*1980*
ما زال عابد محتجزاً رغد لكنه لم يحاول مرة أذيتها، هي كانت تثور أحياناً ، تصرخ وهي تضرب الباب بعنف( من أنت ...أين أنا ، ماذا تريدون مني ) لكن لا استجابة منه أو من أحد !
يفتح عابد المزلاج ثم يخطو الى الداخل وهو يحمل لها صحفة الطعام يضعها على الكومود بجانب السرير و ينظر لها فقط بعينين على الرغم من قسوتهما ظاهرياً إلا أنهما يحويان حزناً دفينا محفورة آثاره عليهما، ينتظر الأوامر فقط كي يفك أسر هذه المسكينة التي كانت مجرد وسيلة إلهاء لتشتيت والدها الضابط مدة من الزمن وإشغاله عن عمليتهم الأخيرة بتكثيف البحث عن ابنته فقط .
ومساء ذات ليلة شعرت بمزلاج البوابة يتزحزح وظنت أنه عابد كما هي العادة لكنه ليس الوقت الذي اعتاد عابد المجيء فيه ! ، انكمشت على نفسها أكثر عندما تبينت ظلاً ضخما يتقدم ناحيتها ودلف الرجل الى الداخل بخطى واثقة، لكنه لم يكن عابد ....بلا إرادة منها التصفت على الحائط بذعر وهتفت : من...من أنت؟ ، لكن الرجل كشر عن ابتسامة ماكرة وهو يهمس: ألم تشعري بالملل ...لنتسلى قليلاً أيتها الجميلة .
وتقدم ناحيتها بثبات أكبر لتصرخ بأعلى صوت وهي تستغيث،تهجم الرجل عليها وكمم فمها هامساً بفحيح : هسس ...لا تقاومي .
ولم يكد الرجل يقرب منها حتى مزقت أذنيها صوت رصاصة عالية وسقط الرجل على الأرض يعتصر قدمه من الألم، نظرت بجذع ناحية الباب لتتبين عابد واقفاً أمامه وعيناه ممتلئتان بالغضب ، ضرب برجليه الأرض بعنف وهو يتقدم من الرجل ثم تمسك بتلابيبه وهتف جازا ًعلى أسنانه : أخبرتكم أن الاقتراب من هذه الغرفة يعد انتحار لكم ...... فلتتحمل النتيجة أبها الوغد ،
وكاد أن يجهز عليه هذه المرة برصاصةٍ على صدره لكن رغد صرخت فيه بجزع ....لاا أرجوك ...لا تقتله .
وانهارت ببكاء عنيف في حين أن الرجل كان يتلوى من الألم، بصق عليه باشمئزاز ثم صاح بصوتٍ هادر لأحد الرجال ليقوم بسحبه الى الخارج ،
وما زالت نظرات رغد يتملكها الفزع
قال وهو يخطو إلى الخارج : لن يستطيع أحد أن يؤذيك ما حييت لا تخافي .
رفعت رأسها ناحيته وبعينيها الملبدتين بالدموع نظرت اليه ليرتعد ولأول مرة جراء نظراتها البائسه ، همست بصوت متحشرج : -ماالذي تريده مني .
لا يعرف كيف استند بكفه على الباب مجيبا ببساطة كمن يحادث صديقاً قديما ًبأمر طبيعي فعلاً :
-وجودك هنا مسألة وقت لا أكثرلا تقلقي ولن يؤذيكِ أحد هذا وعدٌ مني .
-عقدت حاجبيها بعدم فهم وسألت : من أنتم ، ماالذي تفعله هنا وأين أنا ؟
فتبسم بتهكم مجيباً :
قلت لك سابقا أنت في وكر شياطين الأرض ..
وأغلق الباب خلفه ببساطة وولى مغادراً .
***********
عودة إلى الزمن الراهن ..
وبدأ فحص شهادة الثانوية، استيقظت نور صباحاً وقلبها مضطرب جدًًا.. خائفة من الامتحان فهو الذي سيحدد مصيرها لتحقيق حلمها للاتحاق بكلية الطب، دعت الله سبحانه أن يلهمها الهدوء والتوفيق، ارتدت ملابسها على عجل وكان بادياً على وجهها الشحوب والإرهاق لكنها لم تستطع تناول الطعام رغم الحاح عبير، فاحتضنتها قائلة :ثقي بنفسك يا ابنتي وتوكلي على الله .
خرجت من الباب لتتلاقى مع آدم الذي كان ينتظرها أمام السلم ليلقي عليها تحية الصباح ...
تبسم بحنو وهو يرى نظراتها المتوترة ووجهها الشاحب ودعت نور والدتها وهرولت درجات السلم
أومئ لها وهبط درجات السلم و استقل دراجته النارية للذهاب إلى جامعته وكم كان راغباً في توصيلها لكن مراد كان قد خرج بذات اللحظة فاستقلت السيارة لينطلق فيها مراد دون حتى أن يلقي التحية على آدم الذي قطب حاجبيه انزعاجا من تجاهل مراد له ...
وما هي إلا بضع دقائق حتى كانا أمام المركز، تنهد بنفاذ صبر ونظر إلى ساعته ثم قال : هيا تعالي ما يزال الوقت باكرًا .
-إلى أين ؟
تسائلت نور فأجابها وهو يتجه ناحية احدى مطاعم المعجنات القريبة :
- ستتناولين فطورك قبل أي شيء كي تستطيعي التركيز .
-لا رغبة لي مراد رجاءً .
تنهد بنفاذ صبر ودفعها الى المطعم لتناول الفطائر .
-هيا ألا ترين أن مظهرك كالأموات !
اكتفت ببضع لقيمات فقط وهي تنظر بين فينة وأخرى إلى الساعة فقال يطمئنها : ما يزال الوقت باكراً ....كل شيء سيكون على ما يرام لا تقلقي .
أمسكت أوراقها لتستذكر مجددًا فسحب الأوراق منها بغتة وقال بإصرار : -كفى الآن وإلا ستتوترين ...
غطت وجهها بيدها قائلة بخوف : انا متوترةٌ فعلاً .
- نور .
ازاح يديها عن وجهها قائلاً بحنو : هيا الآن كفي عن ذلك حبيبتي إنه مجرد امتحان وأنت مستعدة له .
هزت رأسها باستسلام ثم نهضت قائلة : سأذهب الآن بدؤوا بدخول البوابة .
وأسرعت الخطى خارج المطعم لتتجه ناحية مركز الامتحان فجهر صوته : توكلي على الله ولا تخافي .
أومأت له باسمة واختفت داخل بوابة المركز.
*******
دقت الساعة التاسعة صباحاً حينما دلف مراد كعادته إلى المقهى لرؤية تلك النادلة التي خطفت عينيه مذ قابلها أول مرة ..
وكأنها طقوس اعتاد على ممارستها كل يوم قبل التوجه إلى الشركة على الرغم من انشغاله كذلك لاقتراب موعد زواجه ...تلك الجنية التي قابلها للمرة الأولى في هذا المكان....جنية قصيرة ذات شعر أسود قصير ووجه لايتزين حتى بأحمر شفاه ومع ذلك كانت تملك جاذبية ملفتة ...وظنها حينذاك جاذبية لنوع فريد من النساء لم يجربه من قبل ..
الفتاة الطبيعية، الوقحة..ذات اللسان السليط والعينين الساحرتين الواسعتين !
سمعها للمرة الأولى منذ اسبوعين وهي تبرطم مع نفسها صباحاً بكلمات عجائبية !
استدار برأسه الى الخلف وهو جالس أمام طاولته ورآها منكبة على طاولة زبون وابنه كانا قد غادرا بعد أن لوثاها ببقع كثيرة من الشوكولا التصقت على زجاج من جانبها ولوثت المفرش الأبيض ..ارتفع حاجباه محاولا السيطرة على نفسه كيلا ينفجر بالضحك فرفعت وجهها حين تنبهت لنظراته
-خيرا ؟!
هز رأسه أن لا شيء وهمهم بابتسامة وقحة -القهوة ..أريد القهوة.
ثم أردف مازحاً: وقطعة من الكيك بالشوكولا..و لا تخافي لن ألوث الطاولة .
رفعت جذعها أخيراً وسجلت طلبه وهي تقول بجدية: دقائق وسيكون طلبك جاهزاً...
-حلوة ..حلوة كالعسل..
-عفواً!
حدجته بنظرة انزعاج واضح قبل ان يصحح كلماته وهو يشعل سيجاره و يفترسها بنظراته: القهوة...أريدها حلوة.
-التدخين ممنوع هنا ...
قالتها بجفاء فأجاب بثقة: ليس علي...معي كرت أخضر .
نفخ دخانه عالياً لتدير وجهها بانزعاج عنه
أومأت له و تجاوزته وهي ترفع ذقنها بشموخ ليتابعها بعينيه حتى اختفت من أمامه لتتابع عملها.
مر من امامه أحد النادلين فسأستوقفه...
-لو سمحت .
-تفضل مراد بك.
حدق في جمانة وسأل النادل مازحاً: من هذه القصيرة التي تحادث نفسها كثيراً!
تطلع الشاب حيث يحدق مراد وسرعان ما ابتسم مازحاً: تقصد جمانة...إنها موظفة جديدة .
هز مراد رأسه وتمتم : جمانة...اسمها جمانة .
أردف النادل بأسما: لكن لأقول الحق : إنها نشيطة كالنحل وكالجن لا نعرف متى تظهر ومتى تختفي!
عاد لواقعه مرة أخرى على صوت تمتمتها العالية التي تقصدت إسماعه إياها حين رأت على ذات مقعده المعتاد ..
-يا فتاح يا عليم ....
كانت تريد الهرب من نظراته الوقحة التي تتخفى خلف طبقات الوقار والثراء الواضح...
لكنها الوحيدة المتواجدة حاليًا فزميلتها في اجازة اليوم،والآخر لن يأتي قبل ساعتين من الآن.. دلفت إلى الداخل وعادت بعد دقائق تحمل بيدها صينية القهوة لتضعها أمامه وتهرب قبل أن تدق عنقه فقال باسمًا :
-ولكني لم أطلب القهوة !
فأجابت جمانة بثقة : هو طلبك المعتاد ككل يوم .
رفع حاجبيه ثم قال بمكر : لكني اليوم لا أريد القهوة، أحضري لي الكمون بالليمون "
احتقن وجهها بحنق فانتشلت صينية القهوة وقالت ساخرة: كمون وليمون أتعاني المغص ..
-نعم...عندي مغص عاطفي .
رفعت حاجبيها لرده وابتسمت ابتسامة كبحتها فور التماع عينيه وهو يحدق فيها فغادرت من أمامه لإحضار مطلبه العجيب ..
دقائق مرت شرد فيها بقطرات المطر التي بدأت بالهطول خارجا ً...
عادت جمانة من جديد وهي تحمل له مطلبه بتكشيرة واضحة، تابعها بعينيه ثم قال ساخراً بعدما غادرت : ما هذه النظرة الشريرة يا آنسة من أساسيات العمل ...الابتسامة للعميل أم أنك لا تعرفين كيف تكون الابتسامة!
استدارت فجأة ناحيته وأجابت بسخط : أنت في مقهى النكد النسائي إن لم تعجبك المعاملة هنا بإمكانك المغادرة إلى مقهى آخر ونكون من الممتنين لك! .
وهنا صدع آخر صوت تتمنى جمانة سماعه !!
قال مدير المقهى غاضباً :جماااااانة !! الحقي بي إلى المكتب فورا "
حدجته بنظرة انزعاج وانصاعت لمطلب المدير أما مراد فعض على شفاهه بندم فلم يكن ينوي أبداً أن يسبب لها المتاعب .
دخلت جمانة وراء المدير ومن وراء الحائط الزجاجي استطاع مراد تمييز التوبيخ الذي تعرضت له...لكنها لم تصمت...بل يبدوا أنها قد ردت الكلمة بعشرة اضعافها للمدير الذي امتقع وجهه وتوهج انفعالا...
خلعت المريبة التي ترتديها... فهاهي ذي تتعرض للطرد مجدداً، اعتصرت المريلة بقبضة يدها وسارت تجاه مراد وقذفتها تجاهه بعنف وولت مغادرة ليسقط فنجان الكمون بالليمون على فخده أحرقته حرارة المشروب فنهض من فوره يتألم ويمسح بنطاله بمنديله لكن ما أحزنه فعلاً هو تعرضها للطرد بسببه .
-أنا اسف حقاً سيد مراد اعذرنا على سوء معاملة تلك البنت " قالها المدير له معتذراً ،
أكمل مسح بنطاله مجيباً لا بأس ...لا بأس .
وخرج ورائها مسرعاً، جال ببصره باحثا ًعنها حتى لمحها تسير تحت قطرات المطر الذي اشتد ...
اختلطت دموعها بقطرات المطر وهدج صوتها : يالله ...لم يعد بمقدوري تحمل هذه المعيشة .
أوقفت سيارة أجرى لتستقلها عائدة إلى المنزل فهرول مراد مسرعا لكنه لم يستطع اللحاق بها . فوقف وهو يشاهدها بعينيه تبكي داخل السيارة التي مرت من أمامه وأحس بالندم لأول مرة بحياته على تصرف أخرق اقترفه !
**********
ومر أسبوعان آخران وكان مراد يوصل نور يومياً صباحاً، ويصطحبها السائق راغب عند انتهائها، وهاهي الآن قد أنهت آخر امتحاناتها ....خرجت من باب المركز تتنهد براحة ، كان كريم بانتظارها أمام البوابة الخارجية متكأ على سيارته وشف ثغره عن ابتسامة عالية لدى رؤيتها بعد هذا الغياب الطويل عنها، تقدمت منه بدهشة وهي تحتضن حقيبتها
-كريم !! مالذي تفعله هنا ؟
اقترب منها باشتياق وهمس:
- مكاني الطبيعي...أن أكون معك...بجانبك. رفعت حاجبها ونصف ابتسامة استنكار ارتسم على شفاهها فأردف :
-بما أنه اليوم الأخير قررت اصطحابك أنا .
جالت بعينيها تبحث فقال مباغتاً : اخبرت راغب بأن يغادر، هيا تعالي .
استقلت الكرسي بجانبه وانطلق كريم بسيارته بعدما شغل لها أغنية هادئة
-كيف قدمت آخر امتحان ؟
-الحمد لله الأسئلة كانت سهلة جداً ....ساعدتني دروس آدم وتوقعاته .
اعتصر كريم المقود بيديه بعصبية وهو يفكر متى سينتهي من آدم ...وكأن آدم لعنة على حياته فعلاً !
فتدارت أيضاً وأردفت: وأنت أيضاً...لولا دروسك ما كنت لأتجاوز هذه المرحلة.
ثم تنبهت على تغيير مسار المنزل فتسائلت : إلى أين ؟
-سنجلس بمكان ما لتناول الغداء ما رأيك ؟
-ولكن ... !! .
-والدتك تعرف أنك برفقتي يا نور ...اخذت اذنها لاصطحابك .
آثرت الصمت وشردت عبر زجاج النافذة وهو يراقبها بعينيه بين فينة وأخرى حتى اقترب من شاطئ البحر ..
أتاها اتصال
اعتصر كريم المقود بعصبية وقد تأججت غيرته ونظر ناحيتها وهي تحادث آدم .
-نعم الحمد لله أبليت جيدًا جداً، أنا الآن برفقة كريم، جاء لاصطحابي .
-ولكن يا آدم .....
-حاضر، س..سأحاول .
أغلقت الخط وهي ترى انقباض حاجبي كريم فابتلعت ريقها بتوتر ...يكفيها ما تسببت فيه من مشكلات...قاطع صمتها العنيف صوته المجاهد كي يكون هادئاً
-ماذا يريد ؟
ظلت تراقب الطريق والهواء يلفح وجهها فيشعرها بانتعاش... ردت عليه بطريقة طبيعية ..
-لا شيء مهم يطمئن فقط .
وأردفت وهي تقبض كفيها ببعضهما على حجرها ....ما رأيك أن نؤجل الغداء لوقت ٍلاحق ..
أوقف كريم السيارة فجأة وقد نفذت طاقته على التحمل : ذلك العلقة قد أمرك بهذا أليس كذلك ؟
جزعت نور من اشتداد غضبه وأجابت باستنكار وهي تحدق بعينيه اللتين تحولتا ببراعة لشعلة غضب وقد كان منذ لحظات فقط ... هادئاً متزنا مرحا :
-لا ...أنا..أنا متعبة من الامتحان .
ترجل من سيارته وصفق الباب بعنف ليرتج الزجاج وتقدم ليستند على السور أمام البحر ليهدئ من روعه بينما هي اكتفت بالتحديق به باستغراب، لحقت به علها تفهم سبب هذا الغضب المستمر من آدم وعلاقتها به وهي موقنة أنه لايعرف حتى مشاعر آدم تجاهها فهما دائما كالنار والبارود لا يجتمعان ....
-كريم ...ما بك ما الذي جرى الآن ابن خالتي واتصل أهي جريمة !
ضرب بيديه السور وقد عاود الهتاف وهو يستدير ناحيتها بغيظ...عضلات ساعديه قد تضخمت بشكل بث الرعب في جسدها وهو يشوح بيده أمامها: لا أفهم حقا لما تنفذين جميع طلباته ! لما تدعينه يتحكم بك وبحياتك الخاصة لم تعودي صغيرة !! .
-كريم، ما مشكلتك معه ؟!
- مشكلتي معك أنت بخضوعك له.."
-لستُ خاضعةً لأحد إنه يخاف علي فقط هذا كل مافي الأمر "
قالتها بغضب وهمت بالمغادرة لتستقل السيارة لكن أمسكها من ساعدها وأدارها ناحيته :
- يخاف عليك مني...من ابن عمك!
تعرفين أني أكن لك مشاعر خاصة جدا .
تعرفين اني...أني
كتم كلماتها وهو يرى اتساع عينيها الهلعتين ...كنزته السوداء المتصلقة بعضلات صدره الذي صار يرتفع مع كل نفس يطلقه ..وهي أمامه...بدت كطفلة، مجرد طفلة مرعوبة!
أردف وهو يقلص المسافة بينهما وهمس : تعرفين أني أحبك...أحبك افهميها جيداً "
اختلجت ضلوعه مع اعترافه لها، توهجت وجنتاها فزادتها فتنة وشهية ..رق قلبه لحالها فأحاد ببصرها عنه واستكمل حديثه وهو يحدق بالبحر :
- جميعنا نخافُ عليكِ، لكن بوجود والدك ومراد لا يحق له التدخل، لا تعرفين كم هو مؤلم لي أن أراه يتدخل بك، وتنصاعين له بخضوع غريب..
تطلع فيها مجدداً وغمغم :لا تدركين ما مشاعر الغيرة التي تتملكني حينما أعرف أنكما تقابلتما، ومع الأسف أنتما كل يوم تتقابلان .
-وكي تدركي أني جاد جدا، طلبتك للزواج من والدك "
انفرجت عيناها بصدمة وقالت بتلعثم : ما الذي تتفوه به !!
-وليس لديه اعتراض على ارتباطنا كذلك .
ارتبكت من كلماته المفاجئة وهتفت فيه ..تريد أن تتزوجني ..وأنا بهذا العمر؟ أحلامي طموحاتي ودراستي أين هي !! لا أصدق كريم ..لا أصدق! ..أعدني إلى المنزل .
تركته وحيداً وتوجهت ناحية السيارة وجلست على الكرسي وهي تحني رأسها بصمت .
زفر بعمق من خجلها الواضح بل والممزوج بغضب لا يفهمه و توجه ناحية السيارة فتح الباب وجلس بقوة فارتجت السيارة اثر ثقله....وانطلق بسرعة متجاهلا خوفها منه ومن سرعته في القيادة ...بل ومن اعترافاته .
وحينما وصلا همت بالنزول فقال وهو ينظر الى الأمام : -فكري مليًا يا ابنة عمي .
******
كانت جمانة مستلقية على الأريكة عيناها شاخصتان على التلفاز العتيق دون تركيز فيه.... وغبار من زكريات حياتها التي غشيتها سنوات الميتم لا تفارقان تفكيرها...رن هاتفها المحمول للمرة الثالثة خلال ساعة فتناولته من على المنضدة وقرأت الرقم الغريب مجددًا باستغراب !
اجابت بتردد فأتاها صوت رجل :
-السلام عليكم... ،آنسة جمانة ؟
-وعليكم السلام، نعم جمانة ..تفضل ؟
- أنا السيد ضياء الدين كنت قد اتصلت بنا منذ عدة أشهر للعمل ضمن شركة إعمار للهندسة لكن لم يكن هنالك شاغر في ذلك الوقت "
عقدت جمانة حاجبيها تحاول التذكر فأردف الرجل : نحتاج لموظفة سكرتارية وعرفت من المعلومات التي بين يدي أنها مجال دراستك فأرجو أن تتفضلي للتحدث بالتفاصيل وسأرسل لك الموقع .
-نعم ...اشكرك سيدي ...اشكرك .
انفرجت شفاهها بفرحة عامرة فقفزت من على الأريكة وقد تملكتها السعادة لكنها توقفت فجأة تحادث نفسها...لكني لا أتذكر أني اتصلت سابقا بشركة اعمار !
هوووف جمانة لقد اتصلتِ بألف شركة وشركة لا بد وأنني نسيتِ فعلاً !!
تجهزت صباحاً وخرجت تهرول على درجات سلم العمارة حتى كادت أن تصتدم بكرش مسعود ذو الخمسة أمتار!! :
-إلى أين يا إعصار الحي المتحرك ؟
فأجابت ضاحكة :
-ادعو لي يا مسعود ....ذاهبة لمقابلة توظيف .
تمتم مسعود وهو يضرب كفاً بكف وهي تغادر مسرعة :أي مشكلة جديدة !!
ثم اردف وهو يجاهد بكرشه المترجرج ليصعد درجات السلم : الله يستر !!
توقفت سيارة الأجرة أمام مقر الشركة ترجلت منها بقلب مرتجف بهتت ملامحها حينما أدركت فخامة هذا المبنى والتي لا تتناسب مع ما ترتديه حتماً من كنزة رمادية باهتة وبنطال أسود ضيق ينتهي بحذاء رياضي... أخذت نفساً عميقاً و خطت الى الداخل ناحية إحدى الموظفات لتسأل عن مكتب السيد ضياء الدين وهي تتمنى فعلاً أن تحصل على العمل وستقبل حتماً بأي راتب سيمنحوه لها، رحبت بها السكرتيرة الرئيسية (فرح) واقتادتها الى داخل المكتب بعدما أعلمت ضياء بحضورها .
ألقت السلام فرفع ضياء الدين عينيه عن الورق أمامه ونهض : أهلا وسهلا آنسة جمانة ، تفضلي رجاءً .
غرقت بداخل الكرسي الجلدي الضخم مقارنة بجسدها الضئيل ، قال ضياء مباشرة بمهنية :
-قرأت من خلال بياناتك أنك في السنة الثانية من معهد السكرتارية .
-نعم سيدي .
حسنا آنستي هل عملت قبلا باختصاصك ؟
عقدت حاجبيها وقد ايقنت أنهم سيرفضونها نظرا لقلة خبرتها فقالت بارتباك : صراحة...عملت لوقت قصير جدا بأحد الشركات...لكن..
أردفت بشكل متسارع : لكني أتعلم بسرعة سيدي ..أؤكد لك.
تبسم ضياء وسأل مجدداً : ماذا عملت سابقاً غير السكرتارية ؟
تنحنت بارتباك قبل أن تطلق كلماتها كمدفع الرصاص : عملت كبائعة في متجر أحذية ومتجر ألبسة وأكسسوارات، ونادلة، و دادا للأطفال، عملت أيضاً ك ءء.
رفع ضياء الدين حاجبيه بصدمة ثم لوح يديه قائلاً بابتسامة : -حسناً...حسنا يبدو أن اللائحة طويلة ! .
فأجابت ضاحكة :طويلة جداً ما زلنا في بدايتها .
قهقه هذه المرة وهو يخلل أصابعه بخصلات شعره الأسود ثم قال :
-حسنا. لا علاقة لنا بأي عمل آخر...نباهتك وجهدك هي التي ستحدد مدى استمراريتك معنا..أهلا ًبك في شركتنا، بإمكانك مباشرة العمل ابتداء من الغد في التاسعة صباحاً .
انفرجت شفاهها بابتسامة عريضة ؛:
-توظفت حقاً !!
أومئ لها بابتسامةٍ طفيفة وقال معقباً :
-لكن تذكري رجاءً الالتزام في المواعيد والدقة في تنفيذ المهام هي من أولويات شركتنا، وغدًا ستعلمك انسة فرح أساسيات العمل..تلك التي رافقتك إلى مكتبي .
أومأت له بفرح وشكرته مجدداً ثم غادرت مبنى الشركة.. اتسعت ابتسامة ضياء الدين وهو يتمتم : بنت ظريفة، كان على حق فعلاً فيما قاله عنها !
********