AmanyAlsagheer

شارك على مواقع التواصل

* 2 *
*** أولى المحاضرات..
تجلس وبسمة متجاورتين في أحد مقاعد المدرج.. إنها محاضرةٌ في كيمياء العقاقير..
كم هي سخيفةٌ هذه المادة.. وإلى جانب سخافتها، كان الأستاذ محاضرًا غير جيدٍ على الإطلاق.. إنه يتشعب في الكثير من النقاط الجانبية غير المهمة.. يا للملل!!
إن العقاقير في حد ذاتها مملة، فما بالك بكلامها الفارغ..
يتحدث الأستاذ عن مجموعةٍ معينة من المواد ذات الأهمية الطبية تستخرج من نبات ما بعينه.. وكالمعتاد، يترك دراسة تلك المواد وتركيبها ويكثر الكلام حول النبات نفسه.. زراعته، دورة حياته، إلخ..
فعلًا شعرت بالملل!!
لم يكن هذا حالها بمفردها.. لقد انتشر الهمس بين الطلبة في المدرج مما يعني أن الكثيرين قد فقدوا تركيزهم مع محاضرهم المبجل..
كانت بسمة تحاول التركيز وإيجاد أي شيءٍ مهم فيما يقوله كي تكتبه، أما هي فقد سقطت بسهولة فريسةً لذلك الشيء الذي أصبح ملازمًا لها في الفترة الأخيرة.. الشرود..
عاد ذهنها إلى ذلك الحلم الغريب..
إنها لا تذكر منه سوى بضع لحظاتٍ متفرقة، لكنها تذكر جيدًا أنها رأته فيه!
كان هو ذلك الشخص الذي ظهر لها في النهاية..
ابتسمت من أعماقها على الرغم من دهشتها لاقتحامه أحلامها على هذا النحو..
استرجعت تلك اللحظات واتسعت ابتسامتها بما يعني أن هذا لا يقلقها على الإطلاق، بل على العكس.. يسعدها!
يسعدها أن يشغل عقلها وتفكيرها إلى هذا الحد..
سرت في جسدها قشعريرةٌ لذيذة و...
وأفاقت من شرودها بغتةً على صوت بسمة وهي تقول ضاغطة ذراعها: منى.. انتبهي.. الأستاذ ينظر إليك!
انتبهت لتجده ينظر إليها بالفعل في دهشة للحظاتٍ ثم يواصل شرحه..
قالت همسًا لـبسمة: لماذا ينظر إليّ هكذا؟!
ردت بسمة هامسةً من بين أسنانها في غيظ: لأنك كنت تحدقين فيه مبتسمةً في سعادةٍ وهيام وكأنك تهيمين به حبًا!
همست في استنكار: أنا؟!!
بحنقٍ أجابتها بسمة همسًا: نعم أنت.. بالله عليك فيم تشردين؟!!
تطلعت منى إليها لحظاتٍ وهمت بقول شيءٍ ما، لكنها تراجعت وفضلت أن تنتظر حتى تنتهي هذه المحاضرة في سلام..
وعندما حدث هذا، أخذتها بسمة إلى مكانهما المفضل في ساحة الكلية وجلستا معا..
ساد الصمت لبرهة، قالت بعدها بسمة في هدوء: حسنًا.. أنا أنتظر.
نظرت إليها منى بتردد، فرأت في عينيها شلالًا من الأسئلة لم تجد أمامه سوى أن تقول في خفوت: سأخبرك.
وأخبرتها..
أخبرتها بكل شيء.. واندهشت بسمة إلى أقصى حد..
كانت تتوقع شيئًا مشابهًا ولكن ليس بهذه الصورة..
ولدقائق، طالعت منى في صمت.. وأخيرًا قالت ببطء: مجنونةٌ.. كعهدي بك!
ثم تابعت في خفوت: أريد أن أسألك سؤالًا.
ظهر التساؤل في عيني منى، فاستطردت: ماهية شعورك نحوه بالضبط؟
هزت منى كتفيها في ارتباكٍ وقالت: لا أدري.
- كيف لا تدرين؟!
- حقًا.. لا أدري.
تطلعت بسمة إلى عينيها مباشرة ثم همست: هل أحببته؟
سرت في جسدها قشعريرةٌ باردة مع ذكر الكلمة..
أحبته؟! هي؟! غير معقول!!
لكن.. أتحبه بالفعل؟
أرادت أن تهتف مستنكرة، لكن هتافها لم يتجاوز داخلها.. خفق قلبها بشدة ليمنعه..
تأملت بسمة وجهها وارتباكه.. لقد أدركت ما يدور بداخلها.. أدركته جيدًا وشعرت به..
أدركت أيضًا أن جواب سؤالها هو نعم.. نعم جدًا.. نعم للغاية.. لقد أحبته بالفعل، لكنها تخشى أن تصارح نفسها..
وفي خفوتٍ مرتبك قالت منى: كلا.. كلا بالطبع.. أنا لم أحبه بالتأكيد، ولكن.. أنا.. حقًا كلا.. لا يمكن أن أكون قد أحببته!
بنفس الخفوت قالت بسمة: ولِمَ لا يمكن؟
ردت منى في حيرة: لأنه.. أقصد لأنني...
لم تجد ما تكمل به عبارتها، فصمتت لبرهةٍ ثم قالت: حسنًا، سأشرح لك.. أنا فقط أحب مراقبته و...
صمتت ثانيةً، فاقتربت منها بسمة أكثر وأحاطت كتفيها بذراعها وهي تقول: لا يوجد تفسيرٌ آخر لما تفعلينه وما تشعرين به سوى هذا.. ثم إن الأمر ليس تهمةً حتى يستحق كل هذا الإنكار.
ثم ابتسمت مستطردة: وأنا التي كنت أتساءل ما الذي يجعلك تشردين وتهيمين في عالم الخيال هكذا.. لا أحد يشرد مبتسمًا سوى المتيمين.
ابتسمت منى بخجل في اعترافٍ واضح، وزال الكثير من توترها وارتباكها وهي تقول: ليس إلى هذا الحد.
ضحكت بسمة وقالت وهي تقلد أسلوبها: ليس إلى هذا الحد.. لقد كاد أستاذ العقاقير يصدق بالفعل أنك تنظرين له بهيام.. لم يكن يعرف المسكين أن عينيك لم تكن تراه أصلًا.
ضحكتا معًا في مرح، ثم قالت منى: بسمة.. هل تذكرينه؟ لقد رأيته معي أول مرة.
عقدت بسمة حاجبيها مفكرةً وقالت: بالطبع أذكره.. ذاك الوسيم.. إن ملامحه لا تُنسى بسهولة.. ولكن...
بترت عبارتها، فتساءلت منى: ولكن ماذا؟
أكملت بسمة بجدية: هذا ظاهره.. ماذا عن باطنه؟
- ماذا عنه؟ أخبرتك أنه....
قاطعتها بسمة: النجاح والاجتهاد في العمل ليسا كل شيءٍ في الحياة.. ماذا عن شخصيته.. ماذا عن أخلاقه؟
أجابتها بحيرة: وكيف لي أن أعرف شخصيته؟ أنا فقط أراقبه من بعيد.
- هذا هو البيت القصيد.
نظرت لها منى بعدم فهم، فاستطردت: لقد أحببته.. ثم ماذا؟ هل ستظلين طوال عمرك تراقبينه من بعيد؟
بحيرةٍ أكبر ردت منى: وماذا أفعل؟ هل أذهب إليه وأقول له بلطف: أنا أحبك.. فهل من الممكن أن.. تحبني !!
ابتسمت بسمة على الرغم منها وقالت: لم أقصد هذا، على الرغم من أنها فكرةٌ جيدة.
لكزتها منى بمرفقها، فقالت: حسنًا.. حسنًا.. كنت أعني أنه لابد وأن تخطي خطوةً إيجابيةً ما، فهو لا يعرف بمشاعرك، بل لا يشعر أصلًا بوجودك.
تطلعت منى إليها صامتة... حقًا هي لم تفكر في هذا من قبل..
لقد تحركت مشاعرها فأطلقت لها العنان دون تفكير.. لقد اكتفت بأنها سعيدة.. سعيدةٌ برؤيته.. سعيدةٌ لأنها تحبه، لكن بسمة على حق.. لا يمكن أن يستمر الأمر هكذا إلى الأبد.. لا بد وأن تفعل شيئًا ما، ولكن.. ماذا تفعل؟!
ألقى عقلها السؤال في حيرة، فتألق في عينيها وقبل حتى أن يطلقه لسانها كانت بسمة تجيب: اقتحمي حياته.. ابحثي عن فرصةٍ تتيح لك الاحتكاك به عن قرب.. إنه جاركم ولن يكون هذا صعبًا.. لابد وأن تدرسي شخصيته بل وتعرفي كل شيءٍ عنه، وعندئذٍ تقرري هل يستحق حقًا أن تمنحيه قلبك؟ وقبل هذا كله.. لا بد وأن يكون المقابل هو...
صمتت لحظةً تطلعت فيها إلى عينيها مباشرة ثم استطردت: أن يمنحك هو الآخر قلبه.
رددت منى في خفوت: يمنحني قلبه.. أنا؟!
خفق قلبها بشدة والعبارة تتكرر داخلها، بينما بسمة تواصل: نعم.. أنتِ.. إن كان يستحق حبك فلا بد وأن تشعريه به.
عادت منى إلى صمتها لبرهة، ثم لم تلبث أن قالت: تتحدثين وكأن الأمر شيءٌ عاديٌ جدًا وطبيعي.. أنا أحبه فلابد أن يحبني.. فعلًا.. تبدو المعادلة سهلةً وبسيطة.
ضحكت بسمة قائلة: طبعًا سهلة.. لا تقللي من شأن نفسك يا بلهاء، فقط فكري في الأمر.. أراهن أنه إن رآك وتحدث معك لبضع دقائق لسوف يذوب هيامًا في سحر عينيك!
ابتسمت منى على الرغم منها، فسألتها بسمة: هل تشعرين حقًا أنه يستحق؟
ردت بسرعة: طبعًا!
- وما بالك واثقةً هكذا؟
- لست أدري، لكنني أشعر بهذا حقًا.. أشعر بأنه الصورة المثالية لكل ما تمنيته وحلمت به.
مطت بسمة شفتيها بعدم اقتناعٍ وقالت: لا يوجد أحدٌ مثالي أو كامل.. لا بد من عيوبٍ ما.
- أعلم ذلك.
- حسنًا.. هل....
قاطعتها منى: كفي عن أسئلتك اللامنتهية وأجبيني.. كيف لي أن أقتحم حياته؟
هزت بسمة كتفها وقالت: هذا السؤال بالذات توجد إجابته عندك أنتِ لا عندي.
- لكني لا أعرف.
قالتها منى وقد عاودتها حيرتها، فقالت بسمة بثقة: ستعرفين.. فقط حاولي وفكري وعندئذٍ ستجدين الفرصة.. الوقت أمامك فـ....
قاطعتها منى بانفعالٍ مفاجئ: الوقت!! كم الوقت الآن؟
أجابتها بسمة في دهشة: الثالثة والنصف.. ما الذي....
قاطعتها مرةً أخرى وهي تقف حاملة حقيبتها: يا إلهي.. لقد تأخرت كثيرًا.. سوف يصل قبلي.
- من هذا؟
بتعجبٍ ألقت بسمة السؤال، فردت بتلقائية: عمرو !
تنهدت بسمة وقالت في استسلام: آه.. يبدو أنني لابد وأن أحاول اعتياد ذلك منك حتى أظل محتفظةً بالبرج الباقي في عقلي.
جذبتها منى من يدها لتنهض وهي تقول: هيا.. يجب أن أراه اليوم.
- ولمَ يجب؟
- لأني افتقدته!
- رحمتك يا رب.
نهضت بسمة والتقطت معطفها، لكن ما إن خطت بضع خطوات حتى توقفت وبدا عليها تذكر شيءٍ ما، ثم قالت: لحظة.. ماذا عن الأدوات المعملية التي نحتاج لشرائها اليوم؟
كان من الواضح أن منى قد نسيت ذلك تمامًا فقد قالت: آه.. هذا صحيح، لكن....
صمتت لحظةً تطلعت فيها لساعتها ثم أكملت في رجاء: ألا نستطيع شراءها غدًا؟
- لم يعد لدي أنبوب اختبارٍ واحد يصلح للاستخدام.
- لا يوجد لدينا أية دروسٍ عملية غدًا.. يمكننا أن نشتري ما يلزمنا بعد انتهاء المحاضرات.
- في الواقع.. قد لا آتي غدًا!
نظرت لها منى بدهشةٍ واستنكار، فابتسمت واستطردت: أقول قد.. تعرفين أني أكره محاضرة الصيدلة الصناعية وقد أرحم نفسي منها غدًا.
بدا على منى الضيق وهي تقول: لكن.. هكذا سوف نتأخر.. وكنت أريد أن....
قاطعتها بسمة بضحكةٍ قصيرة قائلة: حسنًا حسنًا.. اذهبي أنت.. يبدو أنه قد أصبحت لديك مواعيدٌ مهمة!
ابتسمت منى وقالت وهي تلوح بيدها وتتحرك مبتعدةً بالفعل: اتفقنا.. سأسبقك أنا الآن.. إلى اللقاء.
تبعتها بسمة بنظرها مندهشة، ثم غمغمت ضاحكة: إنها لم تتردد حتى!

*******************

*** لم تتأخر كثيرًا في المواصلات..
كانت منى تمشي في الطريق المؤدي لمنزلها وهي تفكر فيما حدثتها به بسمة.. تعلم أنه منطقي، لكن السؤال مازال بلا إجابة..
كيف.. كيف؟
مطت شفتيها بحيرة ثم حدثت نفسها في اعتراض: تنصحني بشيءٍ ثم لا تخبرني كيف أفعله!
تطلعت إلى ساعتها في قلق.. إنه عادةً يعود من عمله في هذا الوقت تقريبًا..
وفي توتر، واصلت مشيها تفكر في أي طريقةٍ تمكنها من اختلاق فرصةٍ للتحدث إليه..
تناهى إلى مسامعها صوت سيارة قادمةً من بعيد فالتفتت، ليخفق قلبها باضطراب..
لم تكن سيارته هي القادمة، بل التي تليها..
شملها ارتباكٌ عجيب حتى أنها توقفت على جانب الطريق ولم تدرِ ماذا تفعل.. إنه سيمر بسيارته بسرعة لأن منزله مازال في نهاية الشارع، وهذا يعنى أنها لن تراه لأنه سيصل قبلها بدقيقةٍ أو اثنتين..
عادت تمط شفتيها في سخط وهي تقول: حظي سيء، أعلم هذا.. أبذل قصارى جهدي حتى أستطيع رؤيته ولا أكاد أفعل، بل ومطلوبٌ منى أن أحاول اقتحام حياته.. هذا ليس عدلًا!
"اقتحمي حياته" .. "اقتربي منه أكثر" .. "حاولي"
ترددت عبارات بسمة داخلها وتكررت، وهي لا تزال متوقفةً على جانب الطريق، بينما السيارة تقترب..
وبمنتهي الارتباك قالت وفكرةٌ مجنونة تقفز إلى عقلها: حسنًا يا بسمة.. تريدين مني أن اقتحم حياته..حسنًا سأفعل.. هكذا..
دفنت بصرها بدفتر محاضراتها حتى مرت السيارة التي أمامه ثم.. فجأةً وبلا مقدمات، عبرت الطريق وفي مسار سيارته تمامًا!
الحق أنها – وعلى الرغم من أنها فعلت ذلك بإرادتها - كادت تموت رعبًا أو بسكتة قلبية.. هذا لأنها اكتشفت بعد فوات الأوان أن المسافة التي تفصلها عن السيارة صغيرة.. صغيرةٌ للغاية، وغير كافيةٍ على الإطلاق لكي يتوقف قبل أن يصطدم بها، إذ يبدو أنه زاد السرعة في اللحظة التي أبعدت فيها عينها عن الطريق!
شل تفكيرها تمامًا وهي ترى السيارة تندفع نحوها بسرعتها وصريرها يدوي في أذنها بعنفٍ شديد جعلها تتجمد في مكانها وتغلق عينيها في قوة وصرخة رعبٍ قوية تحتبس داخلها في انتظار الارتطام..
الصرير يتعالى.. ويتعالى، ثم.. ارتطمت بها السيارة..
ليس بمقدمتها، بل بجانبها..
كان عمرو قد فوجئ بالفعل باندفاعها الأخرق عبر الطريق، فتحركت قدمه بسرعة تضغط على مكابح السيارة بكل قوته، لكن بالنسبة إلى السرعة التي كان ينطلق بها فالمسافة التي تفصله عنها أصغر من اللازم..
أدرك أن الارتطام حتمي إلا إذا...
وبدون تفكيرٍ أكثر، انحرف بالسيارة بزاويةٍ شديدة الصعوبة دون أن يتخلى عن اعتصاره للمكابح، فدارت السيارة حول نفسها في عنف ثم توقفت..
توقفت بعد أن دفع جانبها منى دفعةً غير خطيرة سقطت على إثرها أرضًا مطلقةً صرختها وهي تخفي رأسها بين ذراعيها ومنتظرةً أن تموت!
صحيحٌ أنها لم تشعر سوى بآلامٍ بسيطة وهي تسقط، إلا أن الرعب يفعل الكثير!
لم يكن عمرو يدرك مدى ارتطام جانب السيارة بها، لذا وبمجرد توقفها، قفز من السيارة قفزًا واندفع نحوها هاتفًا في توترٍ شديد: هل أنتِ بخير؟
قالها وانحنى يفحص جسدها ببصره يبحث عن إصابةٍ هنا أو هناك، لكنها بدت سليمةً معافاة رغم ارتجافها الشديد..
لم يصله منها جوابًا، فقال بتوترٍ أكبر: هل يمكنك الحركة؟
تحركت تحاول النهوض بالفعل فالتقط ذراعها في رفق يعاونها على ذلك وهو يقول محاولًا دفع أكبر قدرٍ من الهدوء في صوته المتوتر: الحمد لله.. لم تصابي بسوء.. أليس كذلك؟
حدقت فيه وفي السيارة المتوقفة بجوارهما بعرض الطريق وبدا أنها لم تستوعب ما حدث.. حاولت بنفسٍ عميق تهدئة نفسها بلا فائدة، ظل شعور الهلع يسيطر عليها وقلبها يدق داخلها كالطبول..
رفعت عينيها إليه مرةً أخرى، فوجدته ينظر إليها بقلقٍ وترقب..
حاولت أن تنطق بأي شيءٍ ولم تستطع.. فأومأت برأسها تجيب سؤاله أن بلى..
زفر بقوة وهمّ بقول شيءٍ ما، لكن نفير إحدى السيارات المارة جعله يستقل سيارته ويعدل من وضعها ليسمح لها بالمرور..
كانت منى تراقبه في توترٍ واضطراب تحول إلى دهشة عندما أوقف السيارة على جانب الطريق إلى جوارها، ثم غادرها ودار حولها ليفتح بابها الخلفي ويشير إليها أن تجلس قائلًا بصوتٍ أكثر هدوءًا: استريحي قليلًا.
لم تتوقع منه ذلك فطالعته بمزيدٍ من الدهشة وبدا عليها التردد، فمنحها ابتسامةً هادئة وهو يمسك يدها ويجذبها في رفق..
ارتجفت يدها للحظة، ثم استكانت بين أصابعه وقشعريرةٌ لذيذة تسري في جسدها كله وتدفع مشاعرها للتدفق..
مشاعرها التي لم تعد تعرف متى وجدت ولا كيف نمت!
ومع تدفقها، انمحت مشاعر الرعب والتوتر والفزع التي عاشتها منذ لحظات..
لم تعد تشعر سوى به.. هو فقط.. وبيده التي تحيط يدها الآن..
خفق قلبها أكثر وهي تتركه يجذبها ثم جلست في مواجهته على طرف المقعد..
كان انفعاله وتوتره تجاه الموقف قد هدأ كثيرًا، لكنه أحس أنها مازالت منفعلةً بشدة، فيدها مازالت ترتجف كعصفورٍ صغير في صقيع ليلةٍ ممطرة..
دفعه هذا إلى أن يستند إلى باب السيارة المفتوح ويتطلع إليها مانحًا إياها ابتسامته الهادئة علّها تهدأ..
تطلعت إليه بدورها وحملت نظراتها كل ما يكنه قلبها من مشاعر..
لم تكن تنظر له بهيامٍ ولا حتى تبتسم، بل بالعكس، كانت تقطب بين حاجبيها وتحمل ملامحها تعبيرًا جادًا يشوبه توترٌ وارتباكٌ واضحان.. لم تنظر إليه من هذه المسافة من قبل..
من قال إنه وسيم؟! إنه أوسم رجال الدنيا على الإطلاق!
هذا ما تشعر به ولا يهمها رأي أي شخصٍ يرى غير ذلك !!
أربكته نظراتها قليلًا.. لقد استقبل توترها وارتباكها لكنه أحس بشيءٍ لم يفهمه.. ربما تكون مازالت فزعةً ومنفعلة.. لم يدر لمَ شعر أيضا أنها تبدو هشةً رقيقة وتحتاج إلى المساعدة..
ترك باب السيارة ثم استند بأحد ركبتيه على الأرض ليصبح في مستواها، وبصوتٍ هادئ سألها: هل أنتِ بخيرٍ الآن؟
حدقت في عينيه السوداويين اللتين تحملان سؤاله وأرادت أن تجيب، لكنها وجدت نفسها تومئ برأسها ثانيةً في صمت وعيناها متعلقتان به..
عاد يسأل: متأكدة؟
أخيرًا استطاعت أن تقول في خفوت: أجل.
صمت يمنحها وقتًا لتهدأ أكثر، لكنها في الواقع كانت تزداد انفعالًا.. قلبها يختلج بين ضلوعها، ومع كل لحظةٍ تمر تتزايد خفقاته..
أخذت شهيقًا عميقًا وخفضت عينيها تحاول السيطرة على مشاعرها.. بحثت في عقلها عن أي شيءٍ يمكنها قوله.. آه.. لا يوجد أنسب من أن تعتذر إليه عن الكارثة التي كادت تحدث بسببها..
رفعت عينيها إليه وهمت أن تقول له أنها....
- أنا آسف.
كانت هذه عبارته لا عبارتها!
ارتفع حاجبها في دهشة وهو يستطرد: حقًا لم أقصد إفزاعك، لكنك عبرت الطريق فجأةً وبدون انتباه.
لم تدرِ بما ترد.. إنه يتحدث بجديةٍ فعلًا ولا يحمل كلامه أي سخريةٍ أو تلميح إلى أنها هي المخطئة..
إنه يعتذر..
تلقى بنفسها أمام سيارته وتكاد تسبب له مصيبة، فيعتذر لأنه أفزعها..
من هذا الرجل؟! أهو كباقي البشر؟!!
حدّقت فيه غير مصدقة، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ مهزوز من شدة الانفعال: لقد كنت شاردة، وتصورت أن الطريق خالٍ.
ابتسم مشفقًا من تلك الهزة التي حملها صوتها ثم اعتدل قائلًا: لا عليك.. حمدًا لله أن الأمر مر في سلام.
تطلعت إليه مجددًا وشعرت أنها تريد أن يظل أمامها هكذا إلى الأبد، لكنها لم تلبث أن نهضت هي الأخرى، وبصعوبةٍ استطاعت أن تقول له: أعتذر أنا أيضًا.. لقد كدت أسبب لك الكثير من المشكلات.
كرر بابتسامته العذبة: لا عليك.
ثم استطرد: هل تحبين أن أُقلك إلى أي مكان؟
خطر ببالها أن تخبره أنها جارته، لكنها ولسببٍ ما لم تشعر أن الوقت مناسبٌ لذلك فقالت: أشكرك.. منزلي ليس بعيدًا.
قال في بساطة: حسنًا.
وقفت على جانب الطريق محتضنة دفتر محاضراتها تراقبه وهو يستقل سيارته، وقبل أن ينطلق بها سمعته يقول: انتبهي وأنتِ تعبرين الطريق.
ثم ابتعد حتى اختفى في نهاية الطريق..
لقد ذهب، لكنه لم يذهب وحده.. لقد أخذ قلبها معه..
من قال أنها تحبه؟ إنها تعشقه، بل تذوب في هواه.. هي التي لم تتصور قط أنها قد تحب، تجد نفسها قد تجاوزت هذه المرحلة بكثير..
مشت في بطءٍ وشرود حتى وصلت إلى المنزل، وعندما رأت سيارته المتوقفة ابتسمت وقالت: نصائحك مثمرةٌ للغاية يا بسمة.
صعدت لمنزلها وألقت تحيةً مرحة على والديها قبل أن تتجه لغرفتها كما تفعل دائمًا، لكن مع اختلافٍ جوهري كبير..
هناك ابتسامة..
ابتسامةٌ ليست كأي ابتسامة.. ابتسامةٌ تنبع من قلبٍ يخفق بطاقةٍ بلا حدود..
وطوال يومها، لم تفارق ابتسامتها شفتيها ولم يتبدد مرحها لحظة، حتى أن أمها سألتها: منى.. ماذا هناك؟! تبدين مسرورة جدًا على غير العادة.
نظرت إلى أمها في دهشة وقالت: أنا؟!
أومأت والدتها برأسها إيجابًا وهي تتطلع إلى عينيها مباشرة محاولةً استشفاف ما يدور بداخلها، فأجابتها في ارتباك: لا شيء معين يا أمي.
ثم استطردت في فضول: لكن لماذا شعرت أني على غير العادة؟
قالت أمها: لست أدري.. تبدين مرحة للغاية، وجهك يبدو مضاءً وابتسامتك مشرقة.
ضحكت منى وقالت وهي تطبع قبلةً على وجنة أمها: وما الغريب في ذلك يا أمي.. أنا دائمًا مرحة!
بدت الأم غير مقتنعة، لكنها تجاوزت ذلك وقالت مبتسمة: حسنًا.. أيًا ما كان الأمر فأنا مسرورةٌ لسرورك بالتأكيد.

***********************

*** اضطرت بسمة للحضور في اليوم التالي رغم نيتها المسبقة للتغيب، بعد أن هاتفتها منى مساءً وأخبرتها بحاجتها إلى التحدث معها في أمرٍ هام لا يمكن مناقشته عبر الهاتف..
كانت المحاضرات متلاحقة فلم تستطيعا التحدث إلا بعد انتهائها..
- والآن.. ما هو الأمر الهام الذي لا يحتمل التأجيل؟
ألقت بسمة تساؤلها بفضولٍ بعدما اتخذت كلتاهما مجلسًا في ساحة الكلية..
ابتسمت منى في خجل، فقالت بسمة مداعبة: لا تقولي لي أن الدكتور عمرو قد تقدم لخطبتك بمجرد أن أخبرته العصفورة أنك تكنين له المشاعر سرًا!
قذفتها منى بمعطفها الأبيض قائلة: لا مجال للمزاح من فضلك.. الأمر فعلًا جاد.
التقطت بسمة المعطف وقالت ضاحكة: حسنًا.. حسنًا.. كلي آذانٌ مصغية.
- لقد تحدثت معه.
- من؟ عمرو ؟
- أجل.. عمرو.. ومن غيره!
ارتفع حاجبا بسمة بدهشةٍ وقالت: بهذه السرعة.. هذا مذهل.. ولكن كيف؟
- ألم تنصحيني بمحاولة اقتحام حياته.. حسنًا.. لقد فعلت.
نظرت لها بسمة بدهشة أكبر، فاستطردت مبتسمة: ألقيت بنفسي أمام سيارته.
- ماذا؟!
هتفت بها بسمة في استنكار، فقالت منى ببساطة: هو ما سمعته.
- تمزحين.. صحيح؟
- بسمة.. لم أطلب منك الحضور إلى الجامعة اليوم لأمزح في أمرٍ كهذا.
- لا تمزحين؟! إذًا كانت السيارة متوقفة.
- كلا بالطبع.. كان يقودها بسرعة.
- منى.. كفى .....
- أقسم أني لا أمزح.
قالتها منى في حدة، فطالعتها بسمة بعدم فهم وشعرت أنها تبدو جادةً بالفعل.. فقالت باندهاش لا يخلو من القلق: إذًا انطقي.. هات كل ما لديك، وبالتفصيل.
وحكت منى..

************************
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.