Enasmhanna

Share to Social Media

ظلت جمانة  ملتصقة بشقيقها حتى عندما استقلا السيارة ليصطحبها للفيلا،وكأنها تخشى عليه أن يحلق بعيداً عنها، وكأنها تشبثت بحلمٍ لا تريد أن تصحو منه أبداً..وهو كذلك ظل قابضا على كف شقيقته بتلك الرضيعة التي احتضنها بين ذراعيه حينما فقد والدته منذ عشرون عاماً، فأضحت هي على الرغم من سنواته التي لم تتجاوز السبع حينذاك مسئوليته الكبيرة، وعاوده ذلك الشعور الكبير بالمسئولية..

ووصلوا أخيراً إلى الفيلا بعدما اتصل مراد بوالده حينما خرجوا من شقة جمانة وأخبره باقتضاب : هنالك مفاجأةٌ لكم وللسيد عابد الرجاء بأن تخبر الجميع بذلك، نحن قادمون.

وماهي المفاجئة التي توقعها الجميع بعدما تم إخبارهم !! لم تتجاوز توقعاتهم إلا أن يكون الشابين قد جهزا لمشروعٍ جديد، ولربما فعلاً وكما قال رضوان ممازحاً عابد : سيحضرون لك عروساً أيها الخِرِف"
لتتعالى ضحكات الجميع باستثناء إليسا التي قالت بفرحٍ وهي تتطلع بعابد : بل الموضوع أكبر مما تتصورون جميعاً ..أكبر من توقعاتكم " فقد كان مراد قد حادثها كذلك بأنه برفقة آدم و جمانة ليعرفها على عائلته قبل أن يتحدث مع رضوان، تطلع الجميع فيها حينذاك باستغراب لتسألها نور بلهفة ضاحكة: أيتها الماكرة ما الذي تخفينه؟ لترفع إليسا حاجبيها قائلةً بابتسامةٍ خجلى : لن أستطيع إخباركم، ستعرفون بعد قليل.

وماهي إلا دقائق قصيرة حتى وصلت السيارة إلى الفيلا وترجل الجميع منها، وكعادة جمانة ما إن ترى هذه الفيلا ينتابها هذا الشعور الغريب ككل مرة  لكنها لم تتوقع سابقاً أنها ستكون منتميةً لها بشكلٍ أو بآخر ! تنبه آدم على شروها فربت على كتفيها: أهلاً بك في منزلك..والدنا ينتظر أن نبث له الخبر  " انتشلها صوته العميق من شرودها لتتطلع فيه نظراتٍ ضائعة وكأنها فعلاً تعيش أحداث حلمٍ طال جداً، فلو كانت تحلم هذه اللحظة،تتمنى أن تصحو كيلا تتزايد عليها أوجاع صدمة الاستيقاظ منه !.

-جمانة " نطقها كريم وقد أرهقه هذا اليوم جداً.. إرهاقاً روحياً تملكه من تلك القصيرة التي نبشت التراب المتراكم على قلبه بلا كلل وبلا معرفةٍ عنها بذلك ! ظلت تحفر وتحفر حتى بان قلبه وبدأت نبضاته تستعيد الحياة بعد أن كاد يتوقف جراء الهموم التي أثقلته.
وتقدم خطوتين منها متجاهلاً نظرات آدم الذي ينتظر لملمة شتات شقيقته : سأغادر الآن فلا داعٍ لوجودي انتبهي على نفسك، عن إذنكم "
تعانقت عيناهما للحظات ما بين حبٍ بدأت تتوهج شعلته وامتنانٍ لكونه أول من بث لها هذا الخبر السعيد والغريب بأنٍ معاً  وطرفٌ ثالث بدأت النيران تمزقه فتتصاعد منه النيران لتنفث حمماً وبراكين فها هو مراد... بعدما غيرت تلك الجنية كل شيٍْ فيه انتقمت منه بكل ما فعله بالنساء اللاتي تعرف عليهن بحياته

أومأت له جمانة بابتسامة شكرٍ وامتنان وهمست : شكراً لك على كل شيء " فليست صاحبة المنزل كي تدعوه للبقاء ولا مراد كان سيدعوه لأن يواصل تمزيقه في كل نظرةٍ يحدق فيها ناحية جنيته..

لكن من ضحد كل توقاتهم بل وصب الزيت على نيران مراد كان آدم الذي قال برصانةٍ لأنه كان كذلك طرفاً بتعرف شقيقته عليه دون عناء : لا يا كريم ستتفضل بالدخول كذلك..لربما نزيل الخلافات عنا فقد طالت كثيراً "

انفرج حاجبا كريم دهشةً وانعقد حاجبا مراد بضيقٍ لكن آدم أردف : أليس كذلك يا مراد.

شد مراد بقبضتيه بعصبيه وتمتم : طبعاً.. طبعاً يا ابن خالتي " وتجاوزهم ليدلف إلى الداخل بينما تسائل كريم : هل أنت متأكد ؟
ربت آدم على كتفه قائلاً برحابة صدر : الأحداث  التي مرت في الآونة الأخيرة غيرتنا جميعاً أليس كذلك ؟
ليجيب كريم برصانة : فعلاً غيرت الكثير يا آدم .
ثم أردف هامساً: يجب أن نتحدث في القريب"
ودلف الجميع الفيلا وآدم يحتضن كف جمانة التي ترتعش من الخوف والارتباك واللهفة والترقب جميلةٌ هي تلك المشاعر المتضاربة التي تصيبنا وخاصةً في لحظات لقاء أحبائنا..نعم كانوا أحبائها دون أن تدري..كان رابط الدم هو ما جعل آدم ينجذب لها سابقاً،  رابط التشابه بينها وبين والدته الراحلة، وهو ما جعلها تثق فيه بطريقةٍ غر يبة ومنذ لحظة اللقاء الأول ! والآن وبمنتهى البساطة عرف الجميع سر هذه الثقة الغير مفهومة.

كان الجميع جالساً وما إن دلفت جمانة حتى ذهل الجميع ما بين دهشةٍ وصدمة وغيرةٍ وعدم فهم. دارت آلاف الأسئلة من عقولهم جميعاً من نور التي شعرت بغيرةٍ قاتلةٍ من آدم الذي يدلف بعد منتصف الليل بقليل ببيجاما منامته! وهو يحتضن كف فتاة أخرى ! وما بين دهشةٍ وصدمةٍ من عبير االتي التمست ملامح شقيقتها الراحلة من تلك الفتاة ذات الملامح المرتبكة الخائفة كقطةٍ ترتعش والجميع يحدق بها، ورضوان الذي لم يعرف من هي ضيفتهم الشابة .
وعابد, عابد الذي هاجمته رغد دون رحمة ... دون إشفاق نهض عن كرسيه و تقدم بقدمين بالكاد تحملانه  تجاه صاحبة هذه الملامح شد آدم بقبضته أكثر على شقيقته وهو يخرج السلسلة من حول رقبتها أمام أعين الجميع ويخرج سلسلته كذلك،  وعلى الطاولة البلورية أمامه يلصق الشمس أمام نظراتهم قائلأ بلهفة : هدية جمانة وآدم , هديتك لنا يا أبي مذ كنا صغاراً قال مراد مكملاً حديثه مخطباً عابد  وهو يعود أدارجه ناحية الصالة ليثبت تحاليل التطابق:  لم تكن ميتة كما ادعت مديرة الميتم, بل باعتها مقابل مبلغٍ محترم" والتفاصيل سأرويها لكم لاحقاً..

عابد لا يحتاج لسلسلةٍ ليتأكد.. لا يحتاج لتبريرات ليعرف أن هذه الصغيرة من صلبه، هبت ريحٌ محملةٌ بعبق السنوات الغابرة، عبق التشتت والضياع الذي تلاشى بهذه اللحظة وهي تتقدم من والدها لتتأمل هذه الملامح الصلبة، الملامح الذي تسائلت طيلة سنواتٍ وسنوات كيف ستكون؟ لكنها لم تتوقع أن يكون بهذ الجمال والقوة والصلابة، لولا الشيب الذي أثبت نفسه وبجدارةٍ على شعيراته السوداء لما صدقت بأنه قد يتجاوز الخمسين من العمر، عبير شهقت بقوةٍ وقد تعالى بكائها في ذات اللحظةِ التي ارتمت فيها جمانة على صدر والدها الذي تلقفها بين ذراعيه.. تلك الصغيرة الناعمة التي بالكاد وصلت ناحية صدره، الصغيرة التي لم يرتو من احتضانها مذ كانت رضيعة، لأن أنياب الغدر نهشته من عمه، والآن عادت تلك الرضيعة لأحضان وطنها الكبير، سقط لقب اللقيطة...سقط لقب اليتيمة وأصبح لها اسم وهوية ...جمانة عابد الآغا"
هذه المرة لم تبكي جمانة..لم تعد تريد البكاء بعد أن نفذت طاقتها من الدموع طيلة ساعتين وأكثر من الزمن، بل طيلة سنواتٍ وسنوات من الوحدة والخوف من المجتمع الذي لا يرحم من هم أمثالها رفع عابد وجه صغيرته بيديه قائلاً بلهفة : أنت... أنت نسخةٌ منها، أنتِ رغد الصغيرة" همست جمانة بصوتٍ متهدج : هل حقاً أشبه أمي !
أومئ عابد ودموعه تتلئلئ بمقلتيه ثم قبل جبينها وابعدها قليلاً ليفتح ذراعه لآدم الذي تبسم بسعادةٍ وارتمى كذلك على صدر والده الذي تنهد بعمق وهو يردد : الحمد لله، الحمد لله .

شد مراد على ساعد والدته التي تقدمت بهدوء من جمانة، تنبهت لها جمانة لتحدق بها فقال مراد بسعادة : إنها أمي... خالتك عبير" ازدادت ابتسامتها أكثر وعانقتها ليتهدج صوت عبير وهي تقول مراراً : تعالي لحضن والدتك يا حبيبتي، -أنتِ... أنت فعلاً نسخةٌ منها، سبحان الله .

وكذا فعلت نور التي رحبت بها ترحيباً حاراً بسعادةٍ غمرت روحها لسببين، الأول أنها كانت شقيقته فقط وإلأ لكانت نسفت دماغه لدخوله وهو يحتضن كف فتاةٍ غيرها !! والسبب الثاني لأن شمل هذه الأسرة قد التم أخيراً، اسرة استسلم كل منهم ليأس ماضيه وظلام حاضره، يكفيها الآن هذه السعادة المطلة من عينيه بشكلٍ جلي...

وكريم اكتفى بالوقوف ساكناً يشاهد هذا اللقاء الحميمي بين أفراد العائلة... لم يبذل جهداً يذكر بتجاهل نور.. لأنها بهذه اللحظة لم تكن موجودة بالنسبة لقلبه، بل كانت تلك الجمانة فقط من استحوذت جل اهتمامه بل وكانت مركز اهتمام الجميع تقدم كريم بعدها ليقول لعابد بخجل : -آسفٌ يا عمي لكل ما حصل بسببي"
ثم جهر صوته : وأسفٌ منك كذلك يا عمي رضوان..لحظة طيشٍ ولن تتكرر "
ليربت راضياً على كتفه قائلاً بطيب خاطر : لا عليك يا بني..ليسامحك الله، جميعنا نرتكب الأخطاء أحياناً "
  وبعدها جلس الجميع وجمانة تتوسط عابد وعبير...يتبادلون الأحاديث  وجمانة تقلب ببصرها بينهم جميعاً عائلتها الكبيرة التي وجدت نفسها فجأةً بأنها واحدةٌ منهم...كانت وحيدةٌ سابقاً والأن تبددت تلك الوحدة ومحيت.

تجاوزت الساعة الثالثة صباحاً فقالت جمانة على استحياء تخاطب آدم : هل تستطيع إيصالي لمنزلي" تطلع فيها الجميع باستغراب لتتسائل عبير بعتاب :
- إن كنت تريدين احضار حقائبك غداً بعد أن ترتاحي سنحضرها لك، ستنامين الليلة بغرفة نور لحين أن نجهز لك أجمل غرفةٍ بهذا البيت" أطرقت رأسها أرضاً بارتباك..كانت نظرات الجميع مسلطة عليها قربها عابد منه مقبلاً جيهتها: -وهل تظنين أن بعدما اجتمع شملنا من جديد سأتركك تغادرين !
- ولكن..لا أريد إزعاج نور و...

ضحكت نور باسمة وهي تجيبها : أنا أحب الإزعاج أزعجيني كما تشائين"
وأردف مراد وهو يسلط نظراته عليها:  وهل تظنين أننا وبعد هذه السنوات سنتنازل عنك بسهولة ؟
ابتسم  كريم باستهجان بعدما استشف خبث حديث ابن عمه فقال مؤكداً وهو يحدق بمراد بنظرةٍ ذات معنى : فعلاً لن نتنازل عنكِ بسهولة يا جمانة .
نهضت نور منهية النقاش: إذن تصبحون على خير سأصطحب جمانة لترتاح قليلاً "
ثم سحبت جمانة من يدها لتصعدا درجات السلم بينما نهض كريم قائلاً كذلك : بعد إذنكم الآن سأغادر...وإن احتجتم أي شيء فأنا في الخدمة " شكره عابد ورضوان ونهض مراد ورائه لإيصاله لباب الفيلا الخارجي وقال متمتاً وهو في الطريق: -لا أعرف حقاً إلام تريد أن تصل ؟
ليتوقف كريم قليلاً مجيباً ببساطة : إلى قلبها...ومن يدري لعلي أنجح في ذلك "
أمسك مراد ساعده بحدة وزمجر حانقاً بصوتٍ هامس : لن تفعل هذا بي يا ابن عمي أليس كذلك ؟
حدق فيه كريم قائلاً: ألم يحن الوقت بعد لتحترم زوجتك وطفلك القادم.. وتكف عن العبث والخيانة ؟!

أطلق مراد زفرة قوية مجيباً : هذه حياتي وليس لك الحق بالتدخل فيها"
ليتبسم كريم مجيباً بانتصار : وهذه ما كنت أريد إيصاله بالضبط، لايحق لك التدخل فيها ولا بأي شكل.


*****************
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.