Enasmhanna

Share to Social Media

- كيمو كيمو كيمووووو
ليست تلك صفارة سيارة إزعاج بل قنبلة إزعاج اندفعت مقتحمة غرفة كريم الذي انتفض من على فراشه بسبب صوتها المزعج ..
فتح عيناه بغيظ وضرب مؤخرة رأسه بتاج السرير وهو يعطيها ابتسامة مثلجة تنم عن انزعاجه:
-كفى كسلا..هيا انهض يا ابن خالتي الجميل "
رمي اللحاف بنزق وهو يشتم جيرين: والله..والله لم أرى أوقح منك حتى ببلاد الصين..ألا تقدرين كوني رجل أعزب حتى تقتحمين غرفتي بهذا الشكل!
أطلقت جيرين زفرة على تزمته الغريب! ثم هتفت فيه باسمة وهي تقرص وجنتيه الحليقتين: أنت أخي يا أحمق..
- نعم ...لذلك والدتك تصر على زواجنا! اعتقيني منذ الصباح ...هل حضرت والدتك برفقتك!
- جلست على السرير أمامه وهزت رأسها نافية: شعرت بالملل فحجزت على أول طائرة وحضرت ..وأشك أن نازلي هانم الآن تستشيط غضبا.
مسح وجهه بكلتا يديه ثم تمتم بنزق: أنت مصيبة..هيا انهضي وانقلعي من غرفتي...
كانت رهف واقفة على عتبة الباب تضحك من سخافة أفعال جيرين والتي حضرت لتوها من اسطنبول ...فحدق فيها كريم بانزعاج وكلمها بالعربية: خذيها من هنا ..الآن.
- والله يا أخي لو استطعت انت إخراجها فلا تنتظر.
قلبت جيرين نظراتها المغتاظة بينهما: هالله هالله! تتكلمان بالعربية حتماً عني أيها الوغدان!
ضحك كريم وهو ينهض من على السرير قائلاً بطلاقة باللغة التركية : ماشاءالله فهيمة مع مرتبة الشرف نعم طلبت منها أن تطردك من غرفتي..هيا إلى الخارج سأوافيكما لاحقا .
اومأت جيرين وقالت بحدة: وستخبرني كل شيء.
-كل شيء عن أي شيء !؟
فهمس جيرين : عن السندريلا الهاربة.
تطلع كريم بشقيقته رهف مهدداً : فأدارته جيرين ناحيها : هيي قبطان حديثك معي..أنا من اجبرتها على أن تحكي لي آخر تطوراتك....لكن فعلاً.. فعلاً برافو! من تسبيلة عين واحدة من ابنة خالة ابن عمك وقعت في غرامها وشطبت نور ..
-جيرين!! إلى الخارج يا مختلة "

*****
داس مراد بقدمه بعنفٍ على السيجار السابع واتكئ بمرفقيه على السور الحجري وهو يميل برأسه لأسفل...لمن سيحكي عما يلم بقلبه هو يشعر باختناقٍ فعلي ! من سيخبر عن مشاعره الغبية الغير مفهومة !! قهقه بغضبٍ وعاد يتمتم: لآدم مثلاً! لشقيقها سأحكي له أم لعابد !! أو ربما لكريم الذي يحاول أن يشفى من مشاعره تجاه نور من خلالها!! سحقاً"

ضرب بقبضته السور الحجري ثم اتجه ناحية الغرفة التي على السطح دفع الباب بعنفٍ وخطى داخلها ليرتمي على الأريكة واضعاً ساعده على جبهته داعبت أفكاره إليسا...بات يشعر بتأنيب الضمير تجاهها يشعر بالقرف من نفسه ولأول مرة على تصرفاته الماضية،على خيانته وضلاله، أخذ نفساً عميقا وأطلقه بينما يغمض عينيه لكنه فعلياً لم يخنها بعد الزواج !.

بعد العشاء وقبيل انتصاف الليل ووسط ضحكاتكم وأحاديثهم بقليل استدار عابد تجاه رضوان قائلاً بوقار:
-أظن أن الوقت قد حان يا رضوان لنستكمل أفراحنا"
تطلع فيه رضوان بعدم فهم بينما تبسمت عبير وقد فهمت علام يلمح عابد بحديثه،فالموضوع أضحى واضح جداً ...وهي كأم تدرك جيداً مشاعر آدم...وانقلاب حاله حينما تكون نور موجودة، أردف عابد بعد برهة:
-ومن الآخر...يشرفنا أن نطلب نور على سنة الله ورسوله ..فطبعاً الجميع باتَ ملاحظاً أن المسكين غارقٌ حتى النخاع "
احتقن وجه نور وتعاقبت ألوان الطيف لتقبض على فستانها بارتباك بينما انفرج حاجبا رضوان دهشةً وكتمت عبير وإليسا ضحكتيهما..

شرد مراد بتعابير آدم المترقبة الحذرة وبجمانة التي أمسكت بكفه بابتسامةٍ واسعة تلك الجنية ستصيبه بالجنون حتماً...وطال شروده بها ناسياً كل ما حوله.. حتى زوجته التي تجلسُ ملاصقةً له، تنظر كذلك إلى جمانة...تتفحصها..ثم تنظر ناحية مراد وقد شعرت بألم داخل صدرها...وقد شعرت بأن هناك شيئاً بشعا ينتظرها ...
بشع بطريقة لن تحتملها حتماً.
تنحنح رضوان قائلاً بهدوء: لنسمع رأي العروس أولاً يا صديقي" واستدار تجاه نور التي جمدت أمام والدها كجنديٍ أمام رئيس الجمهورية ! فقال رضوان باسما : وكأنني عرفت الجواب أم أنا مخطئٌ يا نور !

هزت رأسها وقد اختنقت الحروف بحنجرتها فنهضت قائلةً بارتباك: لا ....لا أعلم الرأي رأيك، عن اذنكم"
وهربت إلى غرفتها بينما ما تزال نظرات آدم
تلاحقها..هل حقاً انتهى الأمر بهذه البساطة! "
فقالت عبير وقد دمعت عيناها في تأثر: من عندي اعطيك الجواب يا أبا مراد....ابنتك موافقة" فلا أغلى من ولدي آدم أستأمنه عليها...
نهض آدم وقبل جبهة عبير وهو يهمس بامتنان : شكراً.. شكراً يا أروع أم في هذه الدنيا ..لا خرمني الله منك"
-إذن على بركة الله"قالها رضوان وشرع الجميع بقراءة الفاتحة وبعدها استدارت عبير تجاه آدم الذي جلس بجانبها وقد دمعت عيناها : مباركٌ يا بني "
كان صباحاً مغايراً للجميع ..حتى لآدم الذي خطوة من نور...نور التي ستصبح ملكه في القريب ...كيف تحققت أحلامه بهذه البساطة ! كيف ردت لروحه الحياة بعد عشرون عاماً استسلم فيها لنصيبه من هذه الحياة...عقله لم يستوعب بعد أنه اجتمع بوالده وشقيقته الميتين بالنسبة اليه لسنوات وسنوات !
دلفت جمانة صباحاً إلى منزله شعر فيها آدم تجول خارجاً في الصالة قبل أن تتوجه إلى المطبخ ...هذا المنزل فيه روح أخيراً...هذه الجدران الخاوية التي اعتاد على سكونها لأعوان طويلة عادت تنبض...تنبض بخطوات عائلته...عائلته هو ..والأقرب إليه .
طرقت جمانة الباب ودخلت لتلاقيها نظراته وهو ما يزال على السرير سارحا باسما وكأنه يعيش لحظات حلم لا يريد أن يصحى منها...
كيف ستعرف عليها من جديد...كيف سيعرف مالذي تحبه أو تكرهه كيف سيعرف عاداتها وكل ما يخصها...والمثل لوالده الذي رآه للمرة الأولى منذ مدة وجيزة ...رآه بعيني ابن ليزيل حاجز كونه غريبا شاركه منزله لعدة أشعر مع إخفاء عابد مشاعره بقوة وجلادة!

نهض من على السرير أخيراً ليتجهز لشرب القهوة التي حضرتها جمانة بنفسها لهما ...وخرج من الحمام بعد دقائق ليسمع ضحكات عابد وجمانة التي تريح رأسها على كتفه...
تلك الصغيرة الرضيعة عادت تعبث بذاكرته من جديد...أمانة كانت كبيرة على كاهله ألقى التحية عليهما فمد عابد ذراعه الأخرى ليندفع آدم ناحية والده ويجلس على الجهة الأخرى منه وقد أخذهما عابد بين ذراعيه...
عاد طفلاه أخيراً...عاد أمله الذي ظل متشبث فيه لآخر لحظة بحياته بأنه سيجتمع مع ابنه في النهاية، لكن القدر لكف بع وأعطاه جائزة عظيمة كذلك...جمانة، تلك الشعلة المجنونة التي تشابه شراسة والدها وجاذبية والدتها..
أما جمانة فشعورها الحالي لا يوصف...تلقت في حياتها صدمات كثيرة ...صدمة أنها لم تكن ابنة العائلة التي ترعرعت في كنفهم أول سبعة سنوات...قبل أن ترتطم بشناعة الحياة  باسم اللقيطة ...
اللقيطة التي تم تبنيها ثو تم رميها وسحقها كيلا تحصل على إرث لعائلة لا تعترف فيها..
وصدمة وفاة المرأة  التي تبنتها مرة أخرى قبل أن تموت! جميع من أحبتهم وتعلقت يوماً فيهم ماتوا وتركوها...والآن تتشبث في عائلتها...عائلتها الوحيدة والحقيقية لتشعر براحة مؤقتة ..مخدر تتعاطاه بينهم ومن محبتهم لتنسى القليل من جنون الماضي ..
جهزت لهما فطورا سريعاً ثم نزلت بعدما غادرا إلى  عملهما وقد تذكرت أن عليها ان تعيد الشال الصوفي الذي وضعه مراد على كتفيها في صباحها الأول ...وكان الشال يخص اليسا...
غسلته منذ عدة أيام وقامت بطيه ثم تقدمت من غرفة إليسا وطرقت الباب حتى سمعت صوت أليسا يدعوها الى الدخول...
دخلت جمانة الى الداخل بحذر فتلاقت عيناهما عبر المرآة .. لتنهض أليسا بكبرياء من خلف تسريحتها...بعد أن كانت تمشط شعرها الطويل الأحمر الذي سلب أنفاس جمانة لجماله...
-إنه...لك يا إليسا على ما اعتقد...تفضلي.
-تقدمت منها فتسلمته إليسا باستغراب:
-كان معك؟ كنت أبحث عنه لقد اختفى منذ عدة أيام!
- أعارني إياه مراد فقد كنت أشعر بالبرد بالحديقة .
غلظت عينا إليسا وازدادت قتامتهما عند ذكرها اسم مراد  وصارت تحدق فيها ..تتفحص كل شبر من جمانة التي لا تجاريها بتلطول أو الجمال...بس هي نسخة مصغرة أنثى مسترجلة!  تحاول استشفاف ما الذي لفت نظر مراد  فيها وما السر الذي يجعله لا يزيح بنظراته عنها وكأنه مسلوب الإرادة والتفكير !
كانت إليسا تخاف عالم الكبار ..والآن توغلت بأسوأ جزء فيه...بأشبع صور الغيرة التي تنهش روحها..
رمت الشال على الأريكة ثم تطلعت فيها بكبرياء حينما دلفت الخادمة إلى الداخل لتوضب الغرفة فقالت أليسا بنفور: خذي.. يحتاج إلى غسيل.
أجابت جمانة بعفوية: لقد غسلته ونظفته جيداً.
فتجاهلتها إليسا و خاطبت الخادمة مشددة على حروفها: نظفيه جيداً وحضري لي الليمون...أشعر بالغثيان.
امتقع وجه جمانة وأكدت للخادمة: نعم نظفيه جيداً...
وخطت خارج الغرفة مكفهرة الوجه لتلاقيها نور قبالة غرفتها ولم تكد تدخل جمانة غرفتها وتغلق الباب حتى خرجت الخادمة وهي تحمل الشال بانزعاج كذلك لتستوقفها نور التي شكت بأن شيئاً ما قد حصل !
وقد كان فعلاً...حيث شرحت الخادمة الحديث ببساطة وغادرت لاستكمال عملها..
وما هي إلا لحظات فقط ...لحظات حتى تعالى صوت ضربات عنيفة صادرة من غرفة جمانة لتهرع نور ناحيتها وتدفع الباب بعنف لتفاجئ بأن جمانة منكبة على كيس الملاكمة تضرب بقوة وعنف ...تنبهت عليها فتوقفت وقد تعالى لهاثها الغاضب الذي حاولت كبحه بابتسامة  مزيفة :
اقتربت منها نور باسمة:  توقعت كل شيء إلا أنك
تلعبين الملاكمة!
-وحاصلة على الحزام الأسود في الكاراتيه. .
-نعم!!! جمانة أأنت جادة!
اقتربت منها نور بعدم تصديق فخلعت جمانة قفازاتها وقالت بجدية : لم أتربى بكنف عائلة تدافع عني...كان واحب علي أن أتعلم تقنيات الدفاع عن النفس.
-ابن عمي يمارس الملاكمة أيضاً..وهو محترف جداً بالمناسبة ..أظنك تعرفينه..كريم"
أومأت لها جمانة بجمود فأعقبت نور : بالنسبة لما حصل مع إليسا...لا تنزعجي منها يبدو أن الحمل مؤثر على نفسيتها جدا..
هزت جمانة رأسها بنفي: لم يحصل شيء بيننا على العكس تعاملني بقمة الاحترام..لم أر منها ما يسيئ
-لم تزد نور في كلماتها فأعقبت جمانة بهدوء لتغيير الموضوع : مبارك لك يا نور...لم يتسنى  لنا الحديث سابقاً بشأنك وآدم....لكن ما أدركته ولاحظته أنه يحبك جدا.
اقتربت منها نور على خجل وهمست : أأخبرك شيئاً...وأنا أحبه ...اكتشفت أنني أحبه منذ زمن طويييل طويل ..
والآن...سعادتي لا توصف..

حل المساء  وكانت جمانة تجلس برفقة الخادمة في المطبخ لتمضية الوقت الممل دون أن تفعل شيئاً فقررت مساعدتها وسرعان ما انسجمت معها لتتعالى ضحكاتهما وهما تعملان يدا بيد لتحضير طعام العشاء ... دخلت عببر  المطبخ باستغراب:
-جمانة! أما زلت هنا!
- أتسلى ...لا شيء افعله"
- تعالي إذا لدينا ضيوف... والدة إليسا حضرت.. تعالي وشاركينا لا تبقي هنا..
- حسنا...سأوافيك خالتي.
- ماما...ألم نتفق على كلمة ماما عبير؟
ضحكت جمانة وأومأت لها: حاضر ماما..ماما عبير.
انتهت الخادمة من تحضير العصير  فتناولت جمانة الصينية : سآخذها أنا الحقيني أنت بالحلويات"
لكن آنسة جمانة! لا يجوز أن تخرجي وأ...
قاطعتها جمانة: اسمى جمانة فقط وثانيا أهو معيب أن أقوم بخدمة ضيوف خالتي...هيا الحقيني بالحلويات! .
وفعلاً تقدمت جمانة من الصالة وهي تحمل صينية المشروبات وتقدمت ناحيتهم ملقية السلام فتطلعت فيها بهية والدة إليسا بتعال : آه عظيم! جلبت خادمة جديدة يا عبير ؟ من أي مكتب يا ترى؟!
توقفت جمانة للحظات وأجفلت فسارعت عبير تقول بحدة :إنها جمانة ... ابنة اختي المرحومة .
شهقت بهية وتمتمت: لا يعقل! إذا هذه هي!!! بنت الميتم.
وكانت تلك الكلمة حين دخول مراد ليلقي التحية فتوقف في مكانه...وضعت جمانة الصينية على المنضدة وقالت بابتسامة باهتة: نعم سيدتي أنا ابنة الميتم...عن إذنكم ...لدي عمل أقوم به"
وغادرت جمانة الصالة وسط انزعاج الجميع من بهية التي لم تتنبه لذلك وأردفت دون أن تلقي بالا لجمانة التي ما زالت تستطيع سماعها :
- لا يعقل يا عبير! أتصدقينها ألم تفكري أنها من الممكن أن تكون نصابة! إنها مجرد لقيطة تربية ميتم .. اعذريني هذا كثير!
تقدم مراد بخطوات غاضبة تجاه والدة أليسا وهتف بحدة: عليك...أن تحترمي المكان الذي تتواجدين فيه...تلك ابنة خالتي وإن اعدت تلك الكلمة مجدداً سيكون لنا حديث آخر حينها"
توقفت أليسا بغضب: أتهين أمي يا مراد هل جننت!
تطلعت عبير بابنها بلوم وقالت بوقار:  لا يصح ذلك بني يبدو أن السيدة لم تقصد إلا الخير  بنا لا تعرف أصل الحكاية .
-ولسنا أطفالا هنا أمي لنزج بغريبة فيما بيننا لتقوم باستغلالنا أليس كذلك بهية هانم؟
- حتى ولو كانت فعلاً ابنة خالتك لكن انت لا تعرف أي تربية تلقت، بالنهاية هي تربية ميتم.
قالتها بهية بنفور  فاندفع مراد تجاهها صائحا: أما زلت تتدخلين في هذا الموضوع! لتنهض بهية محتدمة:
-سأتدخل لأن ابنتي تعيش هنا...بل وجعلتها تتشارك ذات الطعام مع لقيطة أهكءا تحترمون مقامها!  .
سمعوا صوت ارتطام الباب فتمتمت نور بقهر وهي تشير لجمانة : كانت تسمع.
اعتصر مراد قبضتي يديه كيلا يفلتهما على هذه الحرباء وقال بغضب:إذن احفظي مكانها كي تتشاركه مع لقيطة  خذي ابتتك معك عندما تخرجين...وعندما تتعلمان احترام البيت الذي تعيش فيه أعيديها...بل وعندما تتعلم ابنتك أن اسرار البيت تبقى في البيت .
شهقت أليسا وانهمرت دموعها بصدمة وصرخت فيه عبير
-لا يا مراد لا.."
فهتف بتهديد:
- كلامي نهائي ...وعندما أعود سيكون كلامي قد نفذ.
ثم ولى عنهم وخرج من المنزل يدور بعينيه الحديقة فأدرك أنها قد خرجت للشارع....استقل سيارته واندفع كالمجنون باحثاً عنها...لن تضيع مجدداً..لن تضيع من بين يديه بسبب تلك الحرباء اللعينة ..وهو يعرف حتماً جمانة
أسرع بسيارته حتى رآها تسير على الممشى الذي تحوط جانبيه الشجيرات فتوقف بسياته ونزل مسرعاً متوجهاً ناحيتها...كان البرد محتدم في الخارج ..تتلاحق أنفاسها المضطربة ويرتجف جسدها نفورا و غضبا...
نادها فتوقفت ولم تستدير كي لا يرى احتقان عينيها...اقترب منها ببطئ وهمس من خلفها: لن تهربي مجدداً.
استدارت ناحيته وقد ضربته عيناها الدامعتين في مقتل: ويبدو أنك عرفت سبب هروبي الدائم..نحن في مجتمع ينهش جسد الضعيف.
- أنا هنا جمانة...أنا معك بكل خطوة وكل لحظة وكل"
لا تكمل مراد ...أشكر مشاعرك النبيلة تجاهي، واشكر اهتمامك ودفاعك المستميت عني لكنها محقة بكل حرف نطقته...ما أنا إلا فتاة ميتم لم تتلقى تربية ولا أدب بل تلقت الضرب والهمجية ..حتى صارت تصرفاتي همجية وإجاباتي مجرد وقاحات متلاحقة عالمكم بعيد عني ...بعيد جداً، لعل الأفضل أن احترم هذا الأمر واكتفي بما كتبه الله لي .. سأعود إلى حياتي الماضية ولن امنع أحداً من زيارتي طبعاً...
ضحك مراد عاليا  ثم وضع كفه على جبينها مازحاً: أأنت محمومة!! أأصابتك الحمى حتى الهذيان!
ضربت كفه بغضب: لا تتواقح "
الوقاحة ليست حكراً عليك "
ثم اقترب منها وخلع معطفه ووضعه على كتفيها الهزيلين وقد أدرك أنها ترتجف من البرد وشد بقبضتيه على ساعديها منحنيا  بجذعه ليجاري قامتها القصيرة: الدرس الأول يقول ...إن تعرض أحد أفراد  العائلة لمشكلة ... ستتضامن العائلة جميعا في سبيل إخراجه منها، من اللحظة التي دخلت فيها ذلك المنزل أصبحت جزءً منه، ولن تعودي حتماً لهذه التصرفات التي تدفعك بعد كل مشكلة للهرب والاختفاء لأنك لم تعودي وحيدة..أنت تنتمين لعائلتنا..أأعيدها مجدداً...تنتمين عدا عابد وآدم...تنتمين إلينا لعبير لنور  وعسل وإلي..ومستعد لأجلك أن أحرق من يتطاول بقول أو فعل
طبطبت كلماته على فؤادها لكنها أجابت:
-  لن تبرر لكل من تقابله عن هويتي ومن أكون...وستصبح مجبراً على إعادة الماضي مراراً...
-لست مجبراً على تبرير شيء لأحد..جمانة افهمي جيداً..ليست عائلة المنصور من تهتم لحديث الناس... وخاصة أنا...
منذ اللحظة التي رأيتك فيها لم أكف ليلة عن التفكير فيك.
شردت في نظراته...في دفئ حروفه وصدقها...وفجأة ظهرت إليسا بينهما في مخيلتها أغمضت جسور التواصل التي تقتحم روحها  وهمست باضطراب: عد لزوجتك يا ابن خالتي ولا تدعها تخرج منه مهما كان السبب...أرجوك، أليسا لا ذنب لها فيما حصل .
انكبت بداه على جانبيه وقال آمرا: اركبي السيارة إذا..وعودي إلى غرفتك ..سنتكلم لاحقاً.
-ورأيي لن يتغير ليكن بعلمك"
ضحك بقهر : لا تغيريه لا أنتظر منك شيئاً.
ثم همس بينه وبين نفسه: دعيني أحبك فقط ولو بيني وبين نفسي.

رجعا سويا إلى الفيلا حيث كانت عبير تجلس بالصالة بتوتر وما إن أقبلا حتى خلعت جمانة معطف مراد لكنه لم يستلمه منها بل توجه بنظراته لأمه وسأل: هل غادرت؟
- تعرف أني لن لها أسمح بالمغادرة " قالتها بتحد لابنها الذي هز رأسه: حسنا فعلت لكنها تحتاج إلى التأديب "
ثم تجاوزهما وصعد غرفته مقتحما إياها حيث كانت إليسا تبكي على السرير فقال بهسيس: -كلمتان فقط يا إليسا..تأكدي أن  علاقتنا لن تعود كالسابق حتى تتعلمي احترام غيرك"
سألته من بين شهقاتها المتلاحقة: ما الذي فعلته!!
- بعد إيصال أسرار هذا البيت لأمك تسألين ماذا فعلت!. هذه الغرفة لك...اشبعي فيها حتى تتعلمي احترام قواعد واسرار المنزل الذي تعيشين فيه.
وخرج مغلقا الباب خلفه بعنف"
لتنكب على السرير من جديد وقد تعالت شهقاتها الباكية .. وصدق مراد في تهديده  لأسبوع كامل  لم يطأ  غرفته ليلا...ولم تفهم عبير ما الذي استدعاه للغضب بهذا الشكل..أو عرفت ولم تصدق وكذبت عيناها عما شهدته من نظرات ابنها ودفاعه المستميت عن جمانة ...
وإليسا لم تكن بأحسن حال بل زلت تختجز نفسها اغلب الأوقات في غرفتها لا تقدر علىمزاجه. أحد وخاصة جمانة أصل المشكلة ...
حتى طرقت عليها جمانة الباب ودلفت لتلاقيها عينا إليسا المحتقنتين بدموع لم تفهم جمانة كيف لهذه البنت أن تمتلك مخزونا كبيراً من دموع لا تنضب!
اعتدلت اليسا عن سريرها وهتفت فيها: خيرا!
فاقتربت منها جمانة وحدثتها بجدية : علينا أن نتكلم يا اليسا ..
لكن اليسا بعنادها الطفولي استدارت مجددا عن جمانة وغطت نفسها باللحاف : لا شيء نتحدث بشأنه اخرجي رجاء اريد أن أنام.
اقتربت منها جمانة وكتفت يديها على صدرها بتحد: اسلوب الهرب هذا لن ينفع ...استديري وواجهيني لنحل المشكلة.
-مشكلتي ليست معك جمانة "
قالتها بشكل هامس وهي ما تزال تذرف الدموع  فقالت جمانة وهي تجلس بجانبها على السرير: -مشكلتك مع نفسك يا إليسا...اعذريني لكن هذا ما أراه...يدلا من أن تواجهي تتخذين الوسيلة الأسهل والأضعف.
اعتدلت اليسا وهي تمسح دموعها وهتفت بغضب : ماذا تريدين مني ؟
تنهدت جمانة وقالت مشددة على حروفها: -اسمعيني أيتها المدللة ..أنا لا أعرف لماذا وضعتني برأسك منذ مجيئي لكن لأقول لك كلمتين ...: لا خوف مني...اطمئني،
ضحكت أليسا بعصبية وهتفت فيها: ونظراته بماذا تفسرينها إذن!
أجابتها جمانة بجدية : نظرات تعاطف طبيعية جداً لفتاة ظن الجميع أنها ميتة
واكتشفوا بعدها بالصدفة أنها ما تزال على قيد الحياة...بعد عشرون عاماً كيف ستكون نظراتهم ..وبالأخص زوجك فأنا كنت أعمل لديه كموظفة قبل أن يكتشف الحقيقة...اسمعيني يا إليسا ولا أتكلم لأجل نفسي لكنني صدقا لست متفرغة لغيرة النساء...وأنا أصلاً لا أملك من مقومات النساء التي تجذب الرجال" رمقتها اليسا بانزعاج فسحبتها جمانة من يدها لتنزل عن السرير غصباً  حتى وقفتا أماما المرآة...وقالت جمانة بجلادة :
- انظري جيداً ...يا عمياء القلب والعقل، هل سيترك هذا الجمال لأجلي برأيك!  بدلاً من أن تحتجزي نفسك وتلوميني لذنب لم أعرف ماهو حتى اللحظة تحركي ناحية زوجك وحاولي استرجاعه..وأعيدها لك لا مصلحة لي مع زوجك الغالي اختفظي فيه لنفسك واشبعي به ولا تدعيني انشغل بكما
ضحكت جمانة وتبسمت أليسا وهي تكفكف دموعها فأمسكت جمانة المشط وأجلست إليسا على الكرسي وبدأت بتمشيط شعرها ...
ثم همست وهي تناولها مساحيق التجميل:
هيا تجهزي وانزلي فزوجك ينتظرك في الحديقة الخلفية ...
انفرجت عينا إليسا وغنغمت بعدم تصديق: حقاً أيعني...أيعني أنه سامحني! لماذا لم تخبريني قبلا!
فابتسمت جمانة وهي تحدق فبها عبر المرآة ورفعت كتفيها ببلادة: وكيف سأخبرك وأنت كالباندا تنتحبين!  تجهزي وانزلي هيا.

وفي الأسفل كان يجلس وهو يهز قدميه بتوتر .. يعيد قراءة حروفها المختصرة : لاقيني في الحديقة الخلفية بعد نصف ساعة"

أسرعت إليسا بوضع اللمسات الأخيرة فاكتحلت ثم نهضت وجمانة تراقبها بشفقة جلية ...دارت إليسا حول نفسها : كيف أبدو؟
- جميلة جداً...هيا كلا تتأخري..
فاقتربت اليسا منها وعانقتها : أنا آسفة آسفة لكل ما بدر مني يا جمانة ...
ابتسمت جمانة بتشجيع وغادرت الغرفة فلحقت بها إليسا بتوتر: تعالي معي...رافقيني أرجوك ..إني..أشعر بالارتباك .
- أمجنونة أنت! أرافقك لتصالحي زوجك؟!
ابتعدي عني وإلا ركلتك وجعلتك تتدحرجين عن السلم ..
أخذت أليسا نفساً عميقاً تستعد لمواجهته بعد أن ابتعدت عنها جمانة وأغلقت باب حجرتها..
خطت الحديقة الخلفية وهي تضم الشال الصوفي على كتفيها وسارت بتؤدة ناحيته...
كان يقف شامخا يدخن... رافعاً وجهه يطالع السماء الملبدة بالغيوم الرمادية وسط السماء الداكنة  لكنه شعر بخطواتها...اشتم أنفه عبير عطرها ليهمس باضطراب دون أن يستدير : تأخرت..أيتها الجنية العنيدة .
جنية! أغفلت إليسا هذا اللقب الغريب وتقدمت منه حتى وضعت كفها على كتفه .
- وهمست بخنوع: اشتقت لك... جدا
تمزق وتينه وانتفض مستديرا ليحدق فيها بصدمة شلت حركته فأردفت أليسا : آسفة لتأخري...وآسفة على كل ما جرى..
تراجع خطوة إلى الوراء عن مرمى كفيها عندما حاولت لمسه وهدأ من أعصابه المشدودة وتمتم باضطراب: المهم ..أنك قد اعترفت بخطأك.
-عرفته مرادي...سامحني.
واحتضنته ليستكين فؤاده وصار يمسح على شعرها الأحمر الثعلبي الطويل ..وعيناه مرتكزتان على نقطة واحدة فقط...تقف فيها جمانة بشرفتها تراقبهما كجنية وقحة لئيمة حقيرة ...
ظل يشتمها بما يحتمل قاموسه من شتائم وهو يغمض عينيه ويفتحمها...على ذلك المقلب السخيف الذي أعدته له حين لرسلت له رسالة بأن بلاقيها في الحديقة فأرسلت له زوجته مزينة  ومتعطرة !
سأربيك يا جمانة...سأربيك من جديد"
صرخ عقله بهذه الكلمات قبل أن يرفع وجه إليسا بأنامله غير مبال باحتقان وجه جمانة التي أخفضت رأسها خجلاً من قبلته لزوجته وهربت من الشرفة لغرفتها وأغلقت الستارة بعتف وهي تتمتم:
- الوقح....فعل فعلته وعينه بعيني! يستغل زوجته ! الوقح أمامي يستغلها!

********
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.