيرا تلك القلادة التي مع إيرما ارتديتها وخبئتها تحت بدلتي وتناولت الكتاب المدبوغ وفتحته لأشهق بصدمة
فارغ..!!! أين ذهبت الكلمات ؟!
جحظت عيناي وأنا اقلب تلك الورقات الصفراء للكتاب ولكنه كان فارغا ...مجرد صفحات مصفرة ليس الا ..ازدادت حيرتي ولم أعرف ماذا افعل به حتى دخلت ماريا .
خبأته بسرعة تحت السرير وحييتها فجلست على الكرسي تثرثر كعادتها البغيضة .
ماريا مندل والتي كانت صديقتي بشكل أو بآخر وتحبني لسبب لم اعرفه إلى الآن ، منصبها كان رفيع المستوى فهي المسؤوله عن المعسكر ،شخصيتها جادة وقوية وتتصرف كالرئيس مع الأخريات إلا معي! وتتباهى بأنها أرسلت إلى الأن مايقارب 300،000 شخص إلى مثواهم الأخير.
بعد أسبوع غادرت إيرما جريس لتستلم منصبها الجديد كحارسة في اوشفتز وبقيت أشهد عمليات القتل في هذا المعسكر ولم أترك مكانا إلابحثت فيه عن تلك الأوراق اللعينة ولكن لاشيئ .
أتى ذلك الصباح البارد وكنت اقوم بجولة اعتيادية على العنابر حتى وصلت الى الزنزانة d1 .
كانت تجلس فيها امرأة سوداء الشعر نحيلة جدا ترتدي بقايا ثوب أسود اللون وعيناها غائرتان منكمشة على نفسها في زاوية الزنزانة نظرت لها وقد خطرت لي ذكرى غريبة عن البئر .. وذكرى أغرب عن ماض جمعني بها في مكان ما لكن نسيت !!! تلاقت عينانا لوهلة فنهضت تسير بخطى ثابتة نحوي وعيناها لاتفارقانني،،ووقفت ممسكة القضبان الحديدية وبصوت كالفحيح همست :
-سأقول لك من أين جلبت إيرما القلادة ولكن أريد منك ان تحرقيني بعدها .
-..قلادة ماذا ياامرأة ؟
-انت تعرفين جيدا عن أي قلادة أتكلم .
ذهلت من هذه الأسيرة الغريبة وطلبها الأغرب
-من انت ....وما أدراك ؟
-لا شأن لك بي ...إن كنتي تريدين معرفة من أين حصلت إيرما على قلادتها سأقول وبعدها ستحرقينني لاتخلص من هذا البؤس ...
-أنت غريبة !!!
-الغريب أني لم أمت إلى الآن ومنذ إنشاء المعتقل اليس كذلك يا جيني .
وتذكرت اخيرا لأهتف بها ..
أنت من قطع الحبل انا متأكدة...!!! ولكن كيف انتقلتي معي إلى هنا!!!أنا لا أفهم .
وفجأة مدت يدها نحوي وسحبتني بقوة حتى ارتطمت بالقضبان وانتشلت القلادة من رقبتي .
-ايتها المجنونة أعيديها إلي حالا وإلا ستندمين .
-جلست القرفصاء واضعة القلادة على الأرض وأخرجت من تحت ملابسها صفحة ما وبدأت تقرأ ...
كانت كلمات غريبة بلغة غير مفهومة تخرج من بين شفتيها المجعدتين ، ناديت السجانة لتعطيني المفاتيح وهرولت بعدها انظر ذاهلة لما تقوم به .
نظرت لي وتمتمت باقي الكلمات فتوهجت البلورة القرمزية بداخل القلادة وابتسمت المرأة ابتسامة قبيحة شيطانية ثم نهضت والبستني إياها من جديد .
-ماهذه الورقة ياامرأة؟من اين حصلتي عليها ،وما الذي جرى للقلادة ؟
فنظرت الى القلادة المعلقة على صدري وصرخت بي
-الكتاب ....... أحضريه إلى هنا .
-ماذا ؟
-أحضري الكتاب المدبوغ الموجود تحت السرير حالا فماريا في طريقها إلى غرفتك وقد رأتك وأنت تخبئينه .
ياالهي!!!! ...وقفت متسمرة في مكاني قبل أن أركض كالمجانين إلى المبنى المقابل أدخل إلى غرفتي ، كانت ماريا منحنية امام السرير عندما فاجئتها بقدومي ووقفت خلفها ألهث ،فتلبكت قليلا وقالت:
-جيني أهلا كنت أبحث عن ورقة ما اعتقد اني نسيتها عندك أرأيتها ؟
-لا ، لم أر شيئا
لم اضف كلمة أخرى ولا هي وتركتني مغادرة الغرفة فاسرعت إلى الحقيبة حملتها مخرجة محتوياتها وخبأتهم في جيوب بدلتي وحملت الكتاب عائدة الى المرأة الغريبة .