((1980))
استقل رغد وعابد السيارة لينطلقلا في رحلتهما في طريق ما بين البساتين بينما أخذ صديقه سيارة عابد ليسلك الاتجاه المعاكس قريباً من محطة القطار، ركنها في شارع قريب من المحطة وترجل منها ليستقل القطار عائدا ً إلى مدينته بينما في منزل العجوز ، طرقات عنيفة على باب دارها جعلتها تنتفض بفزع قبل أن تهدأ نفسها وتنهض لتفتحه، فإذا بأربعة رجال مدججين بالأسلحة ، سألها احدهم : أين ضيوفك ؟
حدقت فيه بثبات وقالت : لا ضيوف عندي ،
تطلع فيها الرجل بنظرة ازدراء ودفعها بغلظة ليتجاوزها بينما شهر مرافقوه اسلحتهم في تأهب بينما يفتشون المنزل ،اللعنة لقد هربا !
قال الرجل بغيظ بعدما تأكد من خلو المنزل وهو يتمسك بتلابيب العجوز : أين أختفيا عليك اللعنة يا خرفة !
رفعت العجوز راسها بثبات وواجهت عيناه بقوة : قلت لك لا ضيوف عندي !
رفع مسدسه وصوبه ناحيتها قائلاً بحقد : وإن قتلتك الآن ورميتك للكلاب !
أجابته بقوة : لن يسلب الروح إلا من خلقها "
- اذن ستقابلين خالقها قريباً ! كاد أن يضغط الزناد فمنعه أحدهم قائلاً بجمود : دعك من العجوز الآن ولنبحث عنهما لم يبتعدا حتماً "
افلتها لتسقط على الأرض بعنف بينما خرج الرجال من منزلها مغادرين فتنهدت العجوز وهي تدعو الله على أن يحمي عابد ورغد من هؤلاء الوحوش "
******
وصلا أخيراً بعد قيادة ثلاث ساعات متواصلة لمنزل الحاج داوود الذي أخبرته تلك العجوز عن عنوانه، رحب بهما الرجل بحبور ودعاهما للدخول، دلفا إلى الداخل لتجلس رغد بجانبه بقلق ونظراتها ترتكز على وجوه الجميع فقال الحاج فورًا لزوجته : أكرميها وحضري لنا طعام العشاء يا أم جابر"
أومأت له بطاعة وطلبت من رغد أن تلحق بها لتدلفا إلى غرفة أخرى لتستريح بينما تقوم بتحضير طعام العشاء ، كانت هنالك ثلاث فتيات يجلسن على البساط المتواضع بمنتصف الغرفة أكبرهن بعمر الخمسة عشر عاماً ، تبسمت لهن بخجل واضطرال فبادلنها البسمة ، غابت زوجة الحاج لعدة دقائق ثم دلفت حدثتها وهي تقدم لها العصير : تبدين وزوجك متعبين من السفر دقائق وستجهز الغرفة لكما "
جحظت عينا رغد بصدمة تداركتها فوراً وأطرقت رأسها على الأرض وهي تلعب بطرف ثوبها متمتمة بخفوت : شكراً !
ربتت أم جابر على كتفها وخرجت من الغرفة بابتسامة مرحبة ورجعت مجدداً بعد دقائق قليلة وبيدها صحفة طعام ، تناولت رغد لقيمات قليلة فقط واكتفت وهي تشعر بالحرج من تواجدها ومن هذه الظنون التي ظنتها بها ، خشيت من أن تقول لها أنه ليس بزوجها كي لا تظن بها المرأة السوء فآثرت الصمت والحرج يتملكها، ومرت ساعات قليلة تتحادثان بها بشتى الأمور و تلاعب الفتيات أحياناً حتى نادى الحاج داوود على زوجته مرة أخرى غابت ورجعت بعد دقائق قليلة وهي تهيء لها الفراش لتنام قائلة بترحاب : يبدو أنهما سيسهران قليلا بعد، إن كنت تعبة فها هو فراشك بنيتي وإن احتجت إلى الحمام فهو في الباب المواجه مباشرة لغرفتك "
-شكرا لك خالتي ونأسف على إزعاجك "
بادلتها ام جابر ابتسامة صافية وأجابت : على العكس يا ابنتي مرحباً بكما دائماً وآسفة لمقولتي لقد أفهمني أبا جابر أنكما لستما بزوجين "
احمرت وجنتاها خجلاً وارتباكا فقالت المرأة ببسمة حانية : لا تخجلي يا ابنتي ، كل شخص وله ظروفه في هذه الحياة ، ليرفع الله عنكما البلاء "
غادرت أم جابر وأغلقت الباب خلفها لتخلع رغد عبائتها وتستلقي على الفراش لتأخذ قسطاً من الراحة .
انقضى على وجودهما ثلاثة أيام في منزل الحاج داوود ، هي تنتظر الذهاب لتهنأ بحياة استقرار مجدداً حتى ولو خارج حدود وطنها مؤقتا ً ليكف الوطواط ببحثه عنها فقد تعبت من الترحال والتنقل منذ أكثر من شهرين حتى اللحظة، وعابد يجمع المعلومات ليخرجها من ملاحقة عمه الذي أعلن و بكل صراحة تمرده عليه حينما ساعدها على الهرب، كانت تلاعب الصغيرة على الأرجوحة المعلقة على إحدى الشجيرات وهي شاردة بما تخبئه لها الأيام .
وفي الغرفة المقابلة انفرجت عينا عابد بصدمة عندما قال له الحاج داوود : هذا هو الحل الأمثل يا بني لتحصن نفسك وتحميها "
-لكن لا اعرف إن كانت ستوافق !!
قالها عابد عاقدًا حاجبيه فربت داوود على فخذ عابد قائلاً بوقار : لمصلحتها أن توافق لا حل آخر لكما ، فرحلتكما طويلة وأنتما بمفردكما، لا يجوز لك مرافقتها بها تلك المدة "
أطرق عابد رأسه إلى الأرض موافقا كلمات الحاج فتبسم الآخر بحبور ونادى زوجته : يا أم جابر نادي الضيفة إلى هنا "
انصاعت الزوجة لمطلب زوجها لتنادي عليها من الحديقة الخلفية للمنزل واقتادتها إلى الصالة لتلقي رغد السلام بخفوت وتجلس فقال الحاج داوود بابتسامة حانية يخاطبها : لقد أخبرني عابد عن مشكلتكما ، سنجد حلاً إن شاءالله لتهريبكما خارج البلاد يا ابنتي فالمنطقة الحدودية صارت قريبة جدًا من هنا ، يحتاج الأمر القليل من الصبر "
اومأت له رغد وقالت : شكرًا لك يا عمي هو معروف لن انساه لك "
- استغفر الله يا ابنتي هذا واجبي " ثم أردف بعد فترة صمت قصيرة : لكن هنالك مشكلة صغيرة " رفعت رغد بصرها اليه بقلق ليردف حديثة : تعرفين أن الطريق طويل وآسف لقولها لك يا ابنتي ألسنة الناس لا ترحم واختلائه بك كل تلك المدة لا يجوز، فلن يرافقكما أحد طوال الطريق "
أطرقت رأسها ارضاً بارتباك وخجل وقالت : ما من حل آخر !
-بلى يوجد حل والله سيبارك به حتما وستتيسر رحلتكما إن شاءالله "
تطلعت به بعدم فهم ليردف بابتسامة وهو يربت على فخذ عابد : سنزوجكما على سنة الله ورسوله
نهضت رغد بصدمة وهتفت بهما : أتزوج من مجرم!!
أطرق عابد برأسه على الأرض وقد تعالت وتيرة تنفسه في حين ترقرقت عينا رغد بدموع على وشك الهطول فقال داوود لعابد : اتركنا لمفردنا يا بني لو سمحت "
نهض عابد من مكان وقد اومئ له الرجل بابتسامة مطمئنة وقال بعدما غادر عابد : بغض النظر عن كل ما جرى سابقاً ، رحلتكما هذه ستكون طويلة جدا ً، وفيها من المخاطر ما يستوجب منه البقاء بجانبك دائماً لحمايتك لذلك درءاً للسوء واجب أن تكونا زوجين شرعاً "فقالت وقد اطلقت العنان لدموع كافحت لكبحها طويلا : انت لا تعرف ما الذي فعله بي سابقا، لا أستطيع الوثوق فيه بعد كل ما جرى " تنهد الرجل قائلا بحنو : أعرف ...أعرف كل شيء ومنذ الليلة الأولى لكما هنا "
تطلعت فيه رغد بصدمة فأردف الحاج داوود قوله : لقد أصر على أن يعرفني بنفسه وعمله ومما أنتما هاربين وقالها حرفياً : لست مضطراً لمساعدة رجل خارج عن القانون "
فقالت وهي تمسح دموعها : وبعد كل ما أخبره لك تستقبله بمنزلك
- يا ابنتي إن عمري هذا يخولني أن أميز الخبيث من الطيب ، وعابد رجل بحق ، لا بد و أن الأيام أجبرته على مزاولة هذا العمل لكن القوي فعلاً هو من يحاول جاهداً الخروج من مستنقع أخطاءه ولربما كنت أنت طوق النجاة له ليبتعد عنهم وبإرادته ، وها هو الآن وبسبب اختياره لحمايتك صار مطارداً من جماعته كذلك ناهيك عن رجال الشرطة..
اسمعيني جيداً ...الله سبحانه وتعالى يغفر لعباده مهما كثرت ذنوبهم وأخطائهم ، فمن نحن كي لا نغفر ونسامح ! يرسل إشارة للعاصين بأن يتوبوا ويرجعوا إليه ولربما كنت أنت تلك الإشارة ، ليبتعد عابد عن عمله وحياته السابقة ، رمى كل شيء وراءه ولحق بك فقط ، اتدركين عظمة ما قام به ولأجل حمايتك ! ألا يستحق تنازلاً بسيطاً منك وطبعاً هذا لمصلحتك أولاً وأخيرًا "
ثم نهض قائلاً بعدما لمح اللين بعينيها : توكلي على الله يا ابنتي ودعيه يكمل واجبه تجاهك والأهم من هذا أن يقوم به بما يرضي الله وبعد أن تصلي إلى المدينة المطلوبة لتستقري بها بإمكانك اختيار البقاء معه أو أن تطلبي منه الانفصال وسيفعل بكل تأكيد "
أومأت له بجمود وهي تمسح دموعها وخرج من الصالة بعدما فهم موافقتها وغادر ليحضر المأذون لعقد زواجهما "
والغريب فعلاً أنها وعلى الرغم من رفضها القاطع له إلا أنها شعرت بطمأنينة وسكون حينما نطق كلمة أوافق ،ظلت حينها تنظر إليه ... يبدو مرتاحاً جدًا كانت تعابير وجهه تعبر عن ابتسامة يحاول كبتها ولا يستطيع ، وكأنه قد نال اخيراً مبتغاه بأن تصبر هذه الفتاة ملكه، حتى ولو بهذه الطريقة فالمهم عنده انها بجانبه تلاقت عيناهما لوهلة فأشاحت بنظرها فورا عنه "
بعد مغادرة المأذون استأذنت وانصرفت إلى الغرفة التي تنام بها عادة وداخل صدرها هنالك احتجاجات عنيفة ، بقي عابد واقفا في الحديقة خارجاً يشتم عبير المساء فربت الحاج داوود على كتفيه وقال :اذهب وطمأنها يا بني أنك ستكون دائمًا بجانبها ولحمايتها ، لا تتركها وحيدة خاصة اليوم فهي تشعر بالضياع والخوف "
أومئ له عابد قائلاً : شكرا لك أيها الرجل الطيب على كل شيء "
غادر عابد ناحية غرفتها بينما ظل داوود واقفا ينظر إليه باسماً وهو يتذكر الاتصال الأخير مع تلك العجوز التي أقام عابد عندها سابقًا (( اجمعهما سوياً يا داوود وبطريقتك ، يبدو أنه معجب بها، بل تحدى الأمر حدود الإعجاب وهو لن يحرك ساكناً حتى تضيع من بين يديه ..توبته وانفصاله عن الجماعة مرتبط بزواجه منها..))
********
وصل مراد المنزل في وقت متأخر جداً من الليل كان ما يزال مشدوهاً من الصدمة وهو يفكر ، لكن مستحيل أن يكون ما يفكر فيه صحيحاً ومستحيل أيضا أن تكون تلك القلادة منتشرة في السوق ، فهي وعلى حسب ما يعرف صممت خصيصاً لهما ؟
حدق بأليسا النائمة فدمعت عيناه ..شعر بدونيته وحقارة ما فعله بلحظة ضعف...بل إن نفسه ضعيفة دائماً وزوجته لا تستحق !
أطفأ المرش وأحكم لف المنشفة على خصره وخرج من الحمام ارتدى ملابسه وشرع بتمشيط شعره أمام المرآة حينما فتحت إليسا عيناها المنتفتختان : سألت ببرود غريب على غير عادتها :متى عدت!؟ "
استدار ناحيتها بابتسامة تلاشت فور رؤيته لها على هذا الشكل وقال متسائلاً : هل أنت على ما يرام ؟
رمت غطاء السرير و قالت وهي تخطو ناحية الحمام لتشطف وجهها : لن أكون بأفضل مما أنا عليه "
أمسكها من ساعدها وهتف بتفاجئ : إليسا ما بك ؟
نفضت يدها عنه وقالت بألم : أين قضيت ليلتك ؟
-ألم اخبرك أني كنت مشغولاً!
-لا تكذب "
شعرت بالألم من قبضته التي اعتصرت ساعدها بعنف فهتفت وهي باكية : أتركني "
تنبه عل انفعاله بهذا الشكل المبالغ فتركها وزفر بعصبية قائلا بسخط : بدأنا حلقات النكد !
انتشل جاكيت بذلته وغادر الغرفة لتنهار اليسا باكية على الأرض وقد كبرت اليسا...كبرت فعلا لترى وتفهم مرتد وتصرفاته...
هرول مراد درجات السلم فتلاقى مع رضوان أمام السلم القى السلام عليه فهدر صوت والده : إلى مكتبي "
زفر مراد بضيق فها هو اليوم واضح منذ بدايته ! ولحق به إلى غرفة المكتب مغلقاً الباب خلفه فهدر صوت رضوان مجددا وهو يضرب بكفه على الطاولة بعصبية: ألن تكف عن عبثك واستهتارك ؟
-خيىا ؟
اين قضيت ليلتك يا ولد ؟ تزوجت وما زلت على ضلال ، ما ذنب تلك الصغيرة ان تقضي ليلتها باكية وانت والله أعلم مع من تعبث !"
تنهد مراد بنفاذ صبر و قال مقترباً من والده : أولاً وإن كنت تشك بأني كنت برفقة امرأة فلا تقلق لأني لم أفعلها بعد زواجي ولن أفعلها ابدا بعد الآن اتفقنا ، لقد تزوجت لأني مللت من حياتي القديمة وأنت تعرف ذلك جيدًا "
كبح رضوان جماح غضبه وقال أين كنت إذن ؟
- لا أظن أنني بعمر يسمح لك باستجوابي فيه
حدجه رضوان بنظرة غضب وقال ساخطًا : كبرت على ذلك ...كبرت على والديك !
وضع يديه بجيب بذلته الرمادية مجيباً ببساطة : -معاذ الله ..لكن ليس منطقياً أن تتهموني في كل مرة اختفي فيها ..أنني أكون برفقة امرأة.
تراخى رضوان على مقعدة وسأل : هل أثق فيك ؟
-يجب ان تثق بما أقوله لأنكم تعرفون جيداً عندما أرافق امرأة لا أخفي ذلك وحتى بعد زواجي إن رغبت بمرافقة امرأة _ وطبعا إن حصل ذلك _سيعرف الجميع وأولهم إليسا ؛ والآن عن إذنك لدي عملٌ مهم اقوم به "
وغادر تاركا والده وراءه يحدق فيه بغضب بسبب صراحته التي تصل إلى حد الوقاحة في أحيانٍ كثيرة !