AmanyAlsagheer

شارك على مواقع التواصل

* 6 *
*** اليوم التالي.. آخر المحاضرات ..
جلست منى مستندةً برأسها على قبضتها المضمومة بينما تنقر بأصابع يدها الأخرى على دفترها في عصبية، ومن حينٍ لآخر تزفر في ضيقٍ وتوتر وتبدل من وضع يديها، أو تمسك بالقلم وترسم خطوطًا ودوائر متقاطعة.. وإلى جوارها جلست بسمة بحالٍ مشابه وإن حاولت في استماتة التركيز فيما يقوله الأستاذ الذي تواصل شرحه بلا انقطاع..
في الواقع، كان هذا حال الجميع تقريبًا وأنباء نتائج الاختبارات التي ستعلن اليوم تشد أعصابهم وتفقدهم تركيزهم مع محاضرهم الذي كلما انشغل بكتابة شيءٍ ما على اللوح، تعالت الهمسات والهمهمات ليلتفت هو ويخرسهم بنظرةٍ غاضبة..
وفي عصبية مالت منى على أذن بسمة تهمس: بسمة.. هيا نخرج.. لم أعد أطيق الاحتمال.
ردت بسمة هامسة : انتظري قليلًا يا منى.. دقائق وتنتهي المحاضرة.
عادت منى تهمس بغيظ: دقائق!! مازالت هناك ساعةٌ كاملة متبقية من وقت المحاضرة، ولم أعد أستطيع التركيز في شيء .. أنا لا أدري أصلًا إن كان شرحه يخص العقاقير أم السموم أم طريقة عمل الكيك !
كتمت بسمة ضحكتها بصعوبة، ثم قالت: بالخارج سننتظر أيضًا يا عبقرية.. لا فارق.
زفرت منى بضيقٍ وغمغمت: سيكون الأمر أقل توترًا.
كانت بسمة تدرك أنها على حق.. لا فائدة من وجودهما هنا مادامتا لا تستطيعان التركيز أو فهم ما يقال، لذا قالت في خفوت: حسنًا .. هيا بنا.
كانتا تجلسان في المقاعد الأمامية مما سهّل انسلالهما إلى الخارج أثناء انشغال الأستاذ..
وما إن وضعت منى قدميها خارج المدرج حتى تنفست الصعداء وهتفت: أخيرًا.. أشعر أنني لو بقيت لدقائق أخرى لمت اختناقًا.
سألتها بسمة باستغراب وهما تهبطان إلى ساحة الكلية: ما بالك يا منى؟ لم أرك يومًا بهذا القلق.
أفرغت منى صدرها كله في زفرةٍ عميقة وقالت: لا أعرف حقًا يا بسمة، لكني بالفعل قلقةً للغاية وقلبي يحدثني أن نتائج اختبار "علم السموم" لن تكون خيرًا هذا العام.
ابتسمت (بسمة) وقالت: لقد اجتهدنا وفعلنا ما بوسعنا.. ثقي في ذلك ودعي عنك قلقك الزائد هذا.
انضمتا لباقي الصديقات وتبادلن الحديث محاولاتٍ إفراغ توترهن..
"نتائج الاختبارات تعلق الآن يا رفاق"
همسةٌ قالها أحدهم لينتشر الخبر في ساحة الكلية كلها خلال بضع ثوانٍ!
وخلال بضعٍ أخرى، أصبحت هناك جماهير واقفة أمام اللوحات التي تحمل كشوفات النتائج..
وقفت كلتاهما على مسافةٍ من ذلك التجمهر تفرك يديها في توتر.. لم تكن أيهما تجيد الاقتحام أو التزاحم، لذا لم يكن هناك مفرٌ من الانتظار..
لم يمضِ الكثير من الوقت حتى بدأت الوجوه تتهلل وعبارات التهنئة تتردد، بينما تجهمت وجوهٌ أخرى وانسحبت في صمت..
كانت دعاء أحد الوجوه المتهللة وقد اقتربت منهما فرحةً فهنأتها بسمة بحرارة، لكنها رمقت وجه منى القلق ثم مالت على أذنها وقالت بخفوت: منى.. يؤسفني ذلك، لكني لمحت اسمك في أحد الكشوفات ولفت نظري علامةٌ حمراء!
بشهقةٍ قوية، تجمدت منى تمامًا وخيل إليها أن قلبها توقف عن النبض وهي تحدق في وجه دعاء غير مصدقة، في حين هتفت بسمة في دهشة وقد تناهى إلى مسامعها ما قيل: ءأنت متأكدة يا دعاء؟ هل رأيت ذلك بنفسك؟
هزت دعاء كتفها وبدت في عينيها نظرة خبثٍ واضحة، لكن منى لم تنتبه إليها، بل لم ترها من الأساس.. فقط، تراجعت عدة خطواتٍ وبصرها يدور فيما حولها بعينين لا تريان، وطفق قلبها يخفق بعنفٍ واضطراب وأنفاسها تتلاحق، بينما عبارةٌ واحدة تتردد داخلها.. مادة "علم السموم"!
لم تنتبه لحديث بسمة الحاد مع دعاء والذي انتهى بابتسامةٍ عابثة على شفتيها واعترافٍ بالمزاح..
لم تسمع تقريع بسمة لها واتهامها بالسخافة والسماجة..
وعندما التفتت بسمة إليها، كانت تبتعد ..
بخطواتٍ سريعة أقرب للعدو ابتعدت، فهتفت بسمة: منى !!
لم يبدُ عليها مجددًا أنها سمعتها وهي تواصل ابتعادها، فعادت بسمة تهتف بصوتٍ أعلى وهي تحاول اللحاق بها: منى.. انتظري.. كان ذلك مزاحًا سخيفًا.. لا شيء مما قالته حقيقي.. انتظري يا منى.. منى.
لكنها كانت قد اختفت في هذه اللحظة خلف الزحام..
شعرت أنها لا تريد أن ترى أو تُحادث أحدًا..
شعرت أن عقلها لم يعد يعي شيئًا وقلبها يكاد يتوقف من شدة خفقانه..
و أمام عينيها تجمعت سحابةٌ من الدموع الحبيسة..
شعرت أنها تختنق وبأنها لا تطيق البقاء في هذا المكان، فانطلقت مبتعدة غير عالمةٍ إلى أين..
خرجت من الجامعة كلها.. وعلى غير هدى، أخذت تمشى في الطريق الموازي لأسوارها دون أن تدري أن بسمة تبحث عنها الآن في طرقات المبنى..
مشت كثيرًا.. كثيرًا..
قررت أنها لن تفكر في أي شيء.. ستهدأ بعد قليلٍ وتعود، لكن.. وعند لحظةٍ ما بعينها، انهار تماسكها وبكت..
بكت بشدة مفرغةً كل ما بداخلها من ضغوط.. ولحسن الحظ، كان بحوزتها نظارتها الشمسية فأخفت بها عينيها ودموعها..
لم تدرِ كم مر عليها من الوقت لكنها انتبهت فجأة مع ارتطام قطرات ماءٍ بوجهها..
إنها تمطر مجددًا، لكنها تجاهلت ذلك وواصلت مشيها..
وعلى وجهها سالت قطراتٌ باردة كالثلج وقطراتٌ ملتهبة كالنيران..
مضى عليها وقتٌ طويل وهي تمشي بلا هدف حتى أحست بإرهاقٍ وتعبٍ عنيفين.. رأسها يدور في شدة ويكاد ينفجر من شدة الصداع، هذا إلى جانب ملابسها التي ابتلت إلى حد كبير..
طالعت معالم الطريق من حولها، فأدركت أنها في وسط المدينة تقريبًا وهذا يعنى أنها تمشي منذ ما يقل قليلًا عن الساعة..
وبإرهاقٍ بلغ مبلغه، توقفت وقررت العودة إلى المنزل.. ستستقل إحدى سيارات الأجرة وتعود سريعًا..
لم يكن الأمر سهلًا في زحام وسط المدينة، ومما زاد الأمر سوءًا أن المطر كف عن المزاح وبدأ يهطل بجدية، فتراجعت إلى مدخل إحدى البنايات الضخمة المطلة مباشرةً على الطريق.. لم تكن الوحيدة التي تراجعت إلى هذا المدخل لتحتمي من الأمطار، فخلال ثوانٍ تجمع عددٌ لا بأس به من المارة..
وفي إنهاك، استندت إلى أحد الجدران وتلفتت حولها تبحث عن أي شيءٍ يصلح للجلوس و...
"الدكتور / عمرو فؤاد .. أخصائي أمراض القلب والأوعية الدموية"
ارتطمت عيناها بالعبارة، فخفق قلبها في تفاجؤ وحدقت فيما أمامها..
كانت لافتةً أنيقة متوسطة الحجم معلقةً على الجدار المقابل، وسط مجموعةٍ أخرى من اللافتات يزيد عددها عن العشرة وكلها لأطباء في مختلف التخصصات..
اقتربت منى وتوقفت أمامها وهي تتطلع إليها غير مصدقة..
أعادت قراءتها عدة مراتٍ قبل أن تقول: هو.. بالتأكيد هو.. هذه عيادته إذًا!!
واصلت تأمل اللافتة الأنيقة لحظات وعادت عيناها تحتشدان بالدموع..
عمرو.. وأين هو عمرو ؟!
لقد ذهب ولم يعد بعد، ويبدو أن غيابه سيطول..
تنهدت في حزن وهي تعود لتستند على الجدار وتقول في خفوتٍ شديد: آه لو أعرف متى تعود.
انتبهت لحظتها أن تساقط الأمطار قد توقف أو كاد، فتحركت في صمت متجهةً إلى الخارج..
ما إن خطت بضع خطواتٍ حتى توقفت والتقى حاجباها.. لِمَ لا تسأل؟!
كل الأطباء لا يغلقون عياداتهم عندما يتغيبون في سفر، وغالبًا ما يكون هناك طبيبٌ آخر يتابع المرضى أثناء فترة سفرهم، وهذا يعنى أنها لو صعدت إلى عيادته ستجد بالتأكيد من تسأله لأنهم حتمًا يعلمون..
"متى يعود د. عمرو ؟"
هكذا ستسأل ببساطة، وستحصل على إجابةٍ روتينية سريعة بنفس البساطة.. على الأقل سيريحها هذا من عذاب الانتظار المبهم.
ألقت نظرةً سريعة على اللافتات المعلقة مرةً أخرى، فعرفت أن العيادة في الطابق الثالث..
وبخطواتٍ مترددة، اتجهت نحو المصعد الذي ما إن انغلقت أبوابه حتى وجدت نفسها ترتجف..
بردًا أم انفعالًا، لا تدري.. ربما الاثنان معًا، لكنها عندما تحسست ملابسها وجدتها مبتلةً بالفعل مما جعلها تدرك أن سيرها تحت الأمطار كان حماقة..
توقف المصعد في هذه اللحظة وانفتحت أبوابه معلنًا وصوله لوجهته، فازداد انفعالها وامتزج بترددها على نحوٍ كاد يدفعها للضغط على زر الهبوط والتراجع عن الفكرة بأكملها..
"هل تنتظرين أحدًا؟"
رفعت عينيها إلى محدثها، فطالعها وجه امرأةٍ شابة تقف أمام أبواب المصعد ويبدو عليها التساؤل..
ردت في ارتباك: أجل.. أ.. أقصد كلا.
ابتسمت المرأة ابتسامةً روتينية وهي تخطو داخل المصعد، فلم تجد منى بُدًا من الخروج..
هبط المصعد سريعًا وتركها حيث هي، في الطابق الثالث..
كان الطابق كله مضاءً واللافتات معلقة في كل مكان.. تلفتت حولها في توترٍ مغمغمة: يا إلهي !! ما الذي جاء بي إلى هنا؟! يبدو أن بسمة كانت على حقٍ في اعتقادها بأنني مجنونة!
وقعت عيناها في هذه اللحظة على اسمه المكتوب على لافتةٍ مضيئةٍ كبيرة بجوار أحد الأبواب المفتوحة..
لقد كانت على حق.. العيادة ليست مغلقة!
تقدمت بخطواتٍ مرتجفة.. لم تدرِ لِمَ تشعر بكل هذا الانفعال رغم اقناعها نفسها بأن الأمر بسيط.. ستلقي سؤالها وتنصرف ولن يستغرق هذا أكثر من دقيقةٍ واحدة..
وهكذا.. التقطت نفسًا عميقًا ودخلت..
كان المكان واسعًا.. بسيطًا وأنيقًا.. باردًا كما الجو بالخارج و.. وخالٍ..
كان هذا هو انطباعها الأول عن المكان، انتبهت بعدها إلى ذلك المكتب الصغير وإلى من تجلس خلفه.. كانت ممرضةً في منتصف العمر تقريبًا تحمل ملامح غير مريحةٍ على الإطلاق وتجلس منهمكةً في كتابة شيءٍ ما..
تنحنحت منى في ارتباك، فرفعت الممرضة نظرها إليها لحظةً ثم عادت تنظر إلى ما تكتب وكأنها لم ترَ شيئًا!
زاد هذا من ارتباكها، لكنها تقدمت منها قائلةً في خفوت: إذا سمحت..
عادت الممرضة تنظر إليها بتساؤل، فتابعت منى: كنت أريد السؤال عن د. عمرو.. أقصد متى سيعود من سفره بالضبط؟
مطت الممرضة شفتيها بلا مبررٍ وقالت بلهجةٍ روتينية وهي تعاود الكتابة: لقد عاد.
ارتفع حاجبا منى بتفاجؤ ودق قلبها بقوة، في حين أكملت الممرضة بلهجةٍ جافة: لكنه لن يبدأ الفحوصات اليوم، بل غدًا ابتداءً من الساعة الخامسة.. وأظن أن هذا مكتوبًا على تلك الورقة المعلقة هناك والتي مررت بجوارها للتو.
كانت منى تواصل التحديق في الممرضة وانفعالاتٌ شتى تجتاحها حتى أنها لم تعي عباراتها التالية..
لقد عاد!
هذا فقط ما سمعته.. هذه العبارة فقط هي التي اخترقت عقلها وكيانها تاركةً حقيقةً واحدة..
عمرو عاد أخيرًا!
وجدت نفسها تقترب من المكتب الصغير وتعاود سؤال الممرضة: هل عاد حقا؟!
زفرت الممرضة في ضجرٍ ولم ترد، فكررت منى بانفعال: أخبريني أرجوك.. هل عاد د. عمرو بالفعل؟
ألقت الممرضة بالقلم الذي تمسكه على المكتب وأجابتها بعصبية: أجل عاد.. لقد قلت هذا من قبل.. عاد منذ ساعةٍ واحدة، ولكن لا فحوصات اليوم.. أهذا صعب الفهم؟!
التقى حاجبا منى بتوترٍ وتراجعت أمام اللهجة العنيفة التي تخاطبها بها الممرضة والتي أكملت بنفس الحدة والعصبية: والآن هل من الممكن أن تتركيني أمارس عملي وتعودي غدًا.. وأكرر.. الدكتور لن...
- لا بأس.
انطلقت تلك الكلمة تقاطع كلام الممرضة بغتة يحملها صوت قائلها القوي الهادئ..
انتفضت منى انتفاضةً غير ملحوظة وقد ميزت الصوت على الفور..
التفتت بسرعة لتجده أمامها، فتسمرت حيث هي وموجةٌ من الانفعالات المعقدة تجتاحها كلها..
أهو اشتياقٌ أم لهفة.. أم ولعٌ ولوعة ذلك الذي يضج به قلبها الآن.. ربما جميعهم!
وبسبب أيهم اندفعت دموعها لتحتشد أمام عينيها.. لا تعرف حقًا!
كان عمرو قد وصل بالفعل منذ ما يزيد قليلًا عن الساعة.. ورغم شعوره بالإرهاق من وعثاء السفر، فضّل أن يأتي إلى العيادة أولًا ليعيد ترتيب أموره كي يباشر عمله سريعًا بعد ذلك الانقطاع..
لم يستغرق هذا منه الكثير من الوقت، إلا أن هطول الأمطار أطال فترة مكوثه في انتظار أن تهدأ قليلًا..
وعندما قرر المغادرة، رأى الممرضة تتحدث بعصبيةٍ إلى فتاة حسبها هو مريضةً تطلب الدخول للطبيب!
كان يشعر بإرهاقٍ شديد، لكنه ما إن لاحظ ملابسها المبتلة حتى عدل عن فكرة الذهاب الآن، فمن يجازف بالخروج في هذا الطقس إلى طبيب فلابد أنه يحتاجه بشدة، وهو لم يعتد أن يخذل أحدًا يحتاجه..
شعر منذ الوهلة الأولى أنه رآها من قبل، لكنه لم يذكر متى وأين.. لاحظ أيضًا ملامحها المرهقة وعينيها المحمرتين.. ولدهشته، لمح فيهما دموعًا تترقرق.. أهي متعَبةٌ للدرجة التي تدفعها للبكاء؟!
همّ بقول شيءٍ ما عندما اندفعت الممرضة تقول: د. عمرو.. لقد أخبرتني أنك سـ...
رمقها عمرو بنظرةٍ صارمة أخرستها، فابتلعت لسانها على الفور وهي تمط شفتيها في اعتراض، بينما عاد هو بنظره إلى منى قائلًا: تفضلي.
لم تفهم منى ماذا يعنى بالضبط، فمنذ أن وقع بصرها عليه وهي فاقدة التركيز في أي شيءٍ عداه!
طالعته بارتباكٍ واضح، ثم لم تلبث أن فهمت الأمر دفعةً واحدة فتضاعف ارتباكها ولم تدرِ ماذا تفعل، في حين دخل هو إلى غرفة الفحص في انتظار أن تتبعه..
أدركت أنها زجت بنفسها في مأزقٍ غير عادي، حتى أنها لم تشعر في حياتها بارتباك كالذي شعرت به وهي واقفة تنظر إلى باب تلك الغرفة حيث دخل عمرو عاجزةً عن اتخاذ أي قرار..
هل تتبعه؟
مستحيل.. هي ليست مريضةً كما يحسبها، ولا تستطيع ادعاء المرض لأنه سيكتشف على الفور أنها كاذبة.. ثم إنه طبيب أمراض قلب، فماذا يمكنها أن تقوله له؟ قلبي مريضٌ بحبك!!
هل تتركه وتذهب بسرعة قبل أن تتورط أكثر؟
ستكون هذه حماقة وستبدو كالبلهاء أمامه وأمام تلك الممرضة الشمطاء..
ماذا تفعل إذًا؟!
إنه حتى لا يمكنها...
مهلًا.. مهلًا..
لِمَ كل هذه السلبية؟
أليس هذا هو عمرو الذي ظلت لأسبوعٍ كامل تتحرق شوقًا لمجرد رؤيته؟!
ألم يمنحها هو دون أن يشعر فرصةً لا لرؤيته فقط، بل للتحدث معه والبقاء بصحبته عدة دقائق؟!
حتى هي.. أتت إلى هنا دون أن تدري أنها ستلقاه؟ بل دون أن تدري أنه عاد من سفره أصلًا.. أليست هذه فرصةً لن تتكرر؟!
أفبعد كل هذا تفكر في الذهاب؟! هذا هو المستحيل بعينه..
دارت كل هذه الأفكار في ذهنها في لحظةٍ واحدة، وفي اللحظة التالية كانت تتجه إلى حيث دخل وهي تنوي أن تجعله يراجع كل ما درسه في حياته كلها حتى يُشخص ما ستدعيه.. وفي أعماقها قالت: لا بأس بأن تجرب بعض الحيرة يا عمرو.
و.. ودخلت..
كانت الغرفة دافئةً إلى حدٍ كبير، مما أراحها قليلًا وقلل من شعورها بالبرد..
أغلقت الباب بهدوء وهي تلتقط نفسًا عميقًا متمنيةً أن تستطيع السيطرة على ارتباكها وردود أفعالها..
ترى هل لديها الجرأة لفعل ذلك حقًا؟ أم...؟
التقى حاجباها فيما يشبه التحدي والتفتت..
كان يجلس خلف مكتبه وقد خلع معطف المطر الذي كان يرتديه منذ لحظاتٍ وعلقه جانبًا..
بابتسامةٍ مرتبكة قالت: من الممكن أن آتي غدًا لو أنك...
قاطعها في هدوء وهو يشير إليها بالجلوس: لا مشكلة.. لم أكن متعجلًا.
جلست على المقعد المجاور لمكتبه وهي تمنع نفسها من الابتسام في سعادة بصعوبة..
"لكم افتقدتك"
كان هذا ما طفق قلبها يبثه داخلها مع كل نبضةٍ من نبضاته المتزايدة..
وفي صمت جرت عيناها فوق ملامحه، في حين تراجع هو في مقعده وتظاهر بالانشغال في بعض الأوراق..
كان في الواقع يمنح نفسه بضع لحظاتٍ للتفكير محاولًا تذكر أين رآها من قبل..
لم تكلل محاولته بالنجاح، فرفع عينيه إليها وسألها على نحوٍ مباشر: هل سبق لك زيارة العيادة من قبل؟
انتبهت مع عبارته وتذكرت ما غفلت عنه في غمرة تفاجئها بوجوده.. حادث السيارة!
يبدو أنه لا يذكرها!
شعرت لحظةً بالإحباط، لكنها تجاوزت ذلك وقالت وهي تهز رأسها نافية: كلا.. إنها زيارتي الأولى.
لم يُرحه جوابها.. فهذا يعنى أنه إما رآها في مكانٍ آخر لا يذكره، أو أن الأمر اختلط عليه..
نحّى هذا جانبًا، ثم اعتدل في مقعده قائلًا: حسنًا يا آنسة ...
قطع عبارته على نحوٍ متسائل، فقالت بابتسامةٍ صغيرة: منى.
أكمل بلهجةٍ روتينية: حسنًا يا آنسة منى.. مما تشتكين؟
عاد قلبها الأحمق يدق في قوة وهي تسمعه يخاطبها باسمها لأول مرة.. كادت تبتسم مرةً أخرى لكنها انتبهت إلى أنه يسألها.. عليها أن تفكر في إجابةٍ سريعة..
صمتت تحاول التفكير في أي شيءٍ تقوله، إلا أن كل الأفكار هربت! وكلما حاولت أن تستجمع تركيزها تجده يتشتت بمجرد أن تقع عيناها على عينيه والتي حملت تساؤله المنتظر..
في الواقع.. طال صمتها حتى أنه قال في دهشة: آنسة منى.. أنا أُحدثكِ!!
انتفضت انتفاضةً خفيفة وقالت: آه.. أجل أعلم.. ولكن.. ولكن ذلك الألم عادوني بغتة.
التقى حاجباه في تساؤل منتظرًا أن تفصح له عن المزيد، فالتقطت نفسًا عميقًا واستعدت للكذبة الكبرى!
قالت وهي تتحاشى النظر لعينيه: ألمٌ غريب يراودني منذ فترةٍ قصيرة أشعر به فجأةً ودون مقدمات.
بدا الاهتمام على وجهه وهو يعاود السؤال: وأين تشعرين به بالضبط؟!
تأملت ملامحه المهتمة وهي تجيب: في مكانٍ ما داخل صدري.. أحيانًا أشعر أنه من مكان القلب وأحيانًا لا أدري من أين يصدر بالتحديد.
بدأ عمرو يرتب المعلومات في ذهنه، ثم قال وهو ينهض: وما مداه؟
هزت كتفها وقالت منتقيةً إجابة غير شافية : ليس شديدًا، وليس بسيطًا إلى الحد الذي يمكن تجاهله.
أومأ برأسه متفهمًا رغم أنه كان يتوقع كون ما تعانيه شيئًا طارئًا وحادًا إلى الحد الذي يدفعها لتخرج في مثل هذا الطقس وتبدو بمثل هذا الإجهاد، لكنه قال وهو يلتقط سماعته الطبية: حسنًا.. هلّا سمحت لي بفحصك.
قالها ثم أشار إلى فراش فحصٍ صغير في ركن المكان..
التفتت منى وسقط قلبها بين قدميها.. لم تتصور أن الأمر قد يحتاج فحصًا !
وجدت نفسها تهتف: كلا.
بدت عليه الدهشة، فعادت تقول وهي تحاول السيطرة على اضطرابها: أ.. أنا أخاف من فراش الفحص هذا.. كلا.. ليس هذا فقط، بل جميعهم.. جميعهم لا أحبهم.
ردد بنفس الدهشة: لا تحبينهم؟!
التقى حاجباها في توترٍ وهي تقول: لم أقصد هذا بالضبط ولكن.. لا يمكنني فعلًا الرقود عليه.. لا أدري ماذا يصيبني عندما أفعل.. شيءٌ ما يمكن أن تعتبره خوفًا مرضيًا ارتبط بذهني منذ كنت صغيرة.
ظل عمرو على دهشته لحظات، ثم قال: ولكن كيف سـ......
قاطعته منى: أرجوك!
شعر عمرو بالحيرة ولم يبد عليه أنه اقتنع كثيرًا بما قالته.. هي نفسها شعرت بسذاجة حجتها، لكنها كانت أول ما مر بعقلها..
وبحركةٍ تلقائية - تعرفها جيدًا - مرر أصابعه في شعره وأطلق زفرةً عميقة..
بعد برهةٍ من الصمت قال وهو يشير إلى ركنٍ آخر: حسنًا.. ما رأيك في ذلك المقعد هناك.. إنه مقعدٌ عادي جدًا لا يشبه فراش الفحص لا من قريبٍ ولا من بعيد.
بدا عليها التردد، فأكمل في جدية: آنستي.. أنا طبيب.. ولا يمكن لأي طبيب أن يُشخص أي مرض اعتمادًا على كلام المريض فقط، لابد من أن يفحصه بنفسه وإلا...
قاطعته مرةً أخرى في خفوت: أنا لم أعترض.
كانت قد أدركت أنه لم يعد هناك مفر.. لقد بدأت الأمر بإرادتها وعليها أن تكمله حتى النهاية.. ثم ماذا سيحدث؟ سيعرف أنها لا تعاني شيئًا.. فليكن.. المهم أنها الآن بصحبته، ولا شيء يهمها حقًا غير ذلك..
نهضت ببطءٍ وتحركت نحو ذلك المقعد حيث أشار.. كان وثيرًا مريحًا أشعرها بأنها تغوص فيه.. أما هو، فقد جذب مقعدًا صغيرًا وجلس أمامها تمامًا و...
عادت تتوتر وخفقات قلبها تتواثب.. لقد أصبح هكذا قريبًا.. قريبًا للغاية..
تعلقت عيناها بعينيه دون أن تشعر، وأفلتت نظراتها نحوه من سيطرتها..
وقد لاحظ!
ما إن جلس حتى لاحظ نظراتها المباشرة..
طالعها في حيرة، وعلى الرغم منه عاوده ذلك الشعور بأنه رأى هذه الملامح وهاتين العينين من قبل.. لقد أصبح متأكدًا من أن الأمر لم يختلط عليه أبدًا.. لقد رآها من قبل بالفعل لكن أين ومتى، لا يذكر..
شعر بنظراتها تشده فعلًا حتى أنه نسيَ ما كان يريد قوله، فتنحنح وهو ينتزع نفسه منها بصعوبة، ثم قال وهو يعاود التركيز منحيًا أمر التذكر هذا جانبًا: قلت أنك تشعرين بذلك الألم منذ لحظات.. أمازال يراودك؟
أومأت برأسها إيجابًا في صمت، فالتقط معصمها ليقيس نبضها، لكن ما إن لامس يدها حتى غمغم: يدك باردةٌ كالثلج رغم دفء الغرفة.
قالها وهو يضم كفيه حول كفها وكأنما يمنحها بعض الدفء لتجري فيها الدماء، ثم تحركت أصابعه لتجس نبض شريان معصمها..
حقًا.. أرادت أن تسحب يدها من بين يديه، لكنها - وحقًا أيضًا - لم تفعل!
عقلها أطلق أمرًا لم تستجب له يدها.. فقط شعرت بالدماء تتجمع في وجنتيها ودفء كفيه ينساب لا إلى يديها فقط، بل إلى روحها وكيانها كله..
لم ينتبه بالطبع إلى أن ما فعله بتلقائيةٍ وباعتباره شيئًا عاديًا، كاد يصيبها بسكتةٍ قلبية.. ولم ينتبه أيضًا إلى وجهها الذي أحمر كثمرة طماطم.. ما شد انتباهه فقط هو معدل نبضها السريع جدًا الذي لا يُناسب على الإطلاق من يراها تجلس هادئةً مسترخية على مقعدٍ وثير..
أن يكون هذا بسببه ولأجله، كان بالطبع أبعد ما يكون عن تفكيره الذي يبحث الآن عن تفسيرٍ علميٍ مقنع.. وفي رأيه لا أحد ينبض قلبه بهذه السرعة - باستبعاد وجود مشاكل في عضلة القلب نفسها - إلا في حالتين.. عندما يبذل مجهودًا عنيفًا أو يعاني انفعالًا شديدًا، وهو لا يراها الآن في أيٍ من الحالتين..
وفي حيرة رفع عينيه إليها متسائلًا: أأنت متوترة؟
حركت رأسها نافيةً ببطء، فعاد يسأل: خائفة؟
قالت في خفوت: كلا.
ترك معصمها ثم تراجع في مقعده وهمّ بقول شيءٍ ما، لكنها عادت تقول بنفس الخفوت: ربما أكون متوترة قليلًا.
قال بابتسامةٍ هادئة: لا داعي لذلك صدقيني.
التقط جهاز قياس الضغط ولفه حول ذراعها، بينما واصلت تطلعها الصامت إلى وجهه..
وفي أعماقها وُلد سؤالًا انتقل إلى لسانها فأطلقه بلا تفكير: كم تبلغ من العمر؟
ارتفع حاجباه في دهشةٍ وتفاجؤ وحملت لهجته بعض الاستنكار وهو يقول: ماذا؟!!
ظلت تنظر إليه بصمتٍ متسائل، فحدق فيها مندهشًا لا يدري من أين أتى هذا السؤال، وما الداعي له؟
استغرق برهةً ليتصنع البساطة قائلًا: بضعًا وثلاثين تقريبًا.. لكن.. لماذا تسألين؟!
كان من الواضح أن منى قد نسيت نفسها تمامًا وهي تقول بذات الخفوت وعينها لا تزال متعلقةً بوجهه: تبدو أصغر من ذلك.
تصاعدت دهشته إلى الذروة، لكنه لم يسمح لها أن تطفو على ملامحه هذه المرة، بل ظل محتفظًا بنفس الهدوء والبساطة وكرر وهو ينظر لعينيها مباشرة: لماذا تسألين؟؟
أعادها تساؤله إلى الواقع، فغمرها ارتباكٌ عنيف - لم تخطئه عيناه - من قمة رأسها وحتى أخمص قدميها ولم تجد سوى أن تقول بابتسامةٍ مرتبكة: فضول.
لم يعلق، وبالطبع لم يقتنع.. هناك شيءٌ غير منطقي في هذه الفتاة.. شيء ما لا يدري كنهه بالضبط..
وكعادته أثناء العمل، نحى أفكاره جانبًا وعاد يركز في قياس ضغط دمها، فوجده طبيعيا جدًا.. بل مثاليًا!
أزاح السماعة الطبية عن أذنيه وانهمك في التفكير لحظات وهو يحل الجهاز عن ذراعها، ثم عاد يضعها ويمسك طرفها ملتفتًا إليها.. فهمت ما يهمّ بفعله، فقالت في ذعر: أنا...
قاطعها في لهجةٍ تحمل رغم هدوئها لمحةً واضحة من الحيرة: هل تخافين من هذه أيضًا؟!
تغضن حاجباها في توتر واحمر وجهها ولم تدرِ بماذا تجيبه، فعاد هو يقول مانحًا إياها ابتسامةً مشجعة: لا تخافي.. سماعتي هذه لها ميزةٌ مهمة جدًا، وهي أنها تعمل جيدًا من فوق الملابس.
ثم عقد حاجبيه في حزمٍ وهو يكمل: أما عيبها الوحيد، فهو أنه لابد منها دائمًا.
ودون أن يمنحها فرصةً أخرى للاعتراض، وضع السماعة على صدرها في مكان القلب تمامًا..
انتفضت انتفاضةً ملحوظة جعلته يقول: اهدئي أرجوك وحاولي التنفس بعمق.
انتابتها موجةٌ عنيفة من التوتر شلت تفكيرها تمامًا ووجدت نفسها تغمض عينيها وتغوص في مقعدها أكثر وكأنما تحاول الهروب منه، بينما تجمعت دماء جسدها كله في وجهها..
ولدقيقةٍ كاملة مرت عليها كعام، أصغى عمرو لما يسمعه في اهتمام وهو ينظر إلى الأرض ويحرك سماعته حركاتٍ محدودة.. لكنه لم يجد شيئًا.. بالطبع!!
قلبها سليمٌ مائة بالمائة وينبض على نحوٍ طبيعي جدًا، بل طبيعيٍ للغاية، على الرغم من ذلك المعدل السريع المضطرب لخفقاته والذي قد يسبب أحيانًا آلامًا خفيفة.. وهذا يعني أن سبب هذه الخفقات السريعة ليس مرضيًا بالمرة ولا يتعلق بعضلة القلب نفسها إطلاقًا بل يتعلق بأمر انفعاليٍ ونفسيٍ بحت..
ولكم كان تفسيره هذا صحيحًا برغم أنه مازال يراه من زاويةٍ مختلفة تمامًا عن الواقع..
افترض أيضًا أن لديها رهبةً زائدة تجاه التعامل مع الأطباء أو دخول العيادات والمستشفيات.. هو نفسه قابل أشخاصًا كُثر يعانون من الشيء نفسه، صحيحٌ أنها تبدو مختلفة، لكن من قال أن انفعالات الناس تتشابه..
واصل الاستماع لخفقات قلبها للحظةٍ إضافية ثم رفع عينيه إليها وهّم بقول شيءٍ ما، لكنه وجدها تغمض عينيها بقوة، محمرة الوجه ومنكمشةً على نفسها، وكأنما هي طفلةٌ صغيرة أخبرتها أمها أنها ستعاقبها لأنها لم تشرب اللبن! ابتسم على الرغم منه وهو يبعد السماعة، ووجد نفسه يتأمل ملامحها شاعرًا بأنها تبدو رقيقةً للغاية هكذا..
أخذه شعوره هذا حتى أنه لم ينتبه إلى أنها ستفتح عينيها حتمًا عندما تشعر أنه ابتعد بسماعته..
وقد فعلت..
فتحت عينيها لتجده يتأملها مبتسمًا.. و...
وتلاقت العيون للحظة..
لحظةٌ قصيرةٌ بالنسبة للزمن.. طويلةٌ بالنسبة لها!
وربما له!!
تضاعف احمرار وجهها.. وغمره هو شعورٌ بارتباكٍ عجيب لم يشعر بمثله من قبل، فتراجع في مقعده وهو يزيح السماعة عن أذنيه ليتركها معلقةً حول رقبته..
غلفهما الصمت لحظات، قام بعدها عمرو من مكانه وجلس خلف مكتبه، ثم قال في هدوء وهو يشير لها بالجلوس على المقعد المجاور للمكتب: في الواقع يا آنسة منى قلبك سليمٌ وطبيعي جدًا ولا يعاني من أي اضطراباتٍ على الإطلاق.
عاد توترها يتزايد، وتوقعت أن تكون العبارة التالية "أنت كاذبة وتضيعين من وقتك ووقتي"، لكنها وكمحاولةٍ أخيرة لتبدو صادقةً أكثر، قالت متصنعةً القلق: وما سبب ذلك الألم الذي أشعر به إذًا؟
مط شفتيه وقال: الأرجح أنها أسبابٌ غير عضوية.
بدا عليها الاستغراب ، فأكمل هو يميل بجسده إلى الأمام: أيتزامن ذلك الألم مع لحظات انفعالٍ أو ضيق؟
فهمت ما يقصده بسؤاله فتنفست الصعداء.. لم تتوقع أن يكون هناك تشخيصًا لذلك الهراء الذي تفوهت به، ويبدو أن انفعالاتها المنفلتة هي ما قادته لذلك التفسير..
أومأت برأسها إيجابًا تدعم استنتاجه، ثم أضافت تؤكده: اليوم هاجمني قويًا بعدما شعرت بضيقٍ شديد.
سأل في اهتمام: وما كان سببه؟!
لا تدري لمَ قفزت إلى ذهنها بغتة مع سؤاله ذكرى نتائج الاختبارات، فتغضن حاجباها وتراجعت في مقعدها ولمحة حزنٍ وضيق واضحة ترتسم على ملامحها، ثم أشاحت بوجهها دون أن تحر جوابًا..
شعر عمرو أن سؤاله لم يكن مناسبًا، وقبل أن يجد ما يمكنه قوله ليبتعد بالحديث في اتجاهٍ آخر، رفعت هي رأسها ليطالعه وجهها الذي احمّر قليلًا وعيناها التي التمعت بدموعٍ حبيسة منحتها بريقًا زاد من جمالها، بينما تقول بخفوت: كان خبرًا سخيفًا ضايقني كثيرًا.
أراد أن يسألها عن شعورها ساعتها بذلك الألم، إلا أنه وجد نفسه يقول في خفوتٍ كخفوتها وعيناه متعلقتان بعينيها: هل رأيتك من قبل؟!
أدهشها سؤاله بشدة، وأدهشتها أكثر لهجته الحائرة..
طالعته بصمتٍ طال لبرهة لفظ خلالها قلبها كل ما خيّم عليه بغتة من ضيقٍ وحزن، ولم يعد يشعر سوى به..
- لـ... لا أذكر ذلك.
أتاه جوابها الخافت نفيًا، فازدادت حيرته.. ورغم ذلك، لم يتزحزح شعوره بالإثبات!
لقد التقاها من قبل بالفعل..
هذا الوجه الخمري..
هذه الملامح الرقيقة..
هاتان العينان الواسعتان..
تلك النظرة الـ....
تصاعد رنين هاتفه الخاص في هذه اللحظة ينتزعه من أفكاره، فانعقد حاجباه في ضيق ومد يده في سرعة يلتقطه من جيبه ليلقى نظرةً على شاشته.. لم يكن اتصالًا مهمًا لذا لم يُجبه، لكنه أخرس رنينه..
وبينما يفعل، شعر أنه لم يكن ينبغي أن يستغرق في أفكارٍ جانبية على هذا النحو، فطرد هذه الأفكار من عقله طردًا، ثم وبصوتٍ استعاد هدوءه الحازم قال وهو يعيد هاتفه إلى جيبه: كما سبق وأخبرتك آنسة منى.. سبب الألم الذي تشعرين به ليس عضوي بالمرة، فقلبك لا يعانى من أي قصورٍ أو اضطرابات في وظائفه، ولهذا أعتقد أن سببه نفسي بالدرجة الأولى.
شعرت منى بضيقٍ غير مبرر عندما عاد حديثه يصطبغ بتلك اللهجة العملية الهادئة، فقالت تحاول إطالته وحسب: أيعني هذا أني أعاني من مشكلةٍ نفسية ما؟!
- كلا.. لم أقصد هذا.. وإنما قصدت أن شعورك به يتعلق بلحظات انفعالك الشديد.
طالعته بصمتٍ جعله يعتقد أنها لم تفهم بعد ما يعنيه، فالتقط نفسًا عميقًا وقال: لست أدري كيف أشرح لك الـ...
قاطعته في هدوء: أنا أفهم ما تعنيه بالتأكيد فأنا طالبة في السنة النهائية من كلية الصيدلة، لكننا لا ندرس هذه الأشياء كما تدرسونها أنتم.
ابتسم قائلًا: الأمر ليس عميقًا أو معقدًا إلى هذا الحد.
ثم أتبعه قوله بشرحٍ مختصر امتلأ عن آخره بالمصطلحات الإنجليزية وكأنما أراحته معرفته بطبيعة دراستها من عناء الترجمة، فشعرت هي للمرة الأولى في حياتها كم كان اختيارها لكلية الصيدلة مناسبًا!
ومع انتهاء حديثه تراجعت في مقعدها مغمغمة: لستُ انفعاليةً إلى هذا الحد.
هز كتفه وابتسم قائلًا: ربما.. لكن لقلبك رأيٌ آخر، بل وأعلن إرهاقه من إجهادك له بالانفعال في صورة ذلك الألم.
"وماذا يفعل وأنت سبب كل مشاكله!"
قالتها لنفسها بالطبع تصحبها زفرةٌ عميقة، ثم ابتسمت ابتسامةً باهتة وقالت: يبدو أنني أمتلك قلبًا ذا شخصيةٍ قوية.
قال في مرح: ولهذا يجب أن تطيعيه وتبتعدي عن الانفعالات.
أجل.. يجب أن تطيعه..
هذا ما شعرت به مسبقًا وما أيقنت منه الآن بكل جوارحها..
لا تدري كيف، لكنها ستفعل.. لا تدري إلى متى، لكنها حتمًا ستفعل..
قطع صوته أفكارها قائلًا: يمكنك أن تطمئني أكثر بعمل رسم قلب.
قالت في هدوء: لا داعي لذلك إطلاقًا.. أنا أثق بك.
منحها واحدةً من ابتساماته العذبة، فمنحته واحدةً من ابتساماتها الرقيقة وقالت: شكرًا لك.
كانت تعلم أن وجودها معه يمر بلحظاته الأخيرة، فغادرت مجلسها ثم أجبرت نفسها على الالتفات واتجهت بسرعة نحو الباب، إلا أن نفسها خانتها ودفعتها لتلتفت مرةً أخرى إليه تسأله: هل من الممكن أن أتناول بعض المهدئات؟
لم تكن تبغي من سؤالها سوى الوقت الذي يستغرقه، لكنه أجاب في سرعةٍ وحزم: كلا.. المهدئات ليست مفيدةً على الإطلاق في حالتك هذه.. فقط ابتعدي عن الانفعالات قدر الإمكان.
أومأت برأسها متفهمةً وهمّت بالمغادرة، لكنه استوقفها قائلًا بابتسامةٍ أنيقة: أعتقد أن هناك ما يمكن أن يفيدك.
ثم التقط قلمه وخط شيئًا ما على ورقةٍ أمامه مد يده بها إليها مردفًا: يمكنك استخدامه عندما تشعرين بذلك الألم يعاودك.
تناولت الورقة وألقت نظرةً على ما بها ليرتفع حاجباها في دهشة..
لم يكن ما خطه بالإنجليزية، لكن هذا لم يكن السبب الوحيد لكونه لا يصلح لأن يكون اسم دواءٍ بأي حالٍ من الأحوال..
"اهدئي"
هذه الكلمة فقط هي ما حوتها الورقة ودفعتها لترفع إليه عينيها المندهشتين، فطالعها وجهه المبتسم..
كللت شفتيها ابتسامةٌ كبيرة وقالت: سيكون حتمًا مفيدًا.

1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.