Enasmhanna

Share to Social Media

((عام 1980))

كانت رغد تذرع الغرفة جيئة وذهاباً بتوتر بعد انقضاء عدة ساعاتٍ على احتجازها في هذا المكان المريع حتى حل الليل، تورمت عيناها بسبب بكائها المتواصل ،اشتدت برودة الجو فشعرت بارتعادة اوصالها وضعت غطاء السرير على كتفيها و التصقت بتلك المدفأة الصغيرة التي لا تبث الدفئ بهذا الصقيع ، شدت شعر رأسها بعصبيةٍ وقد انهارت على الزاوية بجانب المدفأة تضم ركبتيها على صدرها وكأنها تلتمس الأمان بهما اطلقت المدفأة الكهربائية أزيزاً وانطفأت بعدما حصل ماسٌ كهربائيٌ بها .

-اللعنة ! دفعتها بعنفٍ بقدمها وعاودت تحتضن قدميها وترتعش من شدة البرد حتى غلبها النعاس فاستسلمت له لتسدل أهدابها وتتكور على نفسها لتنام على السجادة العتيقة .

بعد انقضاء مدةٍ قصيرةٍ على غفوتها دلف عابد إلى الحجرة بإنهاكٍ جلي على تقاسيم وجهه ذو الذقن التي استطالت شعيراتها،ٍ دار بعينيه السوداوين كصقرٍ  بحاجبين منعقدين حتى رآها ترتجف بإحدى الزوايا، بصق سيجاره ودعس عليه بقدمه قبل أن يتقدم ناحية رغد وينحني تجاهها، نادها قليلاً متلمساً وجنتها الباردة وتمتم بسخط: هذا ما نجنيه من التعامل معكن ! كان ينقصني هذه المصيبة !
حملها بين ذراعية وكانت كقطعة الجليد ترتجف بين ذراعيه لما عانته من انخفاضٍ في درجة حرارة جسدها الهزيل، ومددها فوق السرير يدثرها باللحاف ، ثم اتجه ناحية المدفأة تأملها لبرهةٍ قبل أن يغادر ويعود مجدداً يحمل مدفأة أخرى ليضعها بجانب السرير ، كانت ما تزال ترتجف خلع سترته السميكة ودثرها كذلك بها ووقف وهو يضع كفيه على خاصرتيه .

شحبت وجنتها الناعمة عندما فتحت أهدابها بعد دقائق ليتبين لها عابد الذي يجلس على الكرسي المجاور شهقت بخفوت وحاولت أن تشيح ببصرها عنه فقال :
-ستكونين بخير .
ذرفت دموعها مجدداً بخوفٍ من هذا الكيان الضخم الذي يحكمها بنظراته المبهمة فسألت بخفوت : من أنت ....ماذا تريد مني !؟
- هس " همس بها وهو يضع إصبعه على شفاهه بعصبية مشيراً لها بأن تصمت فاكتفت بدموعٍ زادت غزارتها أكثر .

ألا تنضب دموعك يا فتاة ! قالها عابد بعد ساعةٍ كاملةٍ قضتها في البكاء الصامت وهو لا يحيد ببصره عنها وعلى الرغم من سوداوية حياته، رآها تشبه شقيقته على الرغم من اختلافها الواضح عنها، لكنه يرى وجه اخته بملامح أي فتاةٍ يقابلها، لكم اشتاق اخته الوحيدة التي قرر الابتعاد عنها كيلا يطالها الأذى بسبب عمله، تنهد مغمضاً عينيه وذكرى عائلته تداعب عقله،

شرع بتدخين سيجارٍ آخر بعبوسٍ احتل تقاسيم وجهه، حاولت رغد النهوض كذلك فقال باقتضاب : نامي رغد انتصف الليل .
انفرج حاجباها وهي تعتدل بمجلسها متجاهلةً أمره : منذ أيام لا افعل شيئاً سوى النوم في هذا المكان القذر ..وحتى اللحظة لا أعرف سبباً لخطفكم إياي !
نهض وركل الطاولة التي كان يسند قدميه عليها لترتطم بالحائط بعنف وهدر صوته وهو يشرف عليها من علو: أتريدين القيام بشيء آخر غير النوم إذن؟! هاه
أتريدين أن أنفذ الأوامر كما هي ...؟!
انكمشت على نفسها أكثر وقد انحنى تجاهها أكثر فلفحت أنفاسه وجهها فهاجت عيناهما بخوف منها وغضب منه.
هدر صوته الرجولي الأجش من جديد : ناااامي ...

شهقت بفزعٍ لتستلقي مجدداً على السرير مغطية وجهها وما تزال شهقاتها الباكية تستفزه .
عاد ليحمل الطاولة البلاستيكية الصغيرة ووضعها على الكرسي أمامه جلس ورفع حذاءه الجلدي ممدداً ساقيه على  الطاولة وأرجع بجذعه على مسند الكرسي ليغمض عينيه هو الآخر..
وتمتم : نامي...أفضل لك ولي.
  وعلى الرغم من كل شيء سيمضي بهذا الطريق  حتى النهاية ..

((منذ عدة أيام ))

- العملية التالية كبيرةٌ يا عابد ، كن على استعدادٍ للضربة القاسمة .
قالها هذا الرجل الأربعيني ذو الملامح الحادة والشعيرات البيضاء التي تخللت شعره وذقنه، ثم أردف : أريدها ... بأسرع وقت .
أومئ له عابد ثم استلم الملف الذي يحوي على أماكن تواجدها الدائمة، استوقفته صورتها بابتسامةٍ رقيقةٍ تعلو ثغرها .
إنها صغيرة ! تسائل عابد باستغرابٍ ليجيبه الآخر : لديه ابنتين ،الكبيرة تزوجت وهي بمدينة أخرى أما هذه الشعلة ....فهي التي سنقضي بها عليه ،سنشغله بضعة أشهر من خلالها لحين توزيع كامل الكمية "

ثم أردف بحقد.: أحضرها إلى هناا ...وقم بالواجب أنت ورجالك ...

عقد عابد حاجبيه مستنكراً قبل أن يقرأ المعلومات عنها لينهض ذلك الرجل قائلاً بجمود : هل هناك مشكلة ؟
رمى عابد الملف بإهمالٍ على الطاولة وقال مستنكراً :
طبعاً هناك مشكلة ! فتاة لم تبلغ الثامنة عشر تجلبها لهذا الوكر، تعلم أن رجالنا كالكلاب المسعورة وتسألني ما المشكلة، بإمكاننا ارسالها لمنزل مؤمن "

-وهذه التفاهة منذ متى ونحن نهتم بهذا، أخبرتك أنها لن تكون سوى وسيلة ضغط ليكف ذلك الضابط ببلائه عنا "
انفرج حاجبا عابد وصمت
طال صمته فمال الرجل بشفاهه ساخراً : هل اشتم رائحة شهامةٍ يا عابد بيك !

-أخبرتك سابقاً أن عملي هنا مكللٌ بشروط"

قهقه الوطواط بأعلى صوته مجيباً: تاجر سلاح شهم ...واااو !! برافوو يا ابن اخي ...برافو تعجبني.

صفق الوطواط ساخراً فصر عابد على أسنانه هاتفاً بغيظ : سأتولى أمرها بنفسي .

ازدادت ابتسامة الرجل الماكرة :كن واضحاً, أعجبتك إذن .
زفر عابد بجدية ثم ضيق عينيه ناحية عمه قائلاً :
- وإن يكن أصبحت تخصني و،سأتولى أمرها ومن داخل حجرتي كذلك أهذا واضح لن يقربها مخلوق .."
قهقه الوطواط هذه المرة حتى كانت أنفاسه أن تنقطع وقال بمكر : لا مشكلة لدي افعل ما تراه مناسبًا، المهم عندي أن أنعم ببضع أشهر لأصرف آخر دفعة من السلاح دون أن يتدخل ذلك الضابط ليخرب مخططاتنا سمعت أنه ما يزال يتربص بمن يشك بمعاملاتهم معنا .
ثم أردف بحقد: الوطواط سأجعله يرى هذا الاسم في كوابيسه حتى "

                          ******

تململت رغد على الفراش ولم تعد قادرة على النوم...إنها تنام فقط منذ أيام ..تنام وتنام وتنام خوفا وبردا، انتظم تنفس عابد وهو ما يزال مغمضاً عينيه على الكرسي يتذكر آخر حوار له مع عمه الوطواط، نهضت بهدوءٍ شديد لتفتح درج الكومود لتبحث عن أي شيء قد يفيدها بالهرب من هذا المكان الذي حتى الآن لم تعرف ماهيته وماذا يخفي خلف جدرانه وممراته الإسمنتية ولعلها مختطفة من قبل عصابةٍ ما، عقلها لم يستوعب بعد أنها أضحت رهينة لكن على طرازٍ خاص، فلا قانون سيحكم هنا سوى قانون عابد ،
لمحت المقص، تناولته بهدوء وتقدمت منه بخطى بطيئة تفكر بضربة على العنق وستنتهي مأساتها .
صارت قبالته تماما ً رفعت كفها وهوت بالمقص عليه، وقبل أن يغرز بعنقه شعرت بقبضته تعتصر كفها  ليسقط المقص على الأرض محدثاً دوياً عنيفاً بعد هذا الصمت المهيب، تأوهت بألمٍ فشف ثغره عن ابتسامةٍ هازئة وهو يشدها إليه وغمغم بشرود فيها:
- حظ أوفر في المرة القادمة  ألا تكفين عن العبث ! ألا تفهمين أني أحاول حمايتك حتى اللحظة! "

حاولت التملص من يديه وهي تتسائل بجزع : حمايتي من ماذا  ! حمايتي ممن لقد اكتفيت منك ومن هذا المكان ....سيدمرك أبي، سيحرقكك لو علم ما حل بي .

ازداد اشتداد قبضتيه على يديها وهمهم بتسلية: -وما الذي حل بك؟ انت هنا معززة مكرمة..لم يمسسك أحد بسوء .
ضحكت بتشنج رغم آلام يديها وهتفت فيه: يا لهذا الكرم والرفاهية التي أعيشها هنا .
قابلها بابتسامة باهتة مؤكداً:
- صدقيني..كان الأمر ليكون أسوأ بمراحل لو  تغافلت عن جزئية أنك ما تزالين صغيرة...
- شهامة يعني؟
سألته ساخرة فأكد لها:
-لو لم املك هذه الكمية الضئيلة من الشهامة لكنت عرفت حينها معنى أن تحيي في جهنم بين وكر من الذئاب.
شعرت بصدق كلماته مما زاد من توتر نظراتها فهمست برجاء: اترك يدي أنت تؤلمني.
افلتها وقال محذراً:
-أي تصرفٍ أحمق منكِ لن أتردد لحظةً واحدة في تنفيذ الأوامر التي وكلت إلي فلا تحاولي اختبار صبري او المراهنة على تلك الشهامة التي قد تخبو بلحظة .

**********
صرخ والد رغد بعنف على الحرس: وكيف تاهت عن أعينكم يا أغبياء !! ما أنتم إلا مجموعة حمقى، أريدها اليوم هل فهمتم ....اليوم أريدها بالمنزل وإلا أحرقت القسم بمن فيه وأقسم بالله على ذلك .
ربت الضابط الآخر على كتفه مواسياً : إهدئ سنجدها لا تجزع .
مسح وجهه بكلتا يديه وهو يدعو الله أن يسلم ابنته الحبيبة من كل سوء .
-كيف اهدأ...كيف اهدأ وابنتي معهم !؟
*******
أقبل الفجر على البزوغ ... عاد عابد مجدداً من الخارج ليجلس على الكرسي وهو يكشر بغضب ،لقد مل فعلاً من طريقة حياته الموبوئة، حانت منه التفاته ناحيتها وهي تغفو بسلام وتبسم بتهكم حينما فكر للحظات بتشكيل عائلة صغيرة سعيدة حينما شعر بالحب ذات يوم...، سبح بفكره بعيداً فلو كان احد الموظفين البسطاء
، تستقبله زوجته الجميلة بعد يوم عمل شاق، يتسابق أطفاله في أرجاء الشقة ويصدعون رأسه بمشاكساتهم .
ثم استرجع ذاكرته مرارة الألم الذي اذاقه إياه الوطواط وهو يجلده بالسوط مرارا .. كي يبتعد عن ملاحقة تلك الفتاة التي خفق لها قلبه...
- اللعنة ....اللعنة " صرخ بغضب وقذف بزجاجة مياه كانت على الكومود لتتحطم على الأرض ففزعت رغد واستيقظت ! تطلع فيها بغضب وخرج وهو يتمتم : الى أين سبحت بأحلامك يا عابد، من مثلك نهايتهم معروفة ....معروفة نهايات تجار السلاح .
خرج من الغرفة وأقفل المزلاج و سار بخطى بطيئة داخل الرواق الطويل قبل أن يدلف لإحدى الحجرات ،وكان رجاله يقومون بتركيب الأسلحة وتجهيزها، تناول إحدى الرشاشات وبدأ بمعاينته متفحصا أجزاءه بدقة قبل أن يومئ للرجال بإكمال المهمة ثم أردف بصوت أجش : تجهزوا و كونوا على استعداد دائم، إن تكرر خطأ المرة الماضية فسأحرقكم أحياء .

وخرج بعد مدة من الحجرة ليسير عائدًا ناحية غرفة رغد، رفع مزلاج النافذة الحديدية، كانت جالسة على السرير تضم ساقيها إلى صدرها ، رفعت رأسها فتلاقت عيناهما للحظة قبل أن تشيح ببصرها عنه بحنق ، أقفل المزلاج بإحكام وتوجه ناحية الغرفة المقابلة لها لينعم ببعض الراحة .

******
عودة إلى الوقت الحاضر ...

تجهزت جمانة صباحا وتوجهت ناحية المقهى داعية الله أن توفق في عملها، لم يكن بعيدا كثيرًا عن منزلها وبالتالي ستقطع الطريق سيرا على الأقدام لتوفر أكثر في مصروفها...
وبعض مضي نصف ساعة تقريباً وصلت إليه، كانت واجهته بلورية بالكامل تتعانق الزهور بألوانها حوله فتعطيه لمسة حيوية و علقت القناديل الخشبية على حوائطه لتعطيه نوعا من السكون والهدوء ،اجتازت السور الخشبي الملون وخطت للداخل لتقابل مدير المقهى، وفعلاً حصلت على العمل وبراتب معقول، وبدأت فوراً بمزاولة المهنة بعدما سلمتها زميلتها مريلة حمراء تحمل شعار المقهى، كان الجو هادئاً فعلاً بهذا المقهى ممتزجاً مع صوت فيروز الرائق، تبسمت بسعادة حقيقة وتمنت أن تقضي الأيام التالية على خير ولا تثور كعادتها لاختلاق مشاكل مع أحدهم فتصبح مضطرة لترك العمل .

قاربت دقات الساعة أن تستقر على التاسعة مساءاً لتنهي أول يوم لها في العمل، غادرت المقهى متوجهة إلى المنزل فمرت بطريقها لدكان مسعود .
-حصلت على الوظيفة إذن "قالها وهو يرتب أكياس الطحين فأومأت له بسعادة فعالجها بقوله : والراتب جيد إذن ، أشم رائحة نقود من وراء ابتسامتك .
تعالت ضحكاتها فضربته على كتفه بخفة :
-الحمد لله، سيكفيني لأدفع لك أجار المنزل وسأعتال بما يتبقى، إنه قريب سأمشي إليه ولذلك سأوفر أجار المواصلات وبإمكاني أيضا استكمال دراستي في المعهد في السنة القادمة .
-بالتوفيق لك ....لكن إياك وافتعال مشاكل يا جمانة ، لم يعد الحصول على عمل أمراً سهلاً هذه الأيام .
تنهدت مؤكدة كلامه و انتشلت كيسا من رقائق الشيبس وفتحته وشرعت بأكله قبل أن تغادر فصاح مسعود : هييي يا بنت ادفعي ثمنه ! .
-هووف مسعود لا تكن بخيلا ! ،ثم أنني سأبدأ معك بالتمرينات كل يوم صباحاً لتخفف هذا الكرش.
لوح بيده باستهتار: ارحمي كرشي وكفي عن اقحامه بحديثك كل مرة.
-انه بشع يا بني...انت تصبح يوماً بعد آخر كبرميل ماء ..عليك بتحريك نفسك وممارسة الرياضة .
وخرجت من دكانه مبتسمة بشقاوة .

********

كانت نور تجلس بجانب آدم يدرسان في صالة منزلها كون امتحانات الثانوية العامة قد شارفت على البدء وهو يساعدها في استذكار وشرح دروسها،أخرجت الهاتف كالعادة واقتربت منه لتلتقط صورة رفع وجهه باستهجان وحدق فيها : حتى وقت الدرس ! ألا تملين التصوير...
غمغم بحاجبين معقودين فابتعدت عنه مجدداً والتقطت صورة أخرى !  .
شعرت بالتململ فنهضت من على الكرسي ليسأل باستنكار
-إلى أين ؟ لم ننتهي بعد !
ارحمني آدم هاقد مضى على جلوسنا ساعتين من الزمن لقد تشنجت أطرافي .
أغلق آدم الكتاب فقالت عبير وهي تقوم بلف ورق العنب وحشوه بالصالة مع الخادمة : خذا فترة استراحة ٍ يا آدم، نحن نتعبك معنا فلديك مشروع تخرجٍ أيضاً بني .

تبسم آدم ناهضاً  من على الكرسي وهو يحرك أطرافة المتشنجة وصدره يخفق باضطراب لذيذ...لو ظل هكذا العمر كله لن يمل :
- لا تقلقي خالتي المشروع الذي أعمل به لا ينقصه سوى بعض التفاصيل الصغيرة وسأسلمه في معاده إن شاءالله، المهم فقط أن تنجح ذات العقل السميك .

ضحكت عبير فهتفت نور باستنكار وهي تضرب الأرض بقدمها :
-أنا ذات العقل السميك يا سيد آدم ! أنت أستاذ فاشل لا تجيد إيصال المعلومة "
-هكذا إذن....دعي مراد يعلمك من الآن وصاعدا أنا مغادر ..
وفعلاً استكمل طريقه ناحية باب الشقة فجزعت نور من احتمالية تدريس مراد لها...فهو لا يتوانى عن ضربها بكل ما يقع تحت يديه إذا لم تفهم وقت الشرح..وذاتا خلقه ضيق ..لن يتحمل دماغها السميك...
لحقت بآدم وقبضت على ساعده وشدته راجيه : -لا ..لا اخي سفاح والله لتقرأ خبر نعوتي في اليوم التالي مباشرة ...مخي سميك واعترف لكن رجاء لا تتركني في هذا الوقت الامتحان اقترب .
استدار ناحيتها بقلب مضطرب وهمس وهو بجانب الباب : حسنا إذا اتركي ذراعي لن أهرب. 
أفلتت ذراعه من قبضتيها فهندم كنزته واشار لها كي تتقدمه:
- أريد فنجان قهوة كتعويض عن هذه الإهانة العلنية لمهاراتي" قالها معانقاً بمكر عينيها العسليتين فنظرت إلى الخادمة لتطلب منها إعداده فقال بإصرار : من بين يديكِ سأشربه هذه المرة ، ألا ترين أنها مشغولة ؟

بهتت ملامح نور فهي لا تتذكر حتى متى صنعت آخر مرة فنجان قهوة ازدردت لعابها وهمهمت بالرفض إلا أن نظراته التي ارتكزت عليها جعلتها تنصاع لمطلبه على مضض وعبير منهمكة بلف ورق العنب فلم تنتبه للهيب الصواريخ المنصبة على ابنتها المسكينة من قواعد عينيه .
-ولا تنسي وضع بضع قطع من البسكويت. 
توجهت ناحية المطبخ وصارت تحاول إعداد فنجان قهوة وهي تتمنى أن يختنق بها كي يتعلم عدم إحراجها مجدداً فهو يعرفها فاشلة في اعمال المطبخ، دلفت بعد صراعٍ مريرٍ وحربٍ طاحنةٍ فارت على إثرها قهوتها
على الغاز لتعيث به دماراً، أخرجت الهاتف وارسلت الصور إلى مراد كالعادة ليقوم بطباعتها وتسليمها لوالده ...

ثم صبت قهوته في فنجان بتكشيرة مكر ودلفت لتقدمها له، مع طبق مليء بقطع البسكويت فقال عابثاً : اتشتمين رائحة حريقٍ خالتي .

رفعت عبير رأسها لتفهم مغزى كلماته وتبدى لها جلياً أن الأدخنة تتصاعد من رأس ابنتها المسكينة فقالت نور بحدة : أرى بركاناً سينفجر بوجهك يا آدم إن لم تصمت .

قهقهت عبير وهي تلملم حلّة المحشي بعدما انتهت من لفّه مع الخادمة و ودخلتا إلى المطبخ فعاودت نور الحديث بحدة :
- هل سأنتظر طويلاً ؟ .
تنبه أخيراً إلى يديها اللتين تحملان صينية القهوة فرفع يده لاستلامها، قرب الفنجان من شفتيه وهي تنتظر بمكر نتيجة فعلتها وما إن ارتشف منها حتى جحظت عيناه وبصقها   :
- ملح !! يخرب بيتك !
تعالى صوت ضحكتها الشامتة بتشفٍ وهي تراقص حاجبيها وهمست بمكر : كي تتعلم أصول اللعب مع الكبار .

وقف أمامها فجأةً  مما جعها تجفل وتتراجع خطوة إلى الوراء وهي تضم الصينية لصدرها.. تقدم منها وهي مازالت تتراجع حتى التصقت على الحائط باسمة ظنا منها أنه يمزح..
مال عليها هامساً : قلت لي أن أتعلم أصول اللعب مع الكبار !! سنلعب إذن من الآن وصاعداً على طريقة الكبار  "
واقترب أكثر وأكثر  وهو يرتكز بكفه على الحائط خلفها محاصرا إياها تلاشت الابتسامة حتى حل الذعر مكانها واضطربت أنفاسها بخجل من اقترابه بهذا الشكل، وبلحظة ضربها بأصابعه بخفة على جبهتها هامساً  :إلى أين ذهب تفكيرك يا ابنة المنصور !..لا إله إلا الله، بنات آخر زمن !!
حبست انفاسها وقد اغرورقت عيناها بدموع الإحراج وهمست بتوتر: أنت ...أنت غبي .
ضج صدره بعنف وهمس موافقاً: أنا غبي ..غبي جداً.
وبلحظة كان قد طبع قبلة على وجنتها الناعمة وهمس من جديد بأذنها وسط ذهولهما معا :
- ولا تجعلي هذا الغبي ..يبثك أغبى ما عنده بسبب تصرفاتك الأغبى  .
واندفع خارجاً  من المنزل بطريقة أقرب للهرولة ..

*******
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.