كان الجميع يمرحون على شاطئ البحر أما نور فاكتفت بالجلوس على الرمال تراقبهم من بعيد..
والشبان يقومون بالسباحةِ بمكانٍ بعيدٍ عن الفتيات كيلا يشعرن بالإحراج، خرج ابن عمها كريم من الماء ليضع المنشفة على كتفيه وارتمى بعدها على البساط.. نادتها رهف شقيقة كريم من بعيد:
-هيا كفاك سخافة يا نور وانزلي إلى الماء" فأجابت برفض :
- لا أريد و لا أعرف السباحة فعلاً أغرق بشبرٍ من الماء وتعرفين ذلك"
فتقدمت منها لتقوم بسحبها : سأعلمك أيتها الجبانة..الموضوع سهل
تبسمت نور قائلة باندفاع : بل ستغرقينني لأني لم أعطيكِ فستاني الأسود ذلك اليوم أعرفك حقودة"
قهقهت رهف وهي تسحبها من يدها : لا تخافي هنالك مئة شاهد لن أفعلها على الأقل هذا اليوم"
سمعهما كريم ليقول ساخطاً وهو يعتدل بجلسته:
- كفاكما ثرثرةً فوق رأسي بحق الله" تطلعت فيه نور بكبرياءٍ وضيقت حاجبيها ومشت من أمامه ترافق رهف بعدما قررت أن تلهو قليلا على الشط
بينما هو كان بعالم آخر تماماً، تبسم وارتمى على البساط مجدداً مغمضاً عينيه وبالكاد يسيطر على ضربات ذلك الأحمق الذي يبدأ بالتناطح كلما رآها أو تحدث معها...
كان كريم قد شارف على أعتاب الثلاثين، شابٌ طويل، عريض المنكبين رياضيٌ بامتياز، عيناه كلون البندق واسعتان تقدحان فطنة و ذكاءاً..لكنه غبيٌ بامتياز أمام نور ! غبيٌ لدرجةٍ لا يستطيع إزاحة نظراته عنها وحتى لو تنبه الجميع على نظراته فلا يهتم ! تخرج من كلية الآداب وبعدها افتتح متجراً لبيع الألبسة والفساتين النسائية، كان يجيد الغناء لذلك كان محط أنظار الجميع، والجميع يحتاجونه دائماً لأمر ما كريم يعرف كل شيء وبارعٌ بكل شيء وسخي بكل شيء كاسمه تماما.
هذا ما يتذرع به الجميع حينما ينادونه للمساعدة ويلبي هو النداء تارةً وتارةً أخرى يصيح بغضب : -اعتقوا كريم لوجه الله، لم استلم توكيل أعمال العائلة بأكملها!!
ألبسته دائماً بناطيل جينز أو رياضية مع ما يناسبها لجزئه العلوي...لكن إن اجتمعت البشرية بأكملها لإقناعه بأن يرتدي زياً رسميًا لن يستسلم لهم، بل ومستعدٌ لارتكاب مجزرة إن غصبوه على ذلك !
وهو الصديق الصدوق لمراد، مخبئ أسراره أو فضائحه ! حسناً ....لأكن واضحة مراد كان مفضوحٌ بحبه للنساء لدى جميع أفراد العائلة وحتى لجميع معارفهم، وصولاته وجولاته سيخلدها التاريخ البشري دون شك ! ولربما سجلوا على قبره عاشقٌ للنساء حتى النخاع ! حسناً دعونا منه الآن ولننتقل إلى النور التي كانت تركض مع رهف على الشاطئ وتتراشقان المياه لكنها ما ما ان لامست قدماها الماء متقدمة اكثر حتى صرخ بها بصوتٍ جهوري :
-توقفي يا متخلفة!!!
استدارت إليه بتلقائية ليقترب منها متسائلاً : ستنزلين إلى البحر هكذا؟ تطلعت فيه بعدم فهم ليردف بهمس وهو يقترب منها كيلا يسمعه أحدهم:
- كنزةٌ بيضاء فضفاضة وبحر لا يجتمعان يا ابنتي، ستفضحين عائلة المنصور حتى الجيل العاشر !
شعرت بكهرباءٍ تلسع جسدها كونها لم تنتبه لذلك ولا رهف ليردف بنبرة آمرة وهو يفرك صدغه بإصبعيه : غيري ملابسك بحق الله أم لم تحضري معك ما يلائم البحر؟ !
هزت رأسها بنفي وقالت بلعثمة : لا.. لا يهم ..اصلاً لم أكن لأنزل"
ومشت من أمامه لتتسع ابتسامته وهو يراقب ابتعادها عنه تكاد تتعثر بخطواتها.. عاد أدراجه ليرتمي على البساط بينما اندفعت رهف ناحية نور التي شحب وجهها وسألتها بقلق:
-بماذا كلمك حتى شحب وجهك بهذا الشكل؟ اخي وأعرفه حين يتساخف.
هزت نور رأسها و أجابت : اخبرني أن كنزتي بيضاء ..
ضحكت رهف لمدة قبل أن تحرك يديها بعدم فهم : يعني!!!
لكن نور لم تجبها توقفت رهف قليلا لتفهم هذا اللغز قبل ان تتسع حدقتاها وتلجم باقي ابتسامتها وهي تضرب كفا بكف ! .
قاربت الشمس على المغيب فجلس الجميع على التراس ينتظرون كبار العائلة للانضمام إليهم بينما جلس كريم على الحافة الحجرية.يراقب أمواج البحر وهي تتلاعب بالرمال ..بدا شاردا وكأنه انفصل عنهم ليغوص بعالم آخر....عالم لا يجمعه إلا ب نور فقط ..
..هتف به ابن عمه وهو يلطمه على كتفه ليختلعه عن أحلام اليقظة : اشدوا يا بلبل العائلة نشعر بالملل "
أيده الجميع فنظر له كريم نظرة امتناع وهز حاجبيه رافضاً لتعقب رهف : هيا كريم اغنية فقط "
أدار وجهه إليهم حيث يجلسون مجتمعين وحدق بعيني نور التي تبسمت بتشجيع وكأنه ينتظر إشارةً منها ليبدأ بالغناء ...حط بنظراته على شعرها المضفور كضفيرة جانبية طويلة منسدلة تلامس عنقها العاجي وصولاً لما بعد خاصرتها بقليل..فستانها الصيفي المزهر الطويل...وتخيل تاجا من الزهور البيضاء يزين رأس لوحته البديعة فابتسم لا إراديا ....
أطلق صوته الشجي ليشق سكون الطبيعة لا يشاركه سوى صوت أمواج البحر التي انعكست عليها أشعة الغروب....
وغنى ...وكأنه لا يغني لسواها ....أما هي وكعادتها المحمومة لتصوير أي شيء أخرجت هاتفها النقال وقامت بتسجيل فيديو له وهو يغني ..خلفه البحر يقوم بألحانه الخاصة ..والشمس في مغيب..كنزته البيضاء تلتصق على عضلات صدر جسده الرياضي المنحوت...حدقت بانبهار به بهذا الكمال الذي تجسد بعدسة الكاميرا...لحن البحر وصوته الندي الذي يحمل بحة مميزة ...
زيديني عشقاً زيديني .. يا أحلى نوبات جنوني
زيديني غرقاً يا سيدتي .. إن البحر يناديني
زيديني موتاً علً الموت إذا يقتلني يحيني
استمع بعض اللذين يلهون على الشط لصوته فاقتربوا رويداً رويداً حتى كبرت دائرة المنصتين لأغنيته وهو يكمل بعد أن اندمج باللحن ...
يا أحلى امرأة بين نساء الكون أحبيني
يا من أحببتك حتى أحترق الحب أحبيني
إن كنتِ تريدين السكنى أسكنتك في ضوء عيوني
حبكِ خارطتي ما عادت خارطة العالم تعنيني
نهضت نور ودارت حول الكراسي وعدسة كاميراها ما تزال مرتكزة عليه وصورته من زاوية أفضل، لم تمنعه الكاميرا...ولم تمنعه نظرات من حوله أن يشيح بنظراته عنها ...
كان لا يغني فقط..كان يغنيها..ويعرف أنه يمشي وراء سراب..هذا الإحساس المقيت الذي ما إن يتناساه حتى يهجم بشراسة ليهمس بإذنه...نور ليست لك ...ليست لك، إنها أكبر من حدود أحلامك...
يا رمل البحر وروح الروح .. ويا غابات الزيتونِ
يا طعم الثلج وطعم النار .. ونكهة شكي ويقيني
أشعر بالخوف من المجهول فآويني
أشعر بالخوف من الظلماء فضميني
أشعر بالبرد فغطيني وظلي قربي غني لي
فأنا من بدأ التكوين .. أبحث عن وطن لجبيني
عن حب امرأة يأخذني .. لحدود الشمس ويرميني
نوارة عمري مروحتي .. قنديلي فوح بساتيني
مدي لي جسراً من رائحة الليمون
وضعيني مشطاً عاجياً في عتمة شعركِ وأنسيني
من أجلك أعتقت نسائي .. وتركت التاريخ ورائي
وشطبت شهادة ميلادي .. وقطعت جميع شرايني...
توقف كريم وتعالى التصفيق من الجميع ومن خلفه خاصة حيث التف بارتباك ليرى تجمهر الناس القليل فأغمض عينيه بإحراج وهو يسمع عبارات المديح ...أوقفت نور التصوير ودخلت إلى داخل الشاليه ...ارتدت على الأريكة لتعيد تشغيل الفيديو لتستمع إليه ...
شردت فيه ببسمة أظهرت صف أسنانها الناعمة البيضاء لتغور غمازتيها ولم تنتبه له وهو يخطو بهدوء ناحيتها بعدما تشاغل الجميع عنهما...جلس على زاوية الأريكة مقابلاً لها بأربحية وأسند رأسه على كفه سارحا فيها..يستمع لصوته ويرى انفعالاتها التي تسلب قلبه ...
تعالى التصفيق بآخر الفيديو لتتسع ابتسامتها أكثر وأكثر متزامنة مع ابتسامة كريم... تراقصت حدقتاه بانبهار ولم يستطع مقاومة أن يخرج هاتفه ...وقام بالتقاط صورة لها ..
فزعت نور من صوت التقاط الصورة والتفتت لتفاجئ بكريم الذي فاجئها بصورة ثانية وثالثة عندما ضار وجهها مقابل للكاميرا...
- كريم!! منذ متى وأنت هنا؟
قال ببساطة وهو يلتقط المزيد من الصور: يا أحلى امرأة بين نساء الكون...أحبيني..
يا من أحببتك حتى أحترق الحب أحبيني
من عند هذا المقطع دخلت ...
-حسنا كف عن التصوير ...لا أحب الصور المفاجئة أظهر فيها كالمومياء!
نهضت واقتربت منه ليريها الصور فحدقت فيه بانزعاج: أرأيت أبدو كقطة بائسة مبتلة ! احذفهم...
ضحك كريم وأبعد الهاتف عنها كيلا تطاله وهز رأسه نافياً: بل جميلة جداً...تعالي لنلتقط صورة على ذوقك إذن..
اقتربت منه مع ترك مسافة صغيرة بينهما ورفعت الهاتف لتصور لكنها ضحكت: أنت ضخم جداً يا ابن العم قطعت نصف رأسك في كادر التصوير وإن أظهرتك اختفيت أنا ! .
ابتسم بصفاء ورفع هاتفه وصدره مضطرب بسبب قربها منه ..والتقط أجمل صور لهما معا..ستتخلد بقلبه قبل عينيه..أول صورة تجمعه فيها...لوحدهما، قلبت فيها لتقول نور بذهول: إنها جميلة جداً...
أجابها بشرود:
-كلمة جميلة لن توفيها حقها..
هات ..لأرى كاميرا هاتفك رائعة : أخذت الهاتف من بين أصابعه وصارت تقلب بالصور حتى تجاوزت الصور التي التقطها اليوم لأخرى وأخرى بسرعة وجميعها لها فقط!
توتر كريم وسحب الهاتف من بين يديها ...فنظرت إليه باستغراب ..
ولم تكد تمر لحظات حتى رفعت رهف وجهها وهي تدخل: آها..كنت أرى التقاط صور هنا .
حركت نور كفها : هيا نادي الجميع وتعالوا هذه الزاوية جميلة جداً... تظهر البحر من خلف الزجاج .
استجابت رهف وهتفت بصوت عال تنادي الجميع فتقدموا وانحشروا بجانب بعضهم مما أدى لدفع نور ناحية كريم أكثر ...قبض على كتفها تلقائياً وسرح فيها...بهذا القرب المهلك وبالكاد استجمع شجاعته لمقاومة سحرها وتمنى أن تطول هذه الصورة إلى ما لانهاية وتجمعهما معا إلى الأبد ..شعرت بقبضة كفه التي تمسك كتفها..لا تمسك بل تقبض عليها بطريقة زادت شكوكها ناحيته ..نظراته....نظراته التي لم تكن تملك لها إجابات، بنات العائلة اجتمعن أن نظرات كريم خلابة ...رائعة ..
لكن نظراته التي يختصها بها مختلفة ...مختلفة عن تعاطيه مع غيرها أدارت وجهها ففوجئت به شارد فيها بتلك النظرات ..انفض الجمع حولهما بعد التقاط الصورة وما زال قابضا على كتفها هائما بعينيها..صامت لكن عيناه تبوحان باعترافات خطيرة لم تحسب لها حسابا......
قالت بهدوء وهي تجاهد كي لا تنفجر بوجهه:
-ما الذي تفعله صوري بهاتفك؟ بل ومتى التقطها !
ضحك بارتباك مازحاً: لست وحدك من تحبين التوثيق .
أجابت بتشكيك: -لكن...لكنني لا أصور خلسة ! ازداد ارتباكه وظل صامتاً فخطفت الهاتف من يده بسرعة، حاول استرجاعه لكنها هتفت فيه بأن يصمت وصارت تقلب بالصور.....الهاتف مليء بصورها ...صورها في كل مرة يجتمعان ..
-كيف لم انتبه .كيف ! هذه...هذه وقاحة
أنت تتعدى على خصوصياتي ! تمتمت وقد تجمع الدمع في مقلتيها وقد صعقت من تصرفه ..ضربت الهاتف على صدره بعنف وهرعت تصعد درجات السلم بعصبية لأخذ اغراضها وعسل كي تغادرا ...مسح وجهه بكفه وانطلق خلفها ..اندفعت الى الغرفة فاقتحمها من خلفها..فهدر صوتها:
-ماهذه الوقاحة ...لا ...لا أصدق! اخرج .
دفع الباب لينغلق على كليهما محاولا تهدئتها...
- اخفضي صوتك...ليس كما تفكرين والله والله أنا لم أقصد ..لا أقصد بك السوء يا مجنونة اهدئي..
- كريم افتح الباب واخرج لا ينقصنا فضائح ...اخرج .. لا أريد سماع شيء .
أرجع بظهره على الباب مستنداً عليه: لن أخرج قبل أن تسمعيني، أنا...لم أفكر بك يوماً بسوء...تعرفينني جيداً..تعرفين من هو كريم، ما أريد إفهامك إياه أنني ..
-نور نور أنت هنا؟...
صدر صوت إحدى بنات عمها من الرواق فشهقت برعب.. سحبها كريم بسرعة ودفعها ناحية الخزانة وأغلق الباب عليها في اللحظة التي فتحت ابنة عمه الباب فقابلها بابتسامة مرتبكة..
-أنت هنا!
نظرت له بتشكيك فسارع بالقول: كنت أحضر شيئاً يخصني من حقيبة رهف...أتريدين شيئاً ؟
-هل رأيت نور؟ تبحث الفتيات عنها..
-لا...لعلها خرجت ناحية البحر ..
بالمناسبة ...كان غنائك رائعاً اليوم...ككل مرة .
ابتسمت له وغادرت فتنهد وهو يمسك رأسه...
تأكد من هبوطها السلم ففتح باب الخزانة ليرى نور تجلس القرفصاء منكمشة على نفسها بداخل الخزانة ونظرات الرعب تطل من عينيها ..
لم يمنع نفسه من الضحك فنهضت بشراسة ودفعته من صدره بعنف لكنه لم يتزحزح:
- كله بسببك ...كنت فضحت ...كانت التصقت بي فضيحة بالعائلة أيها المتخلف الهمجي المجنون الغبي...الأرعن
قبض على رسغيها وشدد على حروفه: لو كانت غيرك من نطقت هذه الكلمات لمسحت بشعرها بلاط الأرض أما معك فالموضوع مختلف...
حاولت سحب يديها من قبضته وقالت بعنف: -لن تخيفني عضلاتك المنفوخة .
كتم بسمته وقال مشدداً على حروفه:
- لن أستخدمها....لساني يكفي لرد كرامتي.
كادت أن تجيبه مجدداً لكنه طبق على شفاهها بكفه : أحبك...قولي غبيي...قولي ما تريدين لكني أحبك لا شيء غير ذلك أضيفه..أحبك أأعيدها لتسمعيها جيداً.. ؟
وأفلتها مغادرا وسط ذهولها ...
******
مهما حاولت الابتعاد عن ماضيك، يلاحقك أينما توجهت، هو جزء منك، من تكوين شخصيتك وبنائها ....
لطالما كان أفراد عائلة عبير يحبون آدم ، يعاملونه كابنهم تماماً، كان جزءاً من العائلة ولكن بذات الوقت، يشعر باختلافه عن الجميع
يشعر دائما وكأنه ينتمي لمكانٍ آخر ، لعالم مستقل عما يعيشه بينهم ، لا ينسى أفضال السيد رضوان - زوج خالته - كان يحتضنه بمحبة والد ولا يفضل عنه مراد بأي شيء كان ، يشعر أن بعينيه حزن دفين كلما تقابلا وكأنه يخفي أمراً غامضا عنه، أمرًا يكفر به عن ذنوبه تجاهه من خلال رعايته ومحبته المبالغة، لطالما تذكّره ساهرًا على مرضه حتى أكثر من خالته !، نظرات الرعب التي تطل من عينيه كلما ذكر اسم والديه أو تذكر مشاهد من الحادثة التي مضى عليها أكثر من عشرون عامًا .
وعلى الرغم من حالة الرفاهية التي يتنعم بها بفضلهم إلا أنه يخاف المستقبل، يخاف البحث عن عائلة والده الذي لا يعرف عنه شيء سوى اسمه ، فعلى حد قولهم تزوجت والدته سراً وهربت برفقة والده حتى جرى الحادث المشؤوم في السفينة لتسترد عبير ابن شقيقتها الوحيدة !
****
توسط القمر صفحة السماء وازداد الجو برودة ..كان شباب العائلة يقومون بشواء اللحم على الرمال أمام الشاليه والآباء يجلسون على طاولة كبيرة على التراس الواسع تجمع افراد العائلة كاملة..
- الطعام سيجهز بعد قليل اتصلوا بمراد فقد تأخر هو وإليسا، و أين نور هل رآها أحدكم ؟
وآدم...آدم ألم تتصلوا فيه أخبرته ألا يتأخر وأن يرافق مراد!!
قالتها عبير بنفاذ صبر وهي تضع ابريق الماء على الطاولة فتعالت ضحكات الجميع حينما قال رضوان :
- هل ضاع أولادي عزيزتي!
تنهدت عبير قائلة باستياء :
-لقد هربت نور كعادتها كي لا أوكلها بمهمة ما وتركت الاعمال للفتيات الأخريات "
أجابتها أمينة زوجة محمد أخي رضوان باسمة :
- ما تزال صغيرة وستتعلم مع مرور الوقت لا تشغلي بالك "
- أتمنى ذلك فعلا ً إن هذه الفتاة ستصيبني بنوبة قلبية بسبب افعالها!
ربتت أمينة على كتفها : ليبعد الله عنك السوء..ماهي إلا مسألة وقت وستتعلم لا تقلقي .
وصل مراد وآدم إلى الشاليه بهذه اللحظة و اتجها برفقة أليسا ناحيتهم ليلقوا التحية . ليلقيها بعضهم بحبٍ كبير والبعض الآخر باستياء.
-تأخرتما بني ، قالتها عبير التي استقبلتهما فأجابها: آسف تأخرت بالشركة لاجتماعٍ مهم
-أهلا ً أليسا حبيبتي كيف حالك ؟
-الحمد لله كيف حالكِ أنتِ ماما عبير .
-بخير حبيبتي هيا اجلسا فطعام العشاء قد جهز .
ثم أردفت : ليذهب أحدكم منادياً نور"
كاد كريم أن ينهض من خلف الطاولة فهو حتى اللحظة لم يرها بعد تلك القنبلة التي فجرها بوجهها ..وصل إلى نقطة اللا رجوع ويبدو أنه منذ هذه اللحظة سيحارب، سيحارب للحصول عليها..
ضغط آدم على كتفي كريم ليرتد جالساً وقال وهو يربت على كتفيه بخشونة :
- سأناديها أنا بما أني لم أجلس بعد.. عن إذنكم"
تشبث كريم بساعدي كرسيه بغضبٍ وصار يهز قدميه بعصبية
في حين خرج آدم يسير على الرمال، جال بعينيه المكان حتى رآها من بعيد تجلسُ أمام البحر،شاردة وما زالت ترتجف من جنون ما حصل بينها وبين كريم ...لا تصدق بعد أن كل هذا يصدر من كريم ...
كريم !
صارت تتذكر المواقف التي جمعتهما سويا .. دفاعه الدائم عنها وخاصة وقت شجارها العنيف مع مراد بعد قرارها بأنها ستعمل بالتصوير ..هذه الموهبة التي تحبها وتريد تطويرها بدراستها ...حينها تصدى لها مراد من أن تصبح مصورة ..مجرد مصورة تقف أمام النساء بالأعراس وتصورهن وهذا ما فهمه بوقتها فقط!
هكذا جن جنون مراد...فصرخت فيه: لن أذكر اسمك إن كنت تخاف على اهتزاز اسمك يا سيادة المهندس ..
رفع كفه ليهوي بها عليها لوقاحة كلماتها لكن كريم اعتصر كف مراد لتهدئته... قال بسرعة : أنا أحتاج مصورة في المتجر لتصوير كل دفعة من الأزياء من التي تصلني باستمرار دعها تجرب عندي هذا العام ..ولنرى موهبتها...لن تعمل عند أحد غريب .
حدق كريم بعيني مراد طويلاً ليفهمه أن هذه الطريقة ستنجح لتوظيف هوسها في التصوير ...
كانت ما تزال صغيرة...في السادسة عشرة من عمرها..وما تزال في فورة تمردها على قراراتهم..
قالت نور بلهفة: حقاً... حقاً ستوظفني عندك؟!
فهز كريم رأسه مؤكداً...
التمعت عيناها بحماس وامتنان فحدق كريم مجدداً في مراد وقال: بعد أخذ الإذن من والدك طبعاً...وبموافقة مراد .
أخذ مراد نفساً عميقاً ثم قال : حسنا ..اعملي عنده وسأقنع والدك لكن عند الغريب لن أسمح..لن تعملي مصورة وهذا قرار نهائي لا تقاش فيه.
ومنذ ذلك الحين صارت تعمل مع كريم الذي شجعها على الرغم من مأساوية تصويرها في البداية لأنها دون خبرة...بل اعتمدت على شغفها فقط الذي صار يتزايد يوماً بعد آخر وصارت تطور مهاراتها مرة بعد مرة بمساعدة مصور متمرس وظفه كريم في البداية لتتعلم منه كيفية تصوير العارضات وهن يرتدين الفساتين أو العباءات التي يستوردها لعرض منتجاته في السوق ....
لم تنسى أول مبلغ قبضته من كريم ...كان بمغلف أبيض وعلى الرغم من بساطة المبلغ إلا أنها كان الأعز على قلبها لأنه بجهدها...
التمس حماسها فشجعها أكثر فصارت تقوم بجلسات التصوير لوحدها وهذه كانت فترة تقاربهما الأروع لأن مشاعره بدأت تتشكل خلال هذه الفترة ...وكان يشرح لها عن مجالات المستقبل الواسعة أمامها بعيداً عن آلة التصوير والتي أصبحت فعلاً ملكة بين يديها..
ومن هنا بدأ بسلسلة تصويرها خلسة ..في العمل..عندما يوصلها إلى المنزل...حين يقطعان ناحية الحديقة في طريق عودتهما...فتقوم بتصوير كل شبر فيها لتريه مهاراتها ..حتى اشترى ذات يوم كاميرا فائقة الدقة لها ..كانت في السابعة عشرة من عمرها ..
فضت الغلاف وهي جالسة بمقعد الحديقة العامة مساء حين كان يوصلها إلى المنزل...
فتسمرت مكانها ..لحظات فقط..لحظات قبل أن تقفز كالمجنونة وتتعلق فيه وهي تصرخ: شكرا ..شكرا ..شكرا...
ارتجف جسده من هول الصدمة فظلت قبضتاه متشنجتان بجانب جسده، لا يقوى حتى على الانصياع لنفسه التي أمرته بأن يأخذها بين ذراعيه ..ويدور فيها حتى الإنهاك...أغمض عينيه مستمتعا بلحظات جنونها قبل أن تفلته وتهرع من جديد ناحية الكاميرا لتصوره فيها وتصور كل ما حولها..في هذه اللحظة شعر بصدره يضطرب..شعر بخفقات مجنونة لم يألفها سابقاً ..أكدت له دون شك أنه يحبها ..أن تلك النبضات العنيفة التي اجتاحته هي نبضات حب
****
تقدم آدم منها بهدوء ليجلس بجانبها، والأمواج الهادئة تلهو على الشط بانسيابية وهدوء وكأنها تداعب الرمال، كان شعرها الناعم يتطاير بفعل النسمات، شعرت باقتراب آدم الذي خلعها عن أمواج ذكرياتها وهي تحلل المواقف التي جمعتها بكريم...كلماته وتصرفاته ونظراته.
حيت آدم بإيمائة بسيطة فسألها: كيف كان يومك ؟
- جيد.
فقط جيد! لا شيء آخر تضيفينه ..لا صورة اليوم!
ضحكت بتذمر وضربت ساعده: يبدو أنني سأعيد حساباتي بشأن التصوير .
- ما الذي جرى؟أازعجك أحد هؤلاء الحمقى ...قولي والله لأءء.
ضحكت بيأس وصرخت فيه: اجلس من سيجرؤ على إزعاجي! ثم وإن أزعجني احدهم ألن أدافع عن نفسي برأيك ! سأنتظرك لتدافع عني !!؟
-بخبرتي لك... قد تدافعين عن نفسك ..لكن ليس مباشرة ..لا تعرفين فنون الرد المباشر ..
صعقت من كلماته وحدقت فيه فقال بهدوء ينافي براكين صدرها:
- والدتكِ تسأل عنك "
زفرت بتململ :
-كي أساعد الفتيات بتحضير الطعام لن أذهب "
- بل لتشاريكهم الطعام فقد انتهوا من إعداده يا كسولة "
-لستُ كسولة ،لكني لا أجيد أعمال المطبخ ولا أحبها وتعرف ذلك، سأصبح أضحوكة الفتيات "
فقال بمكر وجدية بآن معا:
- عندما تتزوجين هل سيقوم زوجك بإعداد طعامه بنفسه "
مطت شفتيها وعقدت يديها أمام صدرها بطفولية قائلة :
- لا فليأكل عند أمه حبيب أمه ..أو ليجلب خادمة "
فمال عليها هامساً وهو يصلح وضع شالها على كتفيها لتغطيتهما :
- سنأكل كل يوم عند أمك إذن يا حبيبة أمك "
تصاعدت الدماء إلى وجنتيها وقالت بتلعثم :
- قلتها لك ماائة مرة ...لا أحب هذا النوع من المزاح "
راقبها بعينيه وهي تهرب من أمامه كما العادة فجهر بصوته عالياً :
- و الله لستُ أمزح يا ابنة منصور !
ونهض من مكانه ليتبعها وسارا سوياً على الرمال عائدين إلى الشاليه وهي تتحاشى نظراته التي تغيرت جدا في الآونة الأخيرة.. استقبلتهم عسل من بعيد وهرولت ناحيتهم حتى رمت بجسدها على آدم الذي حملها بذراعيه :
- حضرت يا أدم ولم تعلمني " قالتها بعتاب فقرصها من وجنتها معتذرًا :
- وهل أستطيع ألا أعلم حبيبة آدم بمجيئه، لكني أحضرتُ المتهم الهارب . ! "
-نعم فاشلة بيت المنصور..
قرصها آدم من وجنتها لائما: عيب يا صغيرة انها اختك ..
جلست إليسا على الكرسي فقال رضوان مداعباً : -دائما جميلة ...ليحميك الله يا ابنتي.
اطرقت برأسها لأسفل بخجل فمال مراد بجذعه ناحيتها محتضناً كفها من أسفل الطاولة و همس :
- كم أعشق هذا الحياء "
لتذوب أكثر وآكثر حتى شعرت بأن الكرسي قد ابتلعها فعلاً !، تقدمت نور بعدما أحضرت الطبق الأخير من المطبخ وجلست بجانبها تتحاشى نظرات الكريم المتفحصة لها... ونظرات آدم الغير مفهومة !
******
عام 1980...
تخللت السحب الرمادية سماء المدينة مساء هذا اليوم الشتوي... وبداخل إحدى المقاهي المزدانة لاقتراب العيد يجلس عابد الآغا، هذا الشاب ذو البنية المتينة الضخمة ،ذو بشرةٍ أقرب للسمرة وذقن كدُجى الليل وشعرٌ تتقدمه خصلةٌ بيضاء ورثها عن أبيه تعطيه وقارًا ومسحة جمالٍ لافت، يرتشف من فنجان قهوته المُرة كمرارة حياته ويدخن وهو يتأمل تلك الصورة بعدما راقب صاحبتها لثلاثة أيامٍ على التوالي ....
كان صوتُ أسمهان من الكاسيت العتيق يغمر المقهى ويغلف الجميع بالسكون والراحة...لكن حياة عابد لم تكن بتلك الطمأنينة التي يتمناها ..لمح تلك الفتاة تقترب عائدةٌ من جامعتها كما اعتادت كل يوم, نهض بعدما وضع ثمن مشروبه ولاحت ابتسامةٌ ساخرةٌ على شفاهه وهو يتمتم مع أسمهان
الشمس غابت أنوارها
والكون بدا في ظلام الليل
والدنيا سكتت أطيارها
وكان غناها شجي وجميل
سارت الفتاة ذات الثمانية عشر عاماً دون أن تلمح ذلك الرجل المتشح بالسواد والذي يسير خلفها بكل إصرار حتى وصل إلى المكان المطلوب، حيث ينتظره رجاله على الجانب الآخر من الزقاق والذي يطل على شارعٍ جانبي رُكِنت فيه سيارتهم، تطلع فيهم واستكمل طريقه نحو هدفه
أولجت الفتاة المفتاح في باب شقتها ولم تنتبه لذلك الكيان الضخم الذي يتربص بها و بلحظةٍ كان المنديل المخدر يكمم أنفها لتقاوم للحظاتٍ قبل أن تستكين بين ذراعيه بهدوء لتلتمع عينيه تلك اللمعة القاسية، أغلق باب منزلها بهدوءٍ مجدداً وحملها وتوجه ناحية السيارة ليرميها على المقعد الخلفي وينطلق في طريقه...ببساطة!
الأرض القاحلة التي كانت تقطعها سيارتهم منذ عدة ساعات تدل على أنهم قد ابتعدوا عن المدينة
سمعت بعدما استفاقت أصوات رجالٍ على المقعد الأمامي..تهدجت أنفاسها وهي مقيدةً تحاول الإفلات لكن هيهات تعالى صراخها بغتةً ليستدير أحد الرجال ناحيتها ويصرخ بعنف:
-اخرسي و إلأ واللهِ لن أتوانى عن ضربك " انفرجت عيناها على اتساعهما وارتجف جسدها إثر كلماته المتوعدة وهيئته المرعبة وضخامة جسده فأومأت له لتصمت مكتفيةً ببكاءٍ مكتوم... توقفت السيارة أمام مبنى كبيرٍ جدًا الأتربة والأحجار تغطي الأرضية هبط الرجل وشدها من ساعدها بغلظة..آلمتها قبضة الرجل الذي يدفعها بعنف ليحثها على المسير أمامه فمشت بخوف على بصيص ضوء خفيف,
سمعت أصوات الرصاص من البعيد لتزداد خيفة منهم، ألقاها الرجل المسلح بإحدى الغرف في الطابق الثاني والذي تطل نوافذه على ساحة المبنى العتيق الكبيرة وينبثق منها سلم لأسفل، شحب وجهها الأبيض وارتعدت أوصالها من منظر ذلك الرجل فأشاحت ببصرها عنه ثم نظرت من خلال النافذة التي في الجدار لتتبين الرجال المسلحين في كل مكان !
انقضت عدة ساعات وهي حبيسة هذه الحجرة تنتحب خوفاً وتدعو الله أن تنجو منهم وحتى اللحظة لم تعرف سبب خطفهم لها !
فتح الباب فجأة فركعت على الأرض ملتصقةً بالجدار بخوف تكتم شهقاتها المتواصلة، توجه رجلٌ ضخم الجثة يرتدي زيًا أسود ويحمل البندقية بيده صارت ترتجف هلعاً والتصقت بالحائط فتقدم الرجل أكثر لتتبين له ملامحها المرتعبة فأرخى يديه لينزاح السلاح وتقدم ليركع على ركبته مواجهاً لها، صارت تنتفض بخوفٍ حينما رفع عابد وجهها ناحيته وهو يتفحص تلك الملامح التي نُقِشِت بذاكرته طوال أيام..
تحركت يداه ليفض الوشاح الأحمر الذي تلفه حول رقبتها وقال بصوت أجش :كُفي عن البكاء و قفي
وقفت أمامه بخوفٍ جلي ،نظرت إليه بهلع وابتعدت فأسندها بيديه وأردف يقول بصوتٍ خفيض :
- تريدين البقاء على قيد الحياة هنا اخرسي ودعيني أقوم بما يتوجب علي" .
صارت تدعو الله بأن ينجيها منه فلا قدرة لها لمجابهته ! أمسك الوشاح و جعله كعصبةٍ على عينيها وعاد يحدثها من جديد : لا تحاولي الهرب أو التصرف بحمق وإلا نهايتك ستكون بلحظتها "
وسط العتمة التي تغرق بها وصوت أنفاسه المتلاحقة التي تضرب رقبتها بعنف هزت رأسها موافقة لكلماته فأمسك بساعدها بقبضته الغليظة ليحثها على المسير أمامه، صارت تهبط درجات السلم بمساعدته واحدة تلو الأخرى بخوف وهي تتخيل ما قد يحصل معها ؟ ومن هم أساساً وأين هي ومن اختطفها ؟
مئات الأسئلة والاستفسارات التي هاجمتها وهي تتوجه برفقته بخطى بطيئة وسط أحاديث و همهماتٍ أخرى
-إذن وصلت هديتك عابد؟
تساءل أحدهم بصوتٍ غليظ فقال عابد وهو يربت على كتفيها بطريقة جعلتها تنكمش هلعاً وأجاب باستهزاء و بصوت أجش : وصلت هديتي"
تعالت ضحكات الرجال من حولهما وهي تسمعهم يتمتمون عنها وعن والدها بكلمات نابية ! هل هم ممن يلاحقهم والدها إذن؟ الهلع قد تملكها كليًا فدفعها عابد مجدداً لتكمل المسير معه لتخفت الأصوات تدريجيًا ولم يتبقى سوى وقع قدميهما ليتردد الصدى خلف خطواتهما اليتيمة ،
صوت صرير عالٍ صدر بسبب فتحه لإحدى الأبواب ليدخلا ويغلقها مجدداً ويوصده بمزلاجٍ ذا صوتٍ رهيب، شعرت بانفرادها معه فصارت ترجوه بألا يؤذيها بعدما أيقنت أنها هنا بسبب والدها
فض قيد معصمها والعصبة عن عينيها فتلفت حولها لتستبين المكان، كانت بفرفةٍ متوسطة الحجم ، مفترشة بسجادة عتيقة وسرير و كومود بجانبها ومدفئة كهربائية صغيرة، الجدران عتيقة كحال هذا المبنى المتهالك، تطلعت فيه برعبٍ دب بأوصالها فصرخت
-من أنت !! ما الذي تريده مني ؟
صارت تبكي بقهرٍ وهو يطالعها بنظرات مبهمة،شعر بألمٍ بخاصرته فخلع واقي الرصاص الذي يرتديه متجاهلاً توسلاتها ثم خلع قميصه الأسود فظهر أثر جرح حديث نسبيا ينزف من خاصرته،
-عاد ينزف ! " قالها وهو يقاوم ألم خاصرته الجلي
تراجعت الفتاة بذعر الى الوراء لتلتصق بالحائط وهو بكل برود تجاهلها و توجه ناحية السرير ليجلس عليه أخرج من درج الكومود معقماً وقطنًا طبياً وصار ينظف جرحه مقاومًا آلامه حتى انتهى و ممدد ساقيه على السرير أشعل السيجار وشرع بتدخينه وما زالت الفتاة ملتصقة بالحائط تطالعه باستغراب بسبب تماسكه، بعد هنيهة تطلع بها مجددا ً وقال بصوته الأجش :
-اعتدلي رغد، لا تخافي لن أؤذيك
وعاد يدخن بشراهة من جديد ، طال تحديقها به متوجسة من احتمالية تلاعبه وتخاف من النهوض عن الأرض وكأنها هي من تحميها من جبروته، من هو وماذا يريد ؟ عادت الاسئلة تتقافز داخل عقلها وهو لا يرحمها بالإجابة صارت ترتجف برداً وخوفا بوضوح
تقدم ناحية المدفأة لإشعالها ثم توجه ناحية رغد وسحبها لتنهض من على الأرض، دفعها على السرير بغلظة فصرخت بجزع ...قلت انك لن تؤذيني...هل هل غيرت رأيك !!؟
فحدق بها وكأنه يحاول استيعاب كلماتها المشتتة ثم انفرجت شفتاه عن شبح ابتسامة باهتة ورماها بلحافٍ سميك وهو يقول :
-عابد لا يخلف بوعده " ثم ضربها بخفة بأصبعيه على وجنتيها مردفًا : إلا إن رغبت أنتِ بذلك
اشاحت رغد بوجهها عنه باشمئزاز فعاد يقول مجددًا:
- بضع ساعات وسأعود ....إن لم تكوني هنا الآن فالموت هو من كان سيلاقيك خارج جدران هذه الغرفة، لا ترفعي صوتك ابداً، لا أصوات بكاء ولا حركة زائدة فخارجًا رجالنا كالذئاب يا حلوة.
عاود ارتداء قميصه وواقي الرصاص بعد انتهائه من سيل الممنوعات والتعليمات وخرج مقفلا ً الباب من الخارج لتصير رغد أسيرة هذا المكان ))
******