AmanyAlsagheer

شارك على مواقع التواصل

* 14 *
*** تثاءبت بسمة في عمق وبدا عليها الإرهاق..
كانت تحضر محاضرةً إضافية انتهت لتوها، فتثاءبت مرةً أخرى وقالت: سامحك الله يا منى.
كانت عيناها محمرتين ومجهدتين من السهر، فقد أمضت وقتًا لا بأس به من الليل تستمع إلى منى في الهاتف والتي كانت في حالٍ صعبة.. لم تكن تتكلم فقط بل تبكى أيضًا، وقد امتزج كلامها بدموعها ومشاعرها على نحوٍ جعل كل محاولاتها لتهدئتها تبوء بالفشل..
كانت منهارةً بشدة، لهذا تركتها تفرغ كل ما بداخلها علّ ذلك يساعدها على التحسن وتجاوز الأمر..
ثم إن الأمر كان صدمةً لها أيضًا.. كانت فعلًا تتوقع من عمرو شيئًا آخر خاصةً بعدما رأته يوم المطعم.. كانت انفعالاته تشير بوضوح إلى أن لمنى وضعًا خاصًا جدًا بالنسبة له، فما الذي حدث؟ هناك شيءٌ غامض في الأمر..
طبعًا لم تكن منى لتأتي معها إلى الجامعة اليوم حتى ولو كانت هناك محاضراتٌ أساسية، وربما لن تأتي غدًا أيضًا رغم أهمية محاضراته ومعامله..
عندما تعود إلى المنزل سوف تهاتفها وتحاول إقناعها بالمجيء..
غادرت المدرج مع زميلاتها، وكعادة الجميع جلسن في ساحة الكلية بعض الوقت لتجديد النشاط..
لم تكن تنوي أن تطيل الجلوس خاصةً وأن منى ليست معها.. سترتاح قليلًا ثم تغادر..
وبينما يتبادلن الحديث، علقت إحداهن على تلك السيارة السوداء التي مرت أمام مبنى الكلية ودارت في ساحتها الأمامية أكثر من مرة..
انتبه الجميع في فضول إلى السيارة التي كانت بأناقتها وطرازها الحديث وزجاجها الأسود العاكس ملفتةً للنظر بالفعل..
وبينما تتناقل التساؤلات والتعليقات الفضولية بين زميلاتها، ألقت بسمة نظرةً طويلة على السيارة التي توقفت على بُعد بضعة أمتار، قبل أن يلتقي حاجباها وهي تقول لنفسها: لا تقل لي إنك ...
بترت عبارتها في دهشةٍ بالغة و عمرو بكامل أناقته يغادر السيارة ويتجه في هدوء إلى مبنى الكلية ويختفي داخله..
غمرتها الدهشة للحظات لم تنتبه فيها إلى تعليقات زميلاتها والتي انتقلت من السيارة الأنيقة إلى صاحبها الوسيم!
ما هذا؟!
ما الذي يفعله عمرو هنا؟!
أمعقولٌ أنه يبحث عن منى؟!
فتشت في عقلها عن أي سببٍ منطقي يبرر وجوده هنا والآن فلم تجد سوى منى..
حمدت الله في سرها على أنها غير موجودةٍ اليوم.. هذه المجنونة.. لا أحد يستطيع التنبؤ برد فعلها أبدًا خاصةً في حالة عدم الاستقرار التي تمر بها الآن..
ولكن لماذا؟!
لماذا ما حدث بالأمس؟!
ولماذا هو هنا الآن؟!
هل يريد التحدث معها؟!
إنها لا تفهم شيئًا!
وماذا يظن نفسه فاعلًا داخل مبنى الكلية.. هل سيبحث عنها داخل المدرجات؟!
ربما يريد أن...
جالت بخاطرها فكرةٌ جعلتها تلتقط أحد كتبها وتقول لزميلاتها وهي تتجه إلى داخل المبنى: لقد نسيت دفتر محاضراتي.. سأذهب بسرعة لأحضره.
ما إن خطت داخل المبنى حتى وجدت ما توقعته.. عمرو يقف أمام الجدول الضخم الذي يبين مواعيد المحاضرات والمعامل لجميع الفرق، وبالتحديد جدول الفرقة الخامسة..
ابتسمت وقالت في خفوت: حسنًا.. أيًا ما يكون ما جئت من أجله، فالأمر يستحق التدخل والمساعدة.
لا تدري لماذا اعتقدت يقينًا أن وجوده اليوم ينفي ما اعتقدته منى بالأمس، وأنه من العسير حقًا ألا يكون مهتمًا بأمرها.. لهذا اتجهت إليه في هدوءٍ وبساطة ووقفت بالقرب منه محتضنةً كتابها ومتظاهرةً بالتطلع إلى الجدول هي الأخرى..
كان عمرو يتأمل الجدول محاولًا معرفة مواعيد المحاضرات.. ورغم مظهره الهادئ، كان يشعر بالتوتر.. منذ أن دخل الجامعة وهو يشعر به على نحوٍ لم يتوقعه، وها هو يزيد باضطرادٍ مجهول السبب!
أطلق زفيرً عميقًا.. تبدو مواعيد المحاضرات التي يوضحها الجدول متداخلة، كما أنه يقسم كل فرقةٍ إلى كثير من المجموعات..
شعر لحظتها ببسمة تقف إلى جواره.. ألقى نظرةً عابرة، فتوقفت عيناه عند كتابها الذي يشير إلى أنها من الفرقة الخامسة.. تردد لحظةً ثم تنحنح قائلًا: إذا سمحت..
التفتت إليه متسائلةً ببساطةٍ وتلقائية، فقال: أنتِ في السنة النهائية، أليس كذلك؟
- بلى.
- ما هي مواعيد محاضراتكم اليوم؟
- ليست لدينا محاضراتٌ أساسية اليوم.. كانت هناك واحدةٌ إضافية انتهت منذ قليل.
- والمعامل؟
- هناك معامل بالطبع، لكن ليس لكل المجموعات.
أومأ عمرو برأسه متفهمًا رغم الضيق الذي انتابه.. لا يعلم في أي مجموعةٍ هي.. فكيف يسأل!
طالعته بسمة ولسان حالها يقول "هيا.. انطق.. اسأل ولا تخشَ شيئًا"!
ظل عمرو صامتًا وظهر التردد عليه واضحًا فقالت بسمة تستحثه بنفس بساطتها المصطنعة: هل تبحث عن شخصٍ ما بعينه؟
ابتسم عمرو في ارتباكٍ وقال: أجل.
هزت بسمة كتفها وقالت: من؟ ربما أعرفه.
تردد عمرو ثانيةً، إلا أن بساطة بسمة في الحديث وغياب الفضول من لهجتها شجعه فقال: أبحث عن د. منى.
كان يتوقع أن تسأله أي منى، فهناك اثنان أو ثلاثة إن لم يكن أكثر في الفرقة، إلا أنه فوجئ بها تقول: أعرفها بالطبع.. إنها صديقتي.
صمت عمرو لحظات شعر فيها بتوتره يزيد، ثم قال في خفوت: و.. وأين أجدها الآن؟
قالت بسمة على الفور: لم تأتِ اليوم.
عقد عمرو حاجبيه بينما أكملت بسمة متصنعةً البراءة: إنها متعبةٌ بشدة منذ الأمس!
ثم أردفت بلهجةٍ قلقة قاصدةً كل حرف تنطقه: لقد كانت برفقتي أول أمس وكنت بحالٍ جيدة جدًا.. لكنها والدتها هاتفتني أمس وأخبرتني أنها لن تأتي اليوم.. قالت لي أنها شعرت بالتعب فجأة وترفض التحدث مع أحد.
"أهذا من لا يأبه لأمرك يا بلهاء!!"
كان هذا ما ودت لو قالته لمنى وهي تراقب ملامحه جيدًا..
هذا لأن وجهه كان صورةً مجسمة للقلق الممزوج بالضيق والحيرة وقد زاد انعقاد حاجبيه على نحوٍ غريب..
ولم تدعه بسمة لأفكاره طويلًا بل قالت: لكنى أعتقد أنها ستأتي غدًا.. بل من الضروري جدًا أن تأتي فهناك محاضراتٌ ومعامل مهمة.
سألها بصرامةٍ لم يقصدها: متى؟
أجابت في خفوتٍ لم تدر له سببًا: من الصباح حتى الثالثة ظهرًا.
صمت عمرو لحظات تلاشت فيها انفعالاته عن وجهه، ثم اغتصب ابتسامةً باهتة وقال: شكرًا لك.. وآسف على إزعاجك.
وقبل حتى أن ترد عليه كان قد اندفع مغادرًا المكان ليبلغها بعدها صوت سيارته وهو ينطلق بها مسرعًا، فابتسمت وقالت متنهدة: يبدو مخيفًا عندما يغضب!
عادت أدراجها إلى حيث زميلاتها بينما تتساءل في نفسها.. كيف ستقنع منى بالمجيء غدًا؟!
وإذا استطاعت ذلك.. هل ستخبرها بأمر عمرو اليوم أم ...؟!

********************

*** "متعبةٌ بشدة منذ الأمس"..
دوت تلك العبارة في رأس عمرو وترددت عشرات المرات وهو يقود سيارته متجهًا إلى منزله..
كان من المفترض أن يعود إلى المستشفى التي غادرها في منتصف دوامه، لكن القلق الذي أثاره حديث تلك الفتاة في الجامعة دفعه للمرور على المنزل أولًا عله يراها أو يجد ما يطمئنه..
ربنا لا تعرف صديقتها تلك ذلك، لكنها كانت بحالٍ جيدة جدًا ليس منذ أول أمس فحسب، بل حتى ظهر أمس أيضًا.. عندما رآها حينها كان وجهها وصوتها لا يدلان على أنها كانت متعبةً على الإطلاق.. فماذا حدث؟!
هل مرضت فجأة؟ نوبة برد أو أنفلونزا مثلًا ؟
ربما.. ولكن ماذا عن "ترفض التحدث مع أحد" حتى صديقتها؟ هذا حقًا مقلق..
قفز احتمالٌ إلى ذهنه دفع بقلقه إلى الذروة..
هل من الممكن أن يكون هو السبب!!
أن تكون قد بالغت في تفسير ما فعله أمس أمام نافذتها، واعتقدت فعلًا أنه غاضبٌ مما عرفه وأنها وما فعلته لا تثير اهتمامه البتة؟!
وجد نفسه غير قادرٍ على تخيل ما يمكن أن يسببه ذلك في كيانٍ رقيقٍ مرهف مثلها، فأطلق زفرةً حارة وضغطت قدمه لا شعوريًا على دواسة الوقود أكثر رغم انطلاق السيارة بسرعةٍ كبيرة بالفعل..
اعترف للمرة الثانية أن باسل كان محقًا تمامًا فيما قال عنه..
أحمقٌ هو.. أحمقٌ جدًا!
ولكنه لم يكن يقصد هذا أبدًا..
كل ما كان يريده أن يقلقها قليلًا حتى لا تتصرف بمثل هذا التهور مرةً أخرى..
أن يثير حيرتها لا أكثر بعد أن أثارت حيرته كثيرًا..
لاح له منزله من بعيد فهدئ من سرعة السيارة حتى أوقفها أمامه..
ألقى نظرةً متلهفةً على نافذتها عله يراها، لكنها كانت مغلقة..
أطلق نفير السيارة عدة مرات ثم غادرها وأغلق بابها في قوة، ولكن بلا فائدة.. ولا حتى فرجةٌ صغيرة تنبؤه بأنها تراه..
انتظر لبعض الوقت فلربما.. لكنه لم يلبث أن استقل السيارة وانطلق بها عائدًا إلى عمله..
حسنًا.. صديقتها قالت أنها لا بد وأن تحضر غدًا.. فليكن.. لم يعد أمامه سوى انتظار الغد..
وفي خفوتٍ قال: انتظرني قليلًا يا منى.. أنا قادمٌ غدًا من أجلك!!
كانت منى في ذلك الحين تجلس على مكتبها الصغير محاولة عبثًا المذاكرة، لكنها كانت فعليًا تضيع الوقت لا أكثر..
الوقت يمر عليها بطيئًا كئيبًا فحاولت الانشغال بأي شيءٍ كي لا تشعر بذلك، لذا لم تكن مذاكرتها سوى بعض خربشاتٍ بالقلم في الأوراق التي أمامها..
ميزت نفير سيارة عمرو، فأدركت وجوده..
خفق قلبها في اضطرابٍ وبذلت جهدًا مضنيًا كي تبقى في مكانها ولا تندفع نحو النافذة..
ومع مقاومتها، انهمرت دموعها.. وانهمر حزنها..
لم تعد تدرِ لماذا تبكي ولا لماذا تشعر بالحزن، ولا ماهية ذلك الألم الذي تشعر به في قلبها..
لم تعد تستطيع حتى التفكير.. كل شيءٍ داخلها مشوشٌ ومرتبك.. حتى مشاعرها لم تعد تستطيع فهمها..
كل ما تعرفه أنها حزينة.. حزينةٌ حد البكاء.. ولا تريد سوى أن تكون وحدها، وأنه...
وأنه لا يمكن لها أن تراه بعد الآن..
زاد انهمار دموعها، فعقدت ذراعيها على المكتب أمامها وأسندت رأسها إليهما وأطلقت لدموعها العنان..
يا إلهى.. كم أن هذا مؤلم.. ألّا تراه بعد الآن..
ليته لم يعرف شيء، بل ليتها لم تبعث له بتلك الرسائل..
كانت تعتقد أنه من المستحيل أن يعرف أنها مرسلتها، لكنها كانت حمقاء.. وها هو ذا يعرف كل شيء..
تلقى كبرياؤها ضربةً قاتلة وتكشفت مشاعرها كلها أمامه على نحوٍ يشعرها بالخجل الشديد من نفسها.. والأدهى، أنه أظهر لها بوضوح أنه لا يأبه بكل هذا وكأنه يقول "كُفى عن تلك السخافات أرجوك فليس لدي وقتٌ أضيعه"!
لهذا لم يعد بإمكانها حتى محاولة رؤيته..
ليتها ظلت تراه وتتطلع إليه من النافذة.. كان هذا وحده يكفيها ويسعدها..
لم تعد تريد أن يعرفها.. معرفتها له تكفي..
لم تعد تريد أن يحبها.. حبها له يكفي..
لكن.. حتى هذا لم يعد ممكنًا..
ومع انسياب أفكارها، شعرت بالضيق بغتةً من نفسها ومن استسلامها للحزن بهذا الشكل، فقالت لنفسها وهي ترفع وجهها وتمسح دموعها: حسنًا.. لا بأس.. سيمر الوقت وأنساه بالتأكيد وسيعود كل شيءٍ كما كان.
التقطت نفسًا عميقًا وبدأت تجهز أوراقها ودفاترها لمحاضرات الغد..
ستذهب غدًا للجامعة وتعاود الاهتمام بمذاكرتها.. لن تُظهر مشاعرها لأى شخصٍ بعد الآن.. حتى بسمة ستخبرها أن الأمر انتهى وستعود منى التي كانتها من قبل.. وكان هذا هو قرارها.

**********************************
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.