تعالت وتيرة تنفس عابد وهو يطالع ابنه، طفله الصغير الذي شاءت الأقدار أن يبتعد عنه ولم يتجاوز عمره ست سنوات حينذاك، والآن أصبح رجلا، كانت الحياة فيما مضى قاسية، قسمت ظهر عابد وامتحنته بأعز ما يملك، زوجته الغالية وولديه، لكنها حتماً علمته معنى الصبر، أدخلته في الحزن ولاكت الساعات أوجاع روحه لكنها في النهاية ابتسمت ! كطفل شقي يتعالى صوت صراخه ليزعج والديه، و في النهاية يصمت ...يحدق بوالديه ليقهقه بعدها بعذوبة تنسي الوالدين غضبهم منه !
هذه هو حال عابد هذه اللحظة، تناسى عشرون عاماً انقضت من حياته وبهذه اللحظة ولد من جديد، أحس بروح رغد تمثلت خلف آدم، لتبتسم في اطمئنان، وبدوره عابد تبسم لآدم، ابتسامة حب ولهفة وشوق..... بينما خطوتين فقط ..خطوتين وكاد يحطم ذلك الحاجز الجليدي الذي كان محاصرا إياه.
عشرون عاما ليست بالزمن البسيط، لكن الحياة كذلك لم تسأم بعد من اللعب بهم، تلاشت ابتسامة آدم تدريجيا ثم تنحنح قائلا بارتباك وهو يحدق برضوان: عفوا لم أعرف ان لديكم ضيفا !
ابتلع رضوان ريقة بصعوبة بينما قال عابد بثبات : عماد ممدوح، صديق قديم لعمك رضوان .
اقترب منه آدم بلباقة وصافحه فارتعشت يدا عابد وهو يحتضن بكفه كف ابنه آدم، عانقه بأصابع يده فقط، اكتفى بضغطة بسيطة على أصابعه وهو يحدق فيه، بحب كبير وبألم أكبر، ونسي نفسه وهو يقبض على كفه لم يفلتها مما أثار شعوراً غريباً بصدر آدم.. شعوراً لم يفهمه وهو يحدق بعيني عابد.
وترك كفه أخيرا. واتجه ناحية رضوان مجددا ببشاشة ليعانقه بحرارة بينما يحدثه بفرح: سلمت المشروع يا عمي وأعجب به مدير الفندق السياحي، إنه نجاحي الأول في مجال الهندسة المعمارية والحمد لله !
جمدت ملامح عابد وعادت رياح اليأس تلطم روحه، شد بقبضة يديه بينما جمدت نور وعبير ورضوان بمكانهم، جمدوا لدرجة نسوا فيها التنفس للحظات .
لكم لاعه أن آدم لم يتذكره، طمست ملامحه من ذاكرة ابنه الوحيد، لكنه تبسم بتهكم، فهاهي الحياة لم تغير طباعها في لطمه، اعتاد على تمزيق الحياة لروحه فلم يعد يتأثر من لطماتها، لم تعد موجعة البتة !
ربت رضوان على كتفه وهو يتمتم بصوت بالكاد نطق حروفه وبعينين دامعتين: مبارك يا بني ..تستحق ذلك.
جلس عابد على الأريكة وجلس آدم بتلقائية بجانبه، كان قد شعر بأن له ملامح من والده المتوفي الذي رآه بصورة واحدة حين كان شاباً فتيا...فضحك بسره، يبدو أنه فعلا سيرى من يشبهون أفراد عائلته أينما ذهب، أولا تلك المدعوة جمانة والتي تشبه والدته كثيراً والآن هذا الرجل . تطلعت فيه نور بشفقة جلية، لدرجة أن عيناها قد دمعتا لهذا الموقف الصعب،بل ليومها الأصعب الذي خسرت فيه جديا كريم ..هذه المرة .
الجميع كانوا يشعرون باحتراق عابد بينما آدم يضحك بمرح ويروي لهم تفاصيل اللقاء مع مدير الفندق وقت تسليمه المشروع وثنائه عليه .
تنبه آدم أخيراعلى انعقاد حاجبي نور وعينيها الدامعتين فاغتيلت ابتسامته ، أخرج هاتفه وأرسل رسالة نصية يقول فيها: اذهبي للمطبخ، قرأت نور الرسالة بعد لحظات لتنظر إليه فأشار لها مجددا بدون أن يتنبه أحد..... لكن عابد يتابعه بنظراته الحنونة، أحس بما فعل لترتسم ابتسامة هادئة على شفاهه عندما اومئ لنور بأن تتوجه إلى هناك، نهضت نور بعد لحظات لتدلف إلى الداخل وبعد دقيقتين نهض آدم ليلحق بها .
وكيف شعر عابد بذلك، كيف فسر أن تصرف ابنه لا ينم إلا عن حب عاصف تجاه تلك الفتاة؟ لأنه ببساطة يفهم هذه النظرة، نظرة القلق التي اطلت من عين ابنه تجاهها استطاع قرائتها بوضوح، بل تيقن منها وهو يراقب كل رمشة يرمشها آدم بل أحصى كل نفس أطلقه صدره.
توارى آدم في ذات الرواق الذي اختفت فيه نور ليتطلع عابد برضوان قائلا بصوت هامس : لربما لم يحن الوقت بعد، سأخبره لاحقا " ليومئ له رضوان بألم وهو يربت على فخذه..
دلف آدم إلى المطبخ من بعدها متسائلاً بقلق: -مابك؟ لست على طبيعتك أبدا .
تعلقت عينا نور عليه لتقول بارتباك: أبدا لا شيء
ضيق نظراته بعدم تصديق، وقال مجدداً بصوت هامس: هل أزعجكن أحد و أنتن في السوق؟
هزت رأسها نفيا وهي تتحاشى التقاء عيناهما اشعر بالتعب فقط مشينا طويلاً ..أريد أن أنام.
فهمس مرتاحاً: اشتقت لك كثيرا...أتدركين هذا.
تعلقت عيناه عليها لتشيح بنظرها بعيداً عنه بخجل وتتمتم باسمة: آدم أرجوك"
دلف مراد وألقى السلام على الجميع فاستغرب من جلوس آدم الطبيعي مع عابد، تعلقت عيناه بعيني عبير فعالجه رضوان قائلا بابتسامة ذات معنى: تعال وألقي السلام على سيد عماد يا بني .
رفع حاجبيه دهشة ثم سرعان ما تماشى مع الجميع بكذبتهم ليتقدم من عابد بخطى واثقة ويشد على كفه وهو يصافحه: تشرفت بعرفتك يا عم عماد....أنا مراد .
-أهلا بك يا بني .
شاركهم المجلس لفترة وجيزة ثم استأذن للصعود فهو مرهق جدا الليلة، مرهق فكريا ووجدانيا وعقليا ! فتح باب غرفته فاخفت اليسا وجهها باللحاف واستدارت ناحية الحائط ، دلف مراد إلى الغرفة وتنهد بعمق وهو يتذكر ما الذي فعله صباحا، استبدل ملابسه وتمدد على السرير متنهدا بعمق
مسح على شعرها بحنو وقال هامسا وقد أيقن أنها مستيقظة: آسف على ما بدر مني فقدت السيطرة على أعصابي لكنك تعرفين أن الموت أهون عندي من أن يلمحك رجل غريب بثوب مكشوف.
قالت بصوت واهن : إنه رجل كبير، كما أني لم أخطو خارج الغرفة سوى خطوتين .
-حتى ولو كان طفلاً، أو عجوزاً على شفى حفرة من الموت.
ثم اقترب منها أكثر مردفا : أغار عليك من نسمة الهواء أرنبتي .
صبغت وجنتيها حمرة الخجل لكنها تسائلت مجدداً:
-اخطات باسمي وناديتني جمانة .
توقفت يده قليلا عن المسح على شعرها ليجيب بعد برهة وهو يغمض عينيه : زلة لسان، سكرتيرتي اسمها جمانة ومعتاد على مناداتها .
اعتدلت بمجلسها فورا وقالت بغضب : تعجبك حتى زللت باسمها أمامي أليس كذلك .
قهقه محاولا السيطرة على انفعاله ليقرصها من وجنتها قائلا بخبث : لا يعجبني سوى الأرانب الصغيرة, ذوات الضفائر الناعمة, والعيون الواسعة...آكلات الشوكولاه.
بينما في الأسفل قال آدم بعد معرفته بمكوث عابد عندهم: بعد إذنك يا عمي، أود لو استضيف العم عماد ليبات في شقتي العلوية ...
لايعرف آدم كيف نطق هذه الكلمات وكأن أحدهم قد دفعه دفعا إليها...
تعانقت نظرات عابد ورضوان ليقول عابد برصانة : فعلا سأشعر بالراحة أكثر عنده يا رضوان، ليبارك الله بك يا بني، سأزعجك لبضعة أيام .
ربت آدم على كتف عابد قائلا بابتسامة صادقة .
معاذ الله يا عمي ...على العكس"
********
دلفا إلى شقة آدم بعدما تجاوزت الساعة الثانية عشر ليلاً واقتاد آدم والده بشكل تلقائي إلى غرفته : ستنام في غرفتي سيد عماد وإن احتجت لأي شيء أنا في الصالة.
تلكئ عابد قليلاً : لا تزعج نفسك سأنام على الأريكة خارجاً.
ربت آدم على كتفه باسماً : لن تزعجني على العكس، أنا معتاد على النوم على الأريكة نظراً لأني أحب السهر فأنام غالب الأوقات وأنا أتابع التلفاز"
واتجه ناحية الخزانة ليخرج لحافاً إضافياً ووسادة، انتشل بيجامته ثم خرج مغلقاً الباب خلفه، جلس عابد على الأريكة لتحتقن عيناه بدموع لن يسمح لها كما العادة بالنزول وما يزال مصدوما...مصدوما لخروجه بعدما استسلم للموت المؤبد في السجن..مصدوم لعدم تعرف ابنه عليه ولا يلومه! بالكاد قد سيطر على أعصابه أمام آدم نهض عن السرير وتقدم بخطى بطيئة ناحية مكتب ابنه، تلمس الخشب بيديه، أوراقه، كتبه، صورته المعلقة على الجدار، تنهد تنهيدة عميقة واتجه ناحية خزانته لينتشل قميص آدم ويشتمه بألم وبشوق لم يستطع من خلاله احتضان ابنه...وحيده الذي فرقتهما الظروف..
عاد أدراجه و استلقى على الفراش قائلاً بألم: ساعدني يا الله، ساعدني على تحمل هذا الألم.
***********
تنهد مراد بعدما غطت إليسا بنوم عميق وقد جافاه النوم... اعتدل بجلسته ومسح وجهه بكلتا يديه وهو يشعر باختناق رهيب، تناول هاتفه وخرج من الغرفة ليعاود الاتصال بجمانة لربما للمرة العاشرة هذا اليوم ...ولا يهمه أن الوقت قد تأخر، اعتصر الهاتف بيديه عندما أجاب مجدداً المجيب الآلي أن الرقم خارج نطاق الخدمة ..طرق بقبضة يده سور الشرفة مراراً
يفكر بطريقة يجدها فيها..يفكر أين عساها أن تكون...
خلال اليوم ذهب لدكان مسعود الذي لم يتحدث
.مدرك أنه يعرف مكانها لكنه لم يخبره..
أخرج هاتفه واتصل في كريم ...صديقه في حل الأزمات..لعله يلتقيه يبدد السقم الذي يتملك منه
لكن صوتاً أنثويا أجابه جعله يتلكئ قليلاً مستغرباً
كانت فتاة تتكلم التركية لكنه لم يفهم حرفا!
تنحنح مراد متحدثاً بالانجليزية في اللحظة التي حدق فيها كريم بجيرين بانزعاج وهو يتقدم ناحيتها حيث كانت جالسة على الكرسي بالحديقة وغاب هو لدقائق فقط استبدل فيها ملابسة ليعود حيث كانت تجلس رهف برفقة جيرين ..
اختطف الهاتف من يدها مجيبا..
-انا كريم ..من معي؟
-حبيبي!!! من هذه
قالها مراد ساخراً ليجيبه كريم ببلادة: ابنة خالتي جيرين.
تبسم مراد وشرد بإضاءة مياه المسبح : ما هذه العلاقة الوطيدة كي تجيب على هاتفك!
- دعك منها الآن ..وأخبرني صوتك لا يبدو بخير.
-عندما أراك نتحدث...سلم على ضيوفك .
أغلق مراد الخط فاعتصر كريم الهاتف بقبضته وعاد أدراجه ناحية جيرين وقبض على جانبي الكرسي وانحنى ناحيتها بغيظ: ألن تكفي عن هذه التصرفات المستفزة!
أجابت ساخرة: تؤ .
ثم همست وهي تكابح بسمتها ..أمك وأمي على الشرفة تأكلان الفستق وتراقباننا .
عض شفاهه بانزعاج لكنه لم يستدر ..همس بتساؤل: علام تخططان هذه المرة؟ .
-لا جديد...تريدان تزويجنا يا ابن المنصور .
- هالله هالله ...لا تقوليها!
وتراجع إلى الوراء مرتميا على الكرسي ليهز قدمه بعصبية... نهضت جيرين وازحات كرسيها لتضعه بجانب كرسي كريم لتولي والدتها وخالتها ظهرها وقالت بجدية : لنقم بحفل خطوبة هذه المرة .
حدق فيها كريم بانزعاج فأردفت : آسفة على فظاظتي...والدتي لن تعتقني حتى أرضى بهذا الارتباط ووالدتك أيضاً..وخاصة بعدما فشل زواجك من نور.
جيرين اصمتي! صرخ فيها ونهض بعنف دافعاً الكرسي ليسقط وغادر ليخرج من البوابة الحديدية لكن جيرين لحقت به مسرعة وتأبطت ذراعه ..: ما الذي جرى بينكما في المتجر ...رأيتك تبكي في السيارة وأنت توصلنا.
-لم أبك.
-بل بكيت ..وكنت ستمسح مخاط أنفك بكم القميص .
شد قبضتي يديه وكاد أن يلكمها على فكها فابتسمت وهي تنكمش على نفسها وأردفت بعد أن خرجا من بوابة الحديقة ناحية الشارع ..وصارا يتمشيان على الممشى الذي تحوط جانبيه الأشجار ...
-اسمعني كالخلق وكفى جنوناً، لننتقي فستاناً جميلاً من متجرك ارتديه ونلبس خاتمين ثم نرقص ونغني وتمضي عطلتي بهناء ودلال وقبل أن أسافر ببضعة أيام نتشاجر فتضربني...وصراحة لا داع للتخطيط مسبقاً فأنت مجنون بطبيعة الحال وربما ضربتني بدون تخطيط..المهم أني بعدها أخلع الخاتم وأرميه في وجهك ونقطة انتهت المشكلة وستعرف والدتانا أن اجتماعنا مستحيل...والله تعبت من رفضك...تعبت، ألم تتعب أنت ايضا!
توقف كريم وهو يهز رأسه بعدم تصديق: -أتشاهدين الدراما التركية كثيراً!! ألوثت عقلك!
استدارت بجسدها كاملاً ناحيته وصارت تمشي بالمقلوب وهي تردف:
-خذها نصيحة من أرملة تزوجت فيمن لا تحب بسبب ضغط والديها..وحين بدأت تحبه هووب صدمته سيارة وماات، ارأيت فتاة منحوسة اكثر مني!
-رحمه الله ارتاح منك .
قالها ساخراً فأردفت جيرين بحيوية:
وها أنا أمامك .لم ابقى طويلاً ابكي على الأطلال ! عش قصة حب جميلة..لكن إياك أن تتزوج بمن أحببتها...فسواء اتزوجت بامرأة تحبها أو لا تحبها سيتلاشى الحب من أول بضعة أشهر وإن كنتما محظوظين...سيستمر الحب لعام أو اثنين قبل أن يختفي لتغرقا بروتين الحياة وربما قتل أحدكما الآخر...
توقف كريم هذه المرة يحدق فيها ..يتمنى أن يقوم باعتصار هذا العنق أو قطع هذا اللسان الذي لا يحتوي إلا على سموم الكلام!
اقترب منها هامسا: أشك أن هذا الدماغ فيه عثة صغيرة تلتهمه..لا يعقل أن تكون هذه أفكار آدمية! انت ابتلاء..جيرين..ابتلاااء"
-تفكيري سليم ومنطقي...أنت من يعيش في كوكب مواز...يا بني إن نور لا تناسبك إنها لطيفة ..رقيقة ..عقلانية ..تشعر وكأنها بسكوته مغطسة بمسحوق السكر ..وأنت!
أنت يفصلك عن الجنون شعرة واحدة! ضخم ..تتحول إلى وحش في لحظات كما فعلت معي في المتجر ...والله أرعبتني ..لولا وجود البنات لرأيت وجهي الحقيقي.
جمدت ملامحه ...رغم سخرية ما تتفوه فيه جيرين ..أردفت : والمجنون لا يحتاج إلى عاقلة بل يحتاج إلى مجنونة مثله كي يتعايشا بموازنة.
تنبهت لدموع الكريم التي تجمعت بمقلتيه فلوت شفاهها بابتسامة باهتة.. تريد مداواته ولا تعرف لذلك طريقة سوى بالسخرية!
ركعت على الأرض أمامه وقالت ضاحكة وهي تمد خاتماً وهميا: أتقبل أن تتزوج بي كريم المنصور بشرط أن نتشاجر فتضربني وأرميك بالخاتم بعد حين؟.
-مختلة مختلة انهضي!
قالها وهو يتلفت حوله و يرفعها وقد أبطأت بعد السيارات لترى هذا الزوج من المجانين!
********