AmanyAlsagheer

شارك على مواقع التواصل

* 12 *
*** تحرك باسل في هدوء عبر أروقة المستشفى بعد أن أنهي جولته التفقدية للحالات التي يتابعها، عندما لفت انتباهه تجمع بعض الممرضات بالقرب من المصعد.. أثار الأمر فضوله فاقترب، وعندما فعل تناهى إلى مسامعه حديثهن الخافت عن مشاجرة د. عمرو مع إحداهن!!
التقى حاجباه في استغرابٍ وغمغم: عمرو؟!
كاد يتجه نحوهن ويسألهن، لكنه لم يلبث أن عدل عن رأيه وقرر أن يبحث عن عمرو نفسه ويسأله..
أمام إحدى النوافذ الزجاجية الضخمة المطلة على ساحة المستشفى الخارجية وجده بعدما طال بحثه..
كان يقف واضعًا يديه في جيبي معطفه الطبي يتطلع من النافذة ويبدو عليه الشرود..
اقترب منه مناديًا إياه، لكن عمرو لم يلتفت ولم يبدو عليه أنه قد سمعه، فاقترب أكثر ووضع يده على كتفه قائلًا: عمرو!
التفت إليه عمرو وبدا عليه الشرود لحظة، ثم لم يلبث أن ابتسم وقال: أهلًا باسل.
ابتسم باسل بدوره وقال: لقد ناديتك عشر مراتٍ على الأقل ولم تسمعني.. إلى أين ذهبت؟!
عاد عمرو يتطلع من النافذة وقال: طالما قلت عشرًا فهي بالتأكيد مرةً واحدة فقط!
ضحك باسل ثم وقف بجواره ووضع يديه في جيبي معطفه هو الآخر وهو يقول: فيمَ هذا الشرود العميق يا ترى؟
أجابه عمرو ببساطة: لا شيء محدد.. وجدت أن لدي بعض الوقت بعد أن انهيت عملي ولم أجد شيئًا أفعله.
تطلع إليه باسل بنظرةٍ جانبية وعاد يبتسم.. يعرف هو جيدًا أن عمرو بالذات لا يمكن ألا يجد ما يفعله.. عبارة "وقت فراغ" هذه لا توجد في قاموسه.. لكن يبدو أن مزاجه غير رائقٍ اليوم.. ألهذا تشاجر مع الممرضة؟!
نقل إليه تساؤله، فرد مستنكرًا: أنا؟!
هز باسل كتفه وقال: هكذا سمعت.
- ممن؟
- من الممرضات.. سمعتهن يتحدثن، لكني لم أسألهن وفضلت سؤالك أنت مباشرة.
تنهد عمرو ثم قال في شيءٍ من العصبية: كل ما في الأمر أنني كنت أفحص أحد المرضى واكتشفت أن الممرضة المسئولة عنه لم تعطه علاجه في وقته وكاد هذا يسبب تدهورًا في حالته، فعنفتها قليلًا.. هل تعتبر هذه مشاجرة؟
ضحك باسل قائلًا: توقعت هذا.. لا عليك.. أنت تعرف الممرضات.. إنهن دائمًا حمقاوات ويحببن المبالغة.
لكنه كان يعلم أن الممرضات لم يبالغن كثيرًا.. الأمر نسبي تمامًا.. لو صدر هذا التصرف من طبيبٍ آخر لكان الأمر عاديًا، بل إن هذا يحدث غالبًا.. ولكن عندما يصدر من عمرو أكثر الأطباء هدوءًا ورصانة وحزمًا حتى في أثناء غضبه، فالأمر سيبدو حتمًا كمشاجرة..
- ألا ترى معي أنك تبدو مختلفًا منذ فترة؟
كان هذا ما أردف به، ليجيبه عمرو مستغربًا: مختلفًا؟! كيف؟
هز باسل كتفه وقال: منذ عدة أيام.. تحديدًا بعد المؤتمر، وأنت تبدو عصبيًا قليلًا، قليل الكلام.. ربما لا يكون هذا واضحًا ولكنك لا تبدو كما أنت دائمًا.
طالعه عمرو بصمت، فنظر باسل إلى عينيه مباشرةً وقال مفسدًا عليه أي محاولةٍ للإنكار: أنا أقرب أصدقائك وأعرفك جيدًا.
كان عمرو يدرك كم أنه على حق، فبقي على صمته لحظاتٍ أخرى عاودت خلالها عيناه النظر عبر النافذة، ثم لم يلبث أن قال مراوغًا: أنا على ما يرام تمامًا.. قليلٌ من العصبية لا يعني بالضرورة أن هناك سببًا.. ربما أكون مرهقًا بعض الشيء ولا أجد وقتًا للدراسة.. هذا كل ما في الأمر.
لم يبدُ على باسل أنه اقتنع بما قال، لكنه لم يُعقب في عرضٍ صامتٍ للاستماع إن رغب صديقه بالتحدث وإفراغ ما بداخله..
كان يتوقع أي شيء إلا أن يلتفت إليه عمرو فجأة ويقول: هل تحب البيتزا؟
طالعه بوجهٍ تجلت عليه دهشته، فغالب عمرو تردده وجداله مع نفسه ليردف: ما رأيك أن أدعوك اليوم إلى تناول البيتزا على الغداء؟
واصل باسل النظر إليه بتعجبٍ للحظات، ثم لم يلبث أن قال: ما أعرفه أنك لا تفضل البيتزا.
ابتسم عمرو وقال وهو يتأبط ذراعه ويجذبه ليسير معه: بالعكس.. أصبحت أحبها جدًا.. هيا بنا.
جاوره باسل باستسلام ولسان حاله يقول "حسنًا.. ولمَ لا"
غادرا المستشفى سويًا واستقلا سيارة عمرو..
سأله باسل وهما ينطلقان بالسيارة: إلى أين ستأخذنا؟
مرت بذهن عمرو تلك الورقة التي لمحها بين أوراق منى حينما كانت تلملمها على حقيبة سيارته.. كانت ورقة إعلانٍ ملونة عن افتتاح أحد مطاعم البيتزا في وسط المدينة.. منذ مساء أمس والأمر يداعب تفكيره بإلحاح.. بالتأكيد هي مهتمة وإلا لما احتفظت بورقة الإعلان.. أما هو فيشعر برغبةٍ عارمة في رؤيتها لدرجة أن احتمالًا ضئيلًا كاحتمال أن يلقاها هناك إن ذهب، تعاظم داخله..
التقط نفسًا عميقًا ثم قال مجيبًا صديقه: سمعت عن مطعمٍ جديد للبيتزا في وسط المدينة افتتاحه اليوم، ففكرت أن أحظى بغداءٍ مختلف بصحبتك.
ابتسم باسل وقال: حسنًا.. أظن أنني بحاجةٍ أيضًا للتغيير.
لم تمض ربع ساعة حتى وصلا إلى هناك.. بلافتة ضخمة تلفت الأنظار أدرك عمرو أن المطعم يحتل الطابق الثاني من إحدى البنايات الضخمة والتي تراصت السيارات من حولها في جميع الاتجاهات، على نحوٍ يوحي بضخامة الافتتاح..
اضطر عمرو إلى أن يبتعد قليلًا حتى وجد مكانًا مناسبًا لصف السيارة، ثم غادرها وهو يبادل باسل الحديث بذهنٍ شارد.. كانت عيناه تطوف على الوجوه من حوله، بينما يعلو بداخله صوتٌ يخبره كم هو أحمق!
لم تمضِ لحظات حتى انتصر المنطق ليقرر بعدها طرد احتمال لقائها من ذهنه.. لقد قدِم وانتهى الأمر.. سيحاول الاستمتاع بتناول البيتزا التي لا يحبها وستساعده ثرثره باسل بالتأكيد على شغل تفكيره بأمورٍ أخرى..
بخطواتٍ سريعة اتجها نحو مدخل البناية، وبينما يصعدان درجات السلم الرخامي الكبير نحو الطابق الثاني حيث المطعم، فتح عمرو موضوعًا خاصًا بالعمل، فقال باسل: أرجوك يا عمرو لا تتحدث عن العمل والمستشفى.. كفانا يا أخي.
رد عليه عمرو باسمًا: عن ماذا أتحدث إذًا؟
لوّح باسل بذراعه قائلًا: عن أي شيءٍ غير ذلك.. ألا يوجد شيءٌ آخر في هذه الدنيا يثير اهتمامك؟
رمقه عمرو بنظرةٍ جانبية وقال: بلى.
قال باسل في شغف: من؟
ضحك عمرو ضحكةً قصيرة وقال: ولمَ قلت من.. المفترض أن تقول ماذا؟
تنهد باسل قائلًا: حسنًا.. ماذا؟
ثم أكمل بلهجةٍ عابثة قاصدًا استفزازه: أهي الرسائل ذات المشابك مثلًا؟
رآه باسل يبتسم على عكس ما توقع ويهم بقول شيء ما، لكنه تسمر فجأةً وهو ينظر إلى ما أمامه..
كانت درجات السلم الرخامي الفخم ملتفة بشكلٍ شبه دائري كنوعٍ من الديكور.. وعندما ألقى باسل عبارته الأخيرة كانا في بداية آخر هذه الالتفاتات والتي امتدت درجات السلم أمامها على نحوٍ مستقيم حتى مدخل المطعم..
التفت باسل بتلقائيةٍ إلى حيث ينظر، فوجد مجموعةً من الفتيات يخرجن من المطعم..
عاد بصره إلى عمرو ليُفاجأ بابتسامةٍ غريبة يصحبها تعبيرٌ أغرب لم يره على وجهه من قبل..
وقبل أن يُفصح عن دهشته بتساؤل، تحولت تلك الدهشة إلى ذهول وهو يرى ما يحدث أمامه..

********************

*** لوهلة.. لم يصدق أنه يراها..
أمعقولٌ أن استنتاجه كان صحيحًا والاحتمال الضئيل صار واقعًا !
واقعًا منحه بسخاء بضع لحظاتٍ كان بحاجتها !
لم يدرِ لمَ توقف، ولا متى نسيَ وجود باسل..
فقط شعر بقلبه الذي اختلج واضطرب..
شعر بسيلٍ من الانفعالات يتسرب من داخله ولا يدري كيف!
ودون أن يشعر ابتسم..
كانت تغادر المطعم مع مجموعةٍ من الفتيات اللاتي سبقنها بهبوط الدرج، بينما كانت منشغلةً بالحديث مع إحداهن..
اتسعت ابتسامته مع ضحكةٍ خافتة أطلقتها وهي تبدأ في الهبوط بينما لا تزال تنظر إلى زميلتها التي وقفت أمام باب المطعم الزجاجي تضع شيئًا ما في حقيبتها..
همّ بمواصلة الصعود ليصبح في مواجهتها تمامًا وقد انتابته فجأة رغبةٌ شديدة في رؤية تعبير وجهها حينما تراه، لكنه فوجئ بها تتعثر على أولى درجات السلم وتلتوي قدمها بذلك الحذاء ذو الكعب العالي الذي ترتديه، وقد جعلها هذا تنظر إلى أمامها مرغمةً وهي تحاول استعادة توازنها..
عندها رأته..
توقفت عيناها عنده وتألقت بما أدمن أن يراه، يصحبه قدرٌ هائل من الدهشة والارتباك جعل قدمها الأخرى تلتوى وتدوس على طرف ثوبها الطويل على نحوٍ جعلها تفقد توازنها أكثر بدلًا من أن تستعيده..
وأمام عينيه، كبّل ثوبها الذي داست عليه حركة قدمها وفقدت توازنها تمامًا، وهوت بثقلها كله نحو درجات السلم وهي تشهق شهقةً قوية وزميلتها تهتف في هلع: منى!
هو أيضًا هتف باسمها، لكن هتافه لم يتجاوز داخله وهو يندفع نحوها متخطيًا درجات السلم التي تفصله عنها بقفزةٍ واحدة..
وكان الارتطام قويًا..
لكن به هو، بعدما اعترض طريق سقوطها بجسده..
كاد يدفعه ذلك إلى الوراء ويسقطه معها، إلا أنه تحمل وحافظ على اتزانه بصعوبة، ثم اعتدل وهو يمسك كتفيها في قوة..
كان من حولهما يتنفسون الصعداء وهم يرونه ينفذها من اصطدامٍ محقق لم تكن بالتأكيد لتخرج منه دون أذى.. أما هما، فكانا في قمة انفعالهما ولا يشعران حقًا بمن حولهما..
لحظةٌ مرت، تعالى فيها ضجيج خفقات القلوب عاليًا في محاولةٍ منهما لاستيعاب هذا الاجتياح المفاجئ من الانفعال.. وفي اللحظة التالية، كانت تعتمد بذراعيها على صدره محاولةً تحرير قدميها الملتويتين اللتين مازالتا على وضعهما المعقد حتى تستطيع الوقوف والابتعاد عنه قبل أن يخذلها قلبها ويتوقف للأبد!!
مدركًا محاولتها تلك، ترك عمرو كتفيها وأحاطها بأحد ذراعيه ورفعها قليلًا مساعدًا إياها حتى استطاعت الوقوف بالفعل، إلا أنه ندم على فعلته هذه كثيرًا فلم يُسفر ذلك عن تهدئة انفعاله بأي حالٍ من الأحوال..
أما هي، فما إن استطاعت الوقوف على قدميها حتى أبعدت رأسها عن صدره ليطالعه وجهها الذي احمّر جدًا.. احمّر بشدة.. وقد تهدلت خصلةٌ من شعرها على جبهتها من أثر ارتطامها به..
وزاد هذا الأمر سوءًا بالنسبة له..
حقًا.. أراد أن يتفوه بأي شيء..
هل أنتِ بخير؟ هل أصابك مكروه؟ احترسي..
أي شيءٍ يصلح لأن يقال، لكنه لم يستطع..
فقط تعلقت عيناه بعينيها مستمتعًا بشدة بما يراه فيهما وقد اصطبغ بخجلٍ شديد.. لذيذ!
ثم جالت في وجهها كله..
تتأملان ملامحها بأدق تفاصيلها وهي بعد سنتيمترات..
تتأملان خصلة شعرها السوداء التي تلوت بنعومة على جبهتها المتوردة كباقي وجهها خجلًا..
وقبل أن يستعيد سيطرته على نفسه، دفعت هي يديها في صدره مبتعدةً عنه، واندفعت تهبط درجات السلم في سرعة على الرغم من أن قدميها مازالت تؤلمها من أثر الالتواء.. كادت تتعثر ثانيةً، إلا أنها استعادت توازنها هذه المرة واستمرت في هبوطها دون حتى أن تجرؤ على النظر خلفها..
التفت عمرو يتابعها ببصره حتى اختفت، وظل صامتًا واقفًا حيث هو للحظات التقط خلالها نفسًا عميقًا ومرر أصابعه في شعره، ثم أمسك جبهته وكأنه يقول لنفسه "ما الذي فعلته يا أحمق!!"
لم يستغرق الأمر كله ثوانِ معدودة، ولم ينتبه إليه أحدٌ سوى اثنين..
باسل الذي يقف عند بداية درجات السلم، وزميلة منى التي تقف عن نهايتها والتي لم تكن سوى بسمة..
هما فقط اللذان فهما وأدركا ما حدث..
كانت بسمة مندهشةً بشدة من الصدفة ومما حدث، بل ومن انفعالات عمرو والتي بدت واضحةً للغاية..
أما باسل فكان مذهولًا، وأخذ يتطلع إلى عمرو وكأنما يشك في أن هذا هو عمرو صديقه الذي يعرفه منذ سنواتٍ طويلة!
كانت بسمة أول من تحرك.. هبطت درجات السلم في هدوء وهي ترمق عمرو بنظرةٍ جانبية تكاد تخترقه، لكنه لم ينتبه إليها مطلقًا، ثم تجاوزته لتلحق بمنى سريعًا، في حين صعد باسل إلى حيث وقف عمرو وجذبه معه ليكملا صعودهما سويًا ويدخلا المطعم حيث انتقيا مكانًا هادئًا وجلسا..
كان عمرو مازال مرتبكًا وتحاشى النظر إلى باسل تمامًا، لكن باسل لم يمهله، فلم يكد يستقر في مقعده حتى قال: عمرو.
زفر عمرو في عمقٍ وقال: حسنًا.. حسنًا.. هيا أمطرني بسيل أسئلتك الفضولية.. أنا مستعد.
ابتسم باسل وقال: ولمَ السؤال وقد تكفل وجهك بالإفصاح عن كل خباياك وجعلني أدرك كل شيء.
ثم أمسك يده وصافحها مكملًا: تهانيَّ يا صديقي العزيز.. "congratulation "!!
ثم تراجع في مقعده أمام عينيه المندهشتين وتنهد قائلًا: أخيرًا اطمأننت عليك وعلى مستقبلك وتأكدت تمامًا من أن هذا الشيء الذي يصاب به كل الناس قد تسرب إليك أخيرًا و...
قاطعه عمرو قائلًا: مهلًا.. مهلًا.
صمت باسل وطالعه محتفظًا بابتسامته، فزفر عمرو مرةً أخرى ثم استند بذقنه على قبضته المضمومة وقال: ما هذا الذي أدركته؟
- أنها ليست أي فتاة.. أظنها الفتاة عابرة الطريق الشاردة التي شغلت بالك حتى أصبح لها وضعٌ خاصٌ جدًا بالنسبة لك.. فلنقل مثلًا...
صمت لحظةً ثم أكمل وهو ينظر إلى عينيه مباشرة: أنك تحبها؟
كان يتوقع استنكارًا وتهربًا من الإجابة كالمعتاد، لكن عمرو عاد يمرر أصابعه في شعره ثم قال: هل بدا هذا واضحًا إلى هذا الحد؟!
ارتفع حاجبا باسل دهشةً من هذا الاعتراف الصريح غير المتوقع، ثم لم يلبث أن ابتسم وقال: جدًا.
تطلع إليه عمرو بصمت، ثم مطّ شفتيه قائلًا: يا لي من أحمق!
أومأ باسل برأسه إيجابًا مؤيدًا قوله، ثم أضاف بلهجته العابثة: بل وتفقد السيطرة أيضًا أيها الرزين.
أشاح عمرو بوجهه شاعرًا بالإحراج، فلم يتمالك باسل نفسه من الضحك..
نظر إليه عمرو شزرًا وقال بحدة: هلّا كففت عن استفزازي!
أطبق باسل شفتيه يكتم ضحكاته بصعوبة، فلاذ عمرو بالصمت لحظات، ثم عاد يطلق زفيرًا حارًا محملًا بكل انفعاله..
كف باسل عن الضحك وقد أحس أن عمرو يشعر بالفعل بارتباكٍ حقيقي، وبخفوتٍ مماثل قال: أتحبها إلى هذا الحد؟
عاد عمرو يصمت للحظات أخرى قبل أن يجيبه: لا أدري.. لم أعد أعرف أي شيء!
أشار باسل بيده وقال في ثقة: الحيرة جزءٌ لا يتجزأ من الحب يا صاحبي.. أنا أعذرك بصراحة فهي جميلةٌ جدًا.
التقى حاجبا عمرو ورفع سبابته في وجه باسل محذرًا: باسل.
ضحك باسل وقال: وتغار أيضًا.. هذا رائع.
ثم أضاف في شغف: ولكن قل لي.. متى تطور الأمر هكذا وكيف؟
عاد عمرو يستند بذقنه على قبضته المضمومة وقال في حيرة: لا أعرف.
طالعه باسل بصمتٍ مندهش، فأردف: حقًا لا أعرف.. أنا أراها دائمًا صدفة، ولا أعرف عنها سوى اسمها وأنها طالبة صيدلة.. في عامها الدراسي الأخير.
ثم تراجع في مقعده بينما ابتسامةٌ تسلل إلى شفتيه وهو يكمل: وأنها جميلةٌ ورقيقةٌ للغاية وتخاف من كل شيء.
لم ينبس باسل ببنت شفة وتركه ليخرج كل ما بداخله، في حين أكمل عمرو: دائمًا تتصرف بتلقائيةٍ وبساطة وبلا تكلف، بينما تحمل عيناها نظرةً جذابة غامضة تثير حيرتي.. أشعر بها تنفذ داخلي.. تخترقني.. وتجذبني إليها.. حينما تبدو في عينيها لا أعرف ما الذي يحدث لي بالضبط.. كل شيءٍ داخلي يرتبك دون أن أفهم لذلك سببًا.. تعرف أني تعودت أن أرى الإعجاب في نظرات معظم من أتعامل معهم من الفتيات.. بعضه حقيقيٌ والآخر مصطنع، لكني أعرفه جيدًا وأميزه.. أعرف كذلك النظرات التي تحاول لفت الانتباه.
هز باسل رأسه بمعنى "أعلم بالطبع.. وسيمٌ وتستحق!"، لكن عمرو لم ينتبه إليه وتابع حديثه: كل ذلك أفهمه.. أفهمه جيدًا ولا يثير اهتمامي البتة ولكن.. ولكن هذه ليست كذلك.. نظراتها هذه بالذات ليست كذلك.. أشعر بها تحمل شيئًا أكثر عمقًا يحرك مشاعري ولا أفهم ما هو!
كاد باسل يقاطعه: لأنك بالفعل أحمق!
لكنه أثر الصمت حتى ينتهي عمرو الذي صمت قليلًا ثم قال: شعرت بها بعد ذلك تبدي اهتمامًا ملحوظًا بي جعل كل مقاومتي تنهار.
ثم تنهد مستطردًا: وأخيرًا وجدت نفسي هكذا.. أشرد أفكر فيها.. وأسهر أفكر فيها.. وأنام أحلم بها.. وكل هذه الأشياء التي كنت أعتقد أنها لا تحدث سوى في الأفلام.. ثم أنني لم أعد أستطيع التركيز لا في عملي ولا في دراستي وكأنى أتوقع أن أراها في أي لحظة.. هل تعلم.. لقد كنت ساهرًا بالأمس أقرأ في بعض المراجع لكني في الواقع أمضيت ساعتين في صفحة واحدة!!
عادت تتفلت من باسل ضحكاته.. رمقه عمرو بنظرة عتاب، فقال بسرعة: آسف.. آسف ولكن، كان هذا آخر شيءٍ توقعت أن يحدث لك.
ثم استطرد: لكن قل لي.. ماذا عنها؟
رد عمرو قائلًا: قلت لك أنك تبدي اهتمامًا ملحوظًا بي أحسسته أكثر من مرة، إلا أنني لست متأكدًا من أنها...
قاطعه باسل في غيظ: لست متأكدًا؟ أرجوك لا تثير غيظي.
نظر إليه عمرو بتساؤلٍ وقال: ماذا تعني؟
- أنت أحمقٌ بالفعل.. من الواضح تمامًا أنها تُكن لك المشاعر منذ البداية.. وكل ما تراه أنت غموضًا يجذبك إليها هو مشاعرها التي تحاول إيصالها إليك أو ربما هي تصدر منها دون أن تشعر.
بدهشةٍ قال عمرو: وما الذي يجعلك متأكدًا هكذا أيها العبقري؟
ابتسم باسل ومال عليه قائلًا بخفوت: أي شخصٍ أبله رأى وجهها اليوم، سيدرك تمامًا أنها تحبك.. ثم إنه بدا واضحًا للغاية أنك أنت سبب تعثرها على الدرج.. لقد ارتبكت بشدة عندما فوجئت برؤيتك.
تراجع عمرو في مقعده شاعرًا بقلبه يخفق في قوة وعقله يسترجع لحظاتٍ متفرقة من وجودها معه..
هل هذا معقول؟!
أمن الممكن أنها ... ؟!
ولكن..
ولكن كيف ومتى؟
هذا ليس منطقيًا.. باسل يبالغ قليلًا.. ربما...
قطع أفكاره صوت باسل يتساءل: ألها علاقةٌ بالرسائل ذات المشابك؟
هز عمرو رأسه نافيًا وقال: كلا.. كلا.. هذا شيءٌ آخر تمامًا.. والآن أرجوك.. دعنا لا نتحدث في هذا الأمر أكثر من هذا.. لقد تعبت فعلًا.
- لك هذا.. خذ هذه وقرر أي نوعٍ تفضل.
التقط عمرو قائمة الطعام وبدأ يبتعد بالحديث تمامًا عن منى، وقد احترم باسل رغبته ولم يعود إليه ثانيةً..
و رغم ذلك، لم يكف عمرو عن سؤال نفسه..
هل من الممكن حقًا أن يكون ما يظنه باسل صحيحًا وأنها ....

*********************
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.