الفصل العاشر
صيف
لاحَت نجمةٌ في الأُفُقِ
من خلفِ حُمرَةِ الشَّفَقِ
ربيعٌ في الرُّوحِ أشرقَ
قلبٌ من حُزنِهِ انعتقَ
شريعةٌ في الحُبِّ اعتنقَ
وفرحةٌ من غفلَةِ الزَّمانِ بِصَمْتٍ سرَقَ
كهاربٍ ليسَ يدري من أينَ ؟ أو إلى أينَ هوَ ماضٍ
بِكُلِّ ذاكَ الأرقِ
أَتَشِي بهِ تلكَ الحرائقُ ؟
وهوَ عالِمٌ أنَّهُ لا بُدَّ يوماً مُفارِقٌ
على هامشِ الزَّمانِ في عُزلَةٍ غارقاً
مُنتشياً بتلكَ السَّكينَةِ
مُمتَنَّاً لِمشيئَةِ الخالقِ .
كانَ ذَلكَ الصَّيفُ حافِلاً بأحداثِهِ ، المُفرِحَةُ تارةً ، والمؤلِمَةُ تارةً أُخرى ، فيهِ تحقَّقَت أحلامٌ ، وتحطَّمت أُخرى على صَخرَةِ القدَرِ ، وأحلامٌ بَقيَت بِرَسمِ الأملِ تخطو على مَهلٍ ، فيهِ ودَّعنا الطُّفولةَ بِبساطتِها حامِلينَ أجملَ ذكرياتِها ، خطوةٌ أخرى من مشوارِ الحياةِ مَشَيناها ، في ذَلكَ الصَّيفِ تفتَّحَ نَيسانُ العُمرِ ، واخضرَّت بَتَلاتُ الزَّهر .
نور ودَّعَت بيتَ والدِها إلى الأبَدِ ، ولعلَّها تركَتهُ دونَ وداعٍ بغُصَّتِها التي أحرقَت سنينَ عُمرِها الذي انقضى بعدُ ، وأمضَت ما بقيَ لها منهُ معَ شخصٍ اختارَتهُ هي ليكونَ شريكاً اغتنَت بِحُبِّهِ عن العالَمِ بأسرهِ ، فأسكنَها جنَّةَ الدُّنيا بِحُبٍّ طاهرٍ زيَّنَ حياتَها .
جودي دخلَت مرحلةً جديدةً ، تقدَّمَت خطوةً أُخرى في طريقِ نجاحِها لِتتَألَّقَ نجمةً في المجالِ الذي اختارَتهُ ، هي نَجمةُ الكَمانِ التي سطعَت باكِراً فأبهرَت الدُّنيا بإبداعِها.
صَبا استقبلَت بزوغَ فجرِ الحُبِّ القادِمِ من بعيدٍ بقلبٍ مُفعَمٍ بالأملِ ، فأقبلَت على الحياةِ بمزيدٍ من العنفوانِ والإيمانَ بغدٍ أجمل ، حينَ بدأت علاقَتُها بنزار تأخذُ منحى آخر لتتَحوَّل الصَّداقةُ إلى ما هوَ أعمَقُ وأكبَرُ فمضَت في رحلَةِ العُمرِ زارِعةً في قلبِها زهرَةَ الحُبِّ التي سقَتها دوما من ينبوعِ حنينِها وحنانِها ، رسمَت أمامَ عينَيها طريقاً صمَّمَت أن تَمشيهِ برَغمِ كُلِّ العوائقِ ، ولَم تَسمَحْ لأيِّ شيءٍ أن يُثنيها عن تَحقيقِ ما طَمَحت إلَيهِ أو رغِبَتهُ يوماً.
أَمَّا تالا فبدَأت مشوارَها بِحماسَتِها المُعتادة ، ولم تَسمَحْ لأيِّ شيءٍ أن يُبّدِّدَ تلكَ الحماسَةِ برغمِ ما كانَت تعيشُهُ معَ عائلَتِها من ظروفٍ اجتماعيَةٍ واقتصاديَّةٍ صعبةٍ ، إذ إنَّ والدَها كانَ موظَّفاً في إحدى الشَّرِكاتِ ، وحالَتُهُ الماديَّةُ لَم تَكُن جيِّدَةً بالقدرِ الذي يَسمَحُ لها بِشراءِ ما يَحلو لها أو التَّصرُّف ِبِحُريَّةٍ كما تفعلُ صديقاتُها ، لَكِنَّ ذَلكَ لم يؤثِّر عليها ، ولم تشعُر يوماً أنَّها أقلُّ منهم في شيءٍ ، وما أشعرَت أحداً بِحالِها أبداً ، وظلَّت راضيةً قانِعةً بل سعيدةً بِحياتِها ، لكِنَّها حالِمةً وأحلامَها تكبرُها بِسنوات .
وإن كانَ لا بُدَّ أن أَذكُرَني ، فلَعلِّي بدأتُ حياتي الجديدَةِ كما حياتي الأولى ، وحيدةً غريبةً عن هذا العالَمِ بعيدةً ، هارِبَةً منهُ إلَيهِ ، سائحَةً في بلادِ الحنينِ لا يَعنيني تعاقُبُ السِّنين ، لَكِن هذهِ المّرَّةُ بِتَحَدٍّ أكبَر ، تحدٍّ لِنَفسي ولِلعالَمِ من حولي ، في ذَلكَ الصَّيفِ بدأتُ أرى الحياةَ كما لم أرَها من قبلُ ، فراعَني ما رأيتُ ، سلَّمتُ بِما رأيتُ ، آمنتُ بالقدَرِ ، وأيقَنتُ بالمكتوبِ ، لَكِنَّ روحي أبَت أن تحيا كسيرَةَ الجناحِ ، رهينَةَ الجِراحِ ، لَن تكونَ ضحيَّةً لَن تَحتَمِلَ ضعفاً يودي بها إلى الجحيمِ ، أو خوفاً يرديها قتيلةً ، فراهنَت هي على الحياةِ ، وأبَت إلَّا أن تكسبَ الرِّهانَ ، لامَني البعضُ وانتقدَني آخرون ، لَكِن ما يئِستُ ، حطَّمَ الكبرياءُ الخوفَ بداخِلي ، فتخلَّيتُ عن كُلِّ شيءٍ ، وحمَلتُ خيباتي وخساراتي ومَضَيتُ وفي أبعَدِ رُكنٍ من ذاكِرَتي دفنتُها ، على مهلٍ وبِعنايَةٍ غلَّفتُها ببقايا الأملِ الصَّامِدِ بحَوزَتي ، زرعتُها يقيناً ومن مطَرِ الحَنينِ سَقَيتُها ، وبِتأنٍّ وحذَرٍ أُلحِقُ بها كُل ما سيأتي بعدَها ليَسكُنَ معبدَ ذاكِرَتي المُقدَّسَ مضَيتُ في عالَمي الجديدِ الذي خلَقتُهُ لِنَفسي ، من ضَعفي ويأسي ، أتأمَّلُ في رِحابِهِ وأسافِرُ فيهِ هائمةً في ما كانَ وما سيكونُ بعدُ ، مأخوذةً بسحرِ جلالِ الكونِ وعظمَةِ خالقِهِ .
حينَ رحلَت جدَّتي عن هذا العالَمِ ، بعدَ رحيلي عن بيتِها بفترةٍ وجيزَةٍ ، تارِكةً لي خلفَها ذاكَ الكّمُّ الهائلُ من الوجَعِ ، اتَّهمَني كثيرونَ بموتِ المشاعرِ وجمودِ الإحساسِ ، أتُراني دَفَنتُها وخيباتي وأحزاني السَّابِقةِ ! أتُراني حينَ ضاقَت بي الدُّنيا وقرَّرتُ أن أمضي في رِحلَةِ العُمرِ وحدي دونَ عَونٍ أو سنَدٍ ، تخلَّيتُ عن كُلِّ شيءٍ ، أتراني تخلَّيتُ عن مشاعري أيضاً ودفنتُها حيَّةً معَ ما ماتَ داخلي من حياةٍ ، ليتَني فعلتُ ذَلكَ حقَّاً ، ليتَني وقتَها كنتُ قويَّةً درجةَ أن أصلُبَ عواطِفي وأقتُلَ ما بداخلي من إحساسٍ ، لَكِنِّي ما استطَعتُ ، كُلُّ ما استطَعتُهُ هروبٌ ثُمَّ هروب تحتَ ذريعَةِ التَّحدِّي ، وما علِمتُ حينَها أكنتُ أتحدَّى نَفسي أَم أتحدَّى النَّاسَ من حولي ، كُلُّ ما علِمتُهُ أنِّي أردتُ أن أهرُبَ وحَسب ، هل كانَ في الهروبِ خلاصي ؟ أَم نَذرتُ لِلوَحدَةِ والحُزنِ إخلاصي ، واستَنفَذتُ في الفرَحِ فُرَصي !
لا تَبكي يا صغيرَتي سنعودُ قريباً ، وسنأخذُكِ معنا في المرَّةِ القادِمَةِ ، اهدَئي الآنَ فيجِبُ أن نذهبَ فلدَينا الكثيرُ من الأعمالِ .
- لا . لا أُريد لا تذهبا أبقيا معي وكفاكُما سفراً ،.
بكَيتُ بِحُرقَةٍ ، وظلَلتُ أصرخُ وأصرخُ لا تذهبا .
- روز حبيبَتي كفى أرجوكِ . احتضنَني أبي بِحنانٍ ، وقبَّلَ جبيني
- لا تخافي يا صغيرَتي لَن نتأخَّرَ عليكِ سنعودُ لنراكِ ونلعبَ معاً ونشتري كُلَّ ما تُريدينَ وتُحبِّين .
لَكِني انفعَلتُ أكثر وزادَت حدَّةُ بُكائي ، ترَكتُ والِدي ، ابتَعدتُ عنهُ بغضَبٍ ، وارتمَيتُ في حُضنِ أُمِّي :
ماما أرجوكِ قولي لَهُ أنَّكِ لَن تَذهَبي معَهُ ، وستبقينَ عندي .
انتشلَني خالي من بينِ ذراعَيها بِصعوبَةٍ ، وكنتُ أتشبَّثُ بها بقوَّةٍ رافِضةً أن أبتَعِدَ عنها وقد حانَ موعِدُ الرَّحيلِ ولا بُدَّ أن تَترُكَني لِخالي ، الذي ضمَّني إلى صدرِهِ .
- كفاكِ روز اهدئِي مزَّقتِ قلبي .
انهَرتُ بينَ يدَيهِ أبكي وأبكي ولا أُريدُ أن أُصَدِّقَ أنَّهُما سيرحلان ، بقيتُ على هذه الحالَةِ حتَّى اختفى طيفَهما ، لَن أنسَى ذَلكَ اليومَ ما حييتُ ، حينَ عُدنا إلى البيتِ بعدَ محنَةِ الوداعِ الموجِعَةِ تلكَ ، أمضَيتُ أيَّاماً لا أتناولُ الطعامَ ، وصرتُ عصبيَّةً جدَّاً ، لِدرجةِ احتارَ الجميعُ في أمري وما يفعلونَ لِأجلي ، إلى أن استيقَظتُ في ذَلكَ الصباحِ الذي غيَّرَ في حياتي الكثيرَ وكانَ بِمثابَةِ نُقطةً فاصِلةً في مسيرتي إلى الأبَدِ ، استيقَظتُ على همسِ جدَّتي تُحاوِلُ إيقاظي ، فتَحتُ عينَيَّ بِفزَعٍ لتُغرِقَ وجهي دمَعاتٌ اختبأت بِمُقْلَتي منتظِرةً أن أُحَرِّرَها انتبَهتُ لِنَفسي أشهَقُ بِخوفٍ وأصيحُ : ماما ساعديني ، دفَنتُ رأسي في صَدرِها :همَستُ بخوفٍ
- لا تَترُكيني جدَّتي أرجوكِ أنا خائفةٌ جدَّاً .
لا تخافي حبيبَتي إنَّهُ مُجرَّدُ كابوسٍ وستَنسَينَهُ بعدَ قليلٍ ، فقط اشرَبِي كأسَ الماءِ هذا ، واقرئي المُعوِّذات ، لَكِنِّي لا أدري ما الذي حصلَ لي بعدَها رحتُ أرتَجِفُ وانتفَضتُ بغضَبٍ غريبٍ اتَّجَهتُ إلى خزانَةِ ألعابي رميتُها على الأرضِ كسرتُها ، رمَيتُ الملابِسَ والدَّفاتِرَ والأقلامَ والهدايا التي أحضرَها لي والدَي ، جاءَ خالي فزِعاً أجفلَ من الذي رآهُ حاولَ في البِدايَةِ أن يُمسِكَني ويَمنَعَني لَكِنِّي فوجِئتُ بهِ يتراجَعُ ويقفُ يُحَدِّقُ بي بهدوءٍ ، تركَني حتَّى استَنفَذتُ كُلَّ ما بداخلي من غضَبٍ ، خرَجتُ من الغُرفةِ غيرَ مُباليَةٍ لِدهشَتِهِ التي ألجمَت لِسانَهُ ودموعي تُغشي عينَي والغضَبُ مازالَ يتملَّكُني ويُسَيطرُ عليَّ ، فتعثَّرتُ بعتبَةِ البابِ وسقَطتُ على الأرضِ ، التوَت قدمي بِقوَّةٍ ، حاولتُ أن أنهضَ فلم أقو فاستَنجَدتُ بِخالي وجَدَّتي مُتوسِّلَةً أتلوَّى من الألَمِ ، وهُما ينظُرانِ لي مُتَعَجِّبَين ، لم يَكُن عُمري وقتَها يتجاوزُ السبعَ سنواتٍ ورغمَ ذَلكَ لَم ولَن أنسَ تلكَ النَّظرةَ التي رمقَني بها خالي وقتَها ، والتي شعَرتُ بها تَختَرِقُني كَسكِّينٍ ، ثمَّ صرخَ بي بِحدَّةٍ :
كفى روز إلى متى ؟ ألَم تَتعبي ؟ انظُري ماذا فعَلت بنفسكِ ، روز هي انهَضي وحدَكِ لَن أُساعِدَكِ ، حاولتُ مراراً لَكِنِّي فشلتُ ولم أقو على الوقوفِ ، تألَّمتُ كثيراً ، وما آلمَني أكثر موقِفُ خالي والذي لَم أفهَمهُ إلَّا بعدَ زمنٍ طويلٍ ، أصرَّ ألَّا يُساعِدَني :
- هيَّا روز انهَضي كَفاكِ دلالاً ، لا شيءَ يَستَدعي كُلَّ هذا الجُنونَ والصُّراخَ .
بقيتُ أُحاوِلُ دونَ جدوى وألَمُ ذراعي يزدادُ ، وأخيراً نَجَحتُ حينَ استنَدتُ بِذراعي السَّليمَةِ على الجِدارِ بقوَّةٍ وقَفتُ على قدَمي الأُخرى بِصعوبَةٍ بالِغَةٍ .
- هيَّا روز تعالي إلَيَّ .
قالَ خالي بغضَبٍ مَمزوجٍ بِعَطْفٍ وشفقَةٍ وحنان ، ولَكِنِّي ما لَبِثتُ أن سقَطتُ أرضاً بِمُجرَّدِ أن أزحتُ يدي عن الجِدارِ مُتَّجِهةً نحوَ خالي ، فقدتُ وَعيي ، ولم أصحُ إلَّا في المُستشفى ، فتَحتُ عينَي لِأرى خالي وجدَّتي بِجانِبي ، حاولتُ النُّهوضَ فمنعَتني جدَّتي برفقٍ . أخبرَتني بعدَ ذَلِكَ بِسنواتٍ أنَّني يومَها أُصِبتُ بِانهيارٍ عصَبيٍّ بقيَت آثارُهُ في نَفسي لم يَمحوها الزَّمَنُ ، خاصَّةً حينَ وجَدتُ الجبسَ يلُفُّ قدَمي وساقي ، والرِّباطُ يَحبِسُ ذِراعي وليسَ على لِساني سوى أُمِّي أُمِّي أُريدُ أُمِّي ، أكثرُ ما أذكرُهُ من تلكَ الحادِثَةِ ، وحُفِرَ في قلبي وروحي ووِجداني ، وظلَّ كقبَسِ النُّورِ الذي أستَهدي بهِ كُلَّما أظلمَت دروبي .. كلِماتُ خالي التي ردَّدَها مِراراً أمامي على مَرِّ السَّنوات التي عشتُها بينَهم ، وفِعلاً أدرَكتُها وأيقَنتُها وصارَت لي مثلاً أهتَديهِ .. تعلَّمي أن تقفِي وحدَكِ لا تَنتَظري عونَ الآخرينَ ، سانِدي نفسكِ بنَفسكِ ، واجعلي قلبَكِ دليلَكِ وعقلِكِ سبيلِكِ ، وقبلَ كُلِّ شيءٍ إيمانِك . درس قاس تعلَّمتُهُ من تلكَ الحادِثةِ لَكِنَّهُ ظلَّ محورَ حياتي القادِمَةِ .
(حينَ يختارونَ الغيابَ عليكَ أن تختارَ أن تكونَ قويَّاً بِدونِهِم )
كثيراً ما قرأتُ تلكَ العِبارَةِ وكثيراً ما سَمِعتُها حتَّى صارَت كالمثَلِ بالنِّسبَةِ لي ،