-----------------
تَوَقَّفْتُ أَمَامَهُ بِصُعُوبَةٍ تَلْتَقِطُ أَنْفَاسُهَا الَّتِي فَقَدَتْهُمْ وَ هِيَ تُحَاوِلُ الرَّكْضَ مُسْرِعَةً, هِيَ تَوَدُّ إِعْطَائِهِ جَوَابَهَا الَّذِي أَخَذَتْ تَفَكُّرٌ فِيهُ لِلَيَالٍ طَوِيلَةٍ.
أَخَذَتْ نَظْرَةٌ خَاطِفَةٌ لِمَلَامِحِ وَجْهِهِ تَبِينُ فِيهَا أَنَّهُ قَلِقٌ مِنْ إِجَابَتِهَا, كَيْفَ لَا وَ جَوَابُهَا سَيُحَدِّدُ مَصِيرَهُمَا مَعًا, فَإِمَّا يَبْقَيَانِ مَعًا كَالرُّوحِ الوَاحِدَةِ دَوْمًا وَ إِمَّا يَفْتَرِقَا لِلأَبَدِ.
شَبَكْتَ يَدَيْهَا بِبَعْضِهُمْ وَرَاءَ ظَهْرِهَا بَلَعْتَ رِيقَهَا ثُمَّ قَالَتْ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ "جَادَ, هَلْ تُحِبُّنِي؟"
رَفْعُ رَأْسِهِ لِيُقَابِلَ وَجْهَهَا اللَّطِيفَ بِمَلَامِحِهِ المُجْذَبَةِ, عَيْنَاهَا تَتَشَوَّقُ لِمَعْرِفَةِ الجَوَابِ, أَمَّا أَنْفَاسُهَا فَأَصْبَحْتُ مُتَضَارِبَةٌ
"أُحِبُّكِ؟ أَه أَنْتِ تَظُنِّينَ ذَلِكَ لِأَنَّنِي أَخْبَرْتُكَ مُسْبَقًا أَنَّنِي أَظُنُّ أَنَّنِي أُحِبُّكَ؟"
هَزَّتُ رَأَّسَهَا وَ عَيَّنَاهَا لَمْ تُسْقِطْ عَنْهُ, جَالَ بِعَيْنَيْهِ المَكَانِ الَّذِي يَقِفَانِ فِيهُ, مَرَجٌ أَخْضَرُ مُلَوِّنٌ بِشَتَّى أَنْوَاعِ الزُّهُورِ خَاطِفَةِ الأَنْظَارِ, ثُمَّ أَعَادَ النَّظَرُ لَهَا وَ الاِرْتِبَاكُ بِآنٍ عَلَى وَجْهِهِ
"اِعْتَقَدَ أَنَّكِ فِهِمْتِي الأُمُورَ بِطَرِيقَةٍ خَاطِئَةٍ"
" مَاذَا تَقْصِدُ "قَالَتْ وَ لَمَعَانُ عَيْنَيْهَا بُهْتٍ كَثِيرًا
" أَرَدْتَ الزَّوَاجَ لِأَنْ وَالِدِي طَلَبَ مِنِّي أَنْ أَتَزَوَّجَ بِسُرْعَةٍ لَيْسَ لِأَنَّي أُحِبُّكِ وَأَخْبَرْتُكِ بِذَلِكَ لِأَنَّ وَالِدِي عَيْنُ أَحَدِهُمْ لِمُرَاقَبَتِي, الزَّوَاجُ بِي أُمٌّ لَا بِيَنِ يَدَيْكِي الآنَ, لَا أُرِيدَ أَنْ أَجْعَلَكِ تَعِيشِينَ فِي أَوْهَامٍ, لِذَا قَرَّرَتْ أَخْبَارُكَ الحَقِيقَةَ"
صَمَتْتَ وَ هِيَ تُحَاوِلُ رَبْطَ كُلُّ شَيْءٍ بِبَعْضِهِ, هَلْ هَذَا هُوَ الأَمْرُ إِذَا ؟ هُوَ لَمْ يُحِبَّهَا, جَوَابُهَا الَّذِي حَضْرَتُهِ أَمْسِ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى جَوَابِهِ الآنَ, إِنْ كَانَ يُحِبُّهَا فَهِيَ سَتُوَافِقُ عَلَى الزَّوَاجِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّهَا فَلَا نُصِيبُ لَهُمَا مَعًا.
"فَهِمْتُ الأَمْرَ, لَكِنْ جَادَ أَنَا أُرِيدُ الزَّوَاجَ بِشَخْصٍ يُحِبُّنِي لَا شَخْصَ يُرِيدُ الزَّوَاجَ بِي لِأَنَّ وَأَلِدَّةٌ قَدْ طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ, آسِفَةُ طَلَبُكَ مَرْفُوضٌ" قَالَتْ وَ هِيَ تَخْطُوَا لِلوَرَاءِ وَ تَبْتَعِدُ عَنْهُ.
++
دَخَلَتْ غُرْفَتَهَا وَ هِيَ تُفَكِّرُ مَلِيًّا بِالَّذِي حَدَثٌ, هِيَ خَائِبَةٌ الأَمَرُّ قَلِيلًا, لَكِنَّ جَانِبًا مِنْهَا سَعِيدُ أَنَّهَا لَمْ تُوَافِقْ عَلَى طَلَبِهِ. نَادَتْ عَلَى خَادِمَتِهَا الخَاصَّةُ لِتُحْضِرَ لَهَا حَمَّامًا سَاخِنًا لِتَسْتَمْتِعَ بِهِ وَ تُصَفَّى ذِهْنَهَا قَلِيلًا. جَلْسَتُ فِي الحَوْضِ وَ الدُّخَانِ يَخْرُجُ مِنْ المِيَاهِ السَّاخِنَةُ يَجْعَلُهَا تَتَصَبَّبُ عَرَقًا, أَحْنَتْ رَأْسَهَا لِلخَلْفِ مُغْلَقَتَا عَيْنَاهَا, ثُمَّ غَرِقَتْ فِي بَحْرِ أَفْكَارِهَا.
أَتَى لِذَاكِرَتِهَا مَشْهَدٍ لَا تَكَادُ تَتَذَكَّرُهُ, لَامَسْتَ شَفَتَيْهَا شِفَاهِ شَخْصٍ آخَرَ, أَحَسَّتْ بِهِ كَأَنَّهُ حَدَثَ لِلتَّوِّ, فَتْحَتُ عَيْنَاهَا بِصَدْمَةٍ وَ هِيَ تَنْظُرُ مِنْ حَوْلِهَا, لَا أَحَدَ. مَا الَّذِي حَدَثَ! تسائلت بِاِسْتِغْرَابٍ, هَلْ الَّذِي حَدَثٌ حَقِيقِيٌّ أَمْ إِنْ هَذَا خَيَالُهَا, لَقَدْ قِبْلَتَ أَحَدٌ مَا, لَكِنَّهَا لَا تَعْلَمُ مِنْ! أَوْ حَتَّى مَتَى حَدَثٌ, هِيَ لَمْ تُقَبِّلْ أَحَدًا فِي حَيَاتِهَا, أَرَادَتْ إِعْطَاءَ قِبْلَتِهَا الأُولَى لِشَخْصٍ يَسْتَحِقُّهَا هِيَ, الشَّخْصُ الَّذِي تُحِبُّهُ وَ يُحِبُّهَا.
هَزَّتْ بِرَأْسِهَا نافية حُدُوثَ أَمَرَّ كَهَذَا رُبَّمَا هِيَ مُحْبِطَةٌ عَاطِفِيًّا, رُبَّمَا, أَقْنَعَتْ نَفْسَهَا بِأَنَّ هَذَا هُوَ الأَمْرُ, أَنَّ كُلَّ هَذَا خَيَالٌ.
+++
فَتَحْتُ كِتَابًا لِتَقْرَأَهُ بِهُدُوءٍ فِي حَدِيقَةِ القَصْرِ, لَكِنَّهَا سُرْعَانَ مَا رَمَتْهُ لِشُعُورِهَا بِالمَلَلِ, رُوتِينهَا اليَوْمِيُّ مُمِلٌّ, أَلْقَتْ نَظْرَةٌ عَلَى حَارِسِهَا الَّذِي لَا يُنْطِقُ أَيَّ كَلِمَةٍ دُونَ إِذْنِهَا, حَتَّى نَفْسُهُ لَا تَكَادُ تَسْمَعُهُ, هِيَ أَحْيَانًا تَنْسَى وُجُودَهُ حَوْلَهَا.
"أَنَا أَشْعُرُ بِالمَلَلِ " قَالَتْ بِصَوْتٍ عَالٍي مُنْتَظِرَةُ جَوَابٌ مِنْهُ لَكِنَّهُ ظَلَّ صَامِتًا فَاِلْتَفَتَتْ نَحْوُهِ بِغَضَبٍ وَ أَعَادَتْ جُمْلَتَهَا مَرَّةً أُخْرَى, نَظَرٌ نَحَّوْهَا بِفَرَاغِ غَيْرِ عالم لِمَا يُجِيبُهَا
"مَاذَا عساي أَفْعَلُ سُمُوَّك"ِ
صَمَتْتُ وَ هِيَ تُفَكِّرُ مَلِيًّا بِسُؤَالِهِ ثُمَّ قَالَتْ "خُذْنِي لِمَكَانٍ جَمِيلٍ فِي المَمْلَكَةِ" اِنْحَنِي لَهَا ممتثلا لِأَوَامِرِهَا
++++
رَكَّبَتْ عَرَبَتُهَا المَلِكِيَّةُ وَ جَلْسَتُ هُنَاكَ بِصَمْتٍ مُنْتَظِرَةَ وُصُولُهَا لِلمَكَانِ المَجْهُولِ الَّذِي طَلَبَتُ الذَّهَابُ إِلَيْهُ, هِيَ تَوَدُّ الذَّهَابَ وَ تُغَيِّرُ رُوتِينهَا بَيْنَمَا العَرَبَةُ تَسِيرُ أَخَذَتْ غَفْوَةٌ قَصِيرَةٌ لَمْ تَسْتَيْقِظْ مِنْهَا أَلَا حِينَ وَصَّلَتْ المَكَانَ المَنْشُودَ.
قُرَعُ الحَارِسِ عَلَى بَابِ العَرَبَةِ لِتُخْرِجَ الأَمِيرَةَ بِتَعَبٍ تَلْتَقِطُ يَدَاهُ العَرَبَةَ كَيْ لَا تَقَعُ
حَالَمَا نَظَرْتُ لِإِمْكَانٍ الَّذِي هِيَ فِيهُ جَحَرَتْ عَيْنَاهَا بِصَدْمَةٍ, مَا هَذَا المَكَانُ! تسائلت بِنَفْسِهَا عَشَرَاتُ المُرَّاتِ, هَلْ يُوجَدُ مَكَانٌ كَهَذَا فِي المَمْلَكَةِ؟
كَانَ المَكَانُ أَشْبَهَ بِبُيُوتٍ صَغِيرَةٍ تَسْكُنُهَا الأَشْبَاحُ, مَهْجُورَةٌ, كَأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ تَرْمِيمَ المُنْزَلَ مِنْ عُقُودٍ, المُحْزِنَ بِالأَمْرِ أَنَّ الأَطْفَالَ هُنَاكَ يَسْكُنُونَ, مَلَابِسُهُمْ عَلَى الأَرْضِ, لَيْسَتْ سِوَى ثِيَابٍ تُمْلِئُهَا الأَوْسَاخُ وَ فِيهَا ثُقُوبٌ كَبِيرَةٌ تُظْهِرُ جِسْمَهُمْ.
البَعْضُ مِنْ الأَطْفَالِ كَانُوا نَائِمِينَ عَلَى الخَشَبِ بِدُونِ أَغْطِيَةٍ. هُمْ أَطْفَالٌ يتيمون دُونَ ملائجئ, أَطْفَالٌ غَفَلَتْ عَنْهِمْ الحُكُومَةُ المَلِكِيَّةُ, يُصَعِّبُ تَصْدِيقٌ إِنْ هُنَاكَ أَشْخَاصٌ بِهَذَا السِّنَّ يُعَانُونَ بِهَذَا الشَكْلِ.
نَظْرَتُ نَحْوُهِ وَ وَجْهُهَا تُصْبِحُ اِحْمَرَّا مِنْ الغَضَبِ
"مَا هَذَا! طَلَبْتُ مِنْكَ أَنْ تَأْخُذَنِي لِمَكَانٍ جَمِيلٍ وَ لَيْسَ مَكَانٌ رَثٌّ كَهَذَا "
قَبْضِ يَدِهِ بِغَضَبٍ وَ هُوَ يُحَاوِلُ كَتْمَ غَضَبِهِ وَ مَنَعَ نَفْسَهُ مَنْ صَفَعَهَا, صَرَخَ فِي وَجْهِهَا بِصَوْتٍ عَالٍ جَعْلُهَا تَخْطُوا لِلوَرَاءِ خُطْوَةً
"هَلْ هَذَا مَا يُهِمُّكِ حَقًّا؟ مَكَانٌ رَثٌّ, أَتَخَافِينَ أَنْ يتسخ صُوَرُكِ مَثَلًا, وَلَا أَتَخَافِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الأَطْفَالِ"
قَلَّبَتْ عَيْنَاهَا ثُمَّ قَالَتْ بِطَرِيقَةٍ اِسْتَفَزَّتْهُ "وَمَاذَا عَسَانِْي فَأَعِلَّةٌ!"
ضُحُكٌ بِسُخْرِيَّةٍ عَلَى جُمْلَتِهَا " أَنْتِ أَمِيرَةُ هَذِهِ المَمْلَكَةُ, أَنْتِ مَسْؤُولَةٌ عَنْ هَذَا أَيْضًا, أَلَا يَشْعُرُ ضَمِيرُكَ بِالأَسَفِ وَ لَوْ قَلِيلًا؟
" "يااه أَنْتَ كَيْفَ تُخَاطِبُنِي بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ؟ إِنْسِيَّتَيْ مَكَانَتِكَ!"
"عَلَى إِنْ أَنْسَى مَكَانَتَي فِي مَوْضِعٍ كَهَذَا, أَنْتِ مُتَذَمِّرَةٌ لَا تَشْعُرِينَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي لَدَيْكِ, جَاحِدَةٌ, كُلٌّ مَا تَفْعَلِينَهُ هُوَ الأُكُلُ وَ التَّجَوُّلُ, لِمَاذَا لِأَنَّكَ أَمِيرَةُ, هَلْ تَظُنِّينَ نَفْسَكَ مَعْصُومَةً عَنْ الخَطَأِ؟ كُلُّ شَيْءٍ فِيكِي خَاطِئٌ, الذُّنُوبُ تُمْلِئُكِ, تُهَيِّنِينَ الخَدَمَ بَلْ وَ تُحَاوِلِينَ قَتْلَهُمْ, أَتَعْلَمِينَ مَاذَا يُسَمِّي أَمْثَالُكِي؟ ظَالِمِينَ"
نَظْرَتُ لَهُ بِمَلَامِحِ تَدَلٍّ عَلَى غَضَبٍ جَامِحٍ يَكَادُ يَعْصِفُ بِالمَمْلَكَةِ كُلِّهَا ثُمَّ صَفْعَتُهُ بِيَدِهَا لِيَتَسَمَّرَ فِي مَوْضِعِهِ
"أَخْرِجْنِي مِنْ هُنَا حَالًا وَ أَعِدَّنِي لِلقَصْرِ "