#رواية_روز
#بقلمي_مي_الخليل
الفصل الثاني
حينَ فَتَحْتُ عَينَيَّ لِأَوَّلِ مرَّةٍ لأَعي ما حولي ، لِأُبصِرَ الحياةَ ، لَم أرَ سِوى جدَّةً حنونةً عَطوفَةً كَرَّست حياتَها لأَجْلِي ، لم تُشْعِرْني بغيابِ والِدَيَّ اللذَينِ قرَّرا تَركي لتَعتَني بي في غياباتِهم المُتَكَرِّرةِ والطَّويلَةِ ، والِدَيَّ اللذَين اختارا الغُرْبَةَّ وطَناً ، لعلّ تَجرِبَتي تلك ، والتَّشابُهِ بَيني وبَينها قَرَّبَ المَسافاتِ بَينَنا ، واختَصرَ سَنَواتٍ من العُمْرِ ، الصَّغيرَةُ كَبُرَت قبلَ أَوانها ، والكبيرَةُ حَملَت مَسؤولياتٍ ما كانَ لفتاةٍ في مثلِ عُمرِها أن تَحمِلَها لولا مَشيئَةُ القَدَرِ .
وحيدةً أَمضَيتُ سنواتٍ من عمري في ذلك البيتِ الصَّغير الذي كان ملاذي وموطِني ، اعتَدتُ الوحدَةَ واعتادَتني ، رافَقتُها ورافَقَتْني ، ارْتَبَطَ والِداي بعقدِ عملٍ في فرنسابعدَ تخرُّجِهِما من كُلِّيةِ الطِّبِ ، وقرَّرا السَّفَرَ والعملَ هناك ، وكنتُ حينَها صَغيرةً جدَّا . اعتادا الغُربَةَ كما اعْتَدْتُ الوحدةَ.
لم تُوافِقْ جَدَّتي على سَفَرِي معهما دائما كانَ لدَيها أَمَلاً بعَودَتِهما بعدَ انتهاءِ عقدِهِما ، - ما كانَت تعلَمُ خبايا القَدَرِ - لذا طلَبت أن تُبْقيني معها علَّها بذلك تُثنيهِما عن رأيِهما - وما نَجَحَت أبداً - كان حلمهما أكبَرَ من أن يتخليا عنه ، لم أُعاتِبْهُما يوما ولا فكَّرتُ بذلك .
صغيرةً كُنتُ على الألَمِ ، بكَيتُ فراقَهما ومعَ الوقتِ اعتَدْتُهُ كما نعتادُ كُلَّ شيئٍ في هذه الحياةِ - وهل نَعتادُ الألَمَ فعلاً ! - حَزِنْتُ كثيراً ، آلَمَني أنهما اختارا حُلمَهما علي ، ألَم أَكُن يوما حُلمَهما ! ... صغيرةً كنتُ لِأقبَلَ أو أرفُضَ قرَارَهُما ذاك ، بَقيْتُ عندَ جدَّتي ، منَحَتني حُبَّها وحنانَهَا ، وأَولَتني كُلَّ اهتِمامِها .
أنهَيتُ دراسَتي الثانويةِ وحصَلتُ على درجاتٍ عاليةٍ ، فرِحتُ كثيراً ، وشعرتُ أنَّ الفضْلَ الأكبرَ في نجاحي يعودُ لِجَدَّتي التي كانت كُلَّ شيئٍ بالنَّسبَة لي ، حينَ تركَني والِدَاي ، كانا مُتَيَقِّنَينِ أنِّي لن أكونَ وحيدةً ، لديَّ جدَّةً تفنى لأجلي ، وأقاربَ يُحِبونَني ويَعتبِرونَني طِفْلَتَهُم المُدَلَّلَةُ ، وفعلاً كنتُ كذلك ، لكن وماذا بعد ؟ وهل حنانُ الدُّنيا بأسرِها يُعَوِّضُ ذرَّةً من حنانِ الأُمِّ ، أو لمسةً عَطوفةً من يدِ أبٍ حنونٍ ! وهل أقسى من يُتْمٍ نحياهُ وهناك في إحدى بقاعِ الأرضِ لنا أبٌ وأُمٌّ ، يُصبِحونَ دونَنا ، ونُمسي على ذِكراهُم نَبكيهم ، أَتُراهُم يذكُروُنَنا ! .
منذُ بدأتُ أَستوعِبُ الحياةَ من حَولي ، ومنذُ عرَفْتُ أَنَّ لَديَّ والِدَين كَكُلِّ الأطفالِ ولستُ يَتيمَةً ، ومنذُ أَيقنتُ بأني سأُكمِلُ عمري دونَهما ، اتَّخذْتُ قراري بِأن أتجاوزَ حُزني وافتِقادي لهما ، أن أختَلِقَ من ضَعفي قوَّةً أُواجِهُ بها قسوةَ الحياةِ .
بَقيْتُ عندَ جدَّتي حتَّى أَنْهَيتُ دراسَتي الثانويةِ ، كانَت هي وأَخوالي وجَدِّي علَمي الذي أحبَبْتُهُ كثيراً ، وكَبُرْتُ في أحضانِهِ ، أستقي من حُبِّهِم وحنانِهم وأتعلَّمُ من خلالِهم معنى الحياةِ ، احتَضنوني واعتَنوا بي ، ومن عينَيهم أبصَرتُ الكَونَ ، كنتُ طِفْلَتَهُم المُدَلَّلَةِ والمُمَيَّزَةِ ، لم أشعُر معهم يوما بالوحدةِ ولا أغرَتني كُلُّ مُحاولاتِ والِدَيَّ لِأُسافِرَ معهما ولَطالَما حاوَلا إقناعي ، لَكِنِّي أبدا ما احتَملْتُ فكرةَ هِجرانِ بيتَ جدِّي الذي شَهِدَ مولِدي ، وفيه تعلَّمتُ كيفَ أقوى على هذه الحياة تعلَّمتُ معنى الصَّبرِ ، ومعنى أَن أَكبرَ وحيدَةً يَتيمَةً ووالِدَايَّ على قيدِ الحياةِ ، لم أَفهَم يوما ذاكَ الشُّعورُ الذي يربِطُني بِوالِدَيَّ ، لم أَشعُر يوماً أّنِّي ألومُهُما لِغُرْبَتِهما عنِّي ، ولم أَستَطِعْ تَحقيقَ رغبَتِهما بالهجرةِ معهما ، أحِمِلُ في داخلي لهما حُبَّاً واحتِراماً ، وشوقاً لا يَنضُبُ ، وحنيناً ما جَفَّت أبداً سَواقيهِ ، وأرى بَيني وبَينَهما حاجِزاً أعمى بَصَري وغَرَزَ في قلبي سيفاً قطَّعَ أوصالي ومزَّقَ شراييني حتَّى ما عُدتُ أقوى على تجاوزَهُ .
وفعلاً لِلمرَّةِ الأولى كانَ لي ما أَرَدتُ ، فبعدَ أن أنْهَيتُ الثَّانَويَّةَ قرَّرْتُ أن أَّتُركَ بيتَ جّدِّي ، وأعيشَ في بيتِ والِدَي الذي يقعُ على مَقرُبةٍ من بيتِ جَدِّي ، بالرَّغمِ من مُعارَضةِ الجَميعِ إلَّا أنِّي ما عَدَلْتُ عن رغبَتي ، وانتَقَلتُ إلى ذاكَ البيتِ الذي أصبَحَ دُنيَاي ومَملَكَتي وجنَّتي التي صَنَعتُها من أَلَمي ، ولعلَّ قراري ذاك كانَ قاسياً جدَّاً لا شكَّ بالنِّسبَةِ لي قبلَ الجَميعِ ، وأيضاً بالنِّسبَة لجَدَّتي التي كَسَرْتُ قلبَها بِقَسوَةِ اختياري . لَكِنَّنَا أحياناً نتَجاوزُ كُلَّ الاعتباراتِ حينَ يُوَجِّهُ لنا القدَرُ طَعنَتَهُ الأعنَفَ والأقوى والأَشَدَّ إيلاماً حتى لا نعودُ قادِرينَ أن نُمَيِّزَ الخطأَ من الصَّوابِ .
عندَما قرَّرَ والِداَيَّ الاستقرارَ نهائياً في فرنسا، إذ أَنَّهُما لم يَكونا قد اتخَّذا قرارَهما إلى ذلك الحينِ ، وكانَ لا يزالُ لديهِما ولو بصيصُ أملٍ بالعَودةِ والاستقرارِ في بَلَدِهما ، وفي كُلِّ زيارةٍ لهما يُحاولانِ إيجادَ فُرصَةٍ تمنَحهما بعضاً مما منَحَتهما إيَّاهُ الغُرْبَةُ ، لَكِنَّهما ولِلأسَفِ لم يَجِدا ما أمْضَيا عُمرَهما يجاهِدانِ لأجلِهِ في أحضانِهِ ، إلى أن جاءَ ذاكَ اليومُ المَشؤومُ الذي لَيتَهُ لم يأت قَطُّ ، ذاكَ اليومُ الذي استُشهِدَ فيهِ عَمِّي إثرَ هجومٍ مُسَلَّحٍ على المنطقةِ العَسكَريةِ التي كانَ يقضي فيها خِدمَتَهُ الإجباريَّةِ ، وكانَ الحادِثُ الفصلُ الذي قَطَعَ صِلَةَ والِدي بهذا البلدِ ، وحَسَمَ أمرَهُ بالبقاءِ في فرنساحيثُ لم يعُدْ لهُ ما يَربِطُهُ بوَطَنِهِ بعدَ خسارَتِهِ تلك .
نعم . حينَ نفقِدُ كُلَّ شيئٍ كُنَّا نَظُنُّ أنَّنا امْتَلكناهُ يوما ، نفقِدُ معَهُ قُدرتَنا على التأَقلُمِ والتَّعايشِ معَ الحرمانِ والألَمِ ،مُتَجاهِلينَ كُلَّ ما يُمكنُ أن يُصيبَنا من استسلامِنا ذاكَ ، مُتَناسينَ ما يكونُ قد بَقيَ بِحوزَتِنا بعدَ كُلِّ تلكَ الخساراتِ ، ولعلَّ أبي اعتبَرَ خسارتَهُ تلك هي آخِرُ ما كانَ يَربِطهُ بوطَنِهِ ، فسلَّمَ نفسَهُ للغُربةِ ، ولَعلَّهُ أورَثَني تلكَ القناعةِ التي جاءَ اليومُ الذي وجدتُ نفسي فيه مُجبَرَةً أن أعملَ بها ، على الرَّغمِ من عدَمِ إيماني الكاملِ بِصِحَّتِها ، وها أنا اليومُ أتخلَّى عن كُلِّ شيئٍ ، وأَذَرُ حياةً كنتُ أعتَبِرُ نفسي فيها ضَحيةَ آمالٍ بُتِرَت قبلَ أن تَنْبُتَ على الرَّغمِ ممَّا أحاطَتني بهِ عائلَةُ أُمِّي من عِنايةٍ واهتمامٍ بَل حُبٍّ مُبالَغٍ فيه حدَّاً كبيراً .
سافرَ والِداَيَّ ، وسافَرتُ لعالَمي ، سرَقَتْهُما الغُربةُ ، وسرَقَتْني آلامي ، مضَت السنةُ الأولى لِلغِيابِ ، مضَت حامِلَةً معها أحزانَها ، وأفراحَها ، وجِراحَها التي بالطَّبعِ ترَكَت في قلوبِنا جميعاً طعناتٍ لن يمحوها سِباقُ الزَّمَن وتَتالي الأعوامِ ، ولا حتَّى كُلَّ ما مرَرنا به بعدَها ، مضَت تاركةً في نَفسي أثراً عميقاً لَكِنِّي أَبَيتُ ولِفترةٍ طويلةٍ جدَّاً أن أَعتَرِفَ حتَّى أمامَ نفسي بذَلكَ ، علَّه الكِبرياءُ أقْوى من أن يُحَطِّمَه اعتِرافٌ لِذاتِنا ، أو أسمى من دَمْعَةِ حزنٍ نبكيها قهراً ، ولَكِن ما جاءَ بعدُ كانَ أفظعَ .
نجَحْتُ في عامي الجامعيِّ الأول بالرَّغم ممَّا مرَّ عليَّ وما عانيتُهُ ، وذلكَ كان دافِعي لأبدَأ مرحَلَةً جديدةً في حياتي بقدرٍ كبيرٍ من الألَمِ ، وكَمٍّ أكبَرَ من الأمَلِ .
في السَنَةِ الثانيةِ لِلغِياب بدَأت الأُمورُ تزدادُ صعوبَةً ، حيثُ ساءَت أوضاعُ البلَدِ الأَمنيةِ وبدَأَت أعمالُ شغَبٍ غيرَ مسبوقةٍ ، كانَ عليَّ أن أهتمَّ بِدراسَتي التي هي هدَفي الأوَّلَ والأخيرَ ، أن أتماسَكَ أمامَ العائلةِ التي بدَأَت تنهارُ يوماً بعدَ يومٍ ، أن أُوْاجِهَ والِدي الذي راحَ يُقنِعُني بالسفَرِ والهجرةِ ليطمَئِنَّ عليَّ بعيداً عن الحربِ التي بدأت تَنْشُبُ أظفارَها شيئاً فشيئاً ، ويُحاوِلُ حثَّ العائلَةِ على الهجرَةِ أيضاً ، كانَت فعلاً مرحلةُ خوفٍ لم أَعْهَدْها قَطُّ في حياتي ، اضطُرِرتُ للعَودَةِ إلى بيتِ جدِّي ، والبقاءِ عندَهم لفترَةٍ طويلةٍ حتى هدَأت الأوضاعُ بعضَ الشيئِ ، كانَت فترةً عصيبةً جدَّاً ، فعلى الرَّغمِ من أنَّنا كُنَّا في منطِقةٍ بعيدةٍ عن الاضطِراباتِ إلا أنَّ الخوفَ والقلقَ من المجهولِ حرَمَنا النَّوْمَ لِأيامٍ طويلَةٍ ، فلا أحدَ يستَطيعُ أن يتوقَّعَ ما الذي قد يَحصُلُ بينَ لحظةٍ وأخرى .
أمَّا إلينا فحكايةٌ أخرى ، إلينا تلكَ الطِّفلَةُ التي غيَّرَت حياتي .
#رواية_روز
عندما تصبح الحياة مجرد ذكريات
تفاعلكم بشجعني كمل 😍