maialkhaleel

Share to Social Media

#رواية_روز
#الفصل_الاول
#بقلمي_مي_الخليل
ذاتَ تشرين وفي مساءٍ خريفيِّ الحَنينِ ... أَمضَيتُ ساعاتٍ على شُرُفاتِ الذَّاكِرة أتأمَّل ... أَكتُبُ حروفاً وأَمْحو ، أَرْسُمُ خيالاتٍ على صفحةِ النِّسيانِ تَطفو ، أَستَرجِعُ أَحلاماً كانَت على ضِفافِ الزَّمنِ تغفو ، أُلَمْلِمُ نَثَرَاتٍ من الرُّوحِ تَساقَطَت خلفَ جُدرانِ السَّنواتِ الرَّاحِلَةِ تُسابِقُ بعضَها بعضاً ، راحَت تَتَسرَّبُ من ثقوبِ الذَّكِرةِ كالماءِ يتسرَّبُ من بينِ أصابِعِنا ، يَجتاحُني الحَنينُ ، يَحتَلُّ كُلَّ خليَةٍ في جَسَدي وروحي دونَ رأفةٍ ، عزلاءَ لا أَملِكُ ما أُوْاجِهُ بهِ ضَعفي لا سِلاحَ أُدافِعُ بهِ عن بقايا كياني غيرَ دمعةٍ يَتيمَةٍ فَرَّت هارِبَةً أَضْناها البقاءُ حَبيسةَ جَفني ، وبِضْعُ حروفٍ خَطَّها حبرُ الذاكِرةِ .

التقَيتُهُ لأولِ مرَّةٍ عند تلك الصخرةِ التي اعتدتُ الجلوسَ عليها حين أَرغبُ بالهروبِ من كُلِّ ما حولي ، البحرُ كان يبعثُ في روحِي سَلاماً داخلياً أَحتاجهُ ، وسَكينَةً تُطَمْئِنُ قلبَي الذي افتقد أمانه وسكينته .
طالَ تَأمُّلي لِزرقةِ البحرِ دونَ هدفٍ ، وطالَ شرودي في اللاشيئِ ، يَسحَرُني لَونُ قرصِ الشمس يتلألأُ فوقَ صفحةِ الماءِ يبعثُ فيَّ شعورً رائعاً يمنَحُني ابتسامةً لا أَستطيعُ إخفاءها ، ساعاتٍ وساعاتٍ يَشغلُني صوتُ الأمواجِ الذي يعلو مع هبَّاتِ الرياحِ وكأنَّهُ ضجيجُ الذاكرةِ المُنهَكَةِ ثُمَّ يهدأُ لِيستحيلَ صمتاً يُشعِرُني وكأنَّي وحدي في هذا العالم ، بَقيْتُ على تلك الحالِ أُحدِّقُ في الفراغِ لا أَلْوي على شيئٍ حتى تلاشى آخرُ شُعاعٍ من أشِعَّةِ الشمسِ المتناثرةِ فوقَ زُرقَةِ البحرِ كأنها سَكينةُ روحِي التي تلاشَت ، استَنَدْتُ على طرفِ الصخرة لِأَنهضَ تاركةً في هذا المكان قلبِي ، وهداةَ فؤادي ، وحينَ وقفْتُ فُوجِئْتُ به يقف بالقربِ مني يتأملُني ، التقَت عينانا لحظةً غيَّرَت حياتي ، وقفتُ لِدَقائقَ مذهولَةً دونَ أيِّ كلِمةٍ
قالَ ومن دون أي مقدمات :
مَنْظَرُ الغروبِ رائعٌ أليسَ كذلك ؟
أَجبْتُهُ بإيماءةٍ بسيطةٍ ولا أزالُ في ذهولي غارقةً :
نعم .
فقالَ متجاهلاً ذلك الجفاء الذي بدا في نبرة صوتي ربما عن غير قصد :
كُلُّ الأشياءِ جميلةٌ في بدايةِ إشراقِها بحياتِنا لكنَّ الشَّمسَ أروعُ حينَ تغرُبُ .
-ومضى حديثٌ بيننا ......
الشمسُ رائعةٌ في إشراقِها وعندَ الغروبِ .
-حين تُشرقُ الشمسُ تُشرِقُ معها آمالُنا وتُزْهِرُ أحلامُنا ، وعِشقُنا للبداياتِ .
-وحينَ تَغرُبُ تَأخذُ معها كُلَّ ذلك ، لَكنَّها تَتْركُ لنا وَعْداً بالأجملِ .
فابتسمَ ، وابتسمْتُ ، وحدَّقنا طويلاً في الشَّفَقِ ،
عاد ليقول وابتسامة مشرقة زينت وجهه :
شروقها يمنحُنا رغبةَ الحياةِ .
قلتُ وقد بدأت أعتاد الحديث معه كأني أعرفه منذ زمن :
غروبُها يعطينا أمَلَاً ووعداً بالغدِ الأجملِ .
- بينَ شروقِها وغروبِها لُغْزٌ لا يُدرِكُهُ أيًّ كانَ ، كما الحُبُّ والموتُ لُغْزَا هذه الحياةِ المتشابهانِ في كثيرٍ منَ الأشياءِ .
-كما القَدَرُ الذي يضعُ حدَّاً لكلِّ شيئٍ .
نظر إليَّ نظرة ذات مغزى وقال :
أمَّا القَدَرُ يا عزيزَتيفحكاية أخرى .
صَمَتُ بُرهةً ثُمَّ قُلتُ :
نَعم إنَّكَ على حَقٍّ .
وقرأت في عينيه إدراك ما لما وراء كلامي ثُمَّ استَأذَنْتُ مُشيرَةً إلى الظُلْمَةِ التي غَطَّت المكانَ ، فاستأذنَ بأن يُوصِلَني مُتَذَرِّعاً بأنَّهُ مَن أَخَّرَني ، ولا أَدري حينَها ما الذي دَفَعَني لئلا أَرفُضَ وسِرنا معاً على طولِ الشاطئِ صامِتَينِ وكأنَّ الكلامَ قد أَضاعَ طَريقَنا ، وكأنَّنا بِصَمْتِنا استَنفَذنا كُلَّ الكلامِ ، وصَلْنا إلى الطَّريقِ المُؤدِّية إلى بَيتي فشَكَرْتُهُ وقَبلَ أن أُودِّعَه قالَ :
رام ... اسمي هو رام قُبطانُ سفينةٍ .
- وأنا روز مُدرِّسةُ لُغةٍ فَرنسيةٍ .
- وَدَّعتُه ومَضيتُ في طريقي وما زالَت نظرَتُهُ الأولى محفورةً في ذاكِرَتي لم ولن تُمحَ ماحَيِيتُ .
- هناك كلماتٌ لا تُنسى ؟... وهناكَ ألحانٌ تُعَشْشُ في الرُّوحِ لا يَمحوها الزَّمَنُ مَهما طالَ ... وهناك نظراتٌ كذلك تبقى مغروسةً في العَينِ لا تَذْبُلُ أبَداً وكأنَّها تستَقي من دمعِها ...
وَصَلْتُ إلى البيتِ ، كانت إلينا ما تزال لم تنهِ واجباتها المدرسية بعد ، وضعت على خدها قبلة صغيرة وتركتها تكمل دراستها ، دخلت غرفتي وكأنِّ أهرب من شيء ما ، أَلْقَيتُ بِجَسَدي على السَّريرِ وأَغْمَضْتُ عَينَي ونَظرَتُهُ لا زالَت تَرمُقُني ..
ما الذي جَعَلَهُ يُراقِبُني هكذا؟! شَرَدْتُ بِأَفكاري دقائقَ أَستَرجِعُ كلِماتِهِ والحديث الذي دار بيننا ، لكني ما أَرَدْتُ أن أَغرق في بحر من أوهام ، نفَضْتُ تلك الأفكار من رأسي ونهَضتُ مُسرِعَةً كهارِبٍ ليسَ يدري من أَين أو إلى أينَ يمضي ، فتَحتُ عينَي لأرى إلينا تُحَدِّقُ بي
قالَت بنبرة طفولية حزينة :
تأَخَرتِ ماما روز أينَ كُنتِ ؟ ذهَبتِ إلى الشاطئِ أليسَ كذلك ؟ لِمَ أنتِ حَزينَةٌ هكذا ؟ ما بكِ ؟
-لا حَبيبَتي لَسْتُ حَزينَةً أبداً ، فقط مُتْعَبَةٌ قليلاً ، لا تَقلَقي ، هيَّا لِنأكُلَ معاً بالتَّأكيد أنتِ جائعةٌ مِثلي .
أجبتها بابتسامة مطمئنة وقد استشعرت خوفها
قالَت بمرحها الذي أعشقه وسرعان ما تلاشى خوفها حين رأتني أبتسم لها :
نَعم جائعَةٌ وأُريدُ أن نأكُلَ البِيتزا لو سمَحْتِ ماما وأُريدُ أيضاً بوظة لا تَقوليِ لا أرجوكِ .
- كانت تتحدث بطريقة مسرحية تجيدها جدا خاصة حينما تريد شيئاً تعلم أني لن أوافق عليه
حَسناً يا صَغيرَتي كما تَشائينَ نأكُلُ البِيتزا الآنَ والبوظة غداً فقد تأخَّرَ الوقتُ ولن نستَطيعَ الخروجَ الآنَ ها ... لا أُريدُ اعتِراضاً .
- حسناً ماما لَكِن هيا انهَضِي الآن لا أُحِبُّ أن أراكِ حزينَةً أرجوكِ لا تَغضَبِي منِّي لن أطلُبَ البوظة بعدَ الآنَ إن كانَ هذا سَيُغضِبُكِ منِّي .
- لا يا صَغيرَتي الغاليَةِ مَن قالَ لَكِ أنِّي غاضِبَةٌ منكِ ، لا تُفَكِّري هكذا حبيبَتي ، هيّاَ هاتِي يدَكِ وأنْهِضيني كالعادَةِ .
- كالعادَةِ إذاً هيّاَ ...
دوماً أحَبَّت أن تَشُدَّني من يَدي بِقوَّةٍ كُلَّما رأَتْني مُستَلقيَةً في غيرِ مَوعدِ النَّوْمِ ، تَظَلُّ تَسحَبُني بِيدَيها الصَّغيرَتَين اللتَين أعشَقُهُما حتَّى تُسقِطُني عن السَّريرِ وتَدخُلُ في نَوبَةِ ضَحِكٍ طَويلَةٍ حتَّى في النِّهايَةِ أَنهَضُ بِغضَبٍ مُفْتعَلٍ فتَهرُبُ مُسرِعَةً قبلَ أن أَهُمَّ بالرَّكضِ خلْفَها وتَبدأُ ساعَةُ اللَّعِبِ التي نُحِبُّها كَثيراً والتي لا تَنْتَهي حتَّى تَستَنْفِذَ قِوانا ولا نَكونُ قادِرينَ أن نَلتَقِطَ أَنفاسَنا إلَّا بِصعوبَةٍ من شدَّةِ التَّعَبِ من الرَّكْضِ
كانَت إلينا على الرَّغمِ من صِغَرِ سِنِّها تَشعُرُ بكُلِّ ما يدورُ حولَها وتَعي كُلَّ شيئٍ يَجري معَنا ، لَطالَما رأيتُها في كثيرٍ من المَواقِفِ تَبدو سابِقةً عمرَها بِسنَواتٍ.
كانَت لا تزالُ صَغيرَةً جدَّاً ، لَكِنِّي لَم أُعامِلْها يوما على أنَّها طفلةً دوماً اعتبَرتُها صديقةً وشارَكْتُها بِكُلِّ ما يَخصُّ حياتَنا ، ما أَردتُها أن تكونَ ضعيفةً ، وما أرَدتُ أن أُشْعِرَها بِمرارةِ الفُقدان والحِرمانِ ، والذي ساعدَني على ذَلكَ كَونَنا كُنَّا نَعيشُ وَحدَنا ، بالإضافَةِ إلى أنَّني لم أَقبَلْ أن يُشارِكَني أحدٌ بِتَربيَتِها ولا بِطَريقَةِ مُعاملَتي لها ، جاهَدْتُ ألَّا تَشعُرَ بألَمِ الوَحدَةِ التي عِشتُها منذ نعومَةِ أظفاري ، لعلَّ تَجرِبَتي جعلَتني أقسو عليها أحيانا ، لكن لم يكُن أمامي خيارٌ آخَر.
تشجيعكم بحفزني كمل 😍
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.