heebbaa

Share to Social Media

الفصل الرابع عشر

قُبض قلب السيدة  أم مالك وهي ترى رؤى تنهار هكذا أمامها أما رؤى ماكانت تلفظ إلا كلمة واحدة لماذا.... لماذا أنت انحنت إليها أم مالك وهي تحتضنها وتمسح وجهها بكفها الحنون والأخرى معلقة نظرها بعيناها وهي تردد لماذا
سمعت هنا أم مالك صوت باب المنزل يفتح فنادت بأعلى صوتها للسيدة الفتون التي  أتتها مسرعة برفقة يامن لتجد صغيرتها بهذا الحال المذري جن جنون يامن عندما رأى شقيقته بهذا الحال وبدأ يحاول حثها على الكلام ولكنها لم تأبى عن النظر إلى وجه أم مالك ونطق بعض الحروف المتقطعة التي إن جُمعت كونت جملة تمرد امرأة على الطغيان
هنا أدركت أم مالك أن رؤى قد أكملت قراءة تلك الرواية التي أخفتها عنها منذ أن حدثتها عن قراءتها للمقدمة خاصتها كي لاتعرف أن هي بطلة تلك الرواية   وتتأثر بها فهي تظن نفسها بأنها فشلت في تمردها فشلٌ ذريع بسبب أنها لم تستطيع أيجاد طفلها الذي سُلب من احضانها عنوةً
عادت أم مالك لتحتضن رؤى مرة أخرى وتقول:  أرجوكِ كفي عن هذا فقلبي لا يقوى على رؤيتك هكذا.
توجهت الأنظار نحو أم مالك لتفسر لهم ماالذي فهمته من كلمات رؤى فكادت أن تتكلم لولا أن قاطعها صوت طرقات قوية على باب المنزل ..........

    ‏***********************
    كانت هيئة القاسم تدل على أن كارثة قد حدثة معه فسرعته لم تكن طبيعية ولولا براعة الآسر في القيادة لما استطاع مجارات سرعته كان خالد يجلس بجوار الآسر وقلبه ينتفض خوفاً على القاسم فقد كان يقود سيارته بسرعة جنونية ينتقل من شارع لشارع بدون أن يراعي نظام السير
    ‏ رُسمت الدهشة على وجهي الآسر وخالد معاً عندما ركن سيارته أمام منزل الآسر ليترجل منها متجه نحو باب المنزل ليطرقه عدة طرقات متتالية أفزعت من في الداخل
    ‏ ركن الآسر أيضاً سيارته بإهمال ليلحق بالآخر برفقة خالد الذي لم تقل دهشته عن دهشة صديقه فهناك شيء غريب وغير مفهوم بالنسبة لهما.....
    ‏لم يمضي الكثير من الوقت قبل أن يفتح يامن ليظهر وجهه الشاحب مما أثار فزع الآسر ليقول ماذا يجري هنا
    أطبق الصمت على فم يامن وهو يوزع نظراته بين الثلاثة أمامه لايعلم ما يجب عليه أن يقول:
    ‏  ‏قطع صمته صوت القاسم وهو يقول أين هي وقبل أن يكمل جملته سمع اسمه يُنطق بصوتها العذب الذي اجتاز ضلوعه ليستقر في وسط فؤاده نعم كل الأصوات تُسمع من الأذن إلا صوت الأم فهو الصوت الوحيد الذي يُسمع من القلب مباشرة  ، ألتفت إليها بسرعة جنونية فماأن ألتقت عيناها بعيناه حتى شُلت حركته فلم يستطيع أن يخطو أي خطوة تجاهها وكأنه تصنم بالكامل عدا عيناه التين ذرفتا الدموع بغزارة وكأنهما شلالاً قد فاض بعد انحسارٍ دام سنواتٍ وسنوات
    ‏اقتربت أم مالك منه تحت أنظار الجميع المتسائلة وماأن قطعت المسافة الفاصلة بينه وبينها حتى انحنى أمامها يقبل يديها فانحنت هي الأخرى لتقبل رأسه وتشتم رائحته التي حُرمت منها سنيناً طويلة
    ‏ضمت رأسه إلى صدرها وهي تحمد الله عز وجل على استجابته لدعائها ثم صرخت بأعلى صوتها رؤى لقد عاد لي لقد عاد لقلبي عاد لأراه قبل موتي عاد حبيب قلبي وبهجت فؤادي.
    ‏كان صوتها ينخفض تدريجياً حتى أختنق بآخر كلماتها مرّت بضع الدقائق قبل أن يتدخل كل من الآسر وخالد في أبعاده قليلاً  رأفتاً بقلبه وقلب هذه الامرأة الرقيقة كنسمة صيفٍ تنعش كل من اقتربت منه وتقدم له الحب والحنان بدون مقابل
    ‏اقتربت منها السيدة فتون وهي تشعر بشعورها الآن فهي لاتفرق عنها سوى بأنها شهدت على طفولة أبنها يامن ولم تكن تعلم بأنه ولدها أما الأخرى فقد كانت تعلم بوجود ولدها ولكنها لم تراه ولم تتنعم بمراقبة نموه أمام عينيها....
   في هذه الأثناء ‏دعتهم السيدة فتون للدخول جميعهم إلى الصالة فيجب عليها أن تطمئن على صغيرتها فيبدو أن ماحدث معها له علاقة مباشرة بهذا اللقاء فاستأذنت لتتوجه نحو غرفة السيدة أم مالك لتتفقد ابنتها ولكنها لم تجدها فخرجت مسرعة لتستعين بيامن ليبحث عن شقيقته فهو أسرع منها ولكن قبل أن يتحرك تفاجئ برؤى تهبط من أعلى الدرج تسير بخطواتٍ بطيئة وغير متوازنة كانت الأنظار جميعها متعلقة بها إلا نظر القاسم الذي كان يطالع وجه والدته ليتفاجئ برؤى أمامه تقدم له كتيب صغير قرأ عنوانه بلهجة تسائل(تمرد امرأة على الطغيان)  فهمت رؤى ماقصد ففتحت له على الصفحة الأخيرة ليقرء اسم الكاتبة ليجد اسم والدته فخطف الكتيب من يدها بتملك فقد علم أن الحقيقة الكاملة تكمن داخله
    ‏حاولت أم مالك أن تمنعه من قراءته رأفتاً بقلبه ولكنه أبى أن يفلته من يده فهذا مايحتاج إليه الآن
    ‏كان الجميع لايزالون تحت تأثير الصدمة وأكثرهم الآسر الذي كاد فضوله أن يقتله فعقله لم يستطيع بعد صياغة مايحدث حوله فما هي علاقة رؤى بالقاسم بأم مالك وماهذا الذي يحدث معهم  لقائين في نفس اليوم يالها من صدفة لم تحدث حتى في أفلام السينما....

    ‏بطل عجب الجميع عندما علموا القصة التي رواها القاسم وهو يحتضن والدته بيمينه وروايتها بيساره كان مصغي جيداً  لكل كلمة يقرأها القاسم فما أن بدأ بقصتها مع والده حتى اختنق بعبراته لتطوف أعين الجميع بالدموع إلى أن انتهى واحتضن والدته بيديه وهو يقول: آسف، آسفٌ جداً على عمركِ الذي قضيتيه في انتظاري آسفٌ لأني لم أكن أعلم شيئاً عن وجودكِ ليتني علمت بالحقيقة منذ زمن لما كنت فارقتكِ يوماً واحد لن أسامح من حرمني من أحضانكِ مادمت حياً
    ‏لن أسامحهم أبداً
    ‏مسحت دموعه بكفيها وهي تقول له بصوتها المبحوح: حبيب قلبي دع قلبك صافياً كالماء العذب ولاتعكره بشوائب الحقد فهو يبقى والدك لاأعلم ما الذي دعاه على فعل مافعله ولكني على يقين بأنه كان مجبر على ذلك أما أنا فيكفيني أنّ الله مدَّ عمري ونجني من المرض الخبيث لأراك مرة أخرى كما أنه عوضني عن صبري بمعرفة كل هؤلاء الأشخاص الطيبين الذين لايُقدرون بثمن

    ‏_ أتدافعين عنه بعد كل الأذى الذي سببه لكِ

    ‏_يابني أعلم جيداً أن لاأحد في هذه الدنيا أكرم من المسامح فأرجو منك أن تكون كريماً كما كنت أتمناك دائما وأدعو لك في كل صلاة

    ‏_ انحنى القاسم مرة أخرى ليقبل يديها وقدميها أيضاً فالآن فقط قد علم سبب توفيقه واستقامته في هذه الحياة
    ‏كان المشهد مؤثراً جداً حتى دعى السيدة فتون للبكاء الحارق فهي أكثر من يستطيع الأحساس بقلب هذه المرأة التي صمدت وحدها كل هذا العمر بوجه عواصف الحياة القاسية

    ‏في هذه الأثناء اقترب يامن من والدته فقلبه قد تفطّر وهو يرى دموعها تسيل فاحتضنها بين يديه في محاولة منه لتهدئتها والتخفيف عنها
    ‏أما الآسر فقد تعلّق نظره بمعشوقة قلبه وتمنى لو أنه يستطيع أن يخطفها من بين الموجودين ويذهب بها إلى مكانٍ ما لاحزن فيه ولادموع تزرف ولا به آهاتٍ من القلوب تصدح، حلّق بخياله أكثر عندما ألتقت عيناه يعينيها المتورمتين من شدّة بكائها  ليتوقف الزمن عند هذه النظرة التي لايتعدى زمنها الفعلي ثانية واحدة فقد هام قلبه عندما تعلقت رمادية عيناه بعسلية عيناها وكأن الكون خُلق لأجلهما.......
                    ‏*************
 

كان كل من حازم وأحمد جالسين بجانب الهيثم عندما دخل الطبيب وقال لهما أن حالة شقيقهما مستقرة ولكن لاجديد بها وأن وضعه هذا يمكن أن يدوم سنوات على هذا الحال ويمكن أيام فلا أحد يمكنه تحديد ماالذي سيتغير في حالته هذه سوى الله عز وجل فيمكن أن تتحسن حالته ويمكن أن تتراجع والمرجّح أكثر من هذا وذاك أن يبقى على حاله بدون تغير
كانت زوجته بالقرب منهم تسمع حديث الطبيب وقلبها يرجو من الله أن تتحسن حالة زوجها ويعود لها لتكمل حياتها معه
غادر الطبيب بعد أن أجرى الفحوصات الروتينية للهيثم
فهنا ألتفت حازم نحو زوجة شقيقه وطلب منها أن تجلس ليكلمها بأمرٍ مهم
انصاعت الأخرى لطلبه وجلست على المقعد خلفها لتسمع مالديه ليبدأ حديثه: يشهد الله بأني أعتبرك كاأحد شقيقاتي وما سأقوله الآن لاغاية لي به سوى مصلحتك، قال كلماته تلك ثم صمت قليلاً قبل أن يكمل: لقد سمعتِ ماقاله الطبيب عن وضع الهيثم
هزت رأسها والدموع تتجمع بعيناها لمعرفتها بالطلب الذي يريد أن يطلبه منها ولكنها لم تقاطعه بأي كلمة
فأكمل الآخر والغصة تملئ قلبه قبل صوته: ولك  الحرية أن تنفصلي عنه لتكملي حياتكِ كأي فتاة أخرى وأعلمي أن لاأحد يستطيع أن يلومكِ على قراركِ هذا فهذا من أبسط حقوقكِ.
انتظرت حتى انتهى حديثه لتقول: هذا مستحل لن أترك الهيثم مادام الهواء يجري في صدري ولن ابتعد عنه ولن أكف عن الدعاء والتضرع لله عز وجل لكي يشفيه
قالت كلماتها ثم اقتربت من الهيثم وشهقاتها تتزايد وهي تقول:  لن أتركك لن ابتعد عنك عد لي من جديد  عد لنكمل حياتنا سوياً بقيت تردد هذه الكلمات بعد أن أسندت رأسها على كتفه بدون أن تعلم بأن كلماتها تلك قد أنشأت صراع داخل العالم الخاص بالهيثم فحياته الوردية التي كان يعيش بها في خياله اهتزت على صوتها وهي تدعوه للعودة فلم يمضي الكثير من الوقت قبل أن تشعر بتشنج جسده الذي بدأ يهتز بخفة
فنادت حازم لتلفت انتباهه لما يجري فاقترب منه حازم في الوقت الذي أسرع فيه أحمد ليطلب  من الطبيب الحضور بسرعة
أما الهيثم فقد تداخلت الأصوات في رأسه لينتفض جسده بشدّة عندما رأى رؤى تغادره مبتعدة وهي تلوح له بيدها كان يحاول اللحاق بها ولكن صوت زوجته كان الأقرب والأعلى وهي تقول عُد لي أني في انتظارك
كان يتجاهل صوت زوجته رغم قوته ويحاول جاهداً أن يلحق برؤى التي علا صوتها فجأة وهي تقول عُد لها ياهيثم فهي أحق بك مني كانت عيناه متعلقة بها وهي تبتعد والابتسامة تزين محياها كاد أن يلحق بها لولا أنها اختفت من أمام ناظريه ليعود صوت زوجته الباكي التي كانت تترجاه أن يعود إليها
في هذا الوقت زاد تشنج جسده مما أفزع من حوله قبل أن يطلب منهم الطبيب مغادرة الغرفة..........

                ****************

في جو عائلي محبب لقلب أم مالك قُضيت عدّة ساعات قبل أن يطلب منها القاسم مرافقته للأستقرار معه في منزله فمن حقه أن ينعم بوجودها في حياته وأن لاتغيب عنه ولا حتى يومٍ واحد
في هذه الأثناء كانت رؤى حزينة وسعيدة في نفس الوقت سعادتها تكمن في جبر خاطر الامرأة التي وقفت معها في وقت تخلى عنها الجميع أما عن حزنها فهي لاتستطيع تخيل حياتها بدون خالتها أم مالك فكيف لها أن تشتاق لها ولاتراها وأن تستيقظ صباحاً ولاتذهب لأحضانها لتسمع منها أجمل الحكم وأهم النصائح كيف لها أن تعيش من دون من كانت لقلبها الحياة عندما خيّم الموت على حجراته.
كانت تلك أفكار رؤى عندما تفاجأت بأم مالك تحتضنها وتقدم لها الوعود بأنها لن تغيب عنها وبأنها ستحضر متى أرادت منها الحضور وبأنها أيضاً لاتستطيع الغياب عنها فهي من استحوذة على قطعة من قلبها فقد امتلكتها وتربعت على عرشها.
_ابتعلت رؤى غصتها وسرعان ماقلبت حزنها لابتسامة ببراعة لايمتلها أحداً سواها ثم قالت بطريقتها المرحة: سأسمح لك الذهاب الآن و لكن لن يطول صبري كثيراً فيجب عليكِ أن تقسمي أيام الأسبوع نصفها لي والنصف الآخر لذلك الخاطف
_توسعت عينا القاسم بصدمة قبل أن يعيد: الخاطف.....  يبدو أنك تحلمين فلن أسمح لأحد أن يبعد أمي عني ولا حتى ليومٍ واحد
_ نظرت رؤى لأم مالك التي كانت تبتسم وهي توزع نظراتها بين رؤى والقاسم اللذين أظهرا غيرتهما من بعضهما من أول يوم ثم قالت: لايجدر بابن روعة أن يكون أناني لايحب إلا نفسه ولايهمه إلا أرضاء غروره حتى وإن كان على حساب سعادة والدته التي لاتهنئ إلا إن رأتني، قالت آخر كلماتها بغرورٍ مبالغ به غير منتبه للعيون التي تراقبها بهُيامٍ وشغف نعم أنها عيون الآسر المراقبة للمعشوقة الأولى والأخيرة أما القاسم فقد تاهت الكلمات على ثغره لأنه يعلم جيداً صحة كلامها فهو أكثر من شهد على حالة والدته عندما ابتعدت عنها تلك الفتاة التي نعتها بالساحرة في نفسه فكيف لها أن تشاركه قلب والدته الذي من حقه وحده كانت هذه أفكار القاسم الذي قطعها عندما قال:  على العكس سأحقق لها كل ماتريده مهما كلفني كما أنني سأعيش منذ الآن لسعادتها فقط وإن شاء الله لن أعصي لها أمراً،
كان يقول كلماته وهو يطالع وجه والدته التي اقتربت منه ثم ضمته وهي تدعو له بالخير والتوفيق.........
                       ***********
                 
في مكان بعيد:

كانت تجلس منفردة في غرفتها ففقدانها لأولادها جَرَح قلبها ولكن جبروتها يجبرها على أن تصمد ولا تُظهر مشاعرها أمام أحد  
في هذا الوقت سمعت صوت طرقات على الباب فأذنت للطارق بالدخول لتظهر شيماء بعد لحظات وعيناها مليئة بالدموع
لاحظت هذا أم حازم هذا ولكنها لم تحاول معرفة ماحدث فهي قد هيئت نفسها جيداً لتلقي أسوء خبر وهو وفات الهيثم ومادونه لاشيء يهمها أن تعرفه
بقيت شيماء صامته قليلاً قبل أن تقول: اتصلت بي سميّة زوجة الهيثم وطلبت مني أن أخبرك بأن الهيثم يصارع الموت لتدعي له الله أن ينجيه فدعاء الأم لأولادها يمكن أن يكون مستجاباً أكثر من أي أحد آخر.
بقيت أم حازم على جمودها نفسه فلم ترد على ابنتها سوى بإشارة من يدها تطلب منها الخروج
فما أن خرجت شيماء حتى أستندت برأسها على الأريكة خلفها وقالت بصوت منخفض لايسمعه سوى أذنيها: أولمثلي دعاءٌ مستجاب، قالت كلماتها وهي تسترجع شريط حياتها كاملاً  في مخيلتها باحثة عن عمل خيرٍ خالصٍ لله لتدعوه به ولكنها لم تجد
وعلى حين غرّة غافلتها دمعة هاربة من بين صخور قلبها لتتجاوز تحجر عيناه وتتحرر أخيراً بانسدالها على خدها قاطعة الخطوط المرسومة عبر رحلة زمنٍ طويل قُضيّ بالذنوب والمعاصي والركض وراء شهوة النفس الأمارة بالسوء 
بينما كانت تتفكر بحياتها أتتها ذكرى كانت قد نستها منذ زمن
ففي يومٍ كانت تقضيه عادياً لاغريب به تقوم بالأعمال الموكلة إليها في بيت أهل زوجها أتتها امرأة من أحد أقاربهم وآثار الدموع في عيناها فسألتها عن حالها لتجيب الأخرى بأن كثرة الدّين  ماأهمها وكسر خاطرها فهي أرملة تربي أربعة أيتام وقد كثر عليها الدين ولم تعد تقوى على سده
كما قالت لها أيضاً بأنها قضت الليل تبكي وتناجي الله فلم يهدها قلبها إلا لأن تأتي إليها هي دون أحد آخر
فهنا تذكرت أم حازم حديثاً شريفاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم «واللهُ في عَونِ العَبْدِ ما كان العَبْدُ في عَونِ أخيهِ»، فسرعان ماأخرجت سوارٌ ذهبي  غالي الثمن من يدها وقدمته للمرأة لتفك به كربتها وتفي ديونها ثم احتسبت مافعلته عند الله دون أن يعلم أحد بموقفها هذا حتى وقتها الحالي...
رفعت يديها إلى السماء تدعو لأبنها بعملها هذا  وهي على  يقين بلله فهي تعلم جيداً أن الله أكرم الأكرمين

                ***************

تعامل الأطباء مع حالة الهيثم ببراعة ليعود إلى هدوءه مرة آخرى ولكن لم يسمحوا لأحد الدخول إلى غرفته حتى تأكدوا من استقرار وضعه حينها دخلت زوجته ليتبعها حازم وأحمد ثم تبعهم  يامن الذي انضم إليهم بعد أن علم بما جرى للهيثم  في غيابه
كانت سميّة تتأمل وجه زوجها وتدعو الله من جوارح قلبها أن يعود إليها من جديد.
مرّ وقتٌ طويل وقد نال التعب منهم مناله فطلب حازم من سميّة أن ترافق أحمد إلى المنزل لينالا قسطاً من الراحة بينما يبقى هو ويامن يتناوبان أمام الهيثم حتى الصباح لتأتي هي وأحمد من جديد ويتبادلان فإنهاكهم جميعاً معاً لن يجدي أي نفع
انصاعت سميّة لما قاله حازم رغماً عنها فهي متعبة حقاً وبحاجة لبعض الراحة لتستعيد نشاطها من جديد
ولكنها وقبل أن تغادر اقتربت من الهيثم وطبعت قبلة رقيقة على جبينه ثم همست في أذنه: عُد لي فأنا في انتظارك ثم غادرت برفقة أحمد تاركة خلفها الهيثم الذي كان يبدو هادئ ولا أحد يعلم بأنه يعاني من رحلة بحثٍ شاقة في عالمه الخاص فهو يبحث عن رؤى في كل مكان بدون أن يجدها ولكنه لم ييأس بعد............
                      ****************

انسدلت أجنحت الظلام لتعلن نهاية هذا اليوم المليئ بالأحداث
كان الآسر مستلقي على سريره يحاول النوم دون فائدة فباله مشغول بكل مايحدث حوله في هذه الأيام فبعد أن كانت حياته رتيبة ومملة أصبحت مليئة بالضجيج والأحداث المتسارعة فكيف له التكييف مع هذا التطور السريع فمنذ أن قرأ اسم معشوقته وحتى الآن لم يمر يوماً واحداً بدون حدثٍ جديد
كانت أفكاره كلها تدور حول معشوقته المستحوذة على  قلبه وعقله معاً
قطع أفكاره صوت طرقات خافته تكاد لاتسمع على باب غرفته فابتسم لمعرفته من هي صاحبة تلك الطرقات ثم اتجه لفتحه ليجدها واقفة أمامه بطلتها الفاتنة كعادتها فعيناها العسليتين لطالما نسجتا شباكٍ متينة لقلبه المسكين الذي وقع ضحية لهما منذ زمن.
حكّ الآسر أسفل ذقنه وهو يقول: أممم هذا يعني بأن صغيرتي لاتنسى أبداً
_ردت بعد أن رسمت على ثغرها ابتسامة: نعم تذكر هذا جيداً 
_ والآن أين تريدين أن نجلس لنبدأ حديثنا

_ وضعت يدها أسفل ذقنها بتفكير ثم قالت: لايجدر بنا أن نجلس في غرفة نومك

_ولاغرفة نومكِ،  قالها الآسر وهو يرفع يديه بقلة حيلة
ثم قالا معاً: إذا لتجمعنا الحديقة، ثم ابتسما لتتحول ابتسامتهما لضحكات أفرحت قلب من سمعت حديثهما صدفتاً لترفع يديها وتدعو الله أن يكتب لابنتها وابن شقيقها السعادة والتوفيق....
لم يطول الوقت حتى جلس الآسر على أحد المقاعد الذي كان يقابل المقعد الذي جلست عليه معشوقته وبدأ حديثه وهو مبتسم:
هذه اللوحة مميزة بالنسبة لي لأن أبطالها حقيقية وليست ألوان تعانقة لتظهر لوحة رُسمت في مخيلة رسامٍ ماهر
_ سألته رؤى مستفسرة: ومن هم أصحابها
_ سأحكي لك القصة كاملة ولكن بشرط
_ماهو؟
_أن لا تقاطعيني
_موافقة،  قالتها رؤى وهي تستعد للاستماع فقط،
ليبدأ الآسر:
كان هناك رجلٌ يعمل نجاراً حاله ميسورٌ والحمد لله لديه زوجة يحبها جداً وقد رزق منها أربعة أولاد فتاة وثلاث ذكور  كانت الفتاة أصغرهم  ومدللة جداً  لدى الجميع مرّة الأيام وقُلب حال هذا الرجل حتى أصبح لايملك أكثر من قوت يومه فقط ليتفاجئ بعد ذلك بأن فتاته قد أصيبت بمرضٍ عسير في تلك الفترة والعلاج منه يحتاج إلى الكثير من المال فضاق صدره وحار أمره وكان يحاول جاهداً أن يجمع المال لعلاجها لكنه لم يستطيع رغم أنه لم يكن يرحم نفسه أبداً فقد كان يعمل عشرون ساعة ويرتاح أربعة ساعات فقط وكلما سمع آهات الطفلة الصغير التي لايتجاوز عمرها العامين قُبض قلبه وعاد لعمله من جديد ليفعل المستحيل كي تُشفى صغيرته ولكن كل هذا لم يجدي نفعاً وفي يومٍ مشؤوم أكثر من حياته كلها أتاه صديقاً له يعرض عليه فكرة السفر مهاجراً على متن سفينة ستبحر قريباً إلى بلادٍ بعيدة يمكن لصغيرته أن تتلقى العلاج هناك مجاناً
فراقت له الفكرة وعاد مبشراً لزوجته ثم طلب منها حزم أمتعتهما وأمتعت أطفاله الذي كان أكبرهم يناهز عمر العاشرة والأصغر كانا توأمين يناهزا عمر السادسة كان الجميع فريحين بهذا الحل الذي سينهي مشاكل  العائلة جميعها
وقبل أن يرحل الرجل من قريته باع بيته ومنشرته ليدفع تكلفة هذه الهجرة التي ستفتح له ولعائلته باب النعيم كما كان يظن وبالفعل أبحرت السفينة في اليوم التالي حاملة فوقها الكثير من المسافرين  والبضائع بالأضافة لطاقم السفينة الذين أهتمو بتنظيم المسافرين كلٌ في مكانه المخصص
سار كل شي على مايرام في اليوم الأول الذي انتهى عندما كان ذلك الرجل يضم صغيرته إلى صدره ويقدم لها الوعود بالعلاج فور وصوله إلى تلك البلاد
مرّ ثلاثة أيام على أبحار تلك السفينة التي باتت تبحر في المياه الأقليمية المختلفة عن السواحل بأمواجها العالية والمرعبة بالنسبة لمن يبحر أول مرة
ومازاد من رعب الجميع على متنها  العاصفة التي هبت فجأة ليعلن طاقم السفينة حالة الطوارق وتتجهز قوارب النجات الصغيرة للإبحار في حال كُتب الغرق على السفينة
قضىت العائلة ساعات من الرعب فالرجل يضم زوجته وأطفاله وهو يرتجف من الخوف عليهم جميعاً والزوجة كانت تحاول بث الطمأنية إلى قلب صغارها  لعلهم ينجوا من هذا اليوم العسير ولكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن فلم يطول الوقت أكثر من يوم قبل أن تستسلم سفينتهم للغرق 
فركض الجميع نحو قوارب النجات ولكن لم تكن كافية ولم يحالف الحظ تلك العائلة التي سرعان ماتفرقت عن بعضها بسبب الهرج والمرج الذي حدث حينها ولم يبقى مع تلك الزوجة إلا أحد أولادها التوئم أما الباقي فلم ترا أي منهم فظلت تصرخ وتدعو الله أن يكونوا قد لحقو مع والدهم بأحد قوارب النجات وقبل أن يكتمل غرق السفينة بدئت تبحث عن أي لوح خشبي لتطفو فوقه مع صغيرها ولحسن حظها وجدت لوحٍ صغير استطاعت نزعه بسرعة ثم قفزت وهي تضم صغيرها إلى صدرها لتحتضنهما تلك الأمواج الرهيبة كان الصغير يصرخ تارتاً ويبتلع المياه تارتاً أخرى والأم تتلفت حولها باحثة عن أطفالها بعد أن حملت صغيرها على اللوح الخشبي ونبهته أن يبقى متمسكاً جيداً في هذا اللوح مهما جرى،

هنا تنهد الآسر ثم حمل كأس من الماء حتى يروي به حلقه الجاف ليكمل  : كان الصغير ينظر لوالدته التي أيقنت بأنها لن تستطيع مقاومة تلك الأمواج أكثر ولكنها نظرت لعيون صغيرها وقالت يجب عليك أن تبقى على قيد الحياة كل شيء سيمضي ويبقى ذكرى أياك أن تستسلم كانت تردد كلماتها وهي تبتسم وكأنها أقوى من كل الأحداث التي تجري أقوى من الفقدان وأقوى من السفينة الغارقة وأقوى من العاصفة التي جعلت الأمواج ترتفع كالجبال الشاهقة وأقوى حتى من الموجة التي خطفتها نحو الغرق لتختفي عن ناظر طفلها بعد ثواني معدودة ليتشبث باللوح الخشبي بكل قوته لكي ينجو كما وصته والدته فكل تفكيره كان بأنه سيلتقي عائلته بعد أن ينجو ولكن هذا لم يحدث عندما عثرت عليه فرق الأنقاذ وأعادوه إلى بلده ومن ثم إلى قريته كما قال لهم ليقضي أعواماً وهو ينتظر عائلته دون جدوى.
_عاد الآسر من شروده ليجد الدموع متسابقة على خديها الناعمين فرفع يديه وقال: أنتِ من أصريتي على معرفة قصة اللوحة لا ذنب لي

_ رفعت كفيها لتمسح دموعها بعفوية ثم قالت متسائلة: من روا لك هذه القصة
_ ضحك الآسر ليجيبها:  لا أحد فهذه القصة هي قصة عائلتي وأنا الناجي الوحيد من بينهم بسبب كلمات أمي التي ابتلعتها الأمواج أمام عيوني فقد رسمت تلك اللوحة لأتذكر دائماً أن كل شيء سيمضي ويبقى ذكرى
_ ماذا، قالتها رؤى وهي متصنمت لاتقوى على الكلام ولاحتى الإيماءات وحتى دمعاتها توقفت على أطراف  أهدابها
_آلمه قلبه على حالها فتجاوز غصته وقال لها هذا قد جرى في الماضي وعليك الآن أن تنسي ماسمعتيه وأن لا تسألي في المرة القادمة عن مالايعنيكِ كي لا تحزني هكذا فقلبي لايقوى على رؤيتك حزينة
_أومئت برأسها ثم استئذنت لتعود إلى غرفتها التي قضت بها ليلها تحاول صياغة ماسمعته بطريقة روائية كي تُخلد تضحيات هذه العائلة العظيمة كما اسمتها هي........
                *********
مرّ الليل ليتبعه نهاراً جديداً ليبدأ بالحدث الأهم عندما قطع أفطار أم حازم وبناتها صوت طرقاتٍ على باب منزلهم ليفتحه حسين زوج ريما تفاجئ حسين بالشرطي يقدم له ظرفاً ويطلب منه أن يوقع على أنه قد استلمه  انصاع له الآخر مرغماً ليتوجه بعدها نحو أم حازم بالظرف التي قدمته بدورها إلى ابنتها شيماء لتقرء محتواه،
فماأن فتحته شيماء حتى تصنمت مكانها قبل أن تحثها والدتها على الكلام لتقول بأنه طلب من البلدية يدعو بإخلاء المنزل والمزرعة حوله خلال الأربع والعشرون ساعة القادمة بسبب بيعهم من قِبل المالكة رؤى عمير الحمداني 
لم تكمل شيماء قراءتها عندما وقفت أم حازم منتفضة وهي تقول: لن يحدث هذا مادُمت حيا لن اسمح لها أن تأخذ كل شيءٍ بهذه البساطة كانت أم حازم تفور وتغلي كالبركان عندما أجابها فريد زوج شيماء: خالتي لن تستطيعي فعل شيء الطلب موقع من رئيس البلدية شخصياً إن لم تنصاعي للطلب سيكون لديهم الصلاحية الكاملة على أجبارك
انتفضت من جديد وهي تميز من الغيظ وتقول: لن أخسر بهذه البساطة لن أخسر ثم توجهت نحو غرفتها ولكن قبل أن تصل ببضع خطوات وقعت مكانها وقد شُلت أطرافها فلم تستطيع تحريك أي منها حتى ثغرها أصبح مائلاً على جهت اليسار فلم تكن تستطيع  الكلام حتى
ركضت كل من شيماء وريما نحوها ليتم أسعافها بعد قليل  إلى المركز الطبي القريب منهم......

                 *********
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.