كلشيء على ما يُرام، لا شك أن ذاكرتي تخدعني فتصور » : قال كرامب بعد تبديل الضمادة
لي أن زائدتَيك تبدوان أصغر مما كانتا بالأمس، أعتقد أني كنت متفاجئًا بهما بالأمس،
فلتتناول الغداء معي قبل أن تنصرف من هنا، وجبة منتصف اليوم أقصد، سيعود الصغار
«. إلى المدرسة مجددًا بعد الظهر
لم أرَ جرحًا يندمل بهذه السرعة قط، » : وواصل وهما في الطريق إلى غرفة الطعام
بصرف النظر » : وأضاف بصوت حاول خفضه «. لا بد أن دمك ولحمك نقيان لأقصىدرجة
«. عما قد تظن
على مائدة الغداء راقب كرامب الملاك عن كثب، وأخذ يستدرجه للانفتاح في الحديث.
«؟ هل أتعبتك الرحلة بالأمس » : فقال فجأة
«. الرحلة؟! نعم شعرت ببعضالتيبس في جناحيَّ » : رد الملاك
«. لا تنخدع! أعتقد أني سأضطر إلى الدخول فيصلب الموضوع » : خاطب كرامب نفسه
«؟ طرت المسافة كلها إلى هنا؟ لم تستخدم أي مركبة » : وقال للملاك
لم يكن ثمة وسيلةٌ أخرى، كنت أطير في تناغم » : رد الملاك وهو يضع بعضالخردل
مع بعض كائنات الجريفين والكاروبيم الناري، ثم حل ظلامٌ دامس ووجدت نفسي في
«. عالمكم هذا
ومسح فمه بمنديل المائدة، في «. يا للعجب! لذلك لم تكن معك أي أمتعة » : قال كرامب
حين بدت في عينَيه ابتسامة خفيفة.
الزيارة المدهشة
أفترضأنكم تعرفون عالمنا هذا جيدًا؟ تراقبوننا من فوق الجدران العالية » : وواصل
«؟ الصلبة أوشيء من هذا القبيل، صحيح
لا نعرفه جيدًا، نحلم به أحيانًا تحت ضوء القمر، عندما تداهمنا » : رد الملاك
«. الكوابيس
بالطبع، تصور شاعري للغاية، أتود شرب بعض البورجوندي؟ إنه » : قال كرامب
«. بجوارك مباشرة
هناك اقتناع في عالمنا هذا بأن زيارات الملائكة ليست نادرة أبدًا، ربما سبق » : ثم واصل
لبعض من أصدقائك الترحال؟ من المفترض أن يتنزلوا على المسجونين الذين يستحقون
الزيارة، ويؤدوا بعض الرقصات المتناغمة أو شيئًا من هذا القبيل، مثلما يرد في رواية
«. فاوست
«. لم أسمع قط بأيشيء مثل ذلك » : رد الملاك
منذ أيامٍ قليلة أكدت لي سيدة كنت أعالج رضيعها من عسر الهضم أن » : قال كرامب
تعبيراتٍ معينة ترتسم على وجه الرضيع تدل على أنه يحلم بالملائكة، تعتبر السيدة هينري
وود في رواياتها ذلك نذيرًا أكيدًا للموت المبكر، ألا يمكنك تقديم أي إيضاحات عن هذا
«؟ العَرَضالغامض
«. لا أفهم ذلك على الإطلاق » : قال الملاك متحيرًا لا يفهم ما يقصده الطبيب
«. بدأ يمتعض، يظن أني أسخر منه » : خاطب كرامب نفسه
شيءٌ واحد يثير فضولي؛ هل يشكو الوافدون الجدد كثيرًا ممن » : ثم خاطب الملاك
يقدمون لهم الرعاية الطبية؟ لطالما تخيلت أن هناك الكثير من الحديث عن العلاج
«… باستخدام الماء في البداية، كنت أشاهد صورة في الأكاديمية في شهر يونيو الماضي
«. وافدون جدد؟! لا أفهمك على الإطلاق » : قال الملاك
«؟ ألا يفدون إليكم » : حدق فيه الطبيب وقال
«؟ يفدون؟ من » : قال الملاك
«. الناس الذين يموتون هنا » : رد الطبيب
«؟ بعد أن يتداعوا هنا » : سأل الملاك
«. هذا هو الاعتقاد الشائع » : رد الطبيب
تقصد أشباه المرأة التي وقفت تصرخ أمام الباب، أو الرجل ذا الوجه » : قال الملاك
الأسود الذي كان يتلوَّى على الجسر، أو الصغار البغيضين الذين كانوا يقذفون القشور،
«. كلا، لم أرَ مثل هذه المخلوقات قط قبل أن أقع في هذا العالم
عجيب! ستقول لي بعد ذلك إن زيَّك الرسمي ليس أبيضاللون وإنك لا » : رد الطبيب
«. تجيد العزف على القيثارة
لا يوجد ما يسمى بالأبيض في أرض الملائكة، ما لدينا هو ذلك اللون » : قال الملاك
«. الخالي الذي ينتج عن مزج كل الألوان الأخرى
سيدي العزيز! يبدو أنك لا تعرف شيئًا عن » : غيَّر الطبيب نبرة صوته فجأة وقال
«. الأرضالتي تأتي منها؛ فالأبيضأساسها
حدق الملاك فيه ليحاول التأكد من أنه لا يمزح، فوجد ملامحه جادةً تمامًا.
وتوجَّه إلى طاولة كانت عليها نسخة من مجلة الأبرشية، «! انظر » : قال كرامب
يمكنك أن ترى أن الأجنحة » : فأحضرها إلى الملاك، وفتحها على الملحق الملون وواصل
ليست وحدها ما يميز الملائكة، فهناك اللون الأبيض، والرداء المجعد الذي يطير في
السماء معضربات الأجنحة، هؤلاء ملائكة وفقًا لأكثر المصادر موثوقية. انظر إلى شعرهم
الهيدروكسيلي، أحدهم يُمسك بقيثارة، وآخر يساعدسيدةً ملائكيةًصغيرة لم تنبت أجنحتها
«. بعدُ، يساعدها على الطيران
«. لكن، في الحقيقة، هؤلاء ليسوا ملائكة على الإطلاق » : قال الملاك
وأعاد وضع المجلة على الطاولة وجلس مفعمًا بالرضا «. بل هم كذلك » : قال كرامب
«… أؤكد لك أني أعرف ذلك من أكثر المصادر موثوقية » : وواصل
«… أؤكد لك »
لا فائدة! لا » : مطَّ كرامب جانبي فمه وهز رأسه كما فعل مع الكاهن وخاطب نفسه
«. يمكننا تغيير أفكارنا بسبب زائر غير مسئول
«. إذا كان هؤلاء ملائكة، فهذا يعني أني لم أكن في أرضالملائكة قط » : قال الملاك
«. بالضبط، هذا ما أعنيه » : قال كرامب وقد أحسَّ بنشوة الانتصار
حدق الملاك فيه منبهرًا لدقيقة، ثم تملكته — للمرة الثانية — حالة من الضحك
البشري.
كنت أعرفأنك لست مجنونًا إلى الحد الذي » : وانتقلت عدوى الضحك إلى كرامب وقال
«. كان يبدو عليك
وظلا حتى فرغا من الغداء في حالة من الابتهاج، لسببَين مختلفَين تمامًا، وأصرَّكرامب
الخرافي الشبيه بالكلب. « الدورج » على معاملة الملاك باعتباره سلالة أنقى من كائن
بعد أن غادر الملاك منزل كرامب صعد التل مجددًا نحو منزل الكاهن، ولكنه — بإيعاز
من رغبته في تجنب السيدة جاستيك على الأرجح — انعطف من عند البوابة وسلك طريقًا
فرعيٍّا من جانب حقل لارك ومزرعة برادلي.
صادف مشرَّدًا يغفو في سلامٍ بين الزهور البرية، فتوقف يراقبه منبهرًا بالسكينة
التامة التي بدت على وجهه. وبينما هو كذلك استيقظ المشرَّد ونهض، وكان شاحب الوجه
متشحًا بملابسَ سوداء حال لونها، يعتمر قبعةً قابلة للطي تضفي على مظهره بعض
«؟ طاب عصرك، كيف حالك » : الانكسار وتميل على إحدى عينَيه. قال المشرد بود
أنا بخير، » : كان الملاك قد أتقن كيفية الرد على هذا السؤال، فاستحضره من فوره
«. شكرًا لك
أتقصد مكانًا ما مشيًا على الأقدام مثلي » : نظر المشرد إلى الملاك بعينٍ فاحصة، وقال
«؟ يا صديقي
«؟ لماذا تنام هكذا بدلًا من النوم علىسرير » : تحير الملاك منه، ثم سأله
يا للعجب! لماذا لا أنام على سرير؟ الأمر أنهم يطلون حوائط قصر » : رد المشرد
ساندرينجام، وهناك مشكلة في الصرف في قلعة ويندسور، وليس لديَّ بيتٌ آخر أقصده،
«؟ أليس في جيبك ثمن كأس من الجعة
«. ليس في جيبيشيء » : رد الملاك
هل » : سأل المشرد وهو ينهضبصعوبة ويشير إلى أسطح المنازل المتكتلة أسفل التل
«؟ هذه قرية سيدرمورتون
«. نعم، هكذا يسمونها » : رد الملاك
وتمطَّى وتثاءب، «. كنت متأكدًا من ذلك، قريةٌ صغيرةٌ جميلة » : قال المشرد متحمسًا
وأشار إلى حقول الذرة «… المنازل، والمزروعات » : ووقف يشاهد المكان متفكرًا ثم قال
«؟ تبدو مريحةً، أليس كذلك » : والبساتين، ثم تابع
«. لها جمالها الخاص » : قال الملاك
جمالها الخاص؟! يا للعجب! أريد أن أترك هذا المكان المقيت، وُلدتُ » : قال المشرد
«. هنا
«! يا للهول » : قال الملاك
«؟ نعم، وُلدتُ هنا، هل سمعت عن الضفادع المنزوعة الدماغ » : قال المشرد
«! ضفادع منزوعة الدماغ؟! كلا » : رد الملاك
هذا ما يفعله مشرحو الحيوانات هنا، يأخذون ضفدعًا وينزعون دماغه، » : قال المشرد
ويدسون مكانه حشوة أخرى، هذا ما أقصده بالضفادع المنزوعة الدماغ. هذه القرية مليئة
«. بالبشر المنزوعي الدماغ
«؟ أجادٌّ أنت فيما تقول » : أخذ الملاك كلام المشرد على محمل الجد وقال
نعم، صدقني، ما من أحد فيها إلا وقد انتزع دماغه ودُست بدلًا منه » : رد المشرد
«؟ حشوة من الحطب المتعفِّن، هل ترى ذلك المكان الأحمر الصغير هنالك
«. هذه هي المدرسة الوطنية » : قال الملاك
«. نعم، هناك يُجرون العملية » : قال المشرد في ترفُّع
«. حقٍّا؟! هذا مثير جدٍّا » : قال الملاك
الأمر منطقي، لو كانت لديهم أدمغة لكانت لديهم أفكار، ولو كانت » : أضاف المشرد
لديهم أفكار لتمكنوا من التفكير المستقل، وإذا جُبتَ هذه القرية من أقصاها إلى أقصاها
فلن تجد واحدًا منهم يفكر باستقلالية، منزوعو الدماغ، أعرف هذه القرية؛ فقد ولدتُ بها،
لولا أني قاومت محاولتهم انتزاع دماغي لكنت فيها الآن أكدُّ في العمل أجيرًا لمن يفوقونني
«. قدرًا
«؟ وهل هذه العملية مؤلمة » : سأل الملاك
نوعًا ما، لكنها لا تؤلم الرأس نفسه، يدوم مفعول العملية طويلًا، » : أجابه المشرد
يأخذون الناس في صغرهم إلى المدرسة ويقولون لهم تعالوا نطوِّر عقولكم، فينصاع
الصغار بكل بساطة؛ ومن ثم يبدأ القائمون على المدرسة في عملية الحشو، شيئًا فشيئًا
ينزعون أدمغتهم اللزجة الطازجة، ويدسون مكانها الحشوة الصلبة الجافة من التواريخ
والقوائم وما شابه، فيخرجون من المدرسة وقد انتُزعت أدمغتهم، ويصيرون طيِّعين لطفاء،
يلمسون قبعاتهم تحيةً لأي شخص ينظر إليهم، حيَّاني أحدهم بلمس قبعته لي بالأمس،
ثم ينطلقون في الأرجاء نشطين مستعدين للقيام بأرذل الأعمال، ويشعرون بالامتنان فقط
لأن أحدًا سمح لهم بمواصلة العيش، حتى إنهم يفخرون بالعمل الشاق، أليس ذلك دليلًا
«؟ على انتزاع أدمغتهم؟ أترى ذلك الذي يحرث هناك
«؟ نعم، هل هو منزوع الدماغ » : قال الملاك
«. نعم، وإلا انطلق في الأرضمثلي ومثل الحواريين المباركين » : قال المشرد
«. بدأت أفهم » : قال الملاك مرتابًا
كنت أعلم أنك ستفهم؛ فقد أدركت أنك من الصنف الصحيح. » : قال المشرد المتفلسف
أليس الأمر سخيفًا؟ بعد قرون من الحضارة، انظر إلى هذا الخنزير المسكين هناك، يكد
في العمل والحرث على جانب التل حتى يتصبَّب عرقًا غزيرًا هكذا، وهو إنجليزي، أي أنه
ينتمي إلى أسمى عرق في الخليقة، إنه أحد الحكام، شيء يُضحك حتى أمثالي من الزنوج.
العَلَم الذي ظل مرفوعًا ألف سنة من المعارك والعواصف علمُه. ولم يكن في العالم بلدٌ أكبر
عظمة وأرفع مجدًا من بلده قط، وهذا ما يكون حالنا عليه في نهاية المطاف؟ سأخبرك
بقصةٍ ربما لم تسمع بها لأنك غريب عن هنا على ما يبدو. هناك رجلٌ يُدعى جوتش، السيد
جون جوتش، عندما كان شابٍّا يافعًا في أوكسفورد، كنت أنا طفلًا في الثامنة، وكانت أختي
في السابعة عشرة. كانت أختي خادمة في منزله، ولكن … يا إلهي! سمع الجميع بهذه
«. القصة، فهي شائعةٌ جدٍّا، وتتكرر كثيرًا مع أمثاله
«. لم أسمع بها » : قال الملاك
كل ما في الفتيات من جمال وحيوية يقضون عليه، وكل رجل به بعض » : قال المشرد
الشجاعة أو روح المغامرة يرفض شرب ما ترسله إليه زوجة الخوري بدلًا من الجعة
ويلمس قبعته صاغرًا، أو يكف يده عن الأرانب والطيور؛ يُطرد من القرية منبوذًا، ثم
يتحدثون عن تحسين النسل! أما من يمكثون بعد ذلك فليسوا خليقين برفع عيونهم في
«. وجه زنجي، بل إن ذوي الأصول الصينية لَينظرون لهم شزرًا
«. لكن، لم أفهم قصدك » : قال الملاك
وعندئذٍ أوضح المشرد المتفلسف قصده، وقصَّعلى الملاك القصة البسيطة للسيد جون
كوتش وعاملة المطبخ. ليس من الضروري تكرار تلك القصة، لكن لا بد أن القارئ يفهم
أنها أثارت حيرة الملاك، استخدم المشرد كلماتٍ كثيرة لم يفهمها الملاك؛ إذ كان التجديف
وسيلة المشرد الوحيدة في التعبير عن مشاعره. وعلى الرغم من ذلك العائق اللغوي، تمكن
المشرد من إخبار الملاك بقناعته (التي لا أساس لها على الأرجح) بظلم الحياة وقسوتها،
ودناءة السيد جون كوتش الشديدة.
وكان آخر ما رأى الملاك من المشرد ظهره الأسود المترب يبتعد في اتجاه إبينج هانجر.
وظهر طائر الذيال على جانب الطريق، فالتقط المشرد المتفلسف حجرًا من فوره وقذف به
الطائر فأصابه وانطلق الطائر مبتعدًا يقرقر، ثم سلك المشرد منعطفًا وغاب عن النظر.