لم يستطع مراد صبراً لأكثر من ثلاث ساعات وهو يعيد بذاكرته أحداث ما جرى، شعر بوخز عميق داخل صدره وضميره على نهرها بتلك الطريقة الفظة ، اتصل بها لعدة مرات لكنها لم تجبه بل اكتفت بتجاهل اتصالاته أحياناً وبقطع الاتصال أحيانا أخرى بطريقة استفزته فلم يعتد سابقاً على تجاهله بهذا الشكل من أنثى ! ، أرسل لها بعد أن نفذ صبره من عنادها رسالة : أنا في طريقي إليكِ ، ليس مراد من تتجاهلينه يا وقحة "
ثم قال لراغب وهو يستقل السيارة : انطلق إلى منزل جمانة وبسرعة "
كانت جمانة تدور داخل منزلها كاللبوة وهي تفكر بطريقة تستفزه بها فقد أغضبها ذلك الأحمق اليوم بشدة ، تمتمت بحنق قبل أن تخرج من منزلها : -أقسم ان أجعلك تبيت ليلتك بقسم الشرطة "
وما كادت تندفع لتغيير ألبستها حتى رن جرس الباب فتحت الباب ظنا منها أنها زوجة مسعود فصرخت وقد فوجئت به يقف أمامها كالمارد..
تنبهت لما ترتديه ...وفي نظرة واحدة التهمها مراد بعينين متسعتين فما كادت تغلق الباب بوجهه حتى اندفع وأغلق الباب واستند عليه، تراجعت إلى الوراء بذعر من نظراته التي ارتكزت عليها ..كانت ترتدي كنزة لأحد الأندية الرياضية وصلت لما قبل ركبتيها بقليل ..حجمها الضئيل يتنافيان مع شراستها .....
-اخرج أيها الأحمق من تظن نفسك لاقتحام منزلي بهذا الشكل ..
-يجب أن نتحدث"
تجاهلها وارتمى على الأريكة قائلاً بعنجهية:..
-حلوة كالعسل....
اعتصرت قبضتي يديها كيلا تفلتهما على وجهه المستفز فأردف : قهوتي.
اندفعت إلى المطبخ تعارك لإعداد القهوة ..أنا مراد فجال بعينيه محتويات الصالون ...منزل متهالك فوضوي كشخصية من تقطنه حدق بقطعة ثياب مرمية على الأرض...فأمسك ما بين عينيه باسما بيأس...إنها كارثية، حياتها كارثية...وجمالها كارثيا!
شعرها القصير الأسود ...عيناها السوداوان الواسعتان كارثيتان!
نهض بحذر ناحية المطبخ يراقبها وهي تحرك القهوة على الموقد بشرود وغضب ظاهر ..
- هل هذا هو السيناريو الذي يتكرر كل مرة تعملين فيها؟
انتفضت على صوته لكنها جاهدت للتحكم في اعصابها واستدارت ناحيته وهو يقترب مع كل كلمة تنطقها: لأنه...وفي كل عمل يخرج شاب أحمق غير محترم ...ولا أخلاقي..يتحرش بنظرة..بلفظ أو يتواقح.
همس بشرود فيها: تظنين نفسك قوية لكنك ضعيفة جداً، ما تزالين صغيرة على مجابهة العالم الشرس خارجا "
قالت بغيظ: تلك الصغيرة التي تتحدث عنها عانت ما لا تستطيع أنت كرجل أن تتحمله "
تلك الصغيرة جابهت قذارة الرجال خارجًا واستطاعت أن تحمي نفسها منهم طوال سنوات ، دائما ما اطرد من العمل لكن لا يهمني ما دمت على صواب...أخسر ألف عمل ولا أخسر كرامتي.
ابتسم لا إراديا وهو يهمس: كرامتك محفوظة..ماعاش من يهينك..أحرقه حيا.
اقترب منها أكثر ومد ذراعه بجانبها وأطفئ الموقد هامسا: القهوة كادت أن تنسكب "
فأجفلت من اقترابه الشديد لكنها تمالكت نفسها سريعا حينما ابتعد وعاد أدراجه ناحية الصالون فصبت القهوة في فنجانين وتقدمت منه فقال وهو يتناول الفنجانين من الصينية بذات الوقت ووضعهما على الطاولة :
- من أين اكتسبت هذه التناحة و القوة بالله عليك!
وضعت الصينية الفارغة جانباً واجابت بجمود؛- لم أكتسبها سوى من مجابهتي لك ولأمثالك من الوحوش البشرية .
ثم اردفتوهي تجلس بجانبه : أنت وأمثالك ممن تظنون أنفسكم أنكم بنقودكم تستطيعون شراء أي امرأة، أنت قوي فعلاً يا مراد بك و قوتك تستمدها من نقودك ونفوذك أما أنا فقوتي استمدها من فقري ...قوتي استمدها من وحدتي و تجاربي وضعفي السابق ولأنني فتاة ميتم... ظننت أنها لقمة سهلة ورخيصة حتى تجرأت للحضور إلى منزلي في هذا الوقت..يبدو أنك تحريت جيدا "
كان جالساً مكتفا ذراعيه وهو يستمع اليها...قال بعد قليل: هل انتهيت!!
احتضن وجهها بيديه فجمدت لثوان قبل أن ينطق برقة : ومن قال بأني قويٌ جمانة ! أنا ضعيف ....ضعيفٌ أمامك "
ارتبكت من نظراته المنكبة عليها فقالت بتلعثم "
-ابتعد عني !!
-وإن لم أفعل !
-أستاذ مراد لو سمحت لا يصح ذلك "
افلتها وارتشف من فنجان قهوته ببراءة: ما الذي لا يصح بالضبط؟
مسخ بنظراته وجهها نزولاً إلى عنقها وكنزتها الرياضية ثم توقف على صدرها ... وتحديداً على سلسلة فضية تنتهي بقلادة يعرفها حق المعرفة!
ضيق ما بين حاجبيه وأمسك قلادتها في ذهول استطاعت رؤيته بوضوح..أعاد رفع وجهه ناحيتها وسأل باضطراب:
-أين والديك ؟
-ولما تسأل الآن ؟
إرمي كل ما جرى بيننا سابقا وأجيبي عن أسئلتي بصدق رجاءً "
-انت تعرف أني يتيمة، لا أعرفهما "
-ألا تذكرين اسم الميتم الذي كنت فيه ؟
-وهل ينسى! لا شيء عشته بالميتم استطعت نسيانه"
اغمض عينيه بألم وهو يطرق على ركبتيه في توتر فسألها وقد عصفت الأفكار في رأسه:
- قلادتك الفضية من أين حصلت عليها ؟
سمح ليده بأن تمتد إلى سلسلتها مرة ثانية ليتأمل تفاصيلها بدقة وبالتاريخ المدون خلف قلاتها فتنهدت جمانة مجيبة بخفوت : كل ما أعرفه من السيدة التي اعتنت بي ...أنها والسلسة كانت معلقة في عنقي منذ استلمتني من الميتم وأوصتني بأن أحتفظ بها لربما أفادتني في المستقبل فهي تحمل اسمي "
-هو ...تاريخ ميلادك المدون عليها أليس كذلك ؟
-على الاغلب نعم "
أغمض عينيه بعد أن انتابت جسده قشعريرة من كلماتها قالت برجاء : ما الأمر..أ..أتعرف شيئاً ؟
قالتها بضياع وببارقة أمل أدركها فأخفض ببصره وهز رأسه: إن..إن شكلها جميل لذلك سألت..
"
فانكسر بريق عينيها الذي اختطف قلبه للحظات
وهو كان خائف من أن يكون مخطئ في توقعاته ولم يرغب في أن يعطيها أملا كاذباً مع أنه كان يغلي من الداخل..حائرا مذهولا..
قال بصدر مضطرب: منذ زواجي..حاولت أن أبتعد عنك...حاولت أن أمحوك من تفكيري ولم أقدر، تعبت تعبت جمانة أشعر تجاهك بمشاعر أقوى من أن أتجاهلها.
همست بغضب: أنت متزوج.
احنى جذعه إلى الأمام متكئ بساعديه على ركبتيه وقال بغصة: شكراً لهذه المعلومة.
أردفت بغضب أكبر: وزوجتك فاتنة...رائعة ومستعد لخيانتها إن جاريتك واستجبت لك!
اعتدل وهو يصرخ :
-لم أطلب أن تجاريني...لا أطلب منك شيئاً.
هب واقفاً ومشى ليغادر فتوقفت كذلك تنتظر مغادرته..توقف بعد بضع خطوات كمن يحارب نفسه والتف ناحيتها بسرعة واختطفها بين ذراعيه بقوة جعلتها تشهق..غمغم يهدر: -أحبك .هذا القلب ينبض لأول مرة جمانة...ينبض إنه ينبض بعنف عندما أكون برفقتك...
ثم تركها بسرعة وهرب قبل أن يتحامق أكثر..ضرب الباب بعنف فنظرت إلى الباب المغلق في ذهول وما تزال منكمشة على نفسها ..كلماته..نظراته عيناه ..
شعرت بهذه العاصفة التي اجتاحتها..بحماية وسكينة رغم جنون الموقف...رغم جنون أنفاسها واضطرابها...شعرت بأنه الآن يحتقر نفسه..كان واضحاً في حديثه وصوته المرتجف..
حدقت حولها من جديد وأدركت أنها ما تزال في شقتها البائسة...على البساط القديم نفسه تقف وابتسمت بجمود...فهذا هو واقعها الذي لا مفر منه..وشتان ما بين واقعها وواقعه، عالمها وعالمه !
جلس بسيارته لاهثا بعنف وما يزال صدره يضطرب.. ما زالت أنفاسه تهدر لشناعة اعترافه وهو متزوج...كان قد أقسم ألا يخون اليسا بعد الزواج...والعقد...العقد يا الهي ! غمغم بتوتر واخرج هاتفه على عجالة و اتصل بأحد معارفه من الضباط ليقول باندفاع :احتاجك بخدمة هنالك فتاة يتيمة أريد معرفة جميع المعلومات عنها ، كل شيء رجاءً يا أكرم وبأسرع وقت"
********
كان كريم جالساً برفقة صديقه ماجد في أحد المقاهي وعينيه محمرتان، يستكين على يده وبيده الأخرى يتلمس فوهة كأسه بأنامله حتى رفعه ليفرغ ما تبقى منها في جوفه دفعة واحدة ..وأمسك الزجاجة مباشرة ليصب لنفسه كأسا آخر فانتشلها منه صديقه قائلاً بقلق :
- كفى يا كريم ، لقد أكثرت من الشرب ثم من متى وأنت تشرب! أمن أول مشكلة تواجهك ستلتجئ إليه! لا اصدق أنك وصلت لهذه الحال"
اختطف كريم القاروة مجددا ليتجرع منها وقد سالت دموعه مسحها بعنف وهو يهتف بألم : لا أصدق ..لا أصدق أنها
"
هرع ماجد لإسناده عندما نهض كريم فجأة مغادراً قبل أن يستكمل حديثه..
وهو بالكاد يتوازن، استلم ماجد منه مفاتيح السيارة فارتمى كريم على المقعد بجانبه ولم تعد قدماه تحملانه وهو يبكي بألم ويطلق الشتائم المتكررة على كل شيء حوله، فأسرع صديقه به إلى المنزل وفي الطريق اشترى له زجاجة ماء وقال له بضيق: هيا اشرب و اغسل وجهك لن تستطيع الدخول إلى منزلك بهذه الحالة المزرية !
تناولها منه على مضض وشرب القليل منها ورشق بالباقي على وجهه ليمسح آثار دموعه ثم قال بوهن : - الغبية تفضل ابنة المجرم علي !
زفر ماجد بقلة حيلة وقال له : لست واعيا لما تتفوه به، ادعو لها بالسعادة إن كنت فعلاً تحبها احترم مشاعرها واختيارها "
ضرب على صدره وهتف بلوعة : -ومشاعري..مشاعري من يطفئ لهيبها..!
حدجه ماجد بنظرة اشفاق ثم قاد مجدداً ناحية منزل كريم ليغادر بعدها، استطاع كريم بعد جهد الوصول إلى غرفته ..بالكاد خلع كنزته التي شعر بأنها تخنقه وانكب على سريره، فتح الهاتف يقلب بالصور ...ظل يقلب بمئات الصور لها ...
ثم قلب بين جهات اتصاله...يريد أن يتصل بأحدهم..أن يحكي مع أحد ممن كان يساعدهم دائماً ويلبيهم على الفور والآن من وصلت علاقته به لحد أن يفشي له ما يثقل كاهله...
لا يوجد سوى مراد...شقيقها مراد الذي لا يعرف حتى اللحظة حجم مأساته..ومدى حبه.
أيتصل فيها! تلك التي كانت تسمعه وتبوح له بما لا تبوح لغيره! نور التي خانت حبه ومشاعره أيتصل فيها ليشكيها لنفسها..
ضحك دامع العينين وضغط بكفيه على عينيه وكأنه يريد إرجاع تلك الدمعات لمكانها..حتى شعر بتثاقل جفنيه وراح في سبات
******
كان آدم يجلس شارداً متأملا تلك السحب التي تخفي القمر تارة وتارة أخرى تحيد عنه بانسيابية ورقة حتى قررت احتضانه بشكل كامل فتجمعت بعد هنيهة لتتساقط حبات المطر وكأنها قبلات تهديها السماء له، تنهد مستنشقاً الهواء المحمل بعبق المطر الذي باتت قطراته تداعب وجنتيه
، لكم كان يعشق المطر، رائحته ، الركض تحت قطراته المنهمرة بحرية، المطر هو الحرية بنظره ، وهو يعشق لحظات حريته تحت المطر فيتوارى الجميع ويحتجبون بمظلاتهم ، إلا هو ينتظر هطوله ليركض تحت قطراته الندية مهما ازداد توحشها ...وكأنه ملك المطر ، زعيم السحاب كما لقبته نور ذات يوم !
رن هاتفه معلناً عن مكالمة منها ! ومن سواها تلك التي سلبت قلبه وعقله وتفكيره منذ سنوات حتى اللحظة أجاب بلهجة عاشق : طال غيابك عني "
قهقهت بمرح وقالت بصوت خفيض : أنسيت أوامر مراد"
فأجاب بخضوع : لننساها للحظة فقط...لحظة.
اشتعلت وجنتاها خجلا لكنها نهرته :
-ادخل كيلا تمرض أصبح الجو باردا !أعرف جنونك حينما يهطل المطر"
نظر لأسفل فرآها تقف في شرفتها وتطالعه بابتسامةٍ عذبة فقال بحب كبير وهو يستنشق الهواء : أتعلمين ...أعشق الأيام الماطرة لأنها تجلب معها رائحة السماء ..ورائحتك أنتِ كرائحة المطر ، كالماء ، ندية وناعمة والابتعاد عنها يعني موت مؤكد"
توارت قليلا بنظراتها خجلاً من كلماته واختلج صدرها بضربات عنيفة فقال : سأنتظرك على السطح لا تتأخري خمس دقائق فقط أريد فيها أن أنسى تعليمات أخوك.... "
"كادت أن ترفض لكنها لم تستطع حتى معاودة الاتصال فقد هرول بسرعة ليصعد درجات السلم ناحية السطح وفرد ذراعيه ناحية السماء لتتساقط عليه قطرات المطر..
عشر دقائق مرت عليه لتبتل ملابسه بينما هو ما يزال باسماً يتطلع ناحية السماء مستنشقاً عذوبة المطر، سمع نداءاً خافتا صادراً من الباب ليتطلع ناحيتها بابتسامة اتسعت فور تلاقي عينيهما، قالت بصوت خفيض وهي تشير لقميصه الخفيف : ادخل ستصاب بالزكام ، ستمرض الجو بارد !
فقال وهو يسحبها من يدها : المطر يشفيني ، يعيد التوازن لنفسي " انكمشت على نفسها إثر زخات المطر المتساقطة فقالت بسعادة : أنت مجنون سنمرض كلانا هكذا !
فقال وقد قربها له أكثر : أتسمحين لي بهذه الرقصة يا ملكة المطر ؟
هزت رأسها بنفي وهي تتمتم له والمطر يغرقهما سويا: أنت مجنون ما زلت تذكر ذلك اللقب !
فقال وقد بدآ بالرقص تحت ألحان قطرات المطر :
-منذ عام حتى اليوم ...و في كل صباح
حين استيقاظي ....وفي المساء قبل أن أنام
كنت أنتظر لتمطر، لأراقصك تحت زخاته كما اتفقنا منذ عام، سنرقص عند أول مطر ، لم تبالي حينها بوعدي لكني أذكره جيدا ..أتذكره وأعترف مع كل قطرة تتزل أنني أحبك أحبك أحبك "
احتضنها بعنف بين ذراعيه وصار يدور فيها مرددا تلك الكلمة .
*********