((1980))
دلف عابد إلى غرفة رغد بعدما طرق الباب، انكمشت على نفسها عندما تقدم منها قائلا ً: هل لنا أن نتحدث قليلا ؟ أومأت له بقبول فجلس على البساط بجانبها ليتطلع في تفاصيل وجهها بجبين منعقد فتسائلت تحاول كبح ارتباكها من وجوده : احضرت إلى غرفتي لتصمت ؟
حك ذقنه قليلا ثم قال : سننطلق غالباً خلال يومين
ثم صمت مجددا ًوقد ضاعت الكلمات من فمه فاغتالت هي صمتهما قائلة بثبات :اسمع يا عابد ومهما كان ما تفكر فيه، لن يتغير شيء بيننا، لقد قبلت بالزواج بك فقط حتى نخرج من البلد وبعدها سأذهب في طريقي لقد اكتفيت منك"
احتضن كفها بين كفيه قائلاً بصوت أجش :
-لن يتغير شيء لكن تأكدي بأني سأحميكِ حتى آخر لحظةٍ بحياتي ، سأكون دائماً بجانبك وحولك إن رغبت بذلك وحتى إن لم ترغبي سأبقى أراقبكِ ولو من بعيد ...صعب أن تجدي نفسك عالقة أمام خيارين...وكل خيار فيهما أصعب من الآخر..بالنسبة لي أحد هذبن الخيارين هو الموت...والآخر كان اختطافك والمضي نحو المجهول...."
ارتعشت أناملها بين يديه وهي تحدق بكفه القابضة على كفها بينما هو يتطلع بوجهها الشاحب يتمنى منها أن تشعر به، وترفق بحاله..
فاغتالت سكونهما لتسأل : لما تفعل هذا ! لما تصر على حمايتي ، سألتك سابقاً وسأسألها مجدداً "
تبسم وأجاب ببساطة : لأن من واجب الرجل أن يحمي زوجته، أن يصونها ويحفظها من كل سوء "
حدقت به باستنكار واجابت : لكني لست زوج....
وضع إصبعه على شفاهها مقاطعا كلماتها برجاء : -لا تنطقيها ، لن يتغير شيء كما قلتِ قبل قليل ، لكن لا تنطقيها على الأقل في الوقت الراهن ،دعيني أعيش تفاصيل هذا الحلم وحتى لو في مخيلتي.... لن أكذب عليك رحلتنا لن تكون بهذه السهولة...وهروبنا لن يكون لوقت قصير، كان تركك بين أيديهم يعني الموت..كانوا سيقتلونك انتقاماً لموت رجل مهم جداً في جماعتنا قتله والدك قبل أن يقتلوه...والآن أنا أمضي بك نحو المجهول بعد أن اعتبروني خائنا..لست فقط من تدمرت حياتك ...و أنا تدمرت حياة لم أعرف غيرها .
****
ونعود إلى الوقت الراهن .....
حين استعاد مراد القليل من توازنه عاد إلى الفيلا، صعد إلى منزل آدم وحين فتح له الباب ودون أن يتفوه بحرف مد يده بتلقائية ليخرج السلسلة المعلقة حول رقبته وليتأملها من جديد ، حدق فيه آدم متسائلا : ما بك "
وكأنه أخيراً تنبه لوجوده فرفع عينيه بتلقائية ثم ربت على كتفه مجيبا بابتسامة صافية وهو يحدق بمعالم وجه آدم يحاول استشفاف أي تشابه بينه وبين المدعوة جمانة ثم قال بابتسامة مرتعدة : لا شيء يا ابن خالتي...
ثم تركه باستغرابه وهبط درجات السلم ليدلف إلى طابقهم ألقى السلام على الجميع وتوجه إلى غرفته، كانت إليسا تجلس وهو تسرح شعرها أمام المرآة، انحنى تجاهها ليحتضنها قائلا بإرهاق : آسف عما بدر مني صباحاً، تأكدي من أني أريدك معي وبجانبي دائما "
فاستدارت بتلقائية وقد اتسعت ابتسامتها لعودته وقالت بخجل : آسفة مرادي لما تفوهت به من حماقات !
أخرج لها من جيب بذلته خاتمًا، رفع يدها ليحيط اصبعها بالخاتم ثم قبل باطن كفها قائلاً :
-لا تعتذري أرنبتي، فمن حقك أن تغاري على زوجك الوسيم "
فقهقهت ببراءة وهي تحدق بالخاتم بسعادة واحتضنته قائلة بعتاب : لست أرنبة أيها المغرور ،على العموم شكرا لك ، انه جميل جدا "
فتبسم قائلا : بل أرنبة جميلة ومشاكسة ،لكن ليست تلك مشكلتنا ...بل المشكلة الحقيقية أنك عرفت شعور الغيرة أخيراً لتصدعي رأسي ، وستتوالى الهدايا من الآن وصاعدًا ، لقد كبرت يا بنت !!
وتعالت ضحكاته مجددا لتضربه على صدره بغيظ .
********
تعاقبت نظرات جمانة على الحائط المهترئ، الدهان الذي تقشر في مواضع كثيرة وعلى الأثاث البسيط، تنهدت بسخربة وهي تحدق بالأريكة...حيث كان جالساً قبل دقائق وعلى الفارق الفج الذي بدى مؤذيا للعين وهو جالس بأناقته وفخامة ما يرتديه... بدا شاذا وفي محيط لا يناسبه .. ندت دمعة من عينيها وهي تضحك بيأس وهمهمت بشرود وهي تحتضن ساعديها ببعضهما: كل شيء بيننا مختلف، متعاكس، نظافة حياتك وبريقها لا يتماشيان مع مستنقع حياتي البائسة!
لست بأكثر من نزوة عابرة بالنسبة لرجل يحب التغيير ، وأي تغيير ستجده معي ! ... نهضت من على الأريكة وتقدمت بخطى بطيئة ناحية المرآة المكسورة المعلقة على الحائط : أنا حتى...لا أنتمي لعالم الأنوثة !
انزلقت على الأرض بجانب المرآة وصارت تكمل تقشير بقعة الدهان بأصابعها مردفة بمرارة : -سيجد عندي البؤس، الشقاء، العفن !
مسحت دموعها مردفة وهي ترمي قشرة الدهان على الأرض: أنا أعيش كالقطط، حياتي ومنزلي الذي تتآكله الرطوبة حتى تصرفاتي الخرقاء كالقطط .
وتراءت بذاكرتها صورة إليسا، بفستانها الأبيض، بعينيها الجميلتين وضحكتها البريئة، أحست بسكين اخترق صدرها لذلك الشعور ، هي لم تعرفها سابقا ولا تريد معرفتها عن قرب كيلا تزداد معاناتها تجاهها، لكنها كذلك لم تعد تريد لمراد أن يتمادى أكثر بتصرفاته كيلا يغرقها به أكثر ،
شعور جميل كان يدغدغ قلبها لوجوده بجانبها في الفترة الماضية، لاهتمامه بها، لكلماته الغير منطوقة...لنظراته التي أشعرتها بوجودها وأنا مرئية لأول مرة بحياتها ..، كان بالنسبة لها كالسمكة الذهبية التي ظهرت للصياد البائس لكي تحقق أمنياته ! لكنها لن تقبل استغلال هذه السمكة الذهبية، لن تستطيع ذلك أبدا،
طرق باب شقتها فمسحت دموعها ونهضت بتثاقل لتفتحه، فإذا بهما مسعود وزوجته ..
افسحت لهما المجال للدخول فدخل مسعود و مسعود وهو يراقبها بشفقة ثم قال بعتاب كبير: -مراد بك ... كان في شقتك قبل قليل يا جمانة.
زفرت جمانة بعصبية وهتفت به :
-وما الذي تقصده بكلامك ؟
ظهر امتعاض جلي على سحنته وأجاب :
-نحن نعرف أخلاقك جيدا، لكن الناس والجيران سيستمتعون وهم يلوكون سيرتك عندما يوصلك بين فترة وأخرى بسيارته الفارهة إلى هذا الحي التعس
أتدركين معنى ذلك يا جمانة وبحينا تحديدا !؟ وبالنسبة لك ولحالتك؟
لوحت بيدها بانزعاج وصرخت به:
-فليذهبوا إلى جهنم، آخر همي ما سيلوكه الناس، لقد اكتفيت من منهم"
ربتت زوجة مسعود على كتفها قائلة بلطف: تعلمين أننا نتكلم لأجل مصلحتك فقط ياجمانة، أنت أمانة في أعناقنا، وصية الغالية قبل وفاتها.
اعتصرت قبضتيها ببعضهما وغمغمت بقهر: :
-لقد تعبت ...تعبت من هذه الحياة ومن نفسي ومن ملاحقته لي،ومن اتهامات الناس القاتلة، جريمتي الكبرى أني فتاة يتيمة تعيش بمفردها أي ذنب اقترفته حتى تتم محاسبتي بهذا الشكل!
******