بعضالأشياء مستحيلة فحسب، وهذا الموقفأحدها، لا يتطلب إدراك ذلك الكثير من الذكاء.
سيكونون من هذا الرأي إذا اعتزموا الكتابة عن « ذا أثينيام » أغلب الظن أن محرِّري مجلة
ذلك الموقف. قد يقبل العقل سقوط أشعة الشمس على أوراق السرخس، أو أشجار الزان
المنتشرة، أو حتى الكاهن وبندقيته، لكن ذلك الملاك شأنٌ آخر. يندر أن يواصل الشخص
المتعقِّل العادي قراءة مثل هذه الغرائب. أدرك الكاهن ذلك، ولكنه أحجم عن اتخاذ القرار
في أول الأمر، ثم حزم أمره بعد ذلك كما ستكشف السطور التالية. كان الجو حارٍّا، ومضى
وقت تناول العشاء، ولم يكن في مزاج يسمح له بالتفكير المتأني. حينما حدث ما حدث كان
الملاك فارضًا سطوته عليه، كما أبهره بالألوان المبهرجة والرفرفة المضطربة، فلم يتسنَّ
للكاهن أن يُسائل نفسه عما إذا كان ما يراه في حدود الممكن أمضربًا من المستحيل، بل
أرغمه اضطراب اللحظة على التعامل معه فحسب؛ فأطلق النار. فليضع محرِّرو مجلة
أنفسهم مكانه؛ يخرج للصيد، فيصيب شيئًا — وهذا وحده يكفي لإثارة « ذا أثينيام »
الاضطراب في النفس— ثم يكتشف أنه أصاب ملاكًا، يتلوَّى الملاك من الألم لدقيقةٍ تقريبًا،
ثم يجلس الملاك ويخاطبك، كما لو لم يكن في كل ذلكشيءٌ غريب يُذكَر. بل أيضًا يجعلك
رجل! رجل بملابسَ سوداءَ غريبةٍ لا » : أنت — لا هو — محور الحديث، بأن يقول متعجبًا
«! تكسو جسمه ريشةٌ واحدة، إذن فعيناي لا تخدعانني، لا بد أني في أرضالأحلام بالفعل
لا يمكنك حينئذٍ — إن لم تلُذْ بالفرار — إلا الرد عليه، أو أن تحسم الجدل كله بأن تطلق
النار مرةً ثانية، فتفجِّر دماغه.
«. أرضالأحلام! أخشى أنك خرجت منها لتوك » : ردَّ الكاهن
«؟ كيف ذلك » : قال الملاك
جناحك، إنه ينزف، هلَّا منحتني شرف تضميده؟ أعتذر لك من صميم » : رد الكاهن
مد الملاك يده خلف ظهره وقطَّب. «… قلبي
ساعد الكاهن ضحيته على القيام، في حين التفت الملاك نحوه. أخذ الكاهن يتفحص
الجناحَين المصابَين ويصدر الكثير من الأصوات تأثرًا بمنظر الإصابة (لاحظ أن الإصابة
طالت حُقٍّا إضافيٍّا على الطرف العلوي الخارجي للوح الكتف. أما الجناح الأيسرفقد سقط
بعضريشه فحسب، كما طالت المقذوفات جزءًا طرفيٍّا منه، وتهشَّم العضد الأيمن). أوقف
الكاهن النزيف قدر استطاعته بمنديل جيبه ووشاح رقبته الذي كانت مدبرة منزله تحثه
على أن يحمله معه مهما كانت حالة الطقس.
يؤسفني أن أخبرك بأنك لن تتمكن من الطيران » : قال الكاهن وهو يتحسَّس العظمة
«! لبعضالوقت
«. لا أحب هذا الإحساس الجديد » : قال الملاك
«؟ أتقصد الألم الذي تشعر به عندما ألمس عظمتك » : رد الكاهن
«؟ ماذا تدعوه » : قال الملاك
«. الألم » : قال الكاهن
تدعونه الألم إذن، لا يعجبني على الإطلاق، هل لديكم الكثير منه في أرض » : رد الملاك
«؟ الأحلام
«؟ لدينا قدرٌ كافٍ منه، أهو جديد عليك » : قال الكاهن
«. جديدٌ تمامًا، ولا يعجبني » : رد الملاك
لا بد » : وعضَّعلى طرف شريط من الكتان لربط عقدة. وقال «! غريب » : قال الكاهن
أن هذه الضِّمادة تَفِي بالغرضفي الوقت الراهن، سبق أن درستُ أعمال الإسعاف، لكن لم
«؟ يسبق لي تضميد جرح جناح. هل بدأ الألم يخف
«. أصبح ثابتًا الآن، كان يخفق كالنبضقبل ذلك » : رد الملاك
«! سيظل هكذا لبعضالوقت مع الأسف » : قال الكاهن وهو لم يزل يعتني بالجرح
هزَّ الملاك جناحه، والتفت ينظر إلى الكاهن مجدَّدًا. كان يحاول متابعة الكاهن بنظره
خلال حديثهما. راقبه من رأسه إلى أخمصقدمَيه رافعًا حاجبَيه وراسمًا على وجهه الجميل
«! غريبٌ للغاية أن أتحدَّث إلى إنسان » : ذي الملامح الهادئة ابتسامةً خفيفة. وقال
أتعلم؟ عندما أفكِّر في الأمر، أجد تحدُّثي مع ملاك على القدر نفسه من » : رد الكاهن
الغرابة؛ فأنا شخصٌ واقعي إلى حدٍّ ما، هكذا ينبغي للكاهن أن يكون، ولطالما اعتبرت
«. الملائكة مجرد تصور فني
«. هذه بالضبط فكرتنا عن البشر » : قال الملاك
«. لكن لا بد أنك رأيت الكثير من البشر » : رد الكاهن
لم يسبق أن رأيتهم قبل اليوم، رأيتهم كثيرًا في الصور والكتب فقط، » : قال الملاك
لكني رأيت الكثير منهم منذ شروق الشمس، رجالًا بشريِّين حقيقيين، وحصانًا واحدًا على
الأقل، لدينا شبيه له لكنْ له قَرن، وعددًا كبيرًا من هذه الأشياء الضخمة السمينة التي تُدعى
أبقارًا. انتابني بعض الخوف لرؤية كل هذه الوحوش الخرافية، وجئت أختبئ هنا حتى
حلول الظلام. أفترض أن الظلام سيحلُّ مجدَّدًا بعد قليل كما كان الجو مظلمًا قبل ذلك.
يا للعجب! هذا الشيء الذي تسمونه الألم مزعجٌ حقٍّا. أتمنى أن أستيقظ من هذا الحلم
«. قريبًا
لا أفهمك جيدًا، وحوش » : عقد الكاهن حاجبَيه وضرب جبينه براحة يده وقال
وحتى ذلك الحين كان أسوأ ما نُعت به الكاهن (من جانب أحد دعاة فصل «!؟ خرافية
هل معنى ذلك أنك » : الكنيسة عن الدولة) أنه رجل من العصور الوسطى. تابع الكاهن
«؟ تعتبرني جزءًا من حلم
«. بالتأكيد » : رد الملاك مبتسمًا
«؟ ماذا عن العالم من حولي؟ بأشجاره الباسقة ونباتاته المنتشرة » : قال الكاهن
كل هذا يبدو كالحلم، هذا بالضبط ما قد يحلم به أحدنا، أو ما ينسجه » : رد الملاك
«. خيال الفنانين
«؟ لديكم فنانون إذن بين الملائكة » : قال الكاهن
في كل ألوان الفنون، وهناك فنانون ذوو خيالٍ واسع يبتكرون البشر » : رد الملاك
«. والأبقار والنسور والكثير من المخلوقات الأسطورية
«!؟ المخلوقات الأسطورية » : قال الكاهن
«. نعم، مخلوقاتٌ أسطورية، خرافات » : رد الملاك
«. لكني حقيقيٌّ، أؤكد لك » : قال الكاهن
يمكنني أن أمُيِّز أحلامي عن الواقع » : رفع الملاك جناحَيه وقطَّب ثم ابتسم وقال
«. دائمًا
ثم نظر حوله. «! أنت تحلم » : قال الكاهن
«! أنت تحلم » : وكرر وقد ارتبك عقله
خطرت له فكرةٌ رائعة، لم «! وجدتها! بدأت أفهم » : مدَّ يده وحرَّك أصابعه ثم قال
أخبرني إذن بأسماء بعض » : تذهب دراسته للرياضيات في كامبريدج هباءً، تابع الكاهن
«. الحيوانات من عالمك أنت، العالم الحقيقي، حيوانات حقيقية تعرفها
حيواناتٌ حقيقية؟ هناك حيوانات الجريفين والتنانين والجابرووك » : رد الملاك مبتسمًا
«… والتشيروبيم وأبو الهول والهيبوجريف وحوريات البحر والساتير و
وبدا أن الملاك قد بدأ «. شكرًا لك، هذا يكفي، بدأت أفهم الأمر » : قاطعه الكاهن قائلًا
ينفتح معه في الحديث.
«. نعم، بدأتُ أفهم الأمر حقٍّا » : صمت لبرهة وبدا عليه التفكير ثم قال
«؟ بدأتَ تفهم ماذا » : قال الملاك
«… حيوانات الجريفين والساتير وهذه الحيوانات الأخرى، الأمر واضح » : رد الكاهن
«. لا أفهم » : قال الملاك
الأمر أنها لا يمكن أن تُرى في هذا العالم، لكن أصحاب الخيال الواسع » : قال الكاهن
من جنسنا أخبرونا بكلشيء عنها، حتى أنا في بعضالأحيان، هناك أماكن في هذه القرية
لا يسعك إلا أن تأخذ ما تجده فيها؛ كي لا تثير حفيظة أحد. لقد رأيت حيوانات الجابرووك
في أحلامي، ووحوشالبوجل، ونباتات الماندريك … تعتبر هذه الأحياء من وجهة نظرنا من
«. مخلوقات الأحلام
مخلوقات الأحلام! يا للغرابة! يا له من حلمٍ عجيب! حلم معكوس! تعتبر » : قال الملاك
«… البشر حقيقيين والملائكة خرافة. هذا يجعلني أتخيل أنه لا بد أن يكون هناك عالمان
«. عالَمان على الأقل » : رد الكاهن
«. عالَمان متقاربان، ولا يكاد أحد فيهما يدرك ذلك » : تابع الملاك
«. متقاربان كوجهَي ورقة في كتاب » : قال الكاهن
عالَمان يخترق كلٌّ منهما الآخر، ويعيش كلٌّ منهما حياةً منفصلة، يا له » : رد الملاك
«! من حلم عجيب
«. ولا يحلم أحد في أيهما بالعالم الآخر » : قال الكاهن
«. إلا عندما يتعمَّد البشر الحُلم » : رد الملاك
نعم، لا بد أن هذه هي الحقيقة. وهذا يذكرني بأني عندما يغلبني » : وتابع متفكرًا
النعاس في بعض الأحيان أغفو تحت حر شمس الظهيرة، أشاهد أشكال وجوهٍ محزَّزة
كوجهك تمر بالقرب مني، وأشجارًا ذات أوراقٍ خضراء، وأرضًا غريبة غير مستوية كهذه
«. الأرض، لا بد أني وقعت في عالمٍ آخر
في بعضالأحيان، عندما أكون بين الصحوة والنوم، أرى وجوهًا بجمال » : رد الكاهن
وجهك، وصورًا مُبهرةً غريبة من مشاهدَ عجيبةٍ أكبر، أرى هذه الصور تطفو بجواري،
وأرى كائناتٍ مجنحة، وأشكالًا رائعة، وأخرى كريهة، تغدو وتروح، حتى إنني سمعت
أنغام موسيقى جميلة، يبدو أننا عندما نصرف انتباهنا عن العالم المحيط بنا الذي تدركه
حواسنا، عندما نستسلم للراحة التامة، تظهر عوالمُ أخرى، كتلك التي نتخيَّلها عندما نراقب
النجوم، بعد أن ينحسر ضوء النهار. والحالمون أصحاب الحسِّ الفني هم من يرون هذه
«. العوالم بوضوح يفوق غيرهم
نظر كلٌّ منهما إلى الآخر.
وعلى نحوٍ غير مفهوم، خرجت أنا من عالمي ووقعت أنا في عالمك هذا! » : وقال الملاك
«. عالم الأحلام، وقد أصبح حقيقة
«! عالم أحلامي » : ثم نظر حوله وكرر
الأمر مُحيِّر، هذا يجعل المرء يعتقد في وجود (احم) أربعة أبعاد في نهاية » : قال الكاهن
وواصل كلامه بحماس عن التأملات الهندسية التي يحبها «… المطاف، وفي هذه الحالة
قد توجد أكوانٌ ثلاثية الأبعاد لا نعلم لها عددًا، متراصَّة بعضها » : ويفتخر بدرايته بها
بجانب بعض، يحلم أهل كل عالم منها بالعوالم الأخرى. قد يكون هناك عالمٌ فوق عالم،
وكون فوق كون. هذا ممكنٌ تمامًا، فالممكن هو أقصى درجات اللامعقول، لكن أتساءل
«؟ كيف يمكن أن تخرج من عالمك لتقع هنا في عالمي
يا للعجب! غزلان وأيائل! إنها متطابقة تمامًا مع شكلها الذي يرسمونه » : قال الملاك
«؟ على شعارات النبالة. كلشيء غريب للغاية! هل يُعقل أن أكون مستيقظًا حقٍّا
ودعَك عينَيه بأصابعه.
مرَّت ستة غزلان مرقطة في صفٍّ واحد بين الأشجار ثم توقفت. شاهدها الملاك فقال:
ثمضحك. ووقف الكاهن الموقَّر «. ليسهذا حلمًا. أنا ملاكٌ حقيقي تمامًا، في أرضالأحلام »
يراقبه، في حين أخذ يمطُّ شفتَيه ويعبث بذقنه على عادته. كان يُسائل نفسَه عمَّا إذا كان
هو الآخر في أرضالأحلام.
علم الكاهن في المحادثات العديدة التي تلت أن في أرضالملائكة لا وجود للألم أو المؤرقات
أو الموت، ولا زواج ولا تزويج، ولا ميلاد ولا نسيان. هناك، تظهر أشياءُ جديدة بين الفينة
والأخرى. أرضٌمستويةٌ رائعة بلا نهاد ولا وهاد، تنتشرفيها مبانٍ غريبة، وتتناوب عليها
أشعة الشمس وضوء القمر الرقراق فلا تعدمهما أبدًا. ولا ينقطع عنها النسيم العليل الذي
يتغلغل ثنايا الأشجار. أرضٌمذهلة، فيها بحارٌ معلَّقة في جو السماء، تمخر عبابها أساطيلُ
غريبة لا يعلم أحد من أين جاءت أو أيَّ وجهة تقصد. هناك، تلتمع الأزهار في الجِنان،
وتتوهج النجوم بين الأقدام، ويحلو طعم الحياة. هناك، تمتد حدود الأرضبلا نهاية، فلا
نظام شمسي، ولا فضاء خالٍ بين النجوم كما هو الحال في كوننا. هناك، يرتفع الهواء حتى
يتخطَّى حدود الشمس ويصل إلى أبعد أركان سمائهم لتتنفس الحياة. لاشيء هناك سوى
الجمال. كل جمال فنوننا بألوانها العديدة لا يضاهي نفحة مما أوتي عالمهم ذاك من روعة.
ليس مُلحِّنونا سوى نخبةٍ قليلة ممن ساقت رياح ذلك العالم إلى أسماعهم همساتٍ خافتة
من ألحان عالمهم. عالمٌ يجوبه ملائكة ووحوشٌ غريبة يتداخل في تكوينها البرونز والبلور.
أرضٌيسود فيها القانون، فلا شاردة ولا واردة إلا وتحتكم بأمره، لكن قوانينه تختلف
عن قوانيننا. حتى هندستهم تختلف عن هندستنا؛ إذ إن في فضائهم منحنًى يجعل كل
سهولهم منحنيةً هي الأخرى. وقانون الجاذبية لديهم لا يخضع لقانون التربيع العكسي.
الألوان الأولية عندهم أربعة وعشرون لونًا وليست ثلاثة فقط كما هي عندنا. معظم ما
نعتبره نحن من معجزات العلم هي عندهم أمور معتادة. أغلبُ ما يعتبره علمُنا منجزاتٍ
مبهرة شائعٌ واعتياديٌّ لديهم، وكل العلم الأرضي يبدو لهم أحلامًا جنونية، كما أن نُوَّار
حقولهم من نار. قد يبدو هذا للمرء محض ترهات تُجافي العقل. وبالفعل لم يستوعب
الكاهن معظم ما أخبره به الملاك، لأن تجارب الكاهن كلها كانت من هذا العالم المادي؛
فحالت تجاربُه تلك دون فهمه لما قصَّه الملاك من غريب الحكايات. كانت قصصًا أغرب
من الخيال بحق.
لم يعرف الملاك ولا الكاهن ما جذب أحد هذين الكونَين إلى الآخر؛ فأدى إلى سقوط
الملاك فجأة في سيدرفورد. استغلق ذلك حتى على كاتب هذه القصة، فهو لا يُعنى إلا
بتفاصيل الواقعة، ولا رغبة لديه في تفسير تلك التفاصيل، ولا يثق في فهمه لها من الأساس.
التفسيرات مغالطة عصرالعلم. الحقيقة الأهم هي أن ملاكًا جميلًا ومبهرًا وقف في حديقة
سيدرمورتون في الرابع من أغسطس عام ١٨٩٥ ولم تزل عالقةً به آثار عالمٍ عجيب لا
الكاهن والملاك
حزن فيه ولا نحيب. وهناك تحدَّث مع كاهن سيدرمورتون عن وجود عوالم متعددة، لو
اضطُر كاتب هذه السطور إلى أن يقسم بظهور ذلك الملاك لفعل بلا تردد. وهذا غاية ما
في الأمر.
لديَّ إحساسٌ غريب للغاية هنا، أشعر به منذ شروق الشمس، لا أتذكر أن » : قال الملاك
«. انتابني أيُّ شعور هنا قبل الآن
«. أتمنى ألَّا يكون الألم » : قال الكاهن
«. كلا، إنه شعور مختلف، شعور يشبه الفراغ » : رد الملاك
«. ربما كان تأثير اختلاف الضغط الجوي » : قال الكاهن وهو يتحسس ذقنه
ولديَّ أيضًا إحساسٌغريب في فمي، كما لو أني — أمر سخيف للغاية — » : قال الملاك
«. كما لو أني أريد دسَّ أشياء فيه
«! يا إلهي! بالطبع! أنت جائع » : قال الكاهن
«؟ جائع؟! ماذا يعني ذلك » : رد الملاك
«؟ ألا تأكل » : قال الكاهن
«! آكل؟ هذه كلمةٌ غريبة عليَّ » : رد الملاك
أي تضع طعامًا في فمك، على المرء أن يفعل ذلك هنا. ستتعلم ذلك » : قال الكاهن
وبعد ذلك ،« الألم » سريعًا. إذا لم تأكل فسيُصيبك الهُزال والضعف، وستعاني الكثير من
«. تموت
«! أموت؟! هذه كلمةٌ غريبةٌ أخرى » : قال الملاك
«. ليست غريبة هنا، إنها تعني الرحيل » : قال الكاهن
«. نحن لا نرحل أبدًا » : رد الملاك
أنت لا تعرف ما قد يحدث لك في هذا العالم، إذا كنت تشعر » : قال الكاهن متفكرًا
بالجوع والألم وانكسر جناحاك، فهذا يعني أنك قد تموت قبل أن تغادره مرةً أخرى. على
«. أي حال، يُستحسن أن تأكل. أما أنا فأعرف أشياءَ كثيرة أسوأ
أعتقد أنه يُستحسن أن آكل بالفعل، إذا لم يكن ذلك صعبًا، لا يعجبني » : قال الملاك
« أموت » هذا، وإذا كان شعوري وأنا « الجائع » ولا يعجبني شعور ،« الألم » ذلك الذي تسميه
«! إذن، يا لغرابة هذا العالم « آكل » فلا أريد ذلك، أفُضِّل أن « جائع » يشبه شعوري وأنا
«. يعتبر الموت شيئًا أسوأ من الألم أو الجوع … حسب الظروف » : قال الكاهن
عليك أن تشرح لي كل ذلك فيما بعدُ، إلا إذا استيقظتُ. أما الآن فهلَّا » : قال الملاك
«. أريتني كيف آكل؟ من فضلك. أشعر أن ذلك مُلحٌّ
معذرةً! هلَّا منحتني شرف استضافتك؟ منزلي » : مدَّ الكاهن ساعده إلى الملاك وقال
«. قريب، يبعد عن هنا أميالًا قليلة
ولكنه استند إلى ساعد الكاهن بودٍّ، ومضيا في «!؟ منزلك أنت » : قال الملاك متحيِّرًا
طريقهما وهما لم يزالا يتحدَّثان، فخاضا أوراق السرخس الكثيفة ببطء، في حين سقط
عليهما ما انسلَّ من بين فروع الشجر من أشعة الشمس على هيئة بُقعٍ متفرقة، وعبرا
سياج الحديقة عبر درج البوابة، ومرَّا بشجرة الخَلَنْج التي احتشد حولها النحل، سارا لميل
أو أكثر من ذلك، وهبطا التل في طريقهما إلى المنزل.
لو رأيتهما معًا حينئذٍ لتعجبت من منظرهما؛ كان الملاك نحيلًا لا يتجاوز طوله
خمس أقدام، له وجهٌ جميل تجنح قسماته إلى الأنوثة، كما قد يُصوِّره أبرز الرسامين
« توباياس والملاك » الإيطاليين (وفي الحقيقة توجد رسمة له في المعرض الوطني باسم
بريشة فنانٍ مجهول، لا تختلف كثيرًا عن شكله وطبعه)، يرتدي قميصًا بلون الزعفران
تتخلَّل نسيجه خيوطٌ أرجوانية، وكانت ركبتاه وقدماه مكشوفة، وجناحاه (اللذان انكسرا)
رماديَّين شاحبَين ومضمومَين خلفه. وكان الكاهن قصيرًا قويَّ البنية، في وجنتَيه شيء من
الحمرة، وشعره أيضًا أحمر، حليق اللحية، بُني العينَين، يرتدي قبعةً من القشاجتمع فيها
أكثر من لون، وميَّزها شريطٌ أسود، وأتمَّ هندامه برابطة عنق بيضاءَ أنيقة، وسلسلة من
الذهب الخالصتدلَّتْ من طرفها ساعة. جذب رفيقه اهتمامه بشدة، حتى إنه لم يتذكَّر أنه
ترك بندقيته حيث سقطت منه بين أوراق السرخس إلا عندما كان منزله في مرمى بصره.
سعد كثيرًا عندما عرف أن حدة ألم الجناح الذي ضمَّده خفَّتسريعًا