الحب والحرب...وجهان لعملةٍ واحدة، يشتعلان بأقل من دقيقة...لكن إخمادهما مُهلكٌ جداً، مُوجع. ... ستستشعر آلامهما معاً،و لا بد من وجودِ خسائر ...
تدور بك الأيام كعجلةٍ كبيرة، يختفي المطر، يظهر ويتوقف وتظهر شمسك من جديد ساعةٌ وراء أخرى، يومٌ تلاه آخر ...عام وراء عام ...
تظهرشمسك وجهها من بين سحب الألم المتلاحقة فترفع وجهك ناحية أشعتها باسماً فتظن أن الزمان قد ابتسم لك مجدداً فتستطيع استكمال حياتك من حيث تركتها آخر مرة...لكنك مخطئ، مخطئٌ جداً في توقعاتك ....لن يغفر لك أحدٌ أخطائك السابقة، حتى لو أظهروا لك عكس ذلك, حتى لو عاد الجميع إلى طبيعتهم معك، عند أول خطأٍ بسيطٍ ترتكبه مجدداً سيثبت لك الجميع حينها أنهم لا ينسون
سينبشون رفات الماضي بلا رحمة ..... ستتعرى مجدداً لتلطمك أخطائك السابقة ...لن ينسى أحدٌ الماضي، النسيان كذبةٌ كبيرة يدعيها البشر ليستكملوا الحياة بأقل الخسائر ، لكنهم لا ينسون..ضع ذلك في حسبانك
*******
قاربت عقارب الساعة أن تستقر على الحادية عشرة قبل منتصف الليل، يجلس مراد خلف مكتبه الجلدي مسندًا قدميه على طاولة مكتبة الأسود مستمعاً إلى موسيقة صاخبة يدندن معها ويشرب من سيجاره العريض نافخا دخانه ليراقب ارتفاعه عاليا قبل أن يرتطم بوجه فتاته الشقراء التي تجلس أمامه على المكتب واضعة ساقا فوق أخرى.
رن هاتفه فنظر بطرف عينه ليقرأ اسم المتصل ويبتسم بزاوية فمه ابتسامة صفراء ثم رفع إصبعه ناحية فمه قائلاً لها ببسمة شقية : هسسس" قبل أن يجيب على الهاتف
-ألو ...مراد
ازدادت ابتسامته الهادئة على ثغره قبل أن يجيب :
-اهلا بقلب مراد وكيان مراد .... و روح مراد.
ضحكة خافتة أتته من خلال الهاتف في حين أنه أبعده عن أذنه لتنتهي أليسا من ضحكتها المستفزة له ببرائتها قبل أن تعاود الحديث معه من جديد .
- ألن أراك الليلة؟ .
تلكئ قليلا قبل أن ينظر إلى فتاته ثم إلى ساعته الفضية الفاخرة ويجيبها:
-حبي ...ألم تنظري إلى الوقت قبل أن تطلبي هذا الطلب؟..تأخر الوقت!
همهمت بتململ قبل أن تقول :
-وان يكون ...لا فارق عندي ألا تعلم بأني استطيع الخروج بأي وقت أشاء عائلتي لا تمانع بتاتا .
-ونعم العائلة !
قالها ناظراً لتلك الفتاة التي تمضغ اللبان بتململ لحين انتهائه من هاتفه وحطت نظراته على ساقيها اللتين تهتزان على جانب المكتب بملل انتظار ..
تجاهلت أليسا كلمته وأردفت:
-كما أنك خطيبي الذي أعشقه، فلديك امتيازات خاصة جداً سيدي .
-هممم...بصراحة أقنعني كلامك أيتها الجميلة تجهزي ريثما أصل لاصطحابك فلن انتظرك طويلاً كالعادة، خمس دقائق إن لم تنزلي بعدها سأغادر .
-بأمرك سيدي اللورد أنا اصلاً تجهزت مسبقا قبل أن أهاتفك .
ظهر الإمتعاض على وجه الفتاة فحركت شفاهها تبرطم بكلمات لولا أن وضع مراد كفه على فمها لإغلاقه.
- مهلاً ...هل هنالك أحد بجوارك مراد!! .
تسائلت إليسا بعد أن سمعت صوتاً مكتوماً فقال ضاحكاً :
-طبعاً حبي، أخونك حالياً مع فتاة شقراء جميلة جداً"
أطلقت اليسا ضحكة عاليا ظناً منها أنه يمزح ثم قالت ببرائة :
-إذن أبلغها تحياتي ... سلام.
ضحك بقوة مقفلاً الخط وقد عاود النظر إلى جميلته التي اكفهر وجهها فقفزت برشاقة على الأرض وكتفت ذراعيها بانزعاج:
-لكن مراد ألم تقل بأننا سنسهر سوياً الليلة !.
قرصها من وجنتها وهو ينهض من خلف مكتبه قائلاً : الأيام قادمة.
تحرك من أمامها حتى وقف مواجها المرآة بخيلاء صفف شعره الكستنائي المصفف سابقا بعناية فائقة ومسح يديه و وجهه الأسمر الذي سرق لون حبيبات رمال الصحراء بمنديل معقم ثم تمعن النظر في المرآة بعينين سوداوين حادتين يقطران ذكاءاً ودهاءا ليتأكد من أنه على أتم الإستعداد للخروج.
ارتدت الفتاة معطفها وقالت بتهكم :
- يا لغباء إليسا لو رأتك معي بوضع مخل لن تصدق بأنك تخونها !.
أخرج زجاجة عطره لكنه توقف عند كلمتها وتقدم منها بهدوء مضيقاً عينيه ثم أمسك شعرها بقوة من الخلف وسحبها ناحيته لتلفح أنفاسه الخانقة وجهها قائلا بحدة:
-نصيحة مني ألا تتجاوزي حدودك .
تأوهت الفتاة ألماً وأمسكت يده التي تقبض على شعرها وهزت رأسها بإيجاب متوترة .
فابتسم وتركها هامسا ًوهو يسرح لها شعرها الذي تبعثر بيده وقال بخفوت وهو يخرج من محفظته مبلغا من المال :
-فتاةٌ مطيعة، هيا الآن اخرجي وسأستدعيك لاحقًا.
غمز لها فهربت الفتاة من أمامه بسرعة بعد أن انتشلت النقود من بين يديه ..
تناول زجاجة عطره مجددًا وأغدق نفسه برائحتها ثم ابتسم برضا و خرج من مقر شركة والده الذي لم يبقى فيه سوى حارس الأمن والسائق الذي غفى خلف مقوده عندما أطال سيده الخروج ككل يوم ولا يعلم حتى ما يبقيه داخل الشركة بعد ان ينصرف الموظفون بعدة ساعات !
خطواته واثقة تضرب الأرض ضرباً وكأنه الكيان المسيطر على كل شيء من حوله، استقل سيارته وجلس بهدوء ينتظر أن يستيقظ السائق من سباته المعتاد يسند رأسه على المقود كالنعامة التي تدفن رأسها في التراب !
-وهاهو ذلك الأحمق قد تعالى صوت شخيره "
قالها مراد و زفر بقوة ثم أخرج هاتفه النقال وبحث عن صوت صراخ امرأة عال قبل أن يثبت الجهاز بجانب اذن السائق ويضغط على زر التشغيل ليستيقظ السائق فزعاً وينهض من فوره ليرتطم رأسه بسقف السيارة ويرتد جالساً وقد تعالت ضربات قلبه بجنون.
تبسم مراد بتهكم ثم اقترب منه هامسًا :
في كل مرة أفعلها بك ولم تعتد أيها المختل ؟
تلعثم السائق بكلماته ممسكا بقلبه الذي سيتوقف بأية لحظة ( سيدي ....استاذ مراد اقسم ...أني )
-حسنا ً راغب لا تطل الكلام وتوجه نحو فيلا إليسا .
-أمرك ...أمرك سيدي أنا تحت أمرك .
- ولا تعيد الكلام مرتين بالله عليك.
-حاضر ...حاضر سيدي .
-رااااغب .
دوى صوته لينتفض السائق مرة أخرى وينصاع لطلب مراد وقد استحال قلبه لراقصة ليلية لا تتوقف عن الاهتزاز بسبب ماحل به منذ قليل.
***
(( 4 اكتوبر 1989))
تحت سقف السماء الزرقاء المزدانة بسحب بيضاء تطفو بهدوء، ووسط مياه المحيط طفل صغير لم يتجاوز عمره الخمس سنوات يستقل السفينة مع والدته لحضور حفلة خطوبة إحدى معارفها، ضحكاته الناعمة تجلجل سطحها المليء بالركاب لينظر الجميع إلى شقاوته ويبتسمون، كل من على متنها يبتسم بحب، إلا أحد المسافرين ...كان قد كشر عن أبشع ابتسامة كراهية قد يتخيلها عقل بشري .....
كان الليل قد فرض سيطرته على الأرجاء ليتربع القمر عرش السماء وليلقي بظلاله عرض البحر، الجميع يتسامر بانسجام وصوت الموسيقى يترنم على سطح السفينة، بطرفة عين انتشلت ابتسامات المسافرين ليستوطن محلها الفزع، صراخ وعويل اختلط بأصوات رصاص من مجموعة رجال ملثمين ظهروا فجأة على السطح دون سابق إنذار قاموا بإرهاب الحضور، خاف الصغير والتصق بأمه فجزعت على وليدها وركضت به نحو إحدى الطاولات وقالت بصوتٍ مرتجف
لا تخرج ولا تصدر أي صوت مهما حصل واعتني بأختك .
-أمي!
ارتعدت أوصال الصغير ذو الخمسة أعوام لكنه استمع لكلمات أمه التي سلمته شقيقته الرضيعة فتقوقع على نفسه محتضناٌ شقيقته وقلبه يخفق بشدة،
بكل حقد وكراهية بات الرجال يطلقون النار على من حولهم بشكلٍ جنوني وعشوائي
تعالت أصوات الرصاص الممتزجة بأصوات الصراخ قبل أن يهدئ كل شيء من حوله فجأة ولم يبقى على مسامعه سوى تخابط أمواج البحر المضطربة المتلاطمة على جدران السفينة .
شعر بسائلٍ دافئ ولزج الملمس تحت جسده الصغير رفع بصره قليلاً ليرى سائلاً أحمر اللون وتمتم بارتباك: دم!
رفع كفه الصغيرة ليراها مصطبغة باللون الأحمر وصار يبكي بجزع ينادي أمه التي لم يعد لها وجود ماما ....ماما تعالي، أنا خائف"
لكن أمه لم تأتيه، زحف بهدوء من أسفل المنضدة وما زال متمسكاً بشقيقته الصغيرة الباكية
أطل برأسه يدقق النظر، كل شيء بات مخيفا بهدوئه المفاجئ، إلا من أنين خافت مختلط بأمواج البحر
تشجع الصغير وخرج ليرى أن مصدر الدم هو رجل ملقى على الأرض بالقرب منه، وكان برأسه فجوه كبيرة جدًا ..
أشاح وجهه عنه و جال ببصره بالأرجاء، من كان يضحك قبل قليل .. من كال يأكل ...من يشرب ومن يتسلى برفقة عائلته باتوا نياماً الآن حتى تلك العروس الجميلة ذات الثوب الوردي الناعم ...قد استسلمت للنوم الأبدي مع خطيبها ... تساءل الطفل، هل حل المساء لينام الجميع ؟
عقله الصغير لم يستوعب بعد ما الذي جرى
رفع رماديتيه إلى السماء السوداء التي تتخللها سحبٌ رمادية تحاول اخفاء القمر قائلاً ببراءة : هل حان وقت النوم !
تشجع الصغير وخطى بين الجثث يتحاشى ساق ذاك ورأس هذا، يدوس دماءاً غزت سطح السفينة وأغرقتها، ينادي أمه ،لكنها لم تجيب ، هل نامت مع النائمين كذلك ؟!
خطوة تلتها أخرى وأخرى سمع أنينا مكتوماً لكن لم يعرف مصدره ...بات وحيدا الآن والصغيرة قد اشتد بكائها أكثر وأكثر وصار يبكي معها بفزع وهو يبحث عن والدته ويدور بجسده من حوله حتى تمسكت به يد كبيرة،
نظر إلى الأسفل ليرى وجها مألوفا متخضبا بدمائه
- آدم " صوت أنثوي متحشرج متألمٍ ناداه بخفوت
ركع الصغير بجانب هذا الجسد بخوف وهمس:
((ماما !، تريدين أن تنامي أنت أيضا ؟ ))
احتضنت وجه ابنها بيديها الملطختين بالدماء ثم أومأت له بإنهاك .
-أحبك ....اعتني ....بنفسك وبأختك .....صغيري.
كلمات متقاطعة الأحرف لاهثة الأنفاس نطقتها الأم قبل أن تشخص عيناها إلى السماء وتسقط يدها على الأرض معلنة انتهاء دورها بحياته. لكن آدم صار يبكي وهو يهزها بعنف:
-ماما لا تنامي الآن ، لا تتركيني وحدي ...ماما!!
لكن والدته لم تصحو ولن تلبي ندائه بعد الآن
وكما انتشلت روح الأم بغتة ، انتشل الصغير الباكي من فوق والدته يدان كبيرتان حملتاه، كان آدم محكماً احتضان شقيقته الصغيرة، قال أحد الملثمين الذين خرجوا من الطابق السفلي للسفينة بلهجةٍ عربيةٍ ثقيلة:
- هناك طفلان، هل نقتلهما كذلك؟
ليأخذه أحد الملثمين العرب منه قائلاً بحدة : بما أنهما الناجيان الوحيدان سنأخذهما معنا لنرى رأي السيد الكبير.
وهناك وسط المحيط كان اليخت يضم مجموعة رجال مسلحين يهربون مبتعدين، اختفوا عن الأنظار كما ظهروا بعد أن سلبوا الحضور أرواحهم وشقيقان ناجيان معهم .
*******