AmanyAlsagheer

شارك على مواقع التواصل

*17*

*** بعد ثلاثة أيام..
كانت بسمة في غرفتها تراجع بعض المحاضرات عندما دخلت عليها أختها الصغرى تقول لاهثة: اتصال لك يا بثمة.
كان هاتفها على المكتب أمامها، فالتفتت إلى أختها مندهشةً لتجدها تمسك بهاتف والدتها.. يبدو أنها كانت تلعب عليه لعبةً ما عندما أتاها ذلك الاتصال..
التقطته منها بحذر قائلة: من؟
همست الفتاة الصغيرة بخطورة: ولدٌ يقول اسمه دكتور عمرو.
حدقت بسمة في وجه أختها بدهشةٍ بالغة..
عمرو !! ماذا يظن نفسه فاعلًا؟!
وضعت الهاتف على أذنها في ارتباك، وقالت بصوتٍ حاولت التحكم في هدوئه: مرحبًا..
أتاها صوته يقول في هدوءٍ يحمل لمحةً واضحة من الاحراج: مرحبًا د. بسمة.. آسفٌ جدًا على الإزعاج وعلى الاتصال نفسه.
أجابته سريعًا: لا عليك د. عمرو.
فأردف: لقد كان هذا الرقم مسجلًا على هاتفي منذ يوم المستشفى وكنت أود سؤالك عن شيءٍ ما فسمحت لنفسي بالاتصال.. أرجو ألا يسبب لك ذلك أي نوعٍ من الحرج.
خفضت بسمة بصرها إلى أختها التي تطالعها بعينين متسعتين وشفتين منفرجتين.. تعلم أنها ستحفظ كل كلمةٍ تسمعها عن ظهر قلب، لكنها واصلت التظاهر بالهدوء قائلة: مطلقًا.. أنت على الرحب.. خيرًا؟
استمعت إليه وهو يخبرها بما يريد السؤال عنه وغمرتها الدهشة، لكنها لم تلبث أن ابتسمت وقالت: حسنًا.. سأخبرك.

*************************

*** اليوم التالي كان أول أيام منى في الجامعة منذ الأحداث الأخيرة..
كانت متألقةً جدًا أنيقةً جدًا.. ومن داخلها سعيدة جدًا..
وقد استقبلها كل من تعرفه تقريبًا بالسلام الحار وحمد الله على سلامتها، ولم يخلُ الأمر من همسات بعض صديقاتها: من هذا الوسيم يا عفريتة؟
فتبتسم لهم ثم تقول بلهجةٍ عابثة: لا أعرف.. ربما هو ملاكي الحارس!!
تغمغم بسمة بصوتٍ لا يسمعه سواها: هو كذلك بالفعل!
تنظر كل منهما إلى الأخرى ثم تضحك كلتاهما في مرح..
كانت أولى المحاضرات على وشك البدء عندما مالت بسمة على أذنها قائلة: ما هذا المرح وهذا التألق.. أخشى أن أعتاد على هذا.
ابتسمت منى ابتسامةً كبيرة وقالت: ستعتادين.
ضحكت بسمة، فعادت تقول: هل تعرفين؟
استندت بسمة على قبضتها المضمومة وقالت: أممم..
استطردت منى بابتسامتها تلك: لقد اتصل بأبي مرتين ليطمئن علىّ.
- حقًا؟
أجابتها منى ووجهها كله ينطق بالسعادة : أجل.
- طبعًا طلب إن يتحدث معك!
كانت بسمة تمزح بالطبع، فلكزتها منى بمرفقها في رفق وقالت مازحةً هي الأخرى: أنا التي كنت أقاوم بصعوبة ألا أتحدث معه.
ضحكتا سويًا ثم قالت بسمة: وماذا عن تريضه الصباحى؟ أمازلت تتابعينه؟
أومأت منى برأسها إيجابًا فقالت بسمة مندهشة: يا لجرأتك.. وكيف ذلك؟ أتطلين من النافذة هكذا بكل بساطة؟!
ردت سريعًا: كلا بالطبع.. بصراحة.. كنت أنوي ألّا أفعل لكني لم أستطع.
لمست بسمة جبهتها بأطراف أصابعها وهزت رأسها بيأسٍ من تعقلها ولو لمرة، بينما تابعت هي: استيقظت اليوم مبكرًا كما تعودت أن أفعل وعاهدت نفسي.. لن أفتح النافذة، سألقي فقط نظرةً سريعة عبر فرجةٍ صغيرة ثم أغلقها على الفور.. وعندما فعلت انتظرت عدة دقائق حتى رأيته.. كان يمشي عائدًا بعدما أنهي تريضه.. كنت على وشك أن أغلق النافذة، لكني وجدته يلتفت نحوها.. وعندما رآها مفتوحةً حتى بذلك القدر الضئيل جدًا والذي من المستــــــــحيل أن يراني منه، ابتسم ولـــــــــوح لي بيده!
طالعتها بسمة بدهشةٍ إذ أكملت: طبعًا أغلقت النافذة على الفور وأنا أشعر أن هناك صاعقةً كهربية أصابتني وكاد قلبي يتوقف من شدة خفقانه ثم...
قاطعتها بسمة بغيظ مصطنع: أمازال هناك ثم.. لا تقولي لي أنك عدت تفتحين النافذة!
ابتسمت منى في خجل وقالت: و.. وماذا أفعل.. أنا...
صمتت لحظةً ثم أكملت: أنا لا أعرف ما الذي يحدث لي عندما أراه.
قالت بسمة في استسلام: آه.. أعرف.. أعرف.. لن تكوني منى التي أعرفها إن لم تفعلي.. حسنًا ماذا بعد ثم؟
تراجعت منى في جلستها بتنهيدةٍ وقالت: عدت أفتح فرجةً صغيرة جدًا، فوجدته يقف مستندًا إلى سيارته عاقدًا ذراعيه أمام صدره ينتظر مبتسمًا وكأنما يعلم يقينًا أنى سأعاود فتح النافذة.. ظل هكذا لحظات ثم لوح لي بيده مرةً أخرى ودخل منزله.
ضحكت بسمة وهي تضرب كفًا بكف ثم قالت: يا له من رجل.. لقد أصبح يقرؤكِ بوضوح تام.
قاطع حديثهما بدء المحاضرة وانشغلتا فيما تلاها من محاضراتٍ ومعامل..
وبينما تجمع منى أدواتها بعد انتهاء آخر المعامل، قالت بسمة وهي تنظر لساعتها: أنا لم أستوعب جيدًا تجارب اليوم.
التفتت إليها منى قائلة: حقًا.. لكنها كانت سهلة!
هزت كتفها وقالت: لست أدري.. ربما لم أركز جيدًا.. لهذا أريد إعادتها مع المجموعة التالية.
- لكن...
- ستنتظرينني.. أليس كذلك؟
- حسنًا.. لا مشكلة لدي طالما تريدين هذا.. من الممكن أن أبقى معك أيضًا.
قالت بسمة بسرعة: كلا.
ردت منى مستغربة: ولماذا؟ لن أخسر شيئًا.
أجابتها بسمة ببساطة: أخشى أن ينتبه الأستاذ فيخرجنا سويًا.
أومأت برأسها متفهمةً وقالت: أنت على حق.. سأنتظرك بالخارج.
بابتسامةٍ كبيرة قالت بسمة: ما رأيك أن تزكي مرور الوقت بغسل أدوات المعمل.. سأنهي تجاربي وألحق بك.
ابتسمت منى وقالت وهي تغادر: طالما قلت هذا فأنت تقصدين أدواتنا وليس أدواتي فقط.. أليس كذلك؟
- طبعًا!
قالتها بسمة ضاحكة، فجمعت منى الأدوات وانسحبت بسرعة..
بحثت عن أحد المعامل الخالية ونظفتهم في عناية، ثم وضعت ما يحتاج منهم إلى تجفيفٍ في حقيبة أدواتها وغادرت المعمل..
كانت الساعة نحو الرابعة، وقد ساد الهدوء ساحة الكلية التي خلت أو كادت من الطلبة في نهاية اليوم الدراسي..
اتجهت نحو مقعدها المفضل المجاور لشجرةٍ ضخمة في ركن ساحة الكلية حيث جلست تستريح قليلًا ثم بدأت تخرج الأدوات و ترصهم في عناية وحذر بجوارها على المقعد حتى يجففهم الهواء الطلق بسرعة..
انهمكت فيما تفعله حتى أنها لم تنتبه إلى سيارة عمرو التي دخلت ساحة الكلية وتوقفت لحظات بحث خلالها عمرو عنها بعينه حتى لمحها..
ومع مرآها ابتسم وتدفقت مشاعره..
لم يكن قد رآها منذ مغادرتها المستشفى وقد أسعده للغاية أن عاد وجهها لنضارته وإشراقه..
ظل يراقبها في صمت لبعض الوقت، ثم تحرك بالسيارة ببطء متجهًا نحوها..
كان يقصد بالطبع ألّا تنتبه إليه إلا عندما يصبح قريبًا جدًا..
وبينما تسند سحاحةً زجاجيةً طويلة إلى جذع الشجرة أصبح بجوارها تمامًا، فانتبهت والتفتت لتجد سيارته أمامها ووجهه يُطل من نافذة بابه المفتوحة حاملًا ابتسامته المعهودة..
ارتفع حاجباها في دهشةٍ وتفاجؤ، وانفلتت خفقات قلبها من عقالها نازعةً فتيل قنبلة المشاعر الموقوتة الموجودة بداخلها دائمًا لتنفجر مطلقةً كل ما تحويه نحو عينيها.. وابتسمت..
ابتسمت هي الأخرى وهي تترك السحاحة الزجاجية تستند على جذع الشجرة وتعتدل، لتجد ابتسامته هو تتسع ثم تتحول إلى ضحكةٍ عالية امتزج صوتها بصوت زجاجٍ يتكسر..
انتفضت والتفتت لتكتشف أنها لم تسند السحاحة سوى إلى الفراغ فهوت متكسرة إلى ألف قطعة!
التقى حاجباها في انزعاجٍ وإحراج خاصةً مع ضحكاته وعادت تنظر إليه بنظرةٍ معاتبة، لكنها وجدته يستند بمرفقه على عجلة القيادة ويرفع قبضته المضمومة ليسند إليها رأسه قائلًا: أنا أعشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــق ردود أفعالك عندما تفاجئين برؤيتي..
اتسعت عيناها دهشةً من هذا التعليق غير المتوقع على الإطلاق، لكن تلك الدهشة لم تلبث أن تحولت إلى قدرٍ هائل من الخجل والارتباك عندما أردف بخفوتٍ وبلهجةٍ لم تسمعه يتحدث بها من قبل: إنها تشعرني أني أختلف بالنسبة لكِ عن كل من في هذه الدنيا.
تجمعت الدماء في وجنتيها ووجدت نفسها تقول باستنكارٍ مصطنع وهي تشيح بوجهها: هذا.. هذا ليس صحيحًا.
ابتسم وكأنما كان يتوقع قولها، ثم غادر السيارة ووقف مستندًا إليها في مواجهتها تمامًا عاقدًا ذراعيه أمام صدره و.. ومتأملًا إياها..
هكذا بشكلٍ مباشر دون حتى أن ينطق بكلمة وكأنه قادمٌ فقط من أجل هذا !
تضاعف ارتباكها وخجلها خاصةً وشعورها بأنها افتقدته يلح عليها بشدة، فوارت لهفتها بنظرةٍ متسائلة عن سبب وجوده..
- كيف حالك؟
قالها بغتة بعد صمتٍ طال، فقالت متظاهرةً بالهدوء: بخيرٍ والحمد لله.. و.. وأنت؟
صمت لحظاتٍ ثم قال: لم أكن في حياتي أفضل مما أنا عليه الآن.
حملت كلماته نفس اللهجة فازداد ارتباكها ولم تدرِ ماذا تقول، فأومأت رأسها بمعنى أن هذا جيد..
صمت وصمتت..
كانت تبحث عما يمكنها قوله لتتجاوز ارتباكها، في حين يعرف هو ماذا يريد أن يقول لكنه لا يعرف كيف..
يريد أن يكون جادًا وصريحًا ويخبرها بوضوح عن مشاعره، لكنه وجد نفسه يستمتع للغاية بإثارة خجلها وارتباكها، ويشعر بجمالها يتضاعف عندما يحمر وجهها..
وفي محاولةٍ منه لمقاومة ما يشعر به والتحلي بالجدية قال: آسف بشأن تلك السحاحة.. لم أقصد أن...
قاطعته قائلة: لا عليك.
ثم أردفت مبتسمةً وهي تمسك بإحدى القطارات الزجاجية وتلوح بها: أنا أكسر الكثير من الأدوات باستمرار.
ابتسم، فقالت في مرح: حسنًا.. ما الذي أتى بـ د. عمرو شخصيًا إلى كليتنا المتواضعة؟
- عمرو.. فقط.
- عذرًا !
- منى.. خاطبيني بدون ألقاب رجاءً.
قالت وارتباكها يعاودها: د. عمرو.. لا يجوز أن...
قاطعها وهو يمسك بطرف تلك القطارة الزجاجية التي في يدها: عمرو.. عمرو فقط.
دق قلبها بعنفٍ واضطرب..
ماذا يحدث؟!
إنه غريبٌ جدًا اليوم وكل حديثه يربكها بشدة..
ثم إن مخاطبته باسمه مجردًا شيءٌ لم يكن في حسبانها مطلقًا..
تخاف أن تفعل فتعتاد، وكم هم صعبٌ الإقلاع عن اعتياد شيءٍ يخصه!
بدا على وجهه الجدية والترقب وكأنما ينتظر تلفظها باسمه، فتزايد ارتباكها..
طال صمتها الحائر، فقال وهو يترك طرف القطارة: بغض النظر عن أنه لا داعي للرسميات والألقاب، لقد سمعته منك مرةً وودت لو قلته دائمًا.
عقدت حاجبيها قائلة: أنا لم أخاطبك أبدًا بدون ألقاب.
- بلى.
قالها بسرعة، فبدا على وجهها الدهشة وقالت بتردد: لست أذكر أنني...
عاد يقاطعها: لم تكوني لحظتها في كامل وعيك.
قالت باستنكار: أتقصد أنني...
لم تكمل عبارتها ووجهها يعاود الاحمرار، فاتسعت ابتسامته وهو يومئ برأسه إيجابًا..
شعرت بالكثير من الخجل والاضطراب، فاحتمالات ما يمكن أن تهذي به في وجوده كلها كارثية!!
وفي مكابرةٍ قالت: لكن.. لكن بسمة لم تخبرني أنني فعلت ذلك.
هز كتفه قائلًا: بسمة لم تكن معك حينها.
ثم أردف في خفوت: أنا الذي كنت بجوارك طواااااال الوقت.
عاد قلبها يخفق بشدة مع تلك اللهجة التي تحمل عاطفةً واضحة، وغمرها الخجل من قمة رأسها وحتى أخمص قدميها وهي تشيح بوجهها بعيدًا..
تأملها مبتسمًا وبدا مستمتعًا للغاية وهو يقول: هل أخبرك ماذا قلت أيضًا؟
هبط قلبها بين قدميها والتفتت إليه بنظرة من ينتظر كارثة، فلم يتمالك نفسه من الضحك.. ومن بين ضحكاته قال: هل تخافين هذيانك إلى هذا الحد؟
قالت بارتباكٍ تتصنع اللامبالاة: و.. ولِمَ؟ أنا لا أخفي شيئًا أخاف أن يعرفه الآخرون.
رفع أحد حاجبيه في شكٍ واضح مما تدعيه، فأشاحت بوجهها هربًا منه..
عاد يقول وابتسامته العابثة تتألق على ثغره: حسنًا.. سأخبرك لكن بشرط.
طالعته بدهشة، فقال وهو يعاود عقد ذراعيه أمام صدره: أن أسمع منك "كيف حالك يا عمرو".
- أتمزح؟!
قالتها بدهشةٍ أكبر، فقال: مطلقًا.
صمتت لحظةً ثم قالت في عناد: هكذا إذًا.
ثم أشارت إليه بطرف القطارة الزجاجية التي مازالت في يدها وقالت: لن أقولها، ولا أريد أن أعرف.
عاد يضحك لكنه لم يعلق.. فقط تطلع إليها في صمت فوجدها تقول ووجهها يتورد ثانيةً: لكن.. هل من الممكن أن أقول شيئًا آخر؟
بدا في عينيه التساؤل، فقالت: شكرًا لك.. عمرو.
برقةٍ وخفوت أتاه صوتها وكأنما تسأله.. أهكذا تريديني أن أقولها؟
وكأنما لم يتوقع عبارتها، اعتدل وحل ذراعيه ببطءٍ من أمام صدره الذي تسارع ارتفاعه وانخفاضه تجاوبًا مع ذلك الذي اختلجت خفقاته وتدافعت داخله، بينما تكمل: أنا مدينةٌ لك بحياتي.
تطلع كلٌ منهما إلى الآخر وغمرتهما مشاعرهما لبرهة، قبل أن يقول عمرو بخفوت: أنا لا أستحق كل هذا.
كان يقصد مشاعرها ولم يدرِ أفهمت قصده أم لا، لكنها أجابت بنفس الخفوت: بلى.
ثم أردفت: لم تُتح لي فرصة شكرك عندما كنت في المستشفى.. لست أدري كيف غفلت عن شيءٍ بديهي كهذا ولكن.. ربما لأنني كنت مشوشة التفكير.
ثم التفتت تضع القطارة الزجاجية في حقيبة أدواتها وهي تقول في خجلٍ وصوتها يعود لخفوته: لهذا سررت بأنني رأيتك اليوم.
قال متظاهرًا بالإحباط: سررت من أجل هذا فقط؟
ابتسمت ولم ترد وهي تواصل وضع أدواتها في حقيبتها، فقال: إذا كان الأمر كذلك، فمن الجيد أنني أتيت.
التفتت إليه بنظرةٍ متسائلة فقال: آه.. نسيت سؤالك عن سبب مجيئي.. حسنًا.. لقد كنت مارًا في الجوار أثناء عودتي من المستشفى ولمحتك من بعيد، ففكرت أن آتي لألقي السلام.
ضحكت ضحكةً رقيقةً خافتة وقالت: لمحتني من أين.. من خلف أسوار الجامعة؟!
تظاهر بالجدية قائلًا: ماذا؟ ألا يبدو هذا منطقيًا؟
ضحكت ثانيةً وهي تهز رأسها نافية، فقال مبتسمًا: أتيت لأطمئن عليك.
ابتسمت روحها مع تبسم وجهها، فعاد يقول مكررًا سؤاله السابق ولكن بلهجةٍ مختلفةٍ تمامًا: كيف حالك؟
خفق قلبها في سعادةٍ بالغة وقالت في مرح مستخدمةً عبارته: لم أكن في حياتي أفضل مما أنا عليه الآن.
ضحك هو الآخر في مرح وقال: هكذا إذًا ! أيعني هذا أن كلينا الآن يشعر بنفس الشعور؟
احمر وجهها خجلًا وتاهت منها الكلمات.. وفي ارتباك، رفعت يدها تعتدل من وضع أحد دبابيس حجابها ليس لشيءٍ سوى الحاجة لأن تفعل شيئًا ! ثم قالت: أشكرك بشدة.
- على ماذا هذه المرة؟
سألها بخفوت، فردت بارتباكها ذاك: على.. على اهتمامك بالطبع.. وعلى.. وعلى اتصالاتك للاطمئنان عليّ.
- هذا لا شيء.. لولا الحرج من أن أكون مزعجًا لاتصلت كل ساعة.
التقى حاجباها في انفعال، بينما يستطرد بتلك اللهجة الخافتة التي شعرت أنها ستصيبها حتمًا بسكتةٍ قلبية: لا يمكن أن تتخيلي كم كنت قلقًا.
أخذ قلبها يخفق باضطرادٍ مجهِد، فخفضت عينيها تحاول السيطرة على انفعالاتها والتفكير في أي شيءٍ يمكنها به الابتعاد بالحديث في اتجاهٍ آخر، فلم تجد سوى أن تردد: شكرًا لك.
- أصبحت تشكرينني كثيرًا.. أكثر من اللازم.
- وماذا أفعل وقد عجزت عن عد الأشياء التي تستحق عليها الشكر.
- ليس إلى هذا الحد.
- بل إلى هذا الحد.
قالتها بسرعة، فأطلق ضحكةً قصيرة وفكرةٌ ما تتكون في ذهنه، ثم قال: حسنًا.. إذا كان الأمر كذلك فأنا أريد مساعدتك في شيءٍ ما، فهناك سببٌ آخر لقدومي.
ظهر التساؤل في عينيها فقال: في الواقع.. طلب مني شخصٌ عزيزٌ عليّ جدًا أن أوصل شيئًا لشخصٍ ما.. ولما أخبرني أنها في السنة النهائية من كلية الصيدلة، فكرت في أنك تستطيعين مساعدتي.
قالت في بطءٍ واستغراب: تبحث عن فتاةٍ في فرقتي؟!
ابتسم مع لمحة الغيرة في سؤالها وأومأ برأسه إيجابًا..
تصنعت اللامبالاة قائلة: حسنًا.. ما اسمها؟ أستطيع أن أخبرك أين وكيف تجدها حتى لو لم أكن أعرفها شخصيًا.
هز رأسه نافيًا وقال: لم يخبرني بأي أسماء.
سألته بدهشة: وكيف ستعرفها بدون اسمها؟!
أجابها ببساطة: وصفها لي بدقة.
- وصفها؟!
هكذا تساءلت في استغراب وهي تشعر بأن هناك شيئًا ما غير منطقي، في حين قال هو بجدية: أجل.
صمتت في حيرة، فقال متسائلًا: هل ستساعدينني في أن أصل إليها؟
أومأت برأسها إيجابًا ثم قالت وهي تهز كتفها: هذا إن عرفتها.
التقط نفسًا عميقًا ثم قال: حسنًا.. لقد قال لي أنها فتاةٌ جميلة.. رقيقةٌ خجول ومهذبة.
صمت لحظةً يستمتع بتلك الغيرة التي ظهرت على ملامحها، ثم أكمل: قلت له هذا الوصف عامٌ جدًا، فقال هي بالذات جميلةٌ جدًا.. رقيقةٌ جدًا..
بدا عليها الدهشة والاستغراب بينما يتابع: أخبرته بالطبع أن هذا غير كافٍ لأتعرّفها، فقال "إذا بحثت ستجد واحدةً فقط تملك جمال ورقة الورود".
- أنت تمزح.. أليس كذلك؟
قالتها هي ضاحكة، فهز رأسه نافيًا في بطء..
بعد لحظاتٍ من الصمت قال وهو ينظر إلى عينيها مباشرةً: قال لي أيضًا "إذا نظرت في عينيها ستشعر أنك لم ترَ في حياتك أجمل منهما وستخبرانك أنها هي أيضًا تبحث عنك".
عاد قلبها لعنف خفقاته وهي تستمع إليه مترقبة إذ أكمل: عندها ستدرك أنها هي.. ستشعر من داخلك أنها هي ولا أحد سواها و....
- مهلًا.
قاطعته وهي ترفع كفها تستوقفه..
صمت، فقالت ووجهها يبدأ بالاحمرار: من الذي يصف لك هذا الوصف؟
ابتسم ثم أشار بسبابته نحو صدره قائلًا: هو.
تضاعف احمرار وجهها بغتةً وهي تفهم أنه يقصد قلبه، بل وتفهم مغزى حديثه كله..
أشاحت بوجهها وقالت بتلعثم: لا... لا يوجد أحدٌ بهذا الوصف.
كانت في حالٍ يُرثى لها وبدا أن رأسها سيصدر صفيرًا من شدة احمرار وجهها كما يحدث في أفلام الكارتون! أما عن داخلها، فحدث ولا حرج..
لقد كان هذا كثيرًا.. كثيرًا منه جدًا.. أكثر مما يمكنها تحمله..
معقول!
أيقول لها هي مثل هذه الكلمات التي لم تسمع في حياتها ما هو أكثر منها رقةً وعذوبة!!
أيعنى هذا أنه...
مهلًا.. مهلًا..
شعرت بأنفاسها تتثاقل بينما لا تجرؤ حتى على مجرد النظر تجاهه..
حاولت عبثًا السيطرة على مشاعرها، لكن بلا فائدة..
ولم يمهلها هو، فقد عاد يقول: ترفضين مساعدتي إذًا.
لم يتلقَ منها جوابًا، فالتقط نفسًا عميقًا ثم قال: حسنًا.. سأعتمد على نفسى.
رأته يلتفت نحو السيارة.. يفتح بابها الخلفي ويلتقط منها شيئًا ما ثم يقدمه إليه قائلًا: تفضلي.
حدّقت في الكيس الكرتوني الأنيق الذي يحمله بينما يقول: إذا تتبعت هذا الوصف سأدور في الدنيا كلها ثم أعود إلى هنا.. إليك!
خُيل إليها أن قلبها انتفض ثم توقف عن الخفقان بعدما خفق في هذا الوقت القصير بقدر ما خفقه طوال حياته..
ورغم أنها فهمت أنه يقصدها منذ لحظات، إلا أن عبارته الأخيرة دغدغت أنوثتها ونسفت البقية الباقية من مقاومتها وتماسكها تمامًا..
وعندما رفعت عينيها إليه هذه المرة، لم يكن هناك أية قيودٍ أو حدود لما تحمله من مشاعر، إلا أنها خفضت عينيها في سرعة ناظرة إلى الأرض وهي تقول بارتباكٍ شديد: ما.. ما كل هذا.. لم أكن أعرف أنك.. أنك مجاملٌ بارع إلى هذا الحد!
تطلع إليها في صمت فأردفت وهي تعبث بقدمها في شيءٍ وهمي على الأرض: لكنك تبالغ كثيرًا.
لم يعلق على ما قالته، فقط ابتسم وكرر وهو يقرب الكيس منها أكثر: تفضلي.
عادت تنظر إلى الكيس وقالت في خفوت: ما هذا؟
- ألقي نظرةً بنفسك.
التقطت الكيس في تردد ثم جلست وفتحته لتجد علبةً أنيقةً طويلة تشبه علب أقلام الحبر الثمينة.. أخرجتها ووضعت الكيس جانبًا ثم فتحتها لتجد مجموعةً كبيرة من الدبابيس غاية في الأناقة والرقة تحمل رؤوسها أشكال الزهور والفراشات المطعمة بالفصوص الصغيرة الملونة..
ارتفع حاجباها في دهشةٍ وإعجاب، ثم نظرت إليه في حيرةٍ وتساؤل، فقال وهو يجلس بجوارها على مسافة: لقد أضعت دبابيسك كلها في سيارتي.. بحثت عنها ولم أجدها.. لهذا فكرت في أن أحضر لك بدلًا منها.
أعادت العلبة إلى الكيس فانتبهت إلى وجود علبةٍ أخرى مماثلة بداخله، فغمغمت في دهشة: اثنتان؟!
قال بابتسامةٍ كبيرة: أنت تستخدمين الكثير من الدبابيس.. أليس كذلك؟
ابتسمت على الرغم منها فقال: هل أعجبتك؟
قالت في تردد: إنها رائعة.. ولكن.. ولكن أنا آسفة.. لا أستطيع أن أقبلها.
عقد حاجبيه قائلًا: ولِمَ لا؟!
عادت تنظر إلى الأرض وتكرر بلهجة من يحتار في شرح ما يريد قوله: لا أستطيع!
صمت لحظاتٍ ثم قال: حسنًا.. لا أفهم.
التفتت إليه.. كان قريبًا جدًا.. صحيحٌ أنه يجلس على الطرف الآخر من المقعد، إلّا أنها شعرت أنه قريب جدًا على نحوٍ ذكرها بجلسته على طرف فراشها في المستشفى..
كانت مشاعرها في هذه اللحظة أقرب إلى ورقة شجرٍ في مهب الريح..
ما هذا الذي يحدث؟! وما كل هذا دفعة واحدة؟!
حديثه.. لهجته..
نظراته.. تلميحاته..
حتى وجوده نفسه..
كل هذا تشعر وكأنه سيلٌ يجتاح مشاعرها..
وكأنه يقول لها بوضوح أنه...
ماذا تفعل؟!
ماذا تفعل؟!
تطلعت في حيرةٍ إلى نظراته المتسائلة ثم قالت في خفوت: لماذا أقبل منك هدية؟!
ابتسم قائلًا: هذه ليست هدية.
- ماذا تسميها إذًا؟
- هذا مجرد بديلٍ عما أضعته من أشيائك.. لكنه على ذوقي.
- لا أرى اختلافًا!
مال نحوها وقال: عندما أهديك لن يكون شيئًا بسيطًا كهذا.
قالت بحيرة: ولماذا تهديني أصلًا؟
أجابها ونظراته تزيد حديثه غموضًا: ساعتها سيكون هناك الكثير من الأسباب.
صمتت ولم تدرِ ماذا تقول له.. وفي محاولة أخيرة للتشبث بأي عذرٍ قالت: كيف أقبل ما لا أستطيع رده؟!
صمت طويلًا هذه المرة، ثم قال بتلك اللهجة الخافتة: ومن قال أنك لا تستطيعين؟
تطلعت له وحيرتها تزداد، فقال بنفس الخفوت وهو ينظر إلى عينيها مباشرةً: سأكون في غاية السرور لو وصلني المزيد من... مشابك الغسيل الحمراء!!
كانت تلك الكلمات بمثابة قنبلةٍ انفجرت أمامها..
وفي لحظةٍ واحدة اتسعت عيناها وتلون وجهها بلون الطماطم، ثم هبت واقفة واندفعت مبتعدةً في سرعة..
هو أيضًا نهض بسرعة، وبخطوةٍ واحدةٍ واسعة لحق بها وأمسك يدها يوقفها وهو يقول بخفوت شديد: أُحبك.
توقفت والتفتت في ذهول، فاحتوى يدها وجذبها في رفق ليعيدها إلى جواره..
تطلع إلى عينيها لحظاتٍ ثم ابتسم وهمس: أحبك جدًا.

*****************************
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.