AmanyAlsagheer

شارك على مواقع التواصل

*** ناولته قدح القهوة فشكرها، وما إن جلست بجواره ملتقطةً قدحها حتى مال نحوها قائلًا: أريد رأيك في موضوعٍ مهم.
التفتت نحوه باهتمام مكتفيةً بنظراتها المتسائلة.. بدا مترددًا، فقالت ستحثه: خيرًا يا محمد.. كلي آذانٌ مصغية.
بقي على صمته لبرهة رشف خلالها رشفةً من قدحه ثم قال: د. عمرو هاتفني مساء أمس.
بدا في عينيها اهتمامٌ أكبر واعتدلت في مقعدها وهي تقول: خيرًا.
تنهد بقوة ثم قال: لقد وضعني في مأزق.
أفسدت عبارته شهيتها تمامًا لاحتساء القهوة، فوضعت القدح جانبًا وهي تقول بقلق: أي مأزق؟
انتبه لنبرة القلق في صوتها فأسرع يقول: لا أقصد مأزقًا بالمعنى الحرفي وإنما هو ....
عاد لصمته مجددًا، لكن تزايد القلق في عينيها جعله يستطرد: تذكرين زيارته لي الأسبوع الماضي؟
أومأت برأسها، فتلفت حوله يتأكد من أن منى ليست بالجوار ثم قال بخفوت: لقد طلب مني حينها يد ابنتك للزواج.
هتفت بفرحةٍ غامرة: حقًا؟
أشار لها محنقًا بخفض صوتها، فامتثلت مستطردة بحنقٍ مماثل: كيف لم تخبرني بهذا سوى الآن؟ لقد سألتك حينها مرارًا وتكرارًا حتى...
بترت عبارتها بغتة والتمعت عيناها بالتهديد لتكمل حديثها لكن بعبارةٍ أخرى: إياك أن تخبرني بأنك رفضت طلبه.
قال بكياسةٍ وهو يعاود رشف القهوة: كلا بالطبع.. عمرو إنسانٌ جيد ذو خُلق، احترمه كثيرًا وأرتاح له ولم أعلم عنه إلا خيرًا.. لكني أرجأت البت في الأمر لحين انتهاء منى من دراستها.
تنفست الصعداء.. إلا أنها عادت لحنقها سريعًا وهي تقول: هذا لا يبرر إخفاءك الأمر عني.
رمقها بنظرةٍ جانبية ثم قال: أخبرك، ثم تعلم ابنتك كل شيء بعدها بخمس دقائق.. أليس كذلك؟
نظرت له شزرًا، فأسرع يقول: ليس هذا هو المهم الآن.. لقد أخبرته حينها بوجهة نظري وشعرت أنه تفهم ذلك، لكنه هاتفني أمس مساءً يصر على الحصول على إجابةٍ واضحة بالقبول أو الرفض لأسبابٍ خاصة بوالديه، واضعًا إياي في مأزق واضطرار لأن أُفاتح منى في الأمر لأعرف رأيها رغم رفضي لشغلها بأي شيء غير الدراسة في هذه الفترة إطلاقًا.
أومأت برأسها في استحسان، لكنه فوجئ بقولها "معه الحق" وليس"معك الحق"!!
افترض للحظة أن الأمر اختلط عليها، لكنها أكدت مقصدها باستطرادها: من حق الرجل أن ينتظر على أساسٍ واضح أو لا ينتظر من الأساس.. والداه أيضًا بحاجةٍ لذلك ليستطيعا ترتيب عودتهما إلى البلاد.
باستنكارٍ قال: ومن أدراكِ بأمر والديه؟
التقطت قدح القهوة وقد استعادت شهيتها لها، ثم قالت متظاهرةً بالا مبالاة: سمعت بعض الأحاديث من هنا وهناك.. أنت تعرف الجارات وحبهن للثرثرة.. أخبرتني إحداهن أن أسرته تعيش في إحدى الدول الشقيقة منذ فترةٍ طويلة وعاد هو لإتمام دراسته والحصول على رسالة الماجيستير، لكنه قرر بعدها البقاء والعمل بوطنه.
طالعها بدهشة فقد كان هذا ما أخبره به عمرو حرفيًا!
بتنهيدةٍ عميقة تراجع في مقعده قائلًا بضيق: إذًا فأنت ترجحين رضوخي لإصراره وعرض الأمر على منى.
قالت بحماس: أجل بالطبع.. أجّل أمور الخطبة والزيارات الرسمية لأي حينٍ تشاء وخذ وقتك في السؤال عنه وعن أصول أسرته، لكن من حق ابنتك أن تعرف وتقرر بنفسها.
ثم استطردت بما لا تنطق به ملامحها: ربما ترفض وتعفيك من هذا كله.
قال باعتراضٍ متخاذل: لكن.. الدراسة والاختبارات.. كيف ستركز في...
قاطعته زوجته: ابنتك عاقلة تحب دراستها وتعطيها الأولوية دائمًا.. لا تكن قلقًا بهذا الشكل.
غمغم متبرمًا: عاقلة جدًا.
ابتسمت لتبرمه ثم أكملت: هي تعرفه منذ حادثة الدواء الذي سبب لها حساسية، وبالتأكيد تبادلت معه بعض الحديث.
ثم أردفت وهي تُخفي وجهها في قدح القهوة: و... أظن أن هناك بعض القبول بينهما.
قال بضيق وقد بدأ يشعر بالغيرة: حقًا؟
هزت كتفها وقالت: قلت أظن.. لست متأكدة.
- حسنًا.
قالها بزفرةٍ قوية حملت استسلامه وضيقه معًا..
لم يكد يلفظ الكلمة حتى اندفعت زوجته تنادي على منى، فقال معترضًا: ليس الآن.
لكن منى أتت سريعًا تتساءل عما هناك، فقالت لها أمها غير آبهةٍ لاعتراض زوجها: والدك يريدك في أمرٍ هام.
رمقها زوجها بنظرةٍ ساخطة، لكنه لم يلبث أن تنهد وألقى لابنته بما في جعبته..
لاحظ بضيقٍ شديد تورد وجهها وتوترها الذي وشت به لغة جسدها، فتغاضى عن ذلك وقال منهيًا حديثه: خذي وقتك بالتفكير حبيبتي وأخبريني بقرارك متى اهتديت إليـ.....
- أوافق.
انفلتت العبارة منها فجأة، فحدق بها والدها بدهشة بالغة.. حتى أمها فعلت..
تعلم أنها تُكن له المشاعر وأنها ستوافق، لكن.. ألا تتحلى ببعض التعقل أمام والدها!
انتبهت منى لحماقتها فاستدركت تقول بارتباك: أقصد.. أنا أوافق مبدئيًا على... عليه.
ثم ازدردت ريقها لتكمل: لكني سأستخير بالطبع و... وأخبرك بما أرتاح إليه.
بقى والدها محدقًا بها، فقلت متصنعة الجدية: طبعًا رأيي السريع هذا مبنيٌ على انطباعك عنه يا أبي والذي أعرف أنه جيدٌ جدًا.
ثم استطردت ملوحةً بيدها بلا مبالاةٍ أدتها بمهارة: لذا لن أضيع وقتي في مجرد موافقةٍ مبدئية.
أتبعت قولها بأن نهضت مردفة: لدي اختبارٌ عملي بعد غد هو أولى بوقتي بالتأكيد.. عن أذنكما.
انسحبت سريعًا إلى غرفتها وأغلقت الباب مسندةً ظهرها إليه وقد تلاحقت أنفاسها وخُيل إليها أن قلبها سيقفز خارج صدرها بهذه الخفقات العنيفة..
تهاوت جالسةً على الأرض حيث هي خلف الباب وهي تحتضن وجهها بكفيها تحاول عبثًا تهدئة لهيب الدماء الذي اشتعلت به وجنتاها..
أما والدها فقد بقي على دهشته وأخذ يداعب مؤخرة عنقه بعدم فهم قبل أن ينظر إلى زوجته مستفهمًا، فقالت بابتسامةٍ وكأن شيئًا لم يحدث: هل أحضر لك قدحًا آخر من القهوة؟

****************************

*** احتد النقاش وتضاربت الآراء حول نتائج تلك التجربة العويصة التي تضمنها الاختبار العملي، وبدت الفتيات قلقاتٍ بشدة باستثناء منى التي بدا عليها الهدوء وعزفت عن المجادلة معهن حتى سألتها إحداهن: وأنت.. كيف كانت نتائجك يا منى؟
أجابتها بهدوء: أظنها كانت قريبة من تلك التي حصلت عليها أنت وبسمة.
سألتها أخرى: ألست قلقة؟! لقد سمعت حتى الآن خمس نتائج مختلفة.
بذات الهدوء قالت: دونت ما حصلت عليه وانتهى الأمر.
فوجئت بلكزةٍ من بسمة في جانبها، فاستطردت وهي تتصنع التجهم: إلا أنني قلقةٌ جدًا بالطبع.
تواصل النقاش لفترة قبل أن يتفرقن لتقول بسمة مشاكسة وهي تجاورها أثناء خروجهما إلى ساحة الكلية: تبدين في مزاجٍ جيد ما شاء الله.. حتى الاختبار لم ينجح في تعكير صفوه على غير العادة.
ابتسمت وقالت: هذا أكيد.
رمقتها بسمة بنظرةٍ جانبية وقالت: وأين منى التي لا تكف قلقًا على نتائج الاختبارات وتوترنا بأعصابها المشدودة كوتر القوس؟
أطلقت منى ضحكةً خافتةً مجيبة: لا أعرف.. اختفت تمامًا على ما يبدو.
- بركاتك طبيبنا الهُمام.
قالتها بسمة ضاحكةً بدورها ثم أردفت: أراهن أنك لا تقضين في المذاكرة ما تقضينه في عد الليالي والأيام التي تفصلك عن نهاية الاختبارات والدراسة بأكملها.
تنهدت منى بحرارة، فعادت بسمة تضحك قائلة: رفقًا بي يا فتاة.. سأحترق.
دفعتها منى لتُسرع وهي تقول: كُفي عن العبث معي وأسرعي.. أريد تصوير نسخةً من تلخيصك لبعض المحاضرات والعودة سريعًا.. لم أحظى بنومٍ كافٍ منذ فترة.
تنحنحت بسمة وقالت: آه.. بالمناسبة.. لا أنصحك بإعارة دفترك لأي أحد لتصوير ملخصات المحاضرات.
سألتها منى باستغراب: ولمَ؟ هل وجدت ملخصاتي سيئةً إلى هذا الحد؟
أجابت بسمة بابتسامةٍ عابثة: كلا.. جيدةٌ هي في الواقع، لكنها تحوي على كميةٍ لا بأس بها أبدًا من "Amr" مزخرفةً في شتى الأركان.. لم أجد صفحةً واحدة تخلو منها.
توقفت منى وقد التقى حاجباها، ثم فتحت دفترها تقلب صفحاته بسرعة تبحث عما تتحدث عنه بسمة لتجد أنه حقيقةً بالفعل!
غمغمت ووجهها يحمر إحراجًا: ما كل هذا؟ يبدو أنني أصبحت أشرد كثيرًا.
ثم أردفت بزفرة: حسنًا.. سأخفيها ببعض الملصقات.
مالت بسمة عليها تشير إلى نهاية إحدى الصفحات وقالت بتسلي: وماذا عن "زيديني عشقًا" وبقية أبيات الأغنية العتيقة.. أشك في أن لها علاقةً بالكيمياء والعقاقير.
أغلقت منى الدفتر وأشاحت بوجهها تخفي إحراجها المتزايد.. لم تخبر بسمة بسر هذه القصيدة وكل ما يتعلق بها، لذا قالت: سمعتها مؤخرًا وعلقت بذهني.. هذا كل شيء.
أومأت بسمة برأسها في تفهمٍ مصطنع وابتسامتها تتسع، ثم ربتت على كتفها قائلة: أعانك الله يا بنيتي على اختياز الاختبارات بهذا الذهن الشارد دائمًا الولهان حاليًا.
غمغمت منى بتبرم: أصبحت تتحدثين مثل أمي.

**********************

*** تعلقت عينا باسل بجانب مقدمة السيارة المشهم بجزع ثم غمغم: يا إلهي.
كانت السيارة مصفوفةً في مكانها المعتاد في ساحة المستشفى، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يندفع إلى المبنى يسأل كل من يمر به عن عمرو..
وجده في أحد الممرات فاقترب هاتفًا: عمرو.. ماذا حدث؟ أأنت بخير؟
رفع عمرو بصره إليه مندهشًا، خاصةً عندما وجده يفحصه ببصره من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه والقلق يقفز من وجهه، فقال: أنا بخير يا رجل.. ماذا دهاك؟
أطلق باسل زفير ارتياح، لكنه لم يلبث أن قال بحنق وهو يشير إلى ما خلفه: ماذا دهاني؟! السيارة.. ماذا كنت تتوقع عندما أراها مهشمةً بهذا الشكل؟
بدا على عمرو الاستيعاب وقال: آه.. السيارة.
ثم ربت على كتفه وقال بابتسامةٍ ممتنة: آسف إن أقلقك هذا.. لقد كان حادثًا بسيطًا.
قال باسل بقلق: كيف يكون بسيطًا وقد تضررت السيارة إلى هذا الحد؟
أجابه عمرو بهدوء: يمكنك القول إني اعتبرته بسيطًا لأني لم أكن بداخل السيارة حينها.
ثم تأبط ذراعه ليسير معه بينما يقص عليه ما حدث باختصار..
أخبره أنه أثناء عودته من المستشفى أمس، صفّ السيارة على جانب الطريق ليبتاع شيئًا للغداء، عندما فقد سائق سيارة أجرة سيطرته على سيارته فجأة إثر محاولته إشعال سيجارة والرد هلى هاتفه في الوقت ذاته، لينتهي بها الحال في عناقٍ بائس مع سيارته المسكينة..
تمتم باسل بـ "تبًا" محنقة، وقال بغضب: وكيف تصرفت معه؟
ثم تابع وهو يضرب راحته بقبضة يده الأخرى: أقسم أنني لو كنت مكانك لهشمت وجهه وسحبته من قفاه لقسم الشرطة لتحرير محضر يُلزمه بتحمل تكاليف ما أتلفه استهتاره.
مط عمرو شفتيه وقال: كنت غاضبًا جدًا بالفعل، لكن الرجل كان كبيرًا في السن.. ومع اعتذاره الشديد والمتكرر ووصفه لبؤس حاله، تركته يرحل.
التفت إليه باسل باستنكارٍ وقال: لم يكن عليك تصديقه.. بالطبع كان يختلق الحجج ليتهرب من المأزق الذي زج بنفسه فيه.
استمرت وصلة استنكار باسل لبضع دقائق استمع لها عمرو صابرًا رغم أن الأمر لم يعد يشغل باله..
صحيحٌ أنه ترك الرجل يرحل بإرادته بالفعل، إلا أن غضبه لم يتبدد من تلقاء نفسه، بل عندما تلقى اتصالًا من المهندس محمد بعدها بدقائق يخبره فيه بما أثلج قلبه وطال انتظاره له ليومين كاملين.. غمره حينها ارتياحٌ غامر طغى على كل شعورٍ غيره، فبدا تضرر سيارته الشديد كشيءٍ لا يستحق الذكر.. ببساطةٍ أكمل طريقه مؤجلًا إصلاح السيارة لما بعد..
ورغم أنه لم يشغل باله منظرها المزعج، إلا أنه تركها في الشارع الخلفي للمنزل تجنبًا لأن يراها أحد حتى يُعيدها سيرتها الأولى..
- حمدًا لله على كل حال.. المهم أنك بخير.
أنهى بها باسل حديثه تصحبها تنهيدة، قبل أن ينشغل كلٌ منهما بعمله..
التقيا ثانيةً عند انتصاف النهار أثناء نقاشٍ آخر جمعهما ببعض الزملاء حول أمورٍ خاصة بالمستشفى..
حينها اهتز هاتف عمرو معلنًا قدوم اتصال.. ألقى نظرةً على هوية المتصل فوجده رقمًا غير مسجلٍ لديه، فتجاهله ليواصل حديثه..
بضع دقائق وتكرر الاتصال من نفس الرقم، فاستأذن زملاءه بإشارةٍ من رأسه ثم ابتعد خطوتين ليجيب هذا المُلحّ..
"د. عمرو.. هل أنت بخير؟"
كان هذا سؤالًا قلقًا من زميل آخر اقترب منه في هذه اللحظة.. حجب الصوت سريعًا عن المكالمة ليُجيبه ببضع عباراتٍ مقتضبة ويشكره على سؤاله بامتنان.. هذه السيارة سببت له مشكلةً اليوم! ويبدو أنه الوحيد الذي لا يُلقي بالًا لمنظرها المقلق..
عاد إلى محدثه على الهاتف لتصل إلى مسامعه "مرحبًا" بدا من الواضح أنها ليست الأولى..
التقى حاجباه ونبرة الصوت تثير داخله اضطرابًا.. لم يقصد أن يلزم الصمت لكنه فعل، لتأتيه "مرحبًا" أخرى جعلت عيناه تتسعان وانفعاله يحتشد..
هذا الصوت.. مهزوزٌ متوترٌ قلِق، يحاول صبغ كل ذلك بالهدوء، لكنه...
لكنه صوتها!
أو هكذا ظن.. معقول؟
تردد الأنفاس التي تسرب إليها التوتر جعله ينتبه إلى أنه لازال يلزم الصمت، فأسرع يقول: مرحبًا.
بلغ مسامعه زفير ارتياح تبعه صمتٌ مطبق..
كان في حيرةٍ حقيقة من أمره عقدت لسانه، لكن الابتسامة شقت طريقها إلى شفتيه شقًا عندما أتاه ذات الصوت يقطع شكه باليقين وهو يقول بتردد: السلام عليكم.
وكأن "مرحبًا" لم تكن إلقاءً للتحية!
تحرك يبتعد أكثر، ثم رد بهدوءٍ لا يعكس ما يجيش في صدره: وعليكم السلام.
إنها هي ولا شك.. وأيًا كان ما تحادثه بشأنه، ممتنٌ هو لسماعه صوتها الذي أشعره بحجم اشتياقه.. لها..
لحظاتٌ أخرى من الصمت مرت، ثم وبارتباكٍ يشي بكونها لا تعرف كيف تصوغ ما تريد قوله، قالت: أنا... أنا منى.
"أعلم حبيبتي بالطبع"
قالها لنفسه، لكن ما قاله لها وابتسامته تتسع كان: لا يمكنني أن أُخطئ صوتك.
زادها ما قال ارتباكًا، ولم تكن فعليًا تعرف ما الذي تفعله الآن..
منذ الأمس والقلق يمزقها.. كانت قد خرجت إلى المكتبة القريبة الكائنة بحيهم لتشتري بعض الأقلام والدفاتر، وأثناء عودتها ومرورها من بين المنازل، رأت السيارة في الشارع الخلفي..
أصابها الهلع ولم تعرف ماذا تفعل..
ماذا أصابه؟ وكيف هو الآن؟ أتراه بخير أم أصابه مكروه؟
كلها أسئلة طفقت تطوف بذهنها بلا توقف..
أرادت إخبار والدها فبالتأكيد سيهاتفه ويطمئن عليه، لكنها لم تستطع حينها التحلي بالهدوء الكافي للتحدث مع أبيها في أمرٍ يخصه..
لم تتمكن من التركيز في أي شيءٍ تفعله بقية يومها، ولم تذق طعم النوم طوال الليل..
صورته وهو طريح الفراش في مستشفى ونصف جسده مغطى بالضمادات هي فقط ما كانت تُلح على عقلها..
في الصباح كانت بحالٍ سيئة وخرج والدها إلى عمله مبكرًا..
بضعة ساعاتٍ أخرى كانت كافية لينتصر عليها القلق..
تعرف هي رقم هاتفه فقد لمحته على هاتف والدها ذات مرة وحفظته عن ظهر قلب..
أرادت الاطمئنان ولم تعرف كيف، فقررت التحدث إليه وليكن ما يكون..
- كنتُ... أقصد أبي.. أبي كان يتساءل عما إذا كنتَ... بحالٍ جيدة.
كان هذا ما قالته بارتباكها المحبب ذاك، والذي بدأ على إثره يفهم..
لابد أنها رأت السيارة رغم حرصه على إخفائها تجنبًا لإثارة قلقها هي بالذات..
ولابد أن قلقها هذا هو ما دفعها إلى مهاتفته للاطمئنان عليه..
صمتَ يستمع إلى صوت أنفاسها المضطربة والتي اضطربت لها خفقات قلبه..
ضايقه كونه تسبب في إقلاقها بهذا الشكل، إلا أنه استلذ بحق شعوره به، فقال قاصدًا ألا يمنحها إجابةً شافية: الحمد لله على كل حال.
"غرفة العمليات جاهزة.. هل أنت مستعد؟"
عبارةٌ ألقاها أحد الأطباء مخاطبًا بها آخر وهما يمران بجواره في تلك اللحظة.. رد الآخر بما لم يبلغ مسامعه واضحًا ولم يُلقِ له بالًا، لكنه لم ينتبه إلى أن العبارة الأولى وصلتها عبر الهاتف إلا عندما هتفت بجزعٍ وقلقٍ بالغ: عمرو.. هل أنت بخير؟
التقى حاجباه ونطقها لاسمه بهذه الطريقة يثير انفعاله..
دفء..
دفءٌ ساحر يحيط به، بل يغمره..
هذا هو ما يشعر به الآن..
هذه هي منى وهذا ما تمنحه إياه مشاعرها نحوه بسخاءٍ لا تدركه..
لم يستطع أن يطيل عليها أكثر فقال بسرعة: اطمئني أنا بخير.
ظلت أنفاسها على اضطرابها، فعاد يقول: صدقًا أنا بأفضل حال.
عادت لصمتها الذي لا تعلم أنه أشد وطأةً على قلبه من أي حديث، لكنها لم تلبث أن قطعته بهمس: حمدًا لله.
ثم أردفت وقد هدأت قليلًا وعاد إليها ارتباكها: أردتُ الاطمئنان فحسب.. أقصد أبي.. سأطمئنه حالًا.
ابتسم..
ما ألذها! وما ألذ اعتقادها بأن تتخفى فعلًا خلف ذكر أبيها..
قال يجاريها: أعتقد أني أدين له بالاعتذار.. ما كان عليّ أن أثير قلقه بهذا الشكل.
عادت للصمت فلم تكن تعرف بمَ تجيب، فعاد يقول: ربما من الأفضل أن أراكِ في أقرب فرصة لتتأكدي بنفسك وتؤكدي له أني لا أزال قطعةً واحدة ولم تتهشم مني أية أجزاء.
قالت بارتباكٍ وخفوت: لا مشكلة.. طالما أنت بخير.
قال بخفوتٍ مماثل: المشكلة لديّ أنا.. فقد اشتقتُ ولم أعد أحتمل.
صمْت ........................
لابد أن عينيها اتسعتا وتوردت وجنتاها.. لابد أن ارتباكها بلغ أقصاه.. لابد أنها ستفر الآن وتُنهي الـ....
- عن إذنك.
قالتها سريعًا وأنهت الاتصال بغتةً بالفعل، فخفض الهاتف مطلقًا ضحكةً خافتة..
أما هي فتجمدت على مقعدها وهي تقبض على الهاتف بقوة تحاول عبثًا تنظيم تنفسها..
أمالت رأسها تُسند جبهتها على سطح المكتب مطلقةً تنهيدةً حارة..
ها هي ذي قد تورطت في تهورها مجددًا..
لم تكن تعلم أنه -وفي هذه اللحظة بالذات- تُلحّ على خاطره بشدة عبارةٌ لا يذكر منها إلا النذر اليسير..
كان يهوى الشعر فيما مضى لكنه انشغل عنه لسنوات.. الآن يسترجع عقله كل علق به سابقًا باحترافٍ يثير دهشته هو نفسه، لكنه يعلم السبب على الأقل!
لم يستطع تنحية تلك العبارة عن تفكيره، فبحث عنها على الشبكة العنكبوتية حتى وجدها..
كان قد تأكد من أنها تستخدم هاتفها الشخصي من الرقم في ورقة بياناتها التي بحوزته، ولم يشعر سوى وهو يكتب لها..
"دافئةٌ أنتِ كليلةِ حُب.. من يومِ طرقتِ الباب علىَّ، ابتدأ العُمر"
توقفت سبابته طويلًا أمام زر الإرسال..
تردد..
يرى بوضوح أن مشاعره تقوده ثانيةً..
أغمض عينيه وتنهد بقوة و...
وألغى ما كتبه للتو..
سيصبر..
سيصبر حتى يكون بإمكانه إلقاء كل قصائد الدنيا على مسامعها..

*******************************

*** طال الصبر لثلاثة شهور..
كثلاثة أعوامٍ على قلبيهما كانت، لكنها في النهاية مضت بعدما حملت لهما نهايتها حفل خطوبةٍ وعقد قرآن بسيط جمع المقربين من الأهل والأصدقاء..
بابتسامةٍ حالمة رفعت منى يدها تتأمل خاتم الخطبة رائع الجمال الذي طوّق به بنصرها ليلة أمس.. كان شعورها بالسعادة حينها لا يوصف وهي إلى جواره..
صحيحٌ أنهما لم يتبادلا إلا القليل من الحديث وسط ضوضاء الموسيقى والتصاق والدته به ووالدها بها، إلا أن التقاء عيونهما كان يقول الكثير..
يده التي أحاطت يدها طوال الوقت كانت تبثها ما أهو أثمن وأعمق من الكلمات..
كانت منبهرةٌ به، وكان مفتونًا بها.. ولم يعد ذلك يخفى على كليهما أو على أحد!
ثم انتهى الحفل سريعًا كلحظات حلمٍ جميل..
رنّ هاتفها بنغمةٍ معينة كانت قد خصصتها له، فاندفعت نحو الهاتف بقلبٍ مبعثر الخفقات.. التقطت نفسًا عميقًا تستعيد به هدوءها، ثم أجابته قائلةً والابتسامة تحتل ثغرها تلقائيًا: مرحبًا.
- مرحبًا حبيبتي.. كيف حالك؟
تبعثر هدوؤها ونبضها ثانيةً على الفور والكلمة التي تسمعها للمرة الأولى من بين شفتيه تعيث داخلها مشاعر هوجاء، بينما تابع هو بلهجةٍ خافتةٍ دافئة يزيد من بعثرتها: اشتقت إليك..
لم يلقَ منها ردًا وكان يعرف يقينًا أنها لن تفعل، فأكمل هامسًا دون أن ينتظر طويلًا: كثيرًا جدًا.
بقيت على صمتها دون قصدٍ منها.. تاهت منها الكلمات وتاهت هي نفسها في مشاعرها..
صمت هو الآخر مستلذًا صوت أنفاسها المضطربة التي تنسمت على قلبه كنسماتٍ ربيعٍ دافئة.. لكنه عاد يقول بمرح مؤجلًا بث شوقه إليها لحين رؤيتها: كنتُ قد تلقيت بالأمس دعوةً من والديك لنتاول الغداء، فهل يا تُرى لازالت الدعوة سارية أم أن أباكِ قد قرر إلغاءها؟
بضحكةٍ صغيرةٍ قالت: ولماذا قد يفعل أبي ذلك؟
أجابها قائلًا: لا أعرف.. بدأت أشعر أنه يغار عليك مني وأنه لا يطيق وجودي بجوارك.
عادت تضحك، فأردف ضاحكًا بدوره: سامحك الله أنت السبب.. كنا صديقين حميمين من قبلك.
قالت وابتسامةٌ متسلية تغفو على ثغرها: ألست تبالغ قليلًا؟ أبي رجلٌ طيب.
رد بجدية مصطنعة: صدقًا هذا ما شعرت به في الفترة الأخيرة ولا ألومه في الواقع.
ثم أردف وصوته يعود ويكتسب ذلك الخفوت المهلك: لو كانت لدي ابنةٌ فاتنةٌ مثلك بعينين ساحرتين ورقةٍ طاغية، لهشمت أنف كل من تسول له نفسه الاقتراب.
ها قد عاد يبعثرها!
أفلتت منها ضحكةٌ خجلة قبل أن تستطيع بصعوبةٍ بالغة لملمة نفسها وتجاوز وصفه الذي رقص له قلبها طربًا، لتقول: هذا يعني أن والدتك أيضًا تغار، فلم تبرح جانبك أمس للحظةٍ واحدة.
قال ضاحكًا: أنت محقة.. اكتشفت هذا مؤخرًا أيضًا.. لقد قالت لي أمس صراحةً بعد الحفل "لقد اختطفت هذه الصغيرة قلبك" لكني أخبرتها أن هذا ليس صحيحًا.
صمتت لحظة، ثم قالت بترقب: و... وما هو الصحيح؟
صمت هو الآخر لبضع لحظاتٍ شعرت خلالها أن صمته كحديثه.. كلاهما يفتك بها!
لكنه لم يلبث أن قال وابتسامةٌ تغزو ثغره: أخبرتها أن قلبي لم يستطع مقاومة سحر هذه الصغيرة طويلًا فغادرني إليها بملء إرادته.
رسمت ملامحها صورةً مجسمة للسعادة والخجل وهي تزيح خصلات شعرها خلف أذنها مكتفيةً بصمتها مجددًا..
أما هو فتنهد وعقله ينبهه أن أمنيته بأن يرى وجهها الآن مستحيلةٌ تقريبًا..
- لستُ صغيرة.
قالتها بخفوت بعدما دام صمتها لبرهة، فقال بصوتٍ مثقل بالعاطفة: بالطبع.. أنت صغيرتي أنا.. وحبيبتي.
أفلتت من قلبها نبضاته لمرةٍ لا تحصي عددها والكلمة تعود وتمس شغاف قلبها، بل تذيبها تمامًا..
فجأةً آثرت اللجوء إلى الشيء الوحيد الي تُجيده أمامه..
الهروب..
قالت بسرعة: أنا بانتظارك.. وأمي وأبي بالطبع.. حسنًا؟
أطلق ضحكةً خافتة وقد اعتاد هروبها بهذه الطريقة.. لم يكن ليدعها تهرب بهذه السهولة لولا وجوده في المستشفى.. المكان غير مناسب لمكالمةٍ طويلة فبالكاد يستطيع الانفراد بنفسه بضع دقائق، لذا قال ضاحكًا: هكذا إذًا! حسنٌ.. سأدعك تهربين هذه المرة أيضًا، لكن ثقي بأنها ستكون الأخيرة.. إلى اللقاء.
دس هاتفه في جيبه ثم خرج ليواصل عمله..
التقى أثناء مروره على مرضاه بباسل الذي قال فور رؤيته: عمّور.. كيف حالك؟
تصافحا في قوة وباسل يكمل غامزًا بعينه: لابد أنك في أحسن حال.
ضحك عمرو وقال: أظن ذلك.
- لا أدري لماذا يسألني الجميع عنك ولا يسألونك أنت مباشرة.. لا تمر بضع دقائق حتى يسألني أحدهم أو إحداهن "هل خطب د. عمرو فعلًا؟!" نعم يا جماعة.. و الله خطب فعلًا وأخيرًا.. ارحموني أرجوكم!
عاد عمرو يضحك وقال: بالفعل لم يسألني أحد وهذا أفضل.
أشار باسل بسبابته محذرًا بمزاح: سيتجمهرون عليك دفعةً واحدة ما إن يجدوك، لذا لا تفرح كثيرًا.
مشيا متجاورين وباسل يستطرد بابتسامة: كانت حفلةً رائعة أمس.. مبارك.
ربت عمرو على كتفه ممتنًا: العقبى لك يا صديقي في حفل زفافك إن شاء الله.
هز باسل رأسه وقال: لقد حددت له موعدًا الشهر القادم.
- حقًا! هذا رائع.
قالها عمرو بسرور، فقال باسل بكياسة: لم أكن أخطط له في الوقت الحالي، لكني وجدت أنه من غير المعقول أن أخطب قبلك بعام وتتزوج قبلي.
تعالت ضحكات عمرو ثم قال: جميلٌ أن يدفع المرء صديقه للأمام، وها أنا ذا أفعل.. أعتقد أنك مدينٌ لي بالشكر.
هز باسل رأسه باعترافٍ ضمني وهو يضحك هو الآخر..
مع قرب انتهاء ساعات عمله تجمهر عليه زملاؤه بالفعل يهنئونه.. كان يستعد للمغادرة لكنه اضطر إلى البقاء معهم حتى يقرروا تركه.. لم يكن هذا ليضايقه أبدًا سوى أن توقيتهم كان مستفزًا..
مر الوقت وهم يتراشقون بالدعابات على شرفه.. حسنًا لا بأس.. قولوا ما تريدون لكن بسرعة!
انفضوا من حوله أخيرًا فغادر المستشفى على عجل..
كان متلهفًا لا يُنكر.. بل كان يتحرق شوقًا منذ الصباح لانتهاء ساعات دوامه..
يتحرق شوقًا لشراء باقةٍ من الزهور..
يتحرق شوقًا ليراها..
بالأمس كانت رائعة الجمال بثوبٍ بسيط وزينةٍ أبسط ولكن برقةٍ جديرةٍ بملاك!
وواثقٌ هو بأن ملاكه اليوم سيكون أكثر رقةً وجمالًا..
مر من الشارع الخلفي لمنزله وترك السيارة هناك..
لا يحب شيئًا أكثر من مفاجأتها بوجوده، ففي كلٍ تمنحه شعورًا ألذ من سابقيه..
كانت في هذه الأثناء قد بدأت تشعر بالتوتر.. لا تكاد تمر بضع دقائق حتى تُلقي نظرةً عبر ستائر النافذة، ثم إلى نفسها في المرآة فيزيد على توترها الخجل والارتباك..
لا تعرف كيف ستخرج له هكذا..
تتأمل ثوبها الأرجواني القصير الذي بالكاد يغطي ركبتيها ويكشف كامل ذراعيها وتمرر أصابعها على التفافته الناعمة حول جسدها على نحوٍ يبرز مفاتنها فيتضاعف خجلها وتغمغم: سامحك الله يا بسمة.
كانت بسمة هي من شجعها على اقتنائه من أجل هذا اليوم بالذات وأخبرتها أنه جميلٌ للغاية ويليق بها..
عدلت من وضع شعرها الذي زادت من تموجه وتركته حرًا، ثم وضعت بعض اللمسات الأخيرة على زينتها وفكرة تغيير الثوب تراودها بشدة..
في النهاية حسمت ترددها.. ستغيره.. سترتدي الثوب الوردي فهو أكثر طولًا و...
تعالى صوت جرس الباب فجأةً يقطع أفكارها فاندفعت نحو النافذة لترى مكان السيارة الخالي..
بالتأكيد ليس هو.. لابد أنه والدها وقد عاد مبكرًا من أجل استقباله..
تناهى إلى مسامعها صوت خطوات أمها وهي تتجه نحو الباب، فأجلت تغيير الثوب قليلًا وخرجت لتُلقي السلام على أبيها..
توقفت في منتصف الردهة بتفاجؤ وعمرو يخطو إلى الداخل بكامل أناقته تسبقه رائحة عطره، يحمل وجهه ابتسامته العذبة التي تعشقها وتحمل يده باقةً ضخمة من الزهور..
تجمدت حيث هي وتعلقت عيناها به وقد نسيت أمر ثوبها القصير مؤقتًا، بينما التفت هو نحوها بنظرة شوقٍ ولهفة دغدغت مشاعرها فأطلت من عينها بوضوحٍ صارخ أصاب قلبه في مقتل..
التهمتها عيناه من قمة رأسها حتى أخمص قدميها فتلاشت ابتسامته دون أن يشعر والتقى حاجباه..
هي..
هي ليست أكثر جمالًا ورقة من أي وقتٍ مضى فحسب، بل أكثر مما كان يتخيل!
لقد أراد مُفاجأتها فكانت المفاجأة من نصيبه هو!
شعر بمشاعره تجتاحه فأبعد ناظريه عنها ملتفتًا نحو أمها التي استقبلته بترحيبٍ حار..
استعادت شفتيه الابتسامة وهو يصافحها في حرارة ويرد عليها بلباقة..
ظلت منى تقف حيث هي تائهةً في تأمل ملامحه خاصةً بعد انشغاله بأمها، لكنها وبعد عدة لحظات انتبهت إلى أنه مازال يحمل باقة الزهور ولم يقدمها لها ولم يخاطبها بحرفٍ واحدٍ بعد!
قادته والدتها إلى حيث يجلس وتبعتهما هي.. وقبل أن يستقر في مجلسه التفت إليها وقرّب منها باقة الزهور في صمت..
تطلعت إليه فابتسم ابتسامةً صغيرة وقربها أكثر قائلًا بخفوتٍ أقرب للهمس: تفضلي.
مدت يدها لتلتقطها فتلامست أصابعهما..
عادت ابتسامته تتلاشى وتراجعت هي خطوةً للخلف وقشعريرةٌ لذيذة تعبر جسدها من أعلاه إلى أدناه..
دفنت بصرها في باقة الزهور تتأملها بدون تركيزٍ فعلي رغم جمالها الأخّاذ، بينما أخذ هو وأمها يتبادلان الحديث في ود..
دقائق ودخل والدها ملقيًا السلام فاتجهت نحوه..
نقل بصره بينها وبين عمرو قبل أن ينتابه الضيق وهو يطالع هيئتها الملفتة..
هل ازدادت البنت جمالًا أم يُهيأ له!
كوردةٍ في ريعان نضارتها بدت.. أكُل هذا الاهتمام من أجله!
تسرب الضيق إلى قلبه وهو يشعر بأن طفلته غاليته قد امتلك قلبها أحدهم وشاركه فيها!
غالب ضيقه بصعوبة وهو يميل نحوها يطبع قبلةً على وجنتها، ثم اتجه نحو عمرو -الذي نهض لاستقباله- محييًا..
جلسوا جميعًا وتواصل الحديث بينهم عداها هي!
كانت تجلس صامتة مكتفيةً بابتسامةٍ صغيرة، وبدا وكأن عمرو يحاول قدر الإمكان ألّا ينظر نحوها على نحوٍ أثار حيرتها وضيقها في الوقت ذاته، بعكس والدها الذي أراحه ذلك فاندمج في حواره معه وكأنما يقصد شغله عنها!
لم يطل الوقت حتى أتى الوالد اتصالٌ بدا واضحًا من تعبير وجهه وهو يطالع شاشة الهاتف أنه مهم، فقام مضطرًا ليُجيبه بعدما أستأذن عمرو وأرسل نظرةً تحذيرية لزوجته مفادها ألا تغادرهما قط حتى يعود..
لكن الأم بمجرد ابتعاده ابتسمت ونقلت بصرها بينهما.. تحدثت قليلًا مع عمرو تسأله عن أحوال والدته، ثم قامت متعللةً بإتمام تجهيز الطعام..
حينها، التفت إليها ببطء..
تمردت نبضات خافقها فجأةً وأفلتت من عقالها بمجرد أن تلاقى ناظراهما..
حملت لها عيناه ما لم تحمله لها من قبل وما لم تفهمه، وبرغم ذلك أثار مشاعرها وبعثرها كرمالٍ في وجه عاصفة..
أرادت أن تبتسم له وتفتح بابًا للحديث، لكن الفكرة تبخرت فور أن شعرت بنظراته تتحرك لتحاصرها من كل اتجاه حتى لم تعد تعرف أين يوجهها بالضبط..
غمرها الارتباك والخجل فأزاحت خصلةً من شعرها إلى الوراء دون سببٍ واضح، قبل أن تخفض بصرها إلى يدها لتداعب خاتم الخطبة في محاولةٍ منها للتهرب من نظراته والتفكير في أي شيءٍ تقوله..
انتبهت حينها إلى ثوبها الذي انحسر مع جلوسها إلى ما فوق ركبتيها، فأخذت تجذبه للأسفل بسرعة، لكن.. بلا فائدة!
تضاعف خجلها وتسربت الحمرة إلى وجنتيها، فقررت النهوض واللحاق بأمها..
أما هو فكان في عالمٍ آخر لا يوجد به سواها هي..
منذ أن وقع بصره عليها وهو ليس على ما يُرام.. وحينما أصبحا بمفردهما لم يستطع أن يكبح جماح نفسه أكثر..
أخد يتأملها كلها مدمرًا كل القيود التي قيدته سابقًا..
ترك لجميع مشاعره العنان فخرجت ترمح نحوها تحاوطها من كل صوب..
مرت لحظاتٌ ولحظات..
عادت عيناه إلى وجهها فأحس أن خجلها وارتباكها قد بدآ يتحولان إلى توتر وقد أخذت تتململ في جلستها محاولة عبثًا زيادة طول ثوبها!
ابتسم على الرغم منه.. يبدو أنه قد أطال النظر دون أن يشعر..
وجدها تقوم فجأةً وتقول: سأحضر العصير.
تحركت بالفعل دون أن تنتظر رده، فقام هو الآخر بسرعة يمسك معصمها ويوقفها مرغمة..
التفتت إليه مندهشة فوجدته يقول: لا أريد أي شيء...
ثم جذبها نحوه برفق مردفًا: سواك أنتِ.
و قبل أن تدرك ماذا يقصد كان قد أحاطها بذراعيه و ضمها إلى صدره في قوة..
شعرت بقلبها يتوقف لحظة، ثم يعود فيخفق بمنتهى العنف..
شعرت بروحها تنسحب منها وكادت تهتف معترضة: عمرو!!
لكنها خرجت همسًا رغمًا عنها، والدفء يغمر كيانها بأكمله..
شعرت وكأن ذراعيه اللتان تحيطانها الآن قد أصبحت حدود عالمها الذي لا تريد الابتعاد عنه..
تدفقت مشاعرها و...
وتركت نفسها تغرق في بحارها..
استسلمت لأمواجها التي أخذت تدفع قلبها بنعومةٍ ذهابًا وإيابًا نحو شواطئ حضنه الدافئ..
أحس هو بتفاجئها وكان يقصده..
أحس باعتراضها وقد أحبه..
همست باسمه تزيد اعتراضها فزادت مشاعره تأججًا..
حرك ذراعيه على ظهرها يضمها أكثر، فشعر باعتراضها يذوب وبرأسها يرتاح على صدره..
شعورٌ لم يتخيل لذته من قبل..
أن تضم إليك من تُحب..
أن تحيطه بذراعيك لتدخله إلى عالمك..
ضمها أكثر وأكثر وكأنه يريد أن يخفيها داخل صدره وأسند رأسه إلى رأسها هامسًا: كم اشتقت إليك.
أبعدت رأسها قليلًا لتطالع وجهه..
عيناها الساحرتان.. ها هما ذان يغوص فيهما..
ملامحها التي يعشق.. ها هي ذي ملء عينيه..
مشاعرها البريئة.. ها هي ذي تفيض لتغرقه..
كل ما فيها كان لوحةً تنطق بألف كلمة "أحبك"..
أطال كلٌ منهما النظر إلى وجه الآخر قبل أن يرفع يده نحو خصلةٍ من شعرها كانت تخفي جزءًا من عينها ووجنتها فأزاحها إلى ما خلف أذنها..
غاصت أصابعه في غياهب شعرها قليلًا ثم عادت إلى وجهها تحتويه بينما يهمس: هل أخبرتك من قبل أني أُحبك؟
أشرق وجهها بقبسٍ من السعادة وبدا أنها ستومئ برأسها إيجابًا، لكنها حركتها بالنفي بدلًا من ذلك منتزعةً منه ضحكةً قصيرة خافتة..
هبطت عيناه إلى شفتيها مقاومًا إغرائهما بصعوبة ثم قال: سيقتلني أحدهم لو رآك بين ذراعي الآن، لذا سأخبرك فيما بعد بطريقةٍ أخرى وأكتفي بهذه.
مال نحو خدها الذي تورد مع كلماته يطبع قبلةً أرادها صغيرةً لكنها لم تكن كذلك أبدًا، بينما عادت هي تهمس باعتراض: عمرو!
تسللت إلى أذنه حروف اسمه يحملها صوتها الهامس..
مرةً أخرى ذلك الاعتراض المتخاذل بتلك اللهجة التي تُعيث في قلبه الفساد..
أحقًا تعترض بهذه اللهجة أم تطلب منه المزيد!!
تنهد بقوة وهو يُرغم نفسه على الابتعاد..
أمسك يديها بكلتا يديه وضغطهما في رفق قائلًا: لا تذهبي لتحضري أي شيء.. فقط ابقي بجواري.
بإحساس طفلةٍ حظيت بحلوى العيد، جلست إلى جواره كما رغب، لكن انحسار ثوبها القصير وهو بهذا القرب منها أعاد إليها الارتباك والتوتر..
همّت بالنهوض ثانيةً، فاعترض بنظرة رجاء..
لم تعرف ماذا تقول ولا كيف تشرح له الأمر، لكنه لم يكن بحاجةٍ لذلك..
التقط باقة الزهور ووضعها أمامها مخفيًا ما تخجل أن تُظهره قائلًا ببساطة: أهكذا أفضل؟
ابتسمت له في حب وهي تومئ برأسها إيجابًا وتسترخي في جلستها..
قالت و هي تداعب الأزهار: إنها جميلة.
- ليست أجمل منك.
جاوبته بضحكةٍ خجلى، فقال وهو يميل نحوها مسندًا ذراعه خلفها على ظهر الأريكة حيث جلسا: كل ما فيكِ اليوم يتآمر معك ضدي، حتى ثوبك ولونه.
"حبيبتي يا بسمة.. كنت أعلم أن ذوقك رائع"
قالت ذلك في سرها بالطبع، أما أمامه فتمتمت تحاول إخفاء سعادتها بإطرائه والتظاهر بالوقار: لكنه قصيرٌ أكثر من اللازم.
رفع أحد حاجبيه وهو يطالع الزهور وقد بدأ يندم على لجوئه لها: هذا أحد أهم أسباب جماله!
قالت بخفوت وهي تنظر إلى عينيه: أعجبك؟
لم تكن تريد بسؤالها إجابة.. ما كانت تريده هو ذاك الذي حملته لها عيناه لحظة أن وقع بصره عليها..
وكان لها ما أرادت!
نطقت عيناه بكل ما لا يمكن للكلمات أن تصوغه، ثم همس وهو يميل نحوها أكثر: وهل كان لديك شكٌ في ذلك.. أنت فاتنةٌ في كل أحوالك.
تضرُج وجهها بحمرة الخجل كان أكثر من كافٍ بالنسبة له، فالتقط بطاقة الاهداء من بين الزهور.. لم يكن قد كتب لها شيئًا بعد، فأخرج قلمه وكتب..
"هل عندكِ شكٌ أنك أحلى وأغلى امرأةٍ في الدنيا.. وأهمُ امرأةٍ في الدنيا..
هل عندكِ شكٌ أن دخولك في قلبي هو أعظمُ يومٍ في التاريخِ وأجملُ خبرٍ في الدنيا"

************************************


*** في المطبخ.. لم يكن هناك شيءٌ بحاجةٍ إلى تجهيز فالطعام كان جاهزًا بالفعل..
صبت أمها بعض العصير ثم خرجت إليهما مغمغمة: أظن عشر دقائق كافية ليقولا ما يريدان.. يكفي هذا حتى لا يتهورا.
رأتهما يجلسان متجاورين على مسافة فتنهدت بارتياح..
استقبلها عمرو بابتسامةٍ كبيرةٍ بريئة، في حين قالت هي لمنى: ها قد أنساك عمرو وكلامه الترحيب به كما يجب.
قامت منى تلتقط منها صفحة كؤوس الشراب البارد وهي تقول ضاحكة: إن كان هو السبب فهو يستحق.
أتى والدها الذي سُرّ لانشغالها وأمها بإعداد المائدة، ثم تناول الجميع الغداء في جوٍ حميمي..
بعدها قام عمرو مستأذنًا ومتحججًا بالعيادة.. بدا على منى الاحباط لكنه كان قد تأخر بالفعل..
ودعه والدها أمام باب المنزل ثم فوجئ بزوجته تجذبه من ذراعه إلى الداخل رغمًا عنه..
بدا معترضًا لكنها همست وهي تواصل جذبه بإصرار: امنحهما دقيقةً أخيرة ليتحدثا بحريةٍ يا رجل.
كتم عمرو ومنى ضحكاتهما وقد بلغهما ما تهامسا به، ثم قال وهو يغمز لها: ذكريني أن أُبلغ والدتك تحياتي الحارة..
عادت تضحك قائلة: حسنًا.. سأفعل.
التقط عمرو يدها واحتواها.. كان كفه يعانق كفها لا يصافحه تمامًا كحال عينيه أمام عينيها، وبخفوتٍ قال: أراكِ قريبًا.
همست له: سأشتاق إليك.
قال متظاهرًا بالشك: حقًا؟
ردت في خجلٍ وخفوت: بالتأكيد.
ظل محتفظًا بيدها يضغطها في رفق وكأنما يبثها مشاعره، ثم قال بغتة: لديّ اقتراح..
بدا عليها التساؤل فأردف: ما رأيك لو تزوجنا غدًا؟
أطلقت ضحكةً طويلة، رقيقةً ساحرة مست شغاف قلبه وقالت: غدًا؟! وكيف ذلك؟
هز كتفه وقال مبتسمًا: لا أعرف.. وافقي أنت وسأتصرف أنا.
عادت تضحك ثم صمتت..
تطلعت إليه طويلًا تملأ عينها بملامحه وابتسامته..
لم تعلم أبدًا أن ما أظهرته ملامحها في المقابل قد أضرم في قلبه النيران..
وجدت نفسها فجأة وقد أحاطتها ذراعاه وأسكنتها ثانيةً بين أحضانه..
قبّل جبينها ثم همس: سأرسل لك شيئًا بعد قليل.. وددت لو قلته لك، لكني لا أضمن نفسي إطلاقًا أمام عينيك.
انتزع نفسه منها انتزاعًا وغادر مسرعًا على الفور..
لملمت كلها المنصهر بصعوبة، لكن كل محاولاتها ضاعت هباءً عندما استقبل هاتفها..
"يا نارًا تجتاح كياني.. يا فرحًا يطرد أحزاني..
يا جسدًا يقطعُ مثل السيف ويضربُ مثل البركانِ..
يا وجهًا يعبقُ مثل حقول الورد ويركض نحوي كحصانِ..
من أين أتيتِ.. وكيف أتيتِ.. وكيف عصفت بوجداني"

******************

*** أغلقت بسمة ألبوم الصور الضخم وربتت على رأس ابنتها ذات الثمانية أعوام قائلة: وهكذا تزوج عمك عمرو من خالتك منى.
ابتسمت الفتاة الصغيرة وقالت بحماس: صور زفافهما كلها رائعة.
ثم أردفت بحماسٍ أكبر: والآن أخبريني يا أمي كيف تزوجت أنت وأبي؟
ابتسم باسل وتبادل مع بسمة النظرات، ثم ضم ابنته وحملها ليجلسها على رجله وقال ضاحكًا: إنها قصةٌ معقدة، ربما أقصها عليك فيما بعد فقد تأخر الوقت الآن.
أشارت بسبابتها وقالت: وعد؟
غمز لها بعينه وقال: وعد.
قامت الفتاة إلى غرفتها، فمال باسل على بسمة وهمس: هلّا ذكرتني حبيبتي بقصتنا.
ابتسمت له وأسندت رأسها على كتفه فأحاطها بذراعه يضمها إلى صدره..
رأتهما ابنتهما الصغيرة فابتسمت.. لم يبلغ مسامعها ما تهامسا به، لكنها قالت بحماسها الطفولي: يبدو أنها هي الآخرى قصةٌ حبٍ ملتهبة.

*********************
تمت

1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.