heebbaa

Share to Social Media

الفصل الثامن
وصل القاسم أخيراً إلى منزل السيدة أم مالك بعد أن قطع مسافات طويلة تفصل بين منزله ومنزلها ولكنه لم يعبئ لذالك مادام هذا هو طلب الآسر.
طرق الباب عدة طرقاتٍ خفيفة ثم وقف ينتظر أن تجيبه ولكن مرّ وقت ليس بقليل ولم يأته الرد فعاود الطرق بقوة أكبر هذه المرة ولكن لم يأته الرد أيضاً فكاد أن يخبر الآسر لولا أن سمع صوتاً خافتاً داخل المنزل فقرر أن يتمهل قليلاً ليرى إن كانت ستفتح له أم لا، طال انتظاره ولكنه عذرها بعدما فُتح الباب ورأى الوهن والتعب الظاهر على محياها صاحب الملامح الهادئة التي كانت تؤكد لكل من نظر إليها بأنها كانت فاتنة في يومٍ ما.
_ارتفع صوتها قليلاً بقول أهلا وسهلا تفضل يابني
_اعذريني سيدتي بل أنتِ من يجب عليها أن تأتي معي
_انتفض جسدها الهزيل وقالت بصوتٍ مبحوح: هل أصاب رؤى أي مكروه

_في هذه اللحظات رفع القاسم كفيه ليطمئنها ثم قال: اطمئني سيدتي كل الأمور على مايرام ولكن الآسر طلب مني أن أأتي أليكِ لأصحبك إلى المشفى كي نطمئن على حالتك الصحية
أومئت برأسها ثم حاولت الدخول مجدداً لمنزلها كي تجهز نفسها ولكنها لم تستطع فقد ضاق نفسها من جديد ورفضت قدميها الاستجابة لها لتهوي على الأرض لولا أن كانت يد القاسم أسرع فسرعان ما حملها إلى سيارته ومن ثم عاد لمنزلها من جديد ليأتي بحقيبتها التي تحوي على بطاقتها الشخصية ومفتاح منزلها كما قالت له،
لم يطول الوقت قبل أن يصل إلى باب الأسعاف لأقرب مستشفى ليتسلمها منه الطاقم الطبي ويبدئ التعامل مع حالتها المزرية بمهارة........
....༺༺༺༺༻༻༻༻
كان الرواق طويلٌ وهادئ لايوجد فيه من يكسر هذا الهدوء المميت الذي سمح لعقل الآسر أن يطوف بذاكرته باحثاً عن أي ذكرى ربطته بها في الماضي، كاد أن يعود للمكان الذي كان يامن نائماً فيه لعله يتخلص من أفكاره هذه التي ضربت نابضه دون رحمة فقد كاد أن يخرج من بين أضلاعه من شدّة خفقانه لكنه حسم أمره أخيراً ليدير مقبض الباب بيده القوية الذي بدوره أصدر صريراً نبه به من كانت مستلقية على السرير الطبي لتسري في جسدها قشعريرة فهي تخاف أن تعاود أم حازم خطفها مرةٌ أخرى فلم تقوى على فتح عينيها أما الآسر فقد وقف أمام السرير يتفحص بعينيه الأجهزة الطبية المتصلة بجسدها ثم نظر نحو وجهها الملائكي ليتفاجأ بعينيها تطلق سراح نظراتها المنبعثة من عسلية عينيها لتستقر برمادية عينيه
مرّ عدة ثواني على حالهما هذا قبل أن تهتز الأرض تحت قدميهما وينطفئ الضوء حولهما عدة مرات، تملك الخوف من قلب الآسر فأسرع نحو رؤى لعله ينجح في بث بعض الطمأنينة إلى قلبها ولكن ماتتابع من أحداث كان أكبر منهما فما أن لمس يدها حتى خُلقت حولهما رياحاً قوية تدور حولهما حاملة معها كل محتويات الغرفة بما فيها الأجهزة الطبية كاد الفزع في تلك اللحظات أن يقتل رؤى قبل أن تفتح أمامهما فوهة من العدم ليهويا فيها بسرعةٍ غريبة لم يكن لديهما القدرة على رؤية أي شيء
أو الأحساس بشيء سوى الهواء البارد الذي يلفح وجهيهما وأخيراً ارتطما بأرضٍ صلبة وفي هذه الأثناء فقدا وعيهما لبضع الوقت فأول من أستعاد وعيه بينها كان الآسر تلفت حوله فوجد نفسه في حقلٍ واسعٍ لطالما عرف هذا الحقل عندما كان صغيراً نظر نظرةً خاطفة حوله ليجد أمامه نفسه عندما كان صغيراً في الثانية عشر من العمر صدمته كادت أن تفتك بعقله لكنه تذكر في الحال أنه كان برفقة رؤى فبدء ينظر حوله في كل مكان ولكن دون جدوى فلم يجدها بدء يركض في كل الاتجاهات بحثاً عنها ولكن دون جدوى فجلس مكانه يعتصر رأسه بيديه لعله يتذكر شيئا ً من طفولته لعلى وعسى أن يجد حلاً لما ظنه أحجية، سرعان ماأسعفه عقله بذكرى قديمة كانت في نفس هذا الحقل عندما فقد رؤى ووجدها أخيراً خلف تلةٍ صغير توجد في آخر الحقل فركض بأقسى سرعته لعله يجدها في نفس المكان، لم يخب ظنه فوجدها نائمة بالقرب من النهر وبالقرب منها كانت تجلس رؤى الصغيرة تنتظر آسر الصغير أن يأتي أليها وبالفعل لم يكن ليتأخر ذلك الصغير  مسح على وجهه بقوة لعله يفهم مايدور حوله وقبل أن يفهم أي شيء أسرع ألى رؤى ليوقظها ولكنها لم تستجيب فرشق على وجهها بعضاً من قطرات مياه النهر العذب فبدئت تستعيد وعيها تدريجياً ثم ظهر على محياها علامات التعجب عندما رأئت نفسها وهي صغيرة فرفع يديه في أشاره بأنه لا يدري ماالذي حدث لهما وكيف ولماذا عادا بالزمن هكذا
نظرة رؤى له وقالت ماذا علينا أن نفعل الآن
رد عليها بكلماتٍ بطيئة وكأنه يعيدها داخل رأسه أكثر من مرّة قبل أن يقولها: هل تذكري ماالذي فعناه من قبل عندما كنا نلعب في هذا الحقل
حاولت رؤى استعادة ذكرياتها وسرعان ما أسعفها عقلها بكل التفاصيل فوقفت وقالت علينا الذهاب إلى المنزل
_لماذا، قالها الآسر ليكمل هل ذهبنا وقتها إلى المنزل فأنا لا أذكر هذا
_لا لم نذهب بل كنا نلعب أمام تلك الطاحونة حتى المساء وعندما عُدنا وجدنا أمي تبكي ثم رافقتك وغادرتما القرية معن ولم أراكما بعدها دون أن أعلم ما السبب فإن ذهبنا الآن سنعرفه حتماً

_هيا إذاً فلنذهب.

قطعا الحقل بسرعة متجهين نحو المنزل وفي الطريق توقفت رؤى فجأة ونادت يامن فلم يجيبها عادت تناديه من جديد فلم يجيبها أيضاً فركضت نحوه وحاولت أمساك يده لينتبه لها لكنها عبرة جسده وكأنها ضوءٌ غير مرئي فاقترب منها الآسر وقال كما قلتِ من قبل نحن هنا للمشاهدة فقط لا أحد يرنا علينا أن نسرع إلى المنزل
أومئت برأسها وسارت بجانبه حتى وجدت والدتها تتلوى من الألم ولحسن الحظ قد أتى عمها أبو حازم وشاهدها تتألم بهذه الطريقة فركض إليها ليرى ما بالها ولكن قبل أن يصل بقليل صابها الدوار فأسرع لسندها وهنا تفاجأت رؤى بالآسر يحثها على الركض نحو المنزل لتتفاجأ بزوجة عمها تلتقط الصور لهما كي يظهرا بهيئةٍ مخزيةٍ لتتهمهما بأغلى ما يملكان وهو الشرف فلديها الدليل القاطع رغم أنه خادع ومزيف للحقيقة إلا أنه دليل يمكنها فضحهما بين الناس من خلاله
مرّ بعض الوقت وهم يراقبان حال والدة رؤى السيدة فتون وهي تتحسن بشكلٍ ملحوظ قبل أن يدخل والدها فكادت أن تركض إليه وتحتضنه لولا أن تذكرت أنها هنا للمشاهدة فقط،
ارتفع صوت والدها عمير وهو يقول لزوجته زوجة أخي تريد مننا الحضور تقول أن لديها ما يخصنا وتريد أن تقوله لنا
ابتسمت السيدة فتون لزوجها وسارت بجانبه نحو محكمة الظلم التي ستحكم بنفيها بعيداً إن أرادت الستر كان أبو حازم ينتفض ويصرخ بأن كل هذا ظلمٌ وافتراء نظرت رؤى نحو الباب لتجد ابن عمها أحمد يستمع لكل ما يجري فهو الشاهد الوحيد على هذه الحادثة
خرجت السيدة فتون وخلفها زوجها عمير الذي ذاق للتو طعم قهر الرجال فهو عاشق لتلك المرأة ويؤمن ببراءتها بكل جوارحه لكنه يخاف عليها من مكر زوجة اخيه لهذا وافق على ابتعادها الذي لم يستطيع تحمله سوى لشهر واحد وبعدها سلم روحه لبارئها أثرى عدّة جلطات متتالية أصابته بسبب حزنه العميق على رفيقة دربه التي كان يهيم بعشقها.
عادا إلى غرفة السيدة فتون ليجداها تبكي بحرقة وعلى الجانب الآخر كان السيد عمير يزرف الدموع بصمت.
هنا صُدما صدمة جديدة عندما وجدا نفسيهما يعودان ويرتميان بأحضان السيدة فتون لتخبرهما بأنها ستغادر القرية مع الآسر ، خرجت رؤى من الغرفة وبكت بحرقة بعدما علمت بقرار والدتها

فهي تحب والدتها كثيراً ولكنها لاتستطيع أن تتخيل حياتها بدون الآسر
صُبغ وجه رؤى بحمرة الخجل وهي تراقب نفسها عندما كانت تبوح بمشاعرها بتلك الشفافية
سرعان ماانتقلت حمرة الخجل لوجه الآسر عندما شاهد نفسه وهو يركع أمام الفتاة يمسح دموعها بكفيه الصغيرين ويعدها بأنه سيعود يوماً لأجلها
ترددت كلماته على اذنيهما سأعود يوماً ما لأجلك صغيرتي انتظريني سأعود
ظلت تلك الكلمات تتردد حتى فتحت أمامهما فجوة جديدة دخلاها بإرادتهما هذه المرة ظناً منهما أنهما سيعودان للزمن الحاضر ولكن خاب ظنهما عندما حملتهما العاصفة لزمن آخر حين فتحت رؤى عينيها لتجد نفسها أمام حظيرة الأبقار وقد كان جسدها بين الرابعة عشر أو الخامسة عشر لم تستطيع تحديد عمرها ففي تلك الأعوام لم تتغير ملامحها كثيراً.، نفضت تلك الأفكار عن رأسها فهناك ماهو أهم الآن عليها أيجاد الآسر فبدئت البحث عنه لاتعلم بأن الفجوة نقلته لمكان آخر
أما هو فما أن استيقظ من اغماءه
حتى وجد نفسه في منزله فركض نحو غرفته ليبدئ البحث عن رؤى ولكن لم يجدها فتابع بحثه لعله يجدها في مكان ما هنا لكنه لم يجدها بل وجد عمته السيدة فتون تشهق أثرى بكائها كاد أن يقترب منها لولا أن اخترق جسده هذا الكائن الذي يدعى الآسر فكتف يديه أمام صدره وراقب تعبيراته عندما كان في عمر لم يتجاوز العشرين عاماً فرسم ابتسامة عذبة على ثغره وهو يعلق على نفسه: كم كنت مرهف المشاعر يا هذا يبدو وكأنك ستصاب بانهيار جراء ذكر تلك الفتاة أمامك
ارتعش جسده وهو يقول الفتاة، قالها وكأنه تذكر للتو أن عليه أن يبحث عنها ولكن توقف عندما أدرك أن في هذا الوقت الذي عاد إليه كانت رؤى في القرية وفي ذلك اليوم ذهب بصحبة عمته أليها ليفي بوعده
طال الطريق عليهما وهو يراقبهما حتى وصلا إلى المزرعة، في هذا الوقت كانت رؤى قد طافت المكان كله وقد أنهكها التعب ولكنها استعادة شيئاً من نشاطها عندما رأت سيارة قادمة ركضت إليها لظنها أنه قد يكون الآسر داخلها لم يطول الوقت حتى تأكد ظنها ووجدته فقالت بعصبية أين كنت
رد عليها بهدوء: كنت اراقب نفسي وأنا استعد للوفاء بوعدي لكِ صُبغ وجهها بحمرة الخجل ولكن لم يطول سكونها كثيراً سرعان ما ركضت خلف شيماء التي خرجت من المنزل عقب دخول والدتها برفقة الآسر
صدمة احتلت الآسر وهو يرى شيماء تقفل على رؤى باب حظيرة البقر وتعلمها أنها معاقبة ولن تستطيع الخروج من الحظيرة قبل عدّة أيام غلت الدماء في عروق الآسر وهو يرى حال الفتاة المسكينة أما رؤى فقد حثته على السير خلف شيماء لتعرف ماكان يدور في غيابها فوجدا أم حازم تلتقي شيماء وتسألها إن نفذت ماقد أمرتها به ردت شيماء بغرور بأنها تتقن كل مايُطلب منها
قالت كلماتها ثم تبعت والدتها إلى غرفة الضيوف حيث كان الآسر برفقة عمته يطلبان من أم حازم مقابلة رؤى مقابل ماتطلبه من المال نظرت أم حازم لشيماء وقالت لها اذهبي ياابنتي وادعي زوجة شقيقكِ لتلتقي بوالدتها
_زوجة من، قالتها السيدة فتون وهي تبكي بحسرة لتكمل: كيف طاوعكِ ضميركِ أن تزوجي فتاةٌ قاصر لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها
_ابتسمت أم حازم وقالت: هي التي وقعت في حُب الهيثم فزوجتهما قبل أن تتهور وتأتي بالعار إلى العائلة
_كاااذبة قالتها رؤى وهي تلتفت إلى الآسر ثم زرفت الكثير من الدموع وهي تقول أقسم أنها كاذبة
حاول الآسر تهدئتها وهو يقول اهدئي أرجوكِ هذا قد حدث منذ زمنٍ بعيد
نظرة نحو الآسر الذي كان جالساً بجانب والدتها فوجدته يبتلع ريقه بصعوبة وكأنه قد أصيب للتو بسهمٍ ناري مزق فؤاده
قطع نظراتها دخول شيماء عندما قالت: رفضت رؤى مقابلتكما فهي تقول أن الأم التي تترك ابنتها لاتستحق لقب الأم وتقول أيضاً أنها ترجوكما أن تذهبا من ها بدون عودة
وضعت رؤى يدها على فمها وهي ترا والدتها تخرج مع الآسر مكسورة الخاطر جريحة الفؤاد يكاد أنينها أن يملئ الكون بصداه كان الآسر يراقب نفسه ويستعيد ذكرى تلك الليلة عندما وصل لغرفته واختلى بنفسه فيومها بكى وكأنه لم يفعل من قبل.
نفض تلك الذكريات وخرج من المنزل متجه نحو الحظيرة بسرعة جنونية وخلفه تركض رؤى فماأن وصل وشاهد حال رؤى في ذلك الوقت وهي تبكي بحرقة وترتجف من شدّة البرد في تلك الليلة حتى بدء يضرب الباب بكفيه ويردد أنه الظلم وويلٌ للظالمين، لكل ظالمٌ يوماً يرد أليه ظلمه
كان جسده يهتز بعنف ولم يعلم سبب ذلك إلا عندما فتح عيناه ووجد يامن أمامه يقرأ عليه سوراً من القرآن الكريم ويقدم له كوباً من الماء البارد ليرتشف منه القليل قبل أن يستوعب أنا ما مرّ به ماهو إلا رؤيا وضّحت له ماقد حدث في الماضي،
رفع كفه على جبينه يمسح به قطرات العرق البارد التي تجمعت عقب انفعاله
كان يامن مازال بجانبه يقرأ عليه القرآن بصوتٍ عالي لعله ينجح في طمأنته، أمال الآسر رأسه على كتفه ومن ثم أغمض عينيه في استكانة واصغاء لما يتلوه الآخر
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «» وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ«» الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ«» وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ«» فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا «» إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا «» فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ«» وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ
انتهى يامن من تلاوة السورة ليجد الآسر مغمض العينين متكئ على كتفه كفتى شبَّ بهذه الدنيا وهو يحارب ولم يذق طعم الأمان يوماً
كان يامن حزين للحال الذي بدى عليه الآسر الآن فمنذ أن التقى به في بيت عمته وهو يراه مثلاً للقوة والثبات فلا أحد يعلم ماذا وراء هذا الثبات من هموم مدفونة بأعماقه.......
༺༺༺༻༻༻

كان هناك كادر من الأطباء يلتفون حول السيدة أم مالك ويقومون بالفحوصات الضرورية لحالتها هذه فسرعان ما اكتشفوا أنها تعرضت لعملية استئصال الغدة الدرقية فسألها الطبيب عن سبب الاستئصال
_لترد هي بصوتها المتعب أنها أصيبت منذ زمن بسرطان الغدة الدرقية لهذا اضطر الأطباء لاستئصالها كما أنها تعرضت لجرعات اليود المشع لأكثر من ثلاثة مرات وبعدها وصف لها الطبيب نوع من الدواء وهو (هرمون الليفوثيروكسين) ثم قال لها أنه يجب عليها المداومة عليه مدى الحياة
وهنا قاطعها الطبيب وسألها مباشرة: كم من الوقت مضى على مقاطعتها لحبوب الهرمون تلك
شردت في ذهنها وهي تستذكر يوم تناولت دوائها من يد رؤى قبل أن تخرج من البيت في ذلك اليوم فسالت الدموع على خديها بدون أن تجيب بأي كلمة
حتى الطبيب أكمل عمله بدون أن يوجه لها أي سؤال آخر فقد قدّر حسب خبرته أنها تعرضت لموقف مؤلم دعاها لتتوقف عن تناول دوائها هكذا.
مرّ وقت ليس بقليل والقاسم جالساً أمام قسم الأسعاف على أحد المقاعد المخصصة لمرافقين المرضى كان شارداً بذهنه يشعر بنخزة ألم تصيب قلبه كلما فكر بحال تلك المرأة المسكينة صاحبة القلب الطيب صحيح أنه لم يراها سوى عدّة مرات ولكنه يشعر وكأنه يعرفها منذ زمنٍ بعيد فلولا أنه مسلمٌ ولديه عقيدةٌ قوية لآمن بتناسخ الأرواح فهو يشعر وكأنه ينتمي أليها يؤلمه ما يؤلمها،
_قطع تفكّره هذا صوت الطبيب وهو يقول: عذراً هل تلك السيدة والدتك قال كلماته وهو يشير بيده نحو غرفة الإسعاف
_انتفض جسد القاسم قبل أن يرد ب : لا، تلعثم في تلك اللحظات ولكنه سرعان ماحسم أمره ليقول: أنها والدة صديقي وقد أوصاني أن أعتني بها في غيابه
_أومئ الطبيب برأسه وقال: يجب أن تتواصل مع أحد أقاربها لتكملت الإجراءات اللازمة قبل أحالتها لقسم العناية المشددة
_صمت القاسم لبضع ثواني قبل أن يقول: ألا يمكنني أن أقوم بتلك الإجراءات
_أجابه الطبيب بعملية: بالطبع يمكنك ولكن يجب أن تعلم ستقوم بتحمل المسؤولية أمام أي فرد من أفراد عائلتها
_أعلم ذلك، قالها القاسم بثقة كبيرة بلله فلن يُخذل من توكل على الله سبحانه وتعالى
ابتسم الطبيب وهو يشير له على مكان بدء الإجراءات القانونية الخاصة بالمشفى
..................

༺༺༺༺༻༻༻༻
كان مستلقي بجانبها يتأمل جمال وجهها فميرا تمتلك وجهاً جميل يتميز بنعومة ملامحها التي لم تفقد رونقها رغم شدّة مرضها وطول أيامه ابتسم فهد وهو يتذكر هلعه عندما طال رنين محمولها ولم تجيب
تنهد وهو يرفع بطرف أصابعه خصلةً من شعرها الأسود الهجري التي كانت قد تمردت على عينيها المغمضتان
مرّت الساعات وهو يتغزل بمعشوقته النائمة في سره ويحمد الله أن مكروهاً ما لم يصب زوجته الغالية على قلبه.
قطع أفكاره تلك صوتاً محبب إلى قلبه لطالما انتظر استماعه فلا يوجد أجمل من صوتٍ يصدح بين طيات السماء رافعاً كلمة الله أكبر الله أكبر
فهو الصوت الذي يذّكر كل من سمعه أن لا شيء أكبر ولا شيء أعظم من الله أكبر فهنيأً لمن لبى دعوة الله عز وجل ليقف بين يديه حامداً وداعياً ثم مسبحاً ومهللاً يالها من لذتٍ تصيب القلب لايشعر بها إلا من تعلق قلبه بالله عزى وجل
ابتسم الفهد وهو يرى عيني ميرا الناعستين اللتين يعودان للنوم في كل مرة تحاول أن تستيقظ فتعيد الكرّة مرة أخرى حتى ضحك الفهد بأعلى صوته وهو يقول: هيا انهضي حبيبتي كفاكِ كسلاً فأنا ذاهب ولن أتأخر إن شاء الله
_انتفضت ميرا وقالت بسرعة: إلى أين أنت ذاهب
_سؤال كل يوم، حسناً سأجيبك اليوم أيضاً
سأذهب إلى المسجد أدعي لي أن يتقبل الله مني
هنا تذكرت ميرا أنه قد حان وقت الصلاة فقالت وأنا أيضاً أريد أن أصلي بينما تعود فهذا أكثر مايشعرني بالأمان في غيابك
_جيد إذاً سأدعو لكي أيضاً أن يتقبل الله صلاتك ودعائك جميلتي

قال الفهد كلماته ثم انطلق ليهيئ نفسه للصلاة كما فعلت ميرا أيضاً

*************************

جلست في غرفتها بهدوءٍ تام حتى انتصف الليل ومن ثم ارتدت ثيابها الفضفاضة وأسدلت وشاحها الأسود على وجهها حتى لا يتعرف عليها أحد ومن ثم خرجت من المنزل متخفية تحت سترة الظلام الدامس ،

قطعت مسافة طويلة بدون توقف وكأنها اعتادت على سير مثل هذه المسافات، وصلت أخيراً إلى وجهتها وهي عبارة عن حديقة صغيرة مغلقة بباب حديد فتحته ليظهر خلفه قبرٌ يتوسط أنواع مختلفة من الأزهار منها الأبيض والأصفر والبنفسجي الفاتن ظهرت ألوانها عندما أُضيئ المكان بمصابيح منتشرة أعلى السور مما أذهل من كان يتتبع خطاها ولكنه بقي هادئً كي لا تشعر بوجوده خلفها ففضوله كاد أن يقتله لمعرفة قصة هذا القبر فاقترب بحذر حتى استطاع سماع شهقاتها المخنوقة قبل أن يرتفع صوتها بقول : ماذا تريد مني أيضاً ثمناً لحبك الذي حُفر على جدران قلبي منذ الصغر ها أنا قد اضعت طفولتي بمراقبتك وأضعت شبابي مع زوجٍ لطالما بغضته لأكون بقربك بعد أن تجاهلتني وأعلنت حبك المتيم لتلك القبيحة لا بل الجميلة فلا أحد يراها قبيحة سواي فهي من سرقتك مني وأضرمت نار الغيرة في قلبي لتحرقه لكن وربك يااا عمير القلب لم أكن لأحترق من دونها ، قالت كلماتها تلك وهي تضع يدها على قلبها بقوة لتكمل :فأول ما صنعته بها هو أني حرمتها من مولودها الأول نعم أخذته منها يوم ولدته ووضعت مكانه مولودي الذي توفى قبل أن يولد وبهذا كان أول انتصارٌ لي على تلك الأفعى الشقراء التي خطفتك مني فكنت اشتم رائحتك به وأراك بعينيه فكلما كبر أكثر كلما ارتسمت على وجهه ملامحك بعناية فلطالما نسيت من والدته وعشقته فقط لأنك والده نعم عشقته لدرجة أني نسيت طفلي الذي نُسب للأفعى خاصتك ومرّت الأيام بعدها وأنا احترق كل يوم عندما أرى أن حبها لم يتزعزع في قلبك بالرغم من عدم انجابها لفترة طويلة وبعدما أنجبت مات الطفل كما كنت تعلم وقتها رسمت الكثير من الخطط وجهزت الكثير من المكائد ولكن لم تنجح أي منها كان حبك لها دائماً لي بالمرصاد فأنجبت بذلك الوقت الأفعى الصغيرة التي كانت شبهها بشكلٍ كبير إلا أن ورثة منك لون عينيك العسلية فوقتها بدئ كرهي ينصب عليها وعلى شقيقها الذي بات ولد من أولادي ولا يمكنني إظهار عكس ذلك فموته المفترض لم يغير أي شيء بحقيقة حبك لتلك الشقراء اكتفيت بالمراقبة لسنوات حتى أتت الفرصة التي جعلتني اتخلص منها ومن زوجي في يومٍ واحد وعندها كنت في قمة السعادة فالشعور بالانتصار سعادة لا توصف بدئت ارسم في خيالي ألف سيناريو لليوم الذي سيجمعني بك لا ثالث لنا ولكنك عصفت بقلبي من جديد بمرضك المفاجئ وموتك السريع ، توقفت عن حديثها الطويل فذكرى وفات عمير تصيبها بالانهيار فهي مريضةٌ بحبه حتى بعد موته لاشيء يخفف معاناتها سوى أحاديثها الطويلة إلى قبره الذي اخفته عن الجميع فبعد انتهاء مراسم الدفن كما العادة في تلك القرية دفعت الكثير من المال مقابل أن تتم سرقة الجثمان ودفنه في المكان الذي جهزته بنفسها بعيداً عن أعين الناس جميعاً ، استجمعت انفاسها لتكمل: ولكني انتقمت من الأفعى الصغيرة شرُ انتقام وكنت أعلم بأنك كتبت كل أملاكك باسمها ولكني حرصة جيداً على أن أأخذ منها كل شيء كما أني تخلصت من ذلك العبء الثقيل الذي يسمى يامن فقد كان يريد الزواج من شقيقته يالا غبائه فلم أجد ماهو انسب من تزويجها للهيثم فهو الوحيد الذي لم يكن ليرفض لي طلب فأكمل عني مهمة الانتقام منها ولكنه غبي أيضاً فقد وقع في حبها كما وقعت أنت في حب والدتها والآن يصارع الموت بعد أن تركته كما فعلت أنت وأعلم أني سأدفنه غداً كما دفنتك ومن ثم سأتحسر عليكما معاً لكن الذي لا أعلمه ماهو الذي سيشفي غليلي ويطفئ ناري من شقرائك وأولادها كيف سيكون انتقامي منهم فهذه المرة لن أسمح لهم بالانتصار أبداً حتى ولو كلفني هذا أن أبيع جميع الأملاك التي أخذتها بالأمس من ابنتك، كانت عيناها تغلي بنار الحقد والغل لكنها تصنمت مكانها عندما سمعت صوت خلفها يقول : لا ياأماه لن تفعلي شيئاً بعد الآن يكفي كل هذا الذي فعلتيه ألا يوجد في قلبك القليل من الرحمة تتكلمي عن موت ابنك بتلك السهولة وكأنه عجلٌ مريض في مزرعتكِ ألا يكفيكِ الخطايا التي في صحيفتك أتريدين أن تزيدي عليها المزيد من الذنوب كيف يمكنك أن تقابلي الله عز وجل وأنتِ تحملين كل تلك الذنوب الشنيعة بحق كل من هم حولك ...

_حااااازم ..، قالتها أم حازم وهي تنظر إليه بتعجب قبل أن تتمالك نفسها وتقول : ما الذي أتى بك إلى هنا وكيف سمحت لنفسك أن تسترق السمع ماذا تظن أنك فاعلٌ بعد أن علمت عني ذلك القليل

_ غلت الدماء في عرق حازم وهو يراها كما هي بقوتها وجبروتها حتى بعدما علمت بأنها كُشفت أمامه فقال منفعل : وهل هناك أكثر من ذلك الذي سمعته ظلمتي والدي وزوجة عمي بعد أن حرمتها فرحتها بولدها وكنتِ السبب بموت عمي قهراً بعد الذي فعلتيه بزوجته ثم عاملتي ابنته الصغيرة بأسوء المعاملة كما أنك شرّدتي ابنه ولم يكفيكِ كل هذا بل سرقتي أملاك عمي من ابنته وبعد كل أفعالك تلك تقولين إنه القليل فماهو الكثير بالنسبة لكِ

_ابتسمت ابتسامة شيطانية وردت ببرود :نعم أنه القليل وإذا أردت أن تعرف الكثير فأليك هذا أستطيع أن أقتلك بيدي وأعامل أطفالك كما عاملت رؤى بالضبط أو أكثر قليلاً وأزوج زوجتك لمهبول القرية إن فكرة مجرد تفكير أن تقف في وجهي أو أن تُنصّب نفسك ناصحاً لي فمنذ أن خسرت حب عمير لم يعد لدي ماأخسره أفهمت ياهذا والآن عد إلى زوجتك وحاول أن تفكر جيداً بما سمعته مني لعلك تعلم ابن من أنت وأي رحمٍ حملك داخله

_انصدم حازم ولم يجد مايقوله فلتفت وسار متجهاً نحو البيت بدون أن يزيد أي كلمة ولكن عقله ماكان ليرحمه فازدحمت برأسه ذكريات حياته كلها ومنها كان كره شقيقه أحمد الخفي لوالدته هذا ماأكد له بأنه وقف موقفه هذا من قبل ..........

***************************************************************

انقضى الليل وكان صعبٌ على الجميع فكل منهم يأمل أن يستيقظ في الصباح على فراشه ويجد نفسه عاش كابوساً مزعجاً وأنها لم تحدث كل تلك الأحداث السريعة والصادمة ولكن لم تتحقق أمنية أحد منهم فجميعهم استيقظوا ليكملوا الصراع مع الحقائق المريرة

فتحت رؤى عيناها على آلامٍ متفرقة في جسدها ولكنها حمدت الله ألف مرة بأنها نجت من ذلك المكان الكريه وقبل أن تعود لذكرياتها في ذلك المكان طُرق الباب عدّة طرقات فأذنت للطارق بالدخول بصوتها المتعب وإذا به يطل من خلف الباب بابتسامته المشرقة ويلقي السلام عليها لتبتسم هي الأخرى وتقول وعليك السلام ياآسر توسعت عيناه قليلاً وهو يدعي الصدمة ثم قال :وكيف علمتي بأني الآسر هل كل تلك السنين التي مرت لم تغيّر ملامحي

_توسعت ابتسامة رؤى ثم قالت : على العكس تغيرت كثيراً ولكني رأيتك في الأمس في حلمٍ غريب جداً تعرفت به على ملامحك الجديدة لهذا عرفتك فور رؤيتك

هنا شرد الآسر يستذكر تفاصيل حلمه وتنهد عندما أدرك أن روحهما اجتمعتا على أن يبينا الحقيقة لهما فوضع كفيه على وجهه وشكر الله كثيراً على هذه النعمة التي لم يكن يعلم عنها الكثير

كانت رؤى تتابع بعينيها تقلبات ملامح وجهه ولكنها لم تعلق بل طلبت منه أن يسمح لها الاتصال بخالتها أم مالك فهي تعلم بأن بالها قد يكون مشغول عليها كثيراً بعد غيابها المفاجئ

لم يتردد الآسر في إخراج محموله من جيبه وطلب رقم القاسم ليتواصل مع السيدة أم مالك ...

في الطرف الآخر كان القاسم غافياً على أحد المقاعد فقد أنهكه التعب بعد أن سهر الليل كله بجانب السيدة التي كاد أن يقسم بأنها امتلكت قلبه، علا رنين هاتفه ليستيقظ بفزع ويمسك محموله فوجد قد طبع على شاشته اسم الآسر ردّ والنوم يملئ صوته عندما قال :أنت من مَن سخرهم الله لإزعاجي تفضل ماذا تريد ابتسم الآسر ثم قال : لا أريدك هذه المرة

_ توسعة حدقتا القاسم وهو يقول : ولماذا تطلبني في مثل هذا الوقت المبكر هل لتطرب على أنغام صوتي أم لأقدم لك شعارات الصباح كما كنا نفعل أيام المدرسة

_اطمئن لا هذا ولا ذاك أريد التحدث إلى السيدة أم مالك فرؤى تود الاطمئنان عليها فاذهب واعطها المحمول وأما عن الطرب والشعارات سنتحدث بهما لاحقاً

_ تعالت ضحكات القاسم وهو يقول: وأنا في انتظار تصفية الحسابات فهذا أكثر مايمتعني حقاً

_ يالك من ثرثار هيا أسرع قليلاً قبل أن ينفذ صبري

_عاود القاسم الضحك وقال من بين ضحكاته: على رسلك ياأخي فأنا خارج الغرفة وانتظر أذن الدخول

لم يطل الوقت بعد أخر كلماته حتى أتى صوت أم مالك الملهوف بعد أن أخبرها القاسم أن رؤى تريد التحدث أليها: كيف حالك يا ابنتي

_ أنا بخير خالتي أنتِ كيف حالك أود الاطمئنان عليكِ فقلبي يخبرني بأنك لستِ بخير

_أنا بخير ما دمتِ بخير صغيرتي ....

قالتها والابتسامة تُرسم على وجهها من ما أفرح قلب القاسم المراقب لتعابيرها التي تبدلت مجرد أنها سمعت صوت الفتاة يالها من امرأة حساسة تحركها عاطفتها

لم يطول الحديث بينهما كثيراً لوعد الآسر لهما بأنهما ستجتمعان في هذا اليوم بإذن الله

فأنهت المكالمة السيدة أم مالك بسرعة وطلبت من القاسم أن يخبر الطبيب بأنها تحسنت ليأذن لها بالخروج إلى منزلها

وافق القاسم بعد ألحاحٍ شديد منها وطلب من الطبيب أن يأذن لها بالخروج وبالفعل حصل على الأذن عندما لاحظ الطبيب التحسن الملحوظ الظاهر على ملامحها.

كانت خطواتها تسبق خطوات القاسم والأخر في تعجب من أمرها أهذه هي التي أتت إلى المشفى في الأمس أم امرأة أخرى يالا هذا التغير المفاجئ مجرد أنها سمعت صوت رؤى تحسنت إلى هذه الدرجة فإن رأتها ماذا سيحدث ... قطع حديثه مع نفسه صوتها _عندما قالت : يابني أعلم بأني أتعبتك معي منذ أمس ولكني أريد أن أطلب منك طلب أضافي فلتسامحني على تطفلي هذا

_ابتسم القاسم وهو يتابع ملامحها المرتبكة وقلبه ينبض بحب تلك المرأة في الحقيقة هو لا يعلم سبباً لهذا الحب فرد عليها بعد أن صمتت: تفضلي خالتي أطلبي ما تريدين واعتبري طلباتك أوامر لا ترفض ولا تناقش

_ ارتسمت على ثغرها ابتسامة عذبة على طريقته المرحة في الكلام ثم قالت :أرجو من الله أن يسعدك يابني ويبعد عنك كل ظالم
انهت دعائها النابع من قلبها له بسبب حسن أخلاقه ومعاملته الحسنة لها رغم أنه تعب معها كثيراً ثم قالت: أود أن توصلني إلى السوق القريب من بيتي لأبتاع بعض لوازم البيت أريد أن أعد الطعام المحبب لرؤى قبل مجيئها

_ أتعنين ما تقولين خالتي ....، قالها والصدمة تُرسم على وجهه لترد الأخرى

_ما الغريب في ذلك يابني لماذا صُدمت هكذا

_ أنتِ متعبة وخارجة للتو من المستشفى لن أسمح بأن تقفي لساعات في المطبخ لتعدي الطعام أطلبي ما تشاءين من الأطعمة وأنا أحضرها لك من أفضل مطعم في المنطقة

_ولكن رؤى تحب الطعام الذي أعده بيدي لها

_ رؤى ستحزن حزناً شديداً إن علمت بأنكِ أجهدت نفسك من أجل أعداد الطعام

كادت أن ترد عليه لولا أن صدح صوت محموله وكان قد وقع مسبقاً تحت كرسي السائق فتتبع قاسم الصوت ليلتقطه بسرعة قبل أن تضيء أشارة المرور بللون الأخضر فوجد مكتوب أعلى شاشته اسم والدتي وأمام الاسم رقم (10)فضرب على رأسه لعلمه أن مشكلة ما ستحدث الآن أعاد المحمول الرنين ليجيب بسرعة ب: أهلاً أمي اعذريني لقد نسيت محمولي الخاص داخل السيارة وكان لدي عملٌ هام فلم انتبه

ردت بعصبية مفرطة :متى ستتخلص من عادة الأهمال هذه هل يعقل أن أطلبك منذ الأمس ولا أستطيع محادثتك

_ آسف ياأمي لم انتبه لفقدانه

_وهل تكفي برأيك كلمة آسف

_ ماذا تريدين مني أن أفعل لكي ترضي

_ أولاً أرسل لي رقمك الآخر المخصص للعمل فهذا لايمكن لك نسيانه أما ثانياً أريدك أن تأتي في الحال هناك أمرٌ ضروري يجب أن تعلمه

_أمي أنا مشغولٌ جداً الآن ولاأستطيع المجيء ألا يمكن أن يتأجل ذلك الأمر لوقتٍ لاحق

_معك من الآن إلى الساعة الخامسة انهي عملك المهم فأنا في انتظارك

_ حسناً هكذا أفضل نوعاً ما

_انهى حديثه مع والدته مودعاً لها ثم التفت نحو السيدة أم مالك ليقول : هل قررتي أصناف المأكولات التي تريدين أن أطلبها للأميرة رؤى عند مجيئها

_نعم أنها أميرة يليق عليها هذا اللقب كثيراً

_رباه بدئت أشعر بالغيرة حقاً من هذه الرؤى قبل أن أراها

_ تعالت ضحكات أم مالك قليلاً وهي تقول : وماسبب هذه الغيرة

_ تحدث بجدية هذه المرة عن غير عادته المرحة التي اعتادة عليه بها : لأنها تملك قلباً نقي مثل قلبك يحبها بصدق يتألم لألمها ويفرح لفرحها فهذا نادراً جداً في هذه الأيام قال تلك الكلمات ثم أعاد نبرة المرح لصوته ليكمل : مارأيك في أن نعقد صفقة سوياً

_ وضعت ام مالك يدها أسفل ذقنها وهي تقول : أمممم وماهي هذه الصفقة ياترى

_ ضحك القاسم وهو يكمل: تحبيني كما تحبين رؤى وفي المقابل ألبي لكي كل ماتريديه وحتى لو طلبي لبن العصفور لأتيتك به

_لا داعي لكل هذا فأنا بالفعل أحببتك منذ أن رأيت فيك كرم الأخلاق والمروءة فما فعلته معي حتى الآن لاأحد سيفعله سوى ولدي لو كان حاضراً

_ صحيح خالتي :أين هو مالك

_ابتلعت غصتها قبل أن تجيب : لقد سافر منذ زمن وانقطت عني أخباره ومن ذلك اليوم وأنا أعيش على أمل عودته إلى أحضاني في يومٍ ما

_ توقفت السيارة أمام البناء الذي تسكنه كما توقف معها الحديث الموجع للقلوب

*********************************

كان جالساً أمام أخيه الممدد على السرير الطبي دون حراك والدموع تنساب على خديه بصمت لايعلم يحزن للحال الذي وصل إليه الهيثم أم يفرح له بأنه سينجو من أفعال والدته مبكراً مسح وجهه بعنف لعلى أفكاره تهدء قليلاً ولكنها زادت عندما تذكر حديثه مع الدكتور المراقب لحالة الهيثم في الصباح عندما قال : أن حالته تصعب كل يوم عن اليوم الذي قبله فقلبه متعب جداً كما أنه نجا إلى الآن من عدة جلطات قد أصابة قلبه، لم يعد يحتمل فكرة الجلوس أمام شقيقه وهو بهذا الحال فهم للخروج لولا أن يدٌ حنون استقرت على كتفه لتخفف بعضاً من هذا الألم الذي يغزو قلبه فنظر لصاحبة اليد وقال بصوتٍ مبحوح : يصعب عليّ الأحساس الدائم بأني سأفقده في أي لحظة وإلى الأبد ، قال كلماته ثم استند برأسه على يدها فرفعت يدها الأخرى وقالت : هدء من روعك يابني فلكل منا قدرٌ سيدركه رغم كل شيء وأننا لأضعف من أن نغيّر أقدارنا إلى بالدعاء للخالق الودود الرحيم فهو الواحد الأحد القادر على تغيير الأقدر فقم ياولدي وتوضئ ثم صلي ركعتين لله وأطلب منه أن يختار للهيثم ماهو خير إن كانت الحياة خيرٌ له فليحيا وإن كان الموت خيرٌ له فالله العالم بحالنا جميعاً قالت السيدة فتون كلماتها وهي تتماسك كي لا تنهار أمام أحمد فتزيد همهُ هماً أما الأخر فقد أمتثل لماقالت وتوجه نحو المسجد القريب ليتوضئ ويصلي لله لعله يجد الراحة بين يديه فهو الباحث المجتهد عنها منذ زمن ولكنه لم يهتدي لها إلى بعد أن سمع تلك الكلمات القليلة بعددها والعظيمة بمعناها ..................

**************************************
2 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.