((1980))
لم يكف الهاتف الأرضي عن الرنين منذ، تلقفه أحد الرجال الذين مروا بالصدفة من جانب الغرفة أجاب فاتسعت عيناه بصدمة قبل أن يهرول خارجاً ناحية عابد الذي كان يتفقد أحد الأسلحة . صرخ فيه الرجل بجزع ، اتصل الوطواط إنهم على علم بمكاننا ! .
توسعت حدقتا عابد ثم هتف بصوتٍ عال : أخلوا المكان فورًا إلى المستودع الاحتياطي ....بسرعة"
أنهى تركيب سلاحه على عجلٍ ثم حمل معه ذخيرة, سمع أصوات جلبةٍ بالخارج فهرول ناحية الغرفة التي احتجز بها رغد ، كانت مستلقية على السرير فهبت فور اقتحامه الغرفة وقال بصوت أجش : تجهزي سننطلق فوراً .
-ما الأمر !! تساءلت بخوف لكنه قال بحدة : قلت تجهزي سننطلق .
انتشلت حقيبتها الصغيرة ولملمت أشياءها المتناثرة ثم سحبها من ساعدها بين أروقة المبنى العتيق حتى أزاح مزلاج إحدى الأبواب الصدئة وهبطوا درجات طويلة لأسفل أشعل مصباحاً صغيراً ومضوا داخل سرداب خانق وطويل ، توسعت حدقتاها بخوف والتصقت به بشكل تلقائي وهي تهمس : إلى أين ؟ ماذا يجري؟!
شعر بحركة من الطابق العلوي فقال هامساً ًأركضي سحبها بقوة من ذراعها وهما بالركض لمدة ليست بالقصيرة حتى لاح لهما المخرج، وقف لاهثا من التعب بينما هي قد ركعت على الأرض بإنهاك، تقدم من غطاء مموه خلف هضبة صغيرة سحبه ورماه على الأرض لتظهر سيارة كانت مغطاة .
اركبي بسرعة، تلفتت حولها بذعر ثم انصاعت لمطلبه وجلست بجانبه على المقعد فانطلق بسرعة على الأرض الترابية الوعرة باتجاه الشمال ،
-ما الذي يجري ، وإلى أين نتجه ؟
-خفف سرعته تدريجيا ًثم أجابها :
فريق مباحث الأمن اكتشفوا مكاننا .
والدي ..أبي معهم!
تعالت أصوات الرصاص البعيدة من أمام المبنى فأردف بجمود : والدك طبعا لن يهنأ له بال حتى يسحق الجميع .
شهقت بفزع وهتفت به : أنزلني هنا أيها المجرم حالاً ، أرجعني لوالدي .
ضرب الفرامل بقوة لتتوقف السيارة فارتطم رأسها بعنف بمقدمة السيارة ليحدث جرحاً بجبهتها وهتف بحنق : ااخرجي هيا .تطلعت فيه شذراً ،وهي تتلمس الدماء التي نزفت بألم ثم أمسكت المقبض فتحته وقفزت على الأرض قبل أن يغير رأيه ولا تصدق أنها نجت باعجوبة منهم فانطلق مجدداً بسيارته أما هي فارتعدت أوصالها بهذا المكان الذي تركها به وحيدة وقد صار المبمى بعيداً عنها، كانت الأرض من حولها شبه صحراوية وقد شارفت الشمس على المغيب
رجع بسيارته بعد لحظات لمكان تواجدها وفتح الباب قائلًا : اركبي وكفي عن ألاعيب الأطفال ،لسنا ممن يتركون النساء في مواقف كهذه .
فقالت باستهزاء : مجرمٌ وشهم أيضاً !!
ضرب المقود بعصبية وصاح بها آمراً : بحق الجحيم اركبي وكفى سخافة الموضوع ليس بهذه البساطة ...
انتفض جسدها اثر صرخته المدوية وامتثلت لأمره واستقلت السيارة مجدداً ....
قال بانزعاج: لن استطيع إرجاعك قد تموتين وسط هذه المعركة المجنونة .
ثم مد يده ناحيتها ليرى أثر الجرح لكنها ضربت كفه بعنف ليدحجها نظرة غضب، عبث قليلاً بالصندوق أمامه مخرجاً قطعة قماش : ليس غائراً امسحي دماءك، سنتجه الآن إلى إحدى القرى القريبة من هنا، هنالك سيدة عجوز طيبة سنمكث عندها بضعة أيام حتى يأتيني الخبر اليقين وحينها فقط أستطيع إرجاعك لوالدك.
ضغطت على الجرح النازف بجبهتها متسائلة:
-لما لا ترجعني الآن ؟ إن كنت تخاف على نفسك فلا تقلق ارمني أمام البلدة وسأعود بنفسي ولن أخبر والدي عنكم أعدك بهذا .
زفر بضيق مجيبًا : اخبرتك ...ليس الأمر بالسهولة التي تتخيلينها، والدك وعناصره الآن في اشتباك مع رجالنا، لربما إن تركتك أنا تعودين ، لن يتركك الوطواط ، سينتقم بكِ من والدك .
عقدت حاجبيها بعدم فهم : الوطواط !
-يا إلهي كم تحبين الثرثرة !
ضحكت باستخفاف وهتفت به :الثرثرة !عفواا !وكأنك تتحدث عن حياتي أنا وتقول عن أسئلتي ثرثرة ؟
وصل على مشارف القرية فترجل منها قائلاً ً :الحقي بي " نزلت ورائه وصارت تسير بجانبه بداخل هذه القرية المتواضعة فقال يحدثها بصوت خفيض: الوطواط هو الرأس الكبير ، والدك يبحث عنه منذ سنوات ولم يستطع حتى إيجاد مكانه ، لكنه كان يلقي القبض بين فترة وأخرى على بعض رجاله، الوطواط يتخلص منهم بمعرفته يخشى أن يفصحوا عن مكاننا إذما تعرضوا للتعذيب.مما أثار الضغينة الشخصية بين والدك والوطواط، أمرني الوطواط شخصياً أن اختطفك كي يكف والدك ببلائه عنه لحين توريد الدفعة الكبرى من الأسلحة، ظن أن والدك سينشغل بالبحث عنك ِفقط ، لكنه مع الأسف لم ينشغل ، بل زادت تحركاته باتجاهنا حتى علمت منذ قليل أنهم قد اكتشفوا مكاننا... بالمختصر لن استطيع تسليمك لوالدك ِلحين انتهاء الاشتباك، أو ربما عندما نأمن طريقة لتسافري بها خارج البلاد كي نضمن سلامتك .
توقفت رغد عن المسير وقالت بدهشة : لما تساعدني عابد !
توقف كذلك لكنه لم يستدر ناحيتها بل قال : يجب أن نصل قبل انتصاف الليل اسرعي .
*******
عودة إلى الزمن الراهن ....
عادت جمانة إلى حيها لم تكن طبعاً قد نسيت أمر مسعود، خطت داخل دكانه وقدميها تضربان الأرض ضرباً، كان أحد الزبائن يشتري كيساً من المعكرونة، انتشلت الكيس من بين يدي الزبون وهتفت: أغلقنا الآن عد لاحقاً، حدجها مسعود بنظرة تفاجئ قائلاً: ما بك ؟
غادر الزبون فذهبت لإحضار الكرسي صعدت عليه واغلقت ستار الدكان الحديدي من الداخل وسط ذهول مسعود فقال بارتباك : جماانة ! ما الأمر بالله عليكِ افتحيه سيفهمك الجيران بالخطأ " .جزت على أسنانها غيظا ثم أمسكت عصا المكنسة وصرخت فيك :
-اللعنة عليك وعلى جيرانك ...سيشكون بي وبك يا ذا الكرش المطاطي! ما الذي هببته يا غبي انطق !
تقدمت ناحيته فصار يدور حول المكتب وتلحق به:
-لم أهبب شيئاً يا متخلفة اتركيها !
-بما اخبرت ذلك المهندس ؟ حدثته كم أني فتاة فاشلة لا تستطيع إعالة نفسها ؟
-جماانة إهدئي ولنتكلم كالخلق، إتركي العصا ستؤذين نفسك .
رمت المكنسة على الأرض فتنفس مسعود الصعداء قائلاً: ارتاحي اجلسي ولنتحدث " حدجته بنظرة غل وارتمت على الكرسي، قام بفتح ستار الدكان من جديد ونظر حوله متأكدًا من أن لا احد لمحها تغلقه ثم دخل مجدداً وجلس قبالتها على الكرسي :
-أنا أسمع .
قالتها بعصبيه فبلع مسعود ريقه بارتباك ثم قال :
-والله إنه سيد محترم لست أفهم سبب غضبك ، جاء وحدثني عن سوء التفاهم بينكما وقال انه يريد تصحيح خطأه واتفقنا على أن تعملي لديه بالشركة فقط هذا هو الأمر صدقيني .
هزت قدميها بعصبية ثم نهضت لتغادر وقالت : لو عرفت أنكما تحادثتما مجدداً اقسم بأني سأشق كرشك لنصفين وسأط.....
ابتلعت باقي حروفها وهي تدقق النظر ببضاعة الدكان، فهم نظراتها لكنه تحاشاها فقالت باستغراب : أنى لك ان تملئ الدكان بكل تلك البضاعة ؟ بالكاد كنت تملئ بضع أرفف !
أجاب وهو يحدق فيها ببلاهة : ورث ...مات أحد أقربائي وورثته .
حدجته بنظرة تشكيك وقالت : لكن على حد علمي أن لا اقارب أثرياء لك .
دفعها خارج الدكان قائلاً : ما بك يا فتاة أتريدين أن اشرح لكِ شجرة العائلة وممتلكاتهم، هيا انصرفي لمنزلك ورائي عمل أقوم به .
-حسناً يا مسعود، لكن صدقني إن كان ما افكر به فستندم .
-هيا ، هيااا اذهبي ،ما هذا البلاء ياربي !!
دفعها وأغلق باب الدكان البلوري وعض على شفاهه بخوف ، فالمصيبة الكبرى لم ترها بعد !
رفست الباب بقدمها وصعدت ناحية الشقة ، فتحت الباب ولم تكد قدماها تطآن الصالة حتى صرخت ملئ حنجرتها :
- مسعوووووووووود !!!
******
تجهزت صباحًا ولم تكن تنوي هذه المرة أن تصمت معه خاصة بعدما اعترف لها مسعود أن مراد هو من قام بملئ دكانه...بل وبشراء القليل من الهدايا لشقتها! هرولت درجات السلم بسرعة وكأنها فعلاً بماراثون للوصول إلى الشركة، وصلت صباحاً متأخرة عن دوامها فقد علمت أن ذلك المراد يصل عند الساعة العاشرة، لمحت سيارته وهو يهم بالنزول منها...
تبعته مسرعة ولم يكد يدخل المصعد حتى دخلت ورائه تلهث تبسم قائلاً : صباح النور...متأخرة ساعة عن دوامك لا تكرريها "
ضغط على زر المصعد للطابق الثاني لكنها لم تكد تتحمل طريقته الاستفزازية أكثر، أمسكت بقبضتيها ياقة قميصه وصرخت فيه :
-أتظن أيها المحترم بأنك ستشتريني بهداياك الرخيصة !
جاهد بيده للوصول إلى زر إيقاف المصعد كيلا يتوقف ويراهم أحد بهذا الشكل وقال بعبث : آنستي أنا رجلٌ سيتزوج قريبًا لا أريد لسمعتي بأن تتشوه .
حدقت فيه بصدمة وقد لسعتها كلماته وهتفت : -أنت....ءءء أنت مجنون ؟ والله إنك مجنون !
لم يزح بنظراته عنها وأجاب بصدق : عيناك من أصابتني بالجنون جمانة!
- لا تنطق اسمي مجرداً مجدداً ..
أرخت قبضتيها عن ياقته والتفتت لتشغيل المصعد وهي تقول لتداري ارتباكها : أرسل رجالك لاستلام الشاشة وباقي الأغراض أشعر بالقرف من هذه التصرفات الرخيصة .
وضع يده على زر التشغيل كي يمنعها من تشغيله و قال بانزعاج : لسانك أطول منك ...وقحة ! .
كادت أن تجيب وقد احتقن وجهها بانفعال لكنه أردف بصوت خفيض : أعرف بأنك لست من النوع الذي يشترى وآسف إن أزعجك تصرفي ، لكن ...
-قاطعته وهي تحدق فيه بغضب : لم يزعجني تصرفك ...بل أهانني ،ولا اقبل بإهانةٍ من أحد .
تبسم قائلا : آسف ، سنسوي ذلك الأمر لاحقاً ، ولربما خصمت قيمتهم من راتبك الشهري .
رفعت حاجبيها دهشة وقالت : وما أدراك بأني ما زلت أريد العمل عندك ،ما هذه الثقة ؟! .
رفع كتفيه بلا مبالاة وقال : ألم تصفيني بالجنون قبل لحظات ! آه وبالمناسبة ، أنت ملزمة بذلك والدليل هو عقد العمل الذي وقعته للعمل معي وبذكائك المحدود لم تقرأي البنود جيدا ًوأن هنالك شرط جزائي إذا أخليتي بإحدى البنود ، وأهمها مدته سنة ، اثنا عشر شهرا ًكاملا ، ثلاثمئة وخمس وستون يوماً ....أتريدين أن أحسبها لكِ بالساعات ؟
وضغط زر تشغيل المصعد مجدداً ليتجاوزها مغادرا ً
*******