AmanyAlsagheer

شارك على مواقع التواصل

1 *
*** ظلمةٌ غريبة.. ومكانٌ أغرب..
تعلم أنها هنا وحدها، لكنها تلفتت حولها عبثًا..
دق قلبها خوفًا..
تاهت أفكارها فيما عليها فعله..
تحركت مبتعدة.. فلاحقها الظلام ووحشة المكان..
توقفت.. ظلت حيث هي، فداهمها خوفها أشد وأقسى..
وعلى الرغم منها دافعتها الدموع..
لحظتها مر بقلبها وعقلها، وتمنت لو كان معها الآن..
خطت خطواتٍ يائسة لا تعرف إلى أين، لكنها لدهشتها لمحته!!
يقف هناك بعيدًا.. بعيدًا..
لم ترَ وجهه، لكنها شعرت أنه هو..
حاولت الاقتراب لكنه ابتعد، فهتفت.. هتفت بكل قوتها: كلا.. انتظر.
وكأنما سمعها فتوقف والتفت..
تهدج صوتها وهي تقول: أرجوك لا تذهب..
وقف حائرًا كمن لا يتوقع النداء، ووقفت تنتظره لا تعرف ماذا تفعل..
أتهتف تناديه مرةً أخرى؟
وإن نادته.. هل سيلبي نداءها، أم يتركها ويذهب؟
اعتصرتها لوعةٌ بقدر مشاعرها نحوه وتقاذفتها أمواج الاحتمال..
كم تحتاجه.. كم تشتاق لقربه..
رأته يقترب فخفق قلبها ارتياحًا..
صار أمامها.. لم يتكلم، ولم تتكلم..
تطلعت إليه.. وعند عينيه توقفت عيناها.. توقفت كثيرًا، وكأنها تسأله.. أتيت من أجلي؟
لم يُجب.. بل اقترب أكثر وابتسم..
مد يده نحو يدها فاستكانت له..
وأخيرا أنارت ابتسامتها وجهها و....
وتلاشت في نفس اللحظة وذلك الصوت الحاد يتصاعد بغتة مخترقًا أذنها..
تلفتت حولها بانزعاجٍ تبحث له عن مصدر، فلم تجد..
عادت بعينيها إليه فلم تجده هو الآخر، بينما الصوت يتصاعد أكثر وأكثر..
من أين يأتي هذا الصوت اللعين؟!
لوّحت بذراعها في عنف فشعرت به يرتطم بشيءٍ ما، اقتلعته ضربتها ليسقط على الأرض بدوىٍّ مزعج جعلها تنتفض وتفتح عينيها وهي تهب جالسةً على فراشها..
حدقت منى للحظاتٍ في معالم غرفتها وذلك المنبه الملقى أرضًا والذي مازال يواصل رنينه على نحوٍ مستفز، قبل أن تزفر بقوة وتقول بصوتٍ ناعس: منبهٌ مزعج!
اضطرت إلى أن تغادر دفء فراشها لتلتقطه وتسكت رنينه، ثم تثاءبت في كسلٍ وقالت وهي تلقي نظرةً على عقاربه المضيئة: السابعة؟ حسنا.. مازال الوقت مبـ... ماذا.. السابعة؟!!
صاحت بالكلمة الأخيرة في انفعالٍ مفاجئ، ثم اندفعت نحو النافذة مكملةً في سخط: لقد تأخرت كثيرًا.. يا لي من حمقاء.
فتحتها في حذرٍ غير مباليةٍ بتيار الهواء البارد الذي اندفع في وجهها وأنفها الدافئين، وعبر فرجةٍ صغيرة وقفت تطالع الشارع الواسع الذي تطل عليه النافذة والذي كان خاليًا تقريبًا من المارة في هذا الوقت المبكر من النهار..
ظلت تراقب الطريق لدقائق عدة وعلى وجهها ترقبٌ يوحي بأنها تنتظر ظهور أحدهم.. كانت تعلم أنها قد تأخرت لكنها تمنت أن تظفر ولو ببضع لحظات..
تحرك بصرها إلى المنزل المقابل، فدفعها مرأى السيارة الكائنة أمامه إلى التحلي ببعض الصبر..
دقائق أخرى مرت من الانتظار شعرت بعدها بالضيق والإحباط، وكادت تلوم نفسها مرةً أخرى على تأخرها في النوم عندما...
عندما لمحته..
وعلى الرغم من أنها تتوقع ظهوره بل وتنتظره، فاجأها قلبها بخفقةٍ مضطربة فتنفست بقوة وتركت له العنان..
كان يعدو بسرعةٍ متوسطة عائدًا إلى منزله.. وقبل أن يصله بقليل، هدأ من سرعته حتى أصبحت خطواته الراكضة مشيًا..
ابتسمت وهي تراه يرفع ياقة زيه الرياضي ليغطي عنقه وذقنه، ويضع يده في جيبه وأنفاسه المتلاحقة تكثف الهواء أمامها، ثم غمغمت وكأنما تخاطبه: الجو باردٌ عليك حقًا.
جاوبتها عطسةٌ قويةٌ منها تنبئها أن الجو ليس باردًا عليه فقط بل عليها أيضًا، لكنها تجاهلت ذلك وواصلت متابعته ببصرها حتى غاب داخل منزله المقابل لها تمامًا..
لحظتها أغلقت النافذة واتجهت شاردةً نحو فراشها لتندس تحت أغطيته الثقيلة وأسبلت جفنيها لتواصل نومها، فمازال أمام ميعاد استيقاظها المعتاد ساعةٌ كاملة..
كانت تريد فعلًا مواصلة النوم لكن الابتسامة التي حملتها شفتاها وقلبها الذي يدق شغفًا اشتراكا مع عقلها ليتمرد عليها، فشرد يسترجع ذكرياتٍ قريبة..

********************
*** قبل شهر..
في آخر أيام عطلة منتصف العام الدراسي..
وقفت منى أمام نافذة حجرتها تتنسم الهواء الطلق في انتعاش، وعلى الرغم من برودته أعجبها الجو كثيرًا، لهذا قررت الجلوس على مقعدها الأثير بجوار النافذة وقراءة كتابٍ ما..
همت فعلًا بإحضار ما تقرؤه عندما لمحت تلك السيارة السوداء الأنيقة حديثة الطراز، فتنهدت في ضيق.. لقد أصبحت تراها كثيرًا متوقفةً بجوار المنزل المواجه للبناية التي تقطن فيها، والكائنة بإحدى المدن الجديدة..
لم تكن السيارة بالطبع سبب ضيقها، لكنها حقيقة أن ذلك المنزل أصبح له سكانًا..
كان منزلًا أنيقًا أشبه بفيلا صغيرة مكونة من طابقين تحيطها حديقةٌ صغيرة، لكن أجمل ما فيه كان كونه خاليًا، لهذا كانت تفتح نافذة حجرتها بحرية.. كان هذا قبل أن تدب مظاهر الحياة فيه فجأةً منذ وقتٍ قصير.. أصبحت أنواره تُضاء ليلًا وزرعت حديقته وامتلأت أزهارًا، وظهر ذلك الشخص الذي يعتني بالحديقة ويروح ويجيء على المنزل.. وأخيرًا ظهرت تلك السيارة..
لم يثر الأمر اهتمامها، بل بالعكس، ضايقها كثيرًا لأنه حجّم عليها فتح نافذة حجرتها الوحيدة..
وبضيق، تنهدت مرةً أخرى وغمغمت في سخط: هذا ما كان ينقصني!
- وتتحدثين إلى نفسك أيضًا!
التفتت منى مندهشةً لتجد صديقتها بسمة تطالعها بوجهها البيضاوي المحبب وعينيها البندقيتين وقد وقفت بجوار باب غرفتها بينما تكمل: لماذا لا يصدقني أحدٌ إذًا عندما أقول إنك مجنونة؟!
ضحكت منى وقالت وهي تصافحها بحرارة: ومن يحتفظ بعقله ولديه صديقةٌ مثلك!
ثم أردفت وهي تقودها للداخل: افتقدتك كثيرًا بسمتي.
قالت بسمة مازحةً ومتظاهرةً بعدم التصديق: حقا!! لكننا كنا سويًا منذ يومين!!
ابتسمت منى قائلة: أنا افتقدك دائمًا.
سحبت بسمة مقعدًا صغيرًا وجلست قائلة: لم يتبق سوى يومين ونعود لنقضي نصف يومنا سويًا حتى نمل.
جلست منى قبالتها وقالت: آه.. ذكرتني بانتهاء عطلة منتصف العام.. لا أصدق أن مرت الأيام بهذه السرعة..
ثم أردفت بتنهيدةٍ حارة: ولست أدري من أشار عليّ بدخول كلية الصيدلة من الأساس.
أطلقت بسمة ضحكةً خافتة وقالت: أتتساءلين الآن ونحن في السنة النهائية! بضعة أشهرٍ ونُنهي هذه المأساة.. لا تقلقي.
تصنعت منى الغيظ وقالت: لا أستطيع منع نفسي من حسد زملاءنا في الكليات الأخرى، فقد تخرجوا منذ هذه الـ"بضعة أشهر".
هزت بسمة رأسها في أسفٍ مصطنع وهمت بقول شيءٍ ما عندما أردفت منى بحماسٍ مفاجئ: ما رأيك لو دللنا أنفسنا بعض الشيء؟
عقدت بسمة حاجبيها وقالت: ماذا تعنين؟
استقامت منى واقفة وأشارت بيدها بذات الحماس: ماذا لو تجاهلنا الجامعة لبضعة أيامٍ إضافية؟
بدا على بسمة الاستنكار، فاستطردت منى بسرعة: أسبوعٌ واحدٌ فقط.
عادت بسمة تضحك وضربت يدًا بيد وهي تقول: يبدو أنك قد جننت فعلًا.
قالت منى معترضة: وما الجنون في ذلك؟
طالعتها بسمة بصمتٍ دام للحظات، قبل أن تسألها بدهشة: منى.. هل أنت جادة؟
أومأت منى برأسها بقوة، فعاودها استنكارها وقالت: هل ستتركين محاضراتك ودروسك العملية بدون سبب؟
قوست منى شفتيها كالأطفال وقالت: أريد أن أرتاح.. هل هناك سببٌ أقوى من ذلك؟
قالت بسمة بغيظ: هذا ليس سببًا.. هذا كسلًا.
عقدت منى ذراعيها أمام صدرها وهي تقول في عناد: فليكن.
هزت بسمة رأسها باستسلام، فغمزت منى بعينها قائلة: وماذا عنك؟ ألن تشاركيني جنوني؟
رفعت بسمة كفها ضاحكة وقالت: أنا؟ لا.. مستحيل.. أنا لن أترك محاضراتي أبدًا.
ابتسمت منى ولم تعلق، لتستطرد بسمة: أعيدي التفكير في الأمر وتحلي ببعض التعقل.. واثقةٌ أنا من أنك ستغيرين رأيك.
هزت منى كتفها بمعنى ألا تأمل في ذلك كثيرًا، فتنهدت بسمة وقالت: حسنًا يا منى.. يا صديقتي المجنونة.. يا من ستودين بآخر أبراج عقلي حتمًا في يومٍ ما.. يا من.......
قاطعتها منى ضاحكة: كفى.. كفى.. هل ستؤلفين فيَّ قصيدة! اذهبي أنت أيتها المجتهدة واتركيني أنعم بعطلتي، ولكن ابقي على اتصال.
- في أحلامك.. إذا أردت معرفة شيءٍ فاذهبي واعرفيه بنفسك.
قالتها بسمة في عناد، ثم أردفت: والآن أنا ذاهبة.
قالت منى في اعتراض: ماذا؟ لقد أتيت لتوك.. هيا.. تخففي من حجابك ودعينا نجلس قليلًا.
عدلت بسمة من وضع حجابها لتخفي خصلات شعرها الكستنائية دائمة الانزلاق، ثم نهضت قائلة: ربما في وقتٍ لاحق فقد كنت ذاهبةً للتسوق من الأساس، لكني عندما مررت أمام منزلكم المبجل اكتشفت كم افتقدتك بعد يومين من الفراق، فأتيت لإلقاء السلام.
ضحكت منى بمرح، فعادت بسمة تقول وهي تلوح بكفها وتسبقها إلى الباب: إلى اللقاء.. أراك بعد يومين.
تبعتها منى قائلة: قلت لك إنني لن....
قاطعتها بسمة بزفرة غيظ، لكنها لم تلبث أن ابتسمت وغمزت بعينها: أتراهنين؟
بدا على منى التساؤل، فهمست: ستأتين إلى الجامعة في أول أيامها.
همست منى بدورها: تخسرين إذًا.

***********************

*** أوت منى إلى فراشها مساء آخر أيام العطلة وبدت متضايقةً وحائرة..
لا تشعر هي بالراحة لقرارها الخاص بتجاهل أيام الدراسة الأولى..
بعيدًا عن الدراسة، لقد افتقدت الجامعة بالفعل.. افتقدت صديقات وزميلات الدراسة.. افتقدت تجمعهن المعتاد أمام مبنى المحاضرات وثرثرتهن أثناء الدروس العملية.. افتقدت في الواقع كل شيء..
ترى.. ماذا عليها أن تفعل؟!
انهمكت في التفكير لبرهة، لكنها لم تهتدِ لقرار.. فغمغمت وهي تستسلم للنوم: فلندع ذلك للغد.
في الصباح، استيقظت مبكرًا على غير عادتها في الأيام السابقة.. شعرت بالنشاط والحماس فقامت وهي تحدث نفسها: يبدو أنك ستربحين الرهان للأسف يا بسمة.
انتقت من ثيابها أفضل ما يناسب قوامها المعتدل وبشرتها الخمرية، وأخذت وقتها في لف حجابها الأنيق وضبطه بمنتهى الدقة كعادتها، ولم يخلُ الأمر من بضع لمساتٍ بسيطة من الزينة منحت بها عينيها الواسعتين السوداوين ما تستحقه.. ولم تمضِ ساعةٌ واحدة، حتى كانت تدخل الجامعة في أبهي صورها وكامل تأنقها..
مع بلوغها ساحة الكلية، لمحتها بسمة، فتألقت عيناها في ظفر و انتظرت اقترابها لتقول: كنت متأكدة..
صافحتها منى بحرارةٍ بينما تكمل: أنك ستخسرين الرهان.
حركت منى سبابتها أمام وجهها نافيةً وقالت: لا لّا.. لا تخطئي فهمي.. أنا هنا اليوم للنزهة فقط!
قالت بسمة ضاحكة: هكذا إذًا.
تلفتت منى حولها ترمق زميلاتها المنتشرات في تجمعاتٍ متفرقة بساحة الكلية وقالت: مالي أرى الجميع هنا؟ هل قررتم جميعًا تجاهل المحاضرات مثلي؟
أجابتها بسمة بلهجةٍ مسرحية: شاء القدر أن يمنحنا - نحن بؤساء الدراسة - عطلةً أسبوعيةً صغيرة متمثلةً في يومٍ خالٍ من المحاضرات والدروس العملية، والذي تصادف أن يكون اليوم.
هتفت منى بفرح: حقًا؟! هذا أفضل خبرٍ سمعته حتى الآن.
اقتربت منهما أمل صديقتهما وقالت: أهلًا منى.. طالما تبتسمين بهذه السعادة فمن المؤكد أنك عرفت بخبر اليوم.
ضحكت بسمة وقالت: وأي سعادة.
انضمت إليهن باقي الصديقات وتوزعن متجاوراتٍ على مقاعد متقاربة يتبادلن الحديث..
بقيت إحداهن ولم تجد لها مكانًا لتجلس، فاندفعت تحشر نفسها حشرًا بين منى وبسمة قائلة: افسحا قليلًا.
لكزتها منى وقالت مازحة: زاد حجمك مؤخرًا يا دعاء.
أدارت دعاء بصرها بينها وبين بسمة، فتجهم وجهها فجأةً وقالت: ما الذي فعلته بنفسي! أنقذيني يا أمل.
مدت يدها بالفعل إلى أمل لتجذبها من بينهما، بينما تكمل: لحظةٌ واحدة إضافية وكانت ستصيبني العدوى.
نظر إليها الجميع باستغراب، فأردفت: عدوى الاجتهاد في الدراسة بالطبع!
انفجر الجميع في الضحك ومضى الوقت مرحًا ممتعًا..
في طريق العودة، وبعد مرحلة التنقل السخيفة بين وسائل المواصلات والتي تفرض عليهما قطع مسافةٍ لا بأس بها سيرًا على الأقدام، كانت منى وبسمة تواصلان طريقهما إلى منزلهما مشيًا وقد تأبطت منى ذراع بسمة - رغم أنها الأقصر طولًا - وهي تقول: لا يمكنك أن تتخيلي كم كنت بحاجةٍ إلى مثل هذا اليوم.
بنظرةٍ جانبية سألتها بسمة: أيعني هذا أنك قد صرفت النظر عن موضوع الأسبوع الإضافي هذا؟
قالت مبتسمة: نعم.
قالت بسمة وهي ترفع يدها إلى السماء وكأنها تبتهل: حمدًا لله.. الآن اطمأننت إلى أن فترة جنونك قد انتهت.. مؤقتًا.
أطلقت منى ضحكةً خافتة ولم تعلق، فاستطردت بسمة وهي تنظر تجاه منزل منى والذي لاح من بعيد: ما هي أخبار جيرانكم الجدد؟
- تقصدين جارنا الجديد.
- معقول؟! أيسكن كل هذا المنزل شخصٌ واحد؟!
أومأت منى برأسها إيجابًا، فعادت تسأل: وكيف عرفت؟
أجابتها منى بهدوء: سمعت أمي تسأل أبي نفس السؤال، فأجابها أن صاحبه طبيب يدعى... آه.. لقد نسيت اسمه.. المهم أنه يسكن فيه وحده بعد أن اشتراه من مالكه الأصلي.. أبي يقول أنه مشهور إلى حدٍ ما وله عيادةٌ خاصة في وسط المدينة.
بهزة رأسٍ علقت بسمة: هذا جيد.
ردت منى بضيق: كلا.. ليس جيدًا على الإطلاق.. فإلى جانب أني لم أعد أستطيع فتح النافذة وقتما أريد، أصبتُ بالإحباط.. كنت أتمنى أن تكون هناك عائلة، فيكون من الممكن أن تنشأ بيننا وبينهم علاقةٌ وجيرة.. تعرفين كم أن هذا نادرٌ في المدن الجديدة.
بتعجبٍ قالت بسمة: وما الذي يمنع ذلك الطبيب من هذا.. ربما أصبح يومًا صديقًا لوالدك.
- لا أظن ذلك.
- ولماذا يا عبقرية؟
هزت منى كتفها قائلة: لست أدري.. أراهنك أنه عجوزٌ في الخمسين من عمره على الأقل، فكل الأطباء لا ينعمون بالحياة الرغدة إلا قرب الخمسين.. ظل يدرس طوال عمره حتى فاته قطار الزواج فأصيب بعقدةٍ نفسية جعلته يفضل العيش منعزلًا عن جميع العلاقات الاجتماعية، ويبدو....
تعلق بصر وانتباه بسمة بشيءٍ ما فلم تنتبه إلى بقية حديث صديقتها، إلا أنها لم تلبث أن قاطعتها: يبدو أنك ستخسرين كالمعتاد يا صديقتي العزيزة.
تساءلت منى في دهشة: أخسر ماذا؟
أشارت بسمة برأسها إلى ما أمامها وهي تبتسم قائلة: الرهان!
التفتت منى تنظر إلى حيث تشير بسمة لتغمرها الدهشة.. فعلى بعد أمتار، كانت سيارة من كانت تتحدث عنه قبل لحظاتٍ تتوقف لتوها أمام منزله..
لم تكن السيارة بالطبع مبعث دهشتها.. بل كان صاحبها !
ذلك الذي وصفته منذ قليل بأنه رجلٌ عجوزٌ معقد!
ذلك الذي لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يوصف بهذا الوصف!
شابٌ أسمر في أواخر عقده الثالث ربما، طويل القامة ذو بنيةٍ رياضية، أنيقٌ للغاية، ووسيمٌ بشكلٍ ملفت خاصةً بذلك الشعر الأسود الناعم الطويل نسبيًا والمصفف بعناية.. تحمل ملامحه هدوءًا وقوة لا تدري كيف يجتمعان معًا.. تحمل تعبيرًا بالبساطة جعلها تشعر بارتياحٍ غريب.. وفوق هذا كله، ابتسامةً هادئةً بسيطة!
ولثوانٍ، ظلت تحملق فيه وشعورها بالدهشة يزيد مع كل ثانيةٍ تمضي، حتى غاب داخل منزله..
انتبهت لحظتها أنها قد توقفت وأن بسمة قد سبقتها ببضع خطوات، لكنها لم تلبث أن عادت وجذبتها من ذراعها وهي تقول: ماذا هناك؟ لمَ توقفت؟
ردت شاردة: لا شيء.
قالت بسمة في مرح: أهذا جاركم ذو الخمسين عامًا؟! لابد أنه يتناول إكسير إعادة الشباب بانتظام!
عقدت منى حاجبيها ولم ترد، فقالت بسمة وهي تلوح لها بيدها مودعة: لكن ليس هذا هو المهم.. المهم أنه...
غمزت بعينها مستطردة: وسيم!
هزت منى كتفها بلا مبالاةٍ ولوحت بيدها بدورها قائلة: أراك غدًا.. إلى اللقاء.
- إلى اللقاء.
صعدت لمنزلها بينما أكملت بسمة طريقها فمنزلها يلي منزل منى بمسافة عشر دقائق أخرى من السير.
وفي ضيق لم تدرِ له سببًا، مطت شفتيها مغمغمة: ربما ليس عجوزًا ولكنه بالتأكيد مغرور.
ما إن دخلت ورأت والدها حتى سألته قبل حتى أن تلقي عليه السلام: أبي.. ما اسم ذلك الطبيب قاطن المنزل المقابل؟
ألقت السؤال في لهفةٍ أصابتها هي بالدهشة قبل والدها الذي تساءل في استغراب: ولماذا تسألين هكذا فجأة.. لقد دخلت لتوك؟
ابتسمت بارتباكٍ وقالت: سألتني بسمة منذ قليلٍ فأثارت فضولي.
قال والدها: د. عمرو فؤاد.
قالت متظاهرة بالتذكر: آه.. أجل.. لقد أخبرتني من قبل لكني نسيت.. حسنًا يا أبي.
طبعت قبلةً سريعة على وجنته ثم اتجهت إلى غرفتها.
لا تدري لماذا شعرت بفضولٍ لمعرفة المزيد لكنها استوقفت نفسها في حزم "كفى.. الأمر كله لا يعنيني"
لكنها لم تدرك أن الأيام القادمة ستحمل لها الكثير.

******************

*** في يومها التالي، ذهبت إلى الجامعة مبكرًا.. يوم مكدسٌ بالمحاضرات والدروس العملية وكأنما ينتقم منهم من نظم جدول الدراسة لتمتعهم بيوم عطلةٍ إضافي.. لقد دارت عجلة الدراسة بالفعل ولا شيء سيوقفها سوى انتهاء العام..
وفي يومٍ متخم كهذا لا يجد المرء وقتًا حتى للشرود.. ولكن ماذا عن هذا الاختبار الكيميائي الذي تجريه في معمل الكيمياء الطبية.. إن مراقبة ذلك السائل وهو يغلي داخل أنبوب الاختبار مملةٌ حقًا.. مازال أمامه خمس دقائق أخرى من الغليان.. مئات الفقاعات تتصاعد، تكبر، تتلاشى، ثم تعود لتتكون من جديد.. كم أن هذا ممل.. مملٌ للغاية..
إنها تشرد..
مازالت عيناها تنظر إلى الأنبوب، لكن ذهنها أصبح بعيدًا.. بعيدًا عن هذا الزمان والمكان..
لقد عاد إلى الأمس.. إلى ذلك الرجل ذو الابتسامة المدعو عمرو..
كم هي رائعةٌ تلك الابتسامة الصغيرة الواثقة.. لم تكن شفتاه فقط اللتان تبتسمان، بل ملامحه كلها..
شعرت أنها تتأمل ملامحه من جديد، فابتسمت هي الأخرى.. شعرت بـ.....
بووووووم
انتفضت في ذعر وأنبوب الاختبار ينكسر بفرقعةٍ مكتومةٍ مزعجة جعلت كل من حولها يلتفت إليها متسائلًا وقلقًا، فقالت في توتر: لم أنتبه إلى أن اللهب كان عاليًا.
لحسن الحظ كان الأستاذ المنوط بالشرح العملي خارج المعمل ولم تصيبها شظايا الأنبوب، فزفرت في ضيق وهي تلقي ببقايا الأنبوب بعيدًا بينما عاد الآخرون للتركيز في عملهم وتجاربهم..
اقتربت منها بسمة وهي تسألها في دهشة: ما كان هذا؟!
قالت في عصبية: لست أول واحدةٍ تكسر أنبوبًا!!
- لم أقصد هذا.. لكنك كنت تبتسمين في سعادة والسائل يتبخر أمامك !
هتفت في استنكار: أنا؟!
وضعت بسمة الأنبوب الذي تحمله جانبًا بحرص، ثم واجهتها قائلة: أجل.. ظننتك تقصدين تركيزه، وعندما لاحظت أنه تبخر تمامًا وأنت مازلت تعرضينه للهب ناديتك، فلم يبدو عليك أنك قد سمعتني وأنت تواصلين الابتسام.. هل كنت تلهين بالتجربة؟!
ردت منى بلهجتها المستنكرة: مطلقًا.. لقد كنت شاردةً فحسب.
لم يبدُ على بسمة الاقتناع وقالت في غيظ: وفيمَ كنت تشردين وجعلك تبتسمين هكذا وتنسَين الدنيا من حولك؟
طالعتها منى بدهشةٍ مرددة: أنسى الدنيا؟!
ثم تنهدت في عمقٍ وقالت: كان مجرد شرود.
نظرت لها بسمة في شك، ثم قالت بعد فترةٍ من الصمت: حسنًا.. حاولي ألا تشردي مجددًا فالأستاذ قادم، وهو كما تعلمين لا يعترف بالشرود أثناء التفاعلات الكيمائية.
لم تستطع التركيز بعدها أبدًا.. حاولت وفشلت..
الأستاذ يتحدث.. يشرح نقاطًا بعينها وهي تحاول الانتباه , ثم تكتشف أن جزءًا من كلامه قد نسيته أو ربما لم تسمعه أصلًا.. لا تدري..
ولهذا لم يكد وقت المعمل ينتهي حتى زفرت في قوة وقالت في ضيق: يا لها من تجارب سخيفة.
قالت لها بسمة: ماذا دهاك؟ إن عملنا اليوم كان سهلًا للغاية.
- لست أدري.. يبدو أنني متعبة.
- هل تحبين أن نستريح بالخارج قليلًا؟
- كلا.. دعينا نغادر سريعًا.
غادرتا سويًا كما تفعلان دائمًا.. وعلى الرغم منها، لم تستطع منى منع تلك اللهفة التي تصاعدت في أعماقها وهي تقترب من منزلها.. إنه نفس الموعد تقريبًا الذي رأته فيه أمس..
كانت تتحدث إلى بسمة بينما تترقب عيناها ظهور سيارته في أي لحظة!
لكنها لم تأت..
شعرت حقًا بالضيق، وضايقها شعورها هذا أكثر!! وبدا على ملامحها على نحوٍ جعل بسمة تلحظه وتدرك أن هناك أمرًا ما..
همت بسؤالها لكنها أحجمت.. شعرت أنه من الأفضل أن تنتظر حتى تخبرها بنفسها.. لهذا قالت مداعبة: يا إلهي.. تبدين كمن مشى فوق رأسه فأر.. يبدو أنه من الأفضل فعلًا أن تصعدي إلى منزلك بأقصى سرعة.
ابتسمت منى على الرغم منها وقالت: هكذا إذًا! حسنًا.. أنا مضطرةٌ إلى تحمل دعاباتك الثقيلة.
قالت بسمة وهي تبتعد: أريد أن أراك غدًا مشرقة.. اتفقنا؟
لوحت منى بيدها مودعةً وهي تقول: أنا دائمًا مشرقة!
صعدت إلى منزلها بإرهاقٍ واضحٍ.. منذ تلك التجربة في المعمل ومزاجها غير رائقٍ على الإطلاق ولا تدري لماذا..
وفي غرفتها، استلقت على فراشها محاولةً الاسترخاء..
لحظاتٌ تمضي ثم.. لا فائدة..
نهضت لتقف أمام النافذة، وشردت مرةً أخرى..
لم تنتبه إلى السيارة السوداء التي توقفت، ولا إلى قائدها الذي غادرها.. لكنه عندما أغلق بابها بذلك الصوت المميز لأبواب السيارات، انتبهت لتجده واقفًا بجوار سيارته..
بدا عليها الضيق للحظة، لكنه لم يلبث أن تلاشى وهي تتأمله..
ها هو ذا.. بأناقته الملفتة و.. وابتسامته..
كيف يستطيع الاحتفاظ بهذه الابتسامة الـ.... الرائعة.. إنها تبدو وكأنها لا تفارق شفتيه..
ابتسمت هي الأخرى دون أن تشعر..
ومن مكانها أخذت تراقبه في شغف..
كان يتحدث في مرحٍ مع أحدهم عبر هاتفه الخاص، وقبل أن يغيب داخل منزله، كان آخر ما سمعته هو صوت ضحكاته..
أغلقت النافذة وبدأت في تبديل ملابسها، لكنها عندما نظرت لصورتها في المرآة أدهشتها تلك الابتسامة التي مازالت على شفتيها، وأدهشها أكثر ذلك السرور الذي بدا على ملامحها..
- ماذا دهاني؟!
قالتها لنفسها في خفوت.. وبتنهيدةٍ عميقة أردفت وهي تبتعد عن المرآة: أنا لم أعد أفهم!
لكنها أيقنت من داخلها أنها الآن مسرورة.. مسرورةٌ فعلًا..
في المساء.. اخترعت حديثًا طويلًا عريضًا مع والدها لم يهمها منه هو سوى إجابته عن أسئلتها المتلهفة عنه والتي حشرتها حشرًا في سياق الحديث..
أخبرها والدها أنه يعمل أخصائيًا لأمراض القلب بإحدى المستشفيات الاستثمارية الكبرى إلى جوار عيادته الخاصة والتي تمتلك قدرًا وافرًا من الشهرة، وأنه ما زال يدرس لينال درجة الدكتوراه، يعيش وحده لكن هناك من يتردد على منزله ليعتني به وبالحديقة.. أخبرها أيضًا أنه التقاه مرتين أو ثلاثًا وتبادل معه بعض الحديث..
أحست منى من حديث والدها أن تلك المحادثات القصيرة بينهما قد تركت انطباعاتٍ جيدة للغاية عند والدها..
لم يشبع هذا فضولها كثيرًا لكنها - وعلى الرغم من ذلك - ظلت ساهرةً حتى وقتٍ متأخر من الليل..
حاولت النوم.. لكن صورته كانت تقتحم أفكارها لتطير النوم بعيدًا..
وفي نفسها تساءلت..
تُرى.. هل أُعجبت به؟!
ولماذا هو بالذات؟!
ماذا يوجد فيه ولا يوجد في أي شخصٍ قابلته أو تعاملت معه من قبل؟!
طوال سنوات دراستها في الجامعة وهي تتعامل مع الكثيرين ممن هم على نفس المستوى بل وأعلى، لم يلفت أيهم حتى نظرها..
وإن كانت قد أعجبت به فعلًا، لماذا بهذه السرعة؟!
لا بد وأن هناك تفسيرًا ما، لكنها لا تعرفه..
وربما ليس هناك أي تفسيراتٍ أو أسباب.. لقد أعجبت به و.. وحسب..
ومن يبحث عن الأسباب!!
حين يتكلم القلب لابد وأن يعلو صوته على جميع الأسباب والمبررات، بل وعلى المنطق نفسه..
إنه يحكم بمنطقه هو الذي هو في حد ذاته.. اللامنطق!!
حقًا.. لا يوجد أي منطقٍ في أن تشعر أن كل رجال العالم شيء، وهو بالذات شيءٌ آخر!!
أن كل ما في الدنيا شيء، وابتسامته هو شيءٌ آخر!!

********************

*** بدت في اليوم التالي حقًا مشرقةً متألقة.. تمامًا كما أرادتها بسمة، لكن لأسبابٍ مختلفة..
لقد رأته في الصباح وهو ذاهبٌ إلى عمله..
ومرةً أخرى تشعر بنفس الشعور..
وتوالت الأيام..
وفي كلٍ، كانت ترى أو تسمع منه ما يزيد إعجابها به..
وخلال شهرٍ تقريبا، كانت منى قد أدمنت رؤيته بمعنى كلمة الإدمان.. إن اليوم لا يستحق أن يكون يومًا إلا إذا رأته خلاله.. أما إذا لم تستطع رؤيته يومًا، فالأسبوع يستحق عن جدارة أن يكون ستة أيامٍ فقط!!
شعورٌ غريب يغمرها لا تعرف له تفسيرًا..
لا تعرف حقًا إن كان إعجابًا أم شغفًا بمراقبته.. أم ربما رغبةً في رؤيته وحسب..
لكنه داخلها، ينمو ببطءٍ لكن.. بثقة..
إنه داخلها، يشعرها بالسعادة.. وهذا يكفيها!
لقد حفظت عن ظهر قلب معظم مواعيده، وبمراقبته المستمرة اكتشفت شيئًا آخر مهمًا للغاية..
إنه يتريض كل يومٍ ولمدة نصف ساعة من السادسة والنصف إلى السابعة صباحًا.. يركض حول المنزل أو بطول الشارع الفاصل بين منزليهما عدة مرات، يذهب بعدها إلى عمله..
كان هذا يسعدها للغاية.. إنه يمنحها نصف ساعةٍ كاملة تقضيها معه.. أو بمعنىً أدق، تراه.. وإن لم يرها هو..
مرت كل هذه الذكريات القريبة بذهنها وهي تحاول العودة للنوم، لكن هيهات..
كل لحظةٍ تذكرتها كانت تشعر بمرورها عليها مجددًا حاملةً نفس المشاعر والأحاسيس والانفعالات، لهذا لم يجد النوم سبيلًا لعقلها قط..
وعندما دقت الساعة الثامنة.. قامت تستعد للذهاب إلى الجامعة.. أمامها يومٌ طويلٌ جدًا ستتحمله راضيةً لأنها ستراه عند عودتها.. موعد رجوعها يتفق معه اليوم!

************************
2 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.