هنالك من نكتشف بأننا نحبهم منذ لحظة اللقاء الأول, منذ أول خفقة من خفقات القلب، ومن النظرة الأولى.. من أول همسة.. وهناك من نكتشف بأننا غرقنا بحبهم لكن ...بعد فوات الأمان.
كان يعقد ربطة عنقه أمام المرآة يستعد للذهاب إلى شركته وهو يدندن كلمات أغنية ...وبدا شارد في عينين رآهما صريحتين وواضحتين وضوح النجوم في ليلة صافية...أما إليسا كانت تحدق فيه ببسمة ..فهو البداية والنهاية ...عيناه الوقحتين وكلماته الأوقح..ضحكت وهي ما تزال مستلقية على السرير، تنبه على نظراتها وضحكتهت فقال يشاكسها : وسيمٌ أليس كذلك "
اعتدلت بمجلسها :أنت مغرور .
اقترب منها واحنى جذعه تجاهها وقرصها من وجنتيها بينما يقول مداعباً وهو يتأمل شعرها الأحمر الفوضوية المتناثر حول كتفيها النحيلين : كيف لي ألا أصاب بالغرور وأرنبتي الحمراء معي !
-هووف مراد كف عن مناداتي بأرنبة لم أعد صغيرة.
رفع حاجبه متسائلاً وهو يمسح على شعرها : هل تزعجك كلمة أرنبة؟
هزت رأسها موافقة فانحنى تجاهها أكثر وبدأ بدغدغتها وهو يعيدها مراراً : يا أرنبة.. أتزعجك كلمة أرنبة يا أرنبتي الجمراء!!
تعالت ضحكات إليسا وهي تبعد يديه عن خاصرتها هاتفة برجاء : كفى رجاءً لم أعد أحتمل ابتعد أخيراً عنها وما زالت البسمة لا تفارق شفتيه، قبل جبهتها مودعاً وكأنما انتهى من وداع طفلته ثم انتشل جاكيت بذلته السوداء وقال وهو يخطو خارجاً: سأحضر لك الجزر عند عودتي "
تعالى غيظها منه فقفزت عن السرير ولحقت به وهي تجز على أسنانها بغيظ: سأشكوك لبابا رضوان وسترى"
ولم تكد قدماها تخطوان خارج باب غرفتهما بخطوتين حتى دفعها بعنف إلى الداخل مغلقاً الباب خلفه وقد تبدلت لهجته مئة وثمانون درجة : كيف تخرجين بهذا الثوب وهنالك رجلُ غريب يقيم هنا الآن !
حدقت فيه بارتباكٍ واضح وأجابت بلعثمة وهي على وشك البكاء : أسفة لم أنتبه"
قال محذراً : أول مرة وأخر مرة،التساهل الذي كان ببيت والديك عليك نسيانه.. إن تكرر الأمر مجدداً حتى لو بالخطأ لن يحصل خيرٌ أبداً يا جمانة"
جمدتها الصدمة فقالت تعيد : جمانة ؟!
تنبه لنفسه فقال متغافلاً عن هذا الخطأ: هل كلامي واضح يا إليسا ؟ ولن أعيد تحذيري مرتين
.
خطى خارجاً ليغادر بينما جمدت دمعة إليسا بمقلتيها من صراخه المباغت ومن هفوته بذلك الاسم الذي بدا وكأنه معتاد على نطقه مراراً وبأريحية ..مسحت دمعتها بكفيها ثم جلست على السرير بينما هو اعتصر قبضة يده بغيظ من جنيته التي لم تعد تغادر تفكيره مطلقا وخاصة بعد شكوكه التي تنامت داخل صدره عن هويتها..بل والأهم من ذلك العناق الذي ما يزال منقوشا على صدره..لم يعانقها بذراعيه فقط بل بنبض قلبه ...بروحه التي استكانت رغم جنون الموقف.. شعور لم يألفه مع امرأة قبلها.... نفخ بضيق وهو يتمتم : اخرجي من تفكيري يا جمانة،اخرجي ...هذا الطريق لا خير فيه ..
وصل ناحية مكتبه محاولا تجاهلها..لكنه لم يرها خلف مكتبها نظر إلى ساعته التي تجاوزت التاسعة والنصف صباحاً، خطى الى الداخل ليجلس خلف المكتب يحاول الانشغال بعمله بينما ما يزال تفكيره معلقاً بها وهو يهدد ويتوعد بعقابها على تأخيرها المتعمد حتماً، تجاوزت الساعة الحادية عشرة
فاتصل بفرح ليقول بلهجة أمرة إصعدي إلى مكتبي حالاً" ازدردت ريقها بصعوبها وقد استشعرت غضبه فتمتمت وهي تصعد اليه : الله يستر.
طرقت الباب بخفة ودلفت الى الداخل :
-مراد بك طلبتني"
أبلغي المحاسب بخصم عشرة بالمئة من راتب تلك الجنية تأخرت كثيراً عن العمل ؟
رفعت حاجبيها لتقول بعدم فهم: الجنية ؟؟!
-هوووف فرح، جمانة اقصد جمانة .
شهقت فرح وضربت على رأسها بخفة بينما قالت بلعثمة: مراد بك نسيت أن أخبرك أن جمانة جاءت في الصباح الباكر وء...
ضرب على سطح مكتبه بغيظ وهتف: جاءت!
-تركت لك مظروفاً و...
-فرررررح تكلمي بوضوح.
-قدمت طلب استقالة .
أطلقت كلماتها بسرعة و أغمضت عيناها بخوف وكأن الشرر قد يتطاير من شدقيه بأية لحظة فقال صارخا: أين المظروف، ولما لم تخبريني منذ الصباح.
-أقسم لك استاذ مراد انشغلت فءء
-لا أريد سماع المزيد أحضري المظروف حالاً وحسابك لاحقاً.
-حاضر عن إذنك.
اغلقت الباب خلفها وهرولت لتحضره فنهض مراد من على الكرسي بعصبية وأخرج هاتفه ليتصل بجمانة ليلسعه رد المجيب الآلي ( الرقم المطلوب خارج نطاق الخدمة) اعتصر الهاتف بقبضة يده بينما أطلقت شفاهه سبةً حانقة، حضرت فرح مجدداً ومدت يدها بالمظروف لينتشله من بين يديها ويقول ساخطاً: اخرجي وأغلقي الباب ولا أريد للجن الأزرق أن يخطو مكتبي .
-حاضر..عن إذنك.
فضه بلهفة ليقرأ تلك السطور التي زلزلت كيانه فارتمى على الكرسي بعينين هلعتين.
((لربما مجيئك إلى المقهى الذي كنت أعمل فيه كان مصادفة، لكن عملي معك كان غلطة، وملاحقتك لي غلطة، حتى تلك المشاعر التي بدأت أشعرها تجاهك هي إثمٌ كبير ولن أقوى على تحمل نتائجه، بدأت الموضوع بعناق وكلمة أحبك ...ولا اعرف صراحة ما الذي اعجبك بفتاة مثلي...لا تنتمي لعالم الأنوثة.. فتاة لا تعرف الحب ومعناه..الحب لم يخلق لأمثالي سيد مراد ... سواء أكنت تتسلى أو كنت جادا انساني.. انسى جمانة التي لخبطت كيانها منذ دخولك لحياتها...
اعذرني فزوجتك لا تستحق ما تفعله بها سيد مراد ))
اعتصر الورقة بين يديه وهو يصرخ: غبية! غبية!!
انتشل جاكيت بذلته وهرول إلى الخارج فاستوقفته فرح قائلة بتلعثم : استاذ رضوان يريدك بمكتبه !
-سيد مراد !!
تجاهلها وخرج من البوابة متجها الى سيارته وانطلق بها بسرعةٍ ناحية منزل جمانة، صعد السلالم واندفع ناحية بابها يطرقه بعنف دون استجابة: افتحي جمانة، أعلم أنك بالداخل، جمااانة!
ظهرت زوجة مسعود وهي تهتف بانزعاج : من أنت وماذا تريد؟ لا يوجد أحدٌ بالداخل.
تقدم منها متسائلاً بقلق: ما أدراكِ أنتِ.
تطلعت فيه زوجة مسعود وقالت بجمود: غادرت هذا الصباح، تركت المنزل.
هل توقف قلبه عن الخفقان أم هو يتهيأ ذلك، هل انسابت من بين يديه بهذه البساطة؟ هل توقف ذلك الحلم الجميل الذي عاشه معها لعدة أشهر؟ أيعقل ذلك... رحلت! لا مستحيل هنالك خطأ حتما!
-إلى أين؟ إنها...إنها يتيمة لا أحد له! تسائل بصوت بالكاد أخرج حروفه، لتجيبه برتابة : لا أعلم لم تخبرنا.
تاهت نظراته وهو يتجاهل المرأة ونزل الدرجات ببطء مميت، يجر قدميه جراً وكأنهما يزنان أطناناً، لا يعلم لما انتابه هذا الشعور القاتل بالفقد بالحرمان..استقل سيارته وسار بها دون أن يعرف إلى أين يقود..رن هاتفه ليقرأ اسم صديقه الضابط ركن السيارة بجانب الطريق وأجابه خوفاً من أن تكون فعلا كشوكه...ليستمع إلى كلمات صديقه وينقبض صدره، شعر بتقلصٍ في أمعائه، بضربات صدره التي تضاعفت عن معدلها الطبيعي، أغلق الخط وجمدت ملامحه على الطريق أمامه، صار خاوياً فجأةً، صحراوياً قاحلا رغم اكتظاظه بالسيارات وقت الذروة! ضرب على المقود بعصبية وضحك.
ابنة خالتي! ..إنها...ابنة خالتي!!
صرخ بجنون وهو يضرب المقود...
(أنت شقيقته يا غبية، أنت ابنة عابد، ابنته! كنت مستعدٌ لانتشالك من بؤسك، وعدتك بفرحٍ قريب أيتها الأنانية لما رحلت ؟!)
*********
استيقظ كريم صباحاً على وقع خطوات والدته التي ترتدي حذائها ذو الكعب العالي وهي تسحب الستائر لتغمر الغرفة أشعة الشمس الذهبية فتأفف بانزعاج وهو يغطي عينيه بساعده:
-ما هذا الإزعاج منذ الصباح، أغلقيها!
تبسمت أمينة وهي تقترب منه قائلة:
هيا استيقظ أيها الكسول لقد تخطت الساعة الثانية عشر ظهرا، تأخرت عن متجرك .
نفخ بقوة وهو يغطي وجهه بالوسادة وقال مغتاظا: لا رغبة لي بالذهاب اليوم.
سحبت أمينة اللحاف من فوقه وقالت بمكر : هيا انهض وكفى كسلا، ثم قالت بلهجة ذات معنى : -تجهز سيحضر ضيف بعد قليل .
-وما شأني بضيوفكم أمينة هانم ؟
فلد....لا تقابلهم انت حر لكن استبدل ملابسك واحضر لي بعض الطلبات التي أحتاجها .
-ولد..ولد، فوق الإهانة ..إهانة بحروف مغلوطة! كل هذه السنوات ولم تعرفي حتى الآن نطق حرف الواو كخلق الله !
ثم نهض بانزعاج وتجاوز والدته ليدلف إلى الحمام فقالت وهي ترفع صوتها: حضرت لك ثيابك، إنها على الأريكة .
تمتم بامتعاض واضح : حسنااا.
-لا تنسى إحضار العصير ..
-حاضر أمي .
خلع ملابسه فعاودت أمينة الصياح من الخارج : -والمثلجات يا كريم ،
-حااااااضر ، حاااضر، أمرك ....اعتقيني
قهقهت بصوت خفيض و تأملت تلك البذلة الرسمية التي وضعتها على الأريكة ليرتديها وتبسمت بمكر وهي تتمتم بتحد: لنرى آخرتها مع عنادك ، إن لم أنسيك إياها لن أكون أمينة يوزوغلو"
خرج من الحمام بعد دقائق ليستبدل ملابسه، جفف نفسه ثم استدار ليرمق البذلة بانزعاج :منذ متى وانا ارتدي بذلة رسمية ؟ هوووف أمي مابك اليوم !
سمع صوت جرس باب المنزل فتمتم بتذمر من ضيوف الغفلة بهذا الصباح وشرع بانتقاء بنطال رياضي أسود وكنزة قطنية زرقاء ضيقة نحتت عضلاته بشكل جلي و هم بتسريح شعره أمام المرآة، كان وجهه شاحبا والهالات السوداء أثبتت نفسها وبجدارة تحت عينيه المرهقتين جراء سهره المتواصل لكن ذلك لم يخفي وسامته،
خرج من غرفته ليستمع إلى أصوات ضحكات نسائية متفاوتة، شعرت والدته على وقع أقدامه
توقف أمام باب الشقة وكاد أن يمسك المقبض فنادته والدته بصوت عال باللغة التركية : تعال يا كريم وسلم على ضيوفنا .
لااا..هذا كثير ؟نفخ بضيق واستجاب لمطلب والدته على مضض وسار تجاه غرفة الضيوف وهو يحاول رسم ابتسامة مجاملة،
-صباح الخير" نطقها بسرعة بلغته التركية المتينة وهو يدخل ففوجئ بخالته نازلي وابنتها جيرين.
حدق بحبور وتوجه ناحية نازلي التي انهالت على ابن اختها بالقبلات فتفتم باسما: نازلي هانم...نورت ...والله نورت .
- نورك حبيبي...يا ابن الغالية .
قبل جبهتها وتوجه ناحية جيرين ومد يده لمصافحتها لكنه تعلقت فيه وجبلت وجنتيه ليجمد مكانه! جيرين لم تعد صغيرة على هذه التصرفات ..أبعد نفسها عنها وتحاشى النظر إلى ملابسها التي لا ترى بالعين المجردة!
مجرد شورت قصير مع كنزة سوداء قصيرة بلا أكمام !
كانت جيرين بيضاء البشرة ذات شعر متماوج أحمر اللون ووجه ناعم وعينان بنيتان كحيلتان،
ألقى بضع كلمات مجاملا
ثم استدار ناحية والدته قائلا بسرعة بالتركية : عن إذنكم سأغادر الآن .
خرج بينما اكتفت والدته بالتحديق فيه وهو يغادر ببساطة فشعرت بالحرج من تصرفه وقالت وهي تتبسم بإحراج لشقيقتها: مشاغله كثيرة في هذه الفترة..
-ليكن الله في عونه " قالتها نازلي ثم أردفت: الأيام قادمة العطلة ما تزال في بدايتها ونحن هنا..لن نهرب.
ضحكت أمينة تتوعد كريم: ايه..الأيام قادمة حبيبتي..الأيام قادمة.
*******
تلمس عابد بيده رخام القبر وكأنها ما تزال بجانبه، تستمع إليه.. ذلك القبر الذي لم يخبر عنه أحد لآدم الذين كذبوا عليه وأخبروه أنه بمدينة أخرى ..حيث توفيت .
جلس عابد على الحافة الحجرية وهو يداعب بأصابعه باقة زهور البنفسج : أتذكرين ...كنت تحبينها جدا، تعشقين البنفسج ورائحته، ومن اليوم وبعدما صرت حرا أخيرا، سأحضرها لك دائما.
تنهد وهو يكبت دمعة تناضل لتجتاز حاجز عينيه:
-عشرون عاماً مرت لكن عيناك في في كل ليلة كانتا تهويدة غفوتي، مخدر لأنام بأمان، أشعر بأنك تسمعينني، أريد أن أصدق ذلك يا رغد، ست سنوات فقط كانت هي حصيلة ذكرياتنا لكنها ستظل محفورة أبد الدهر،
صمت قليلاً وهو يستجمع كلمات وأخبارا ليبثها لها :
-تعرفين ...سأقابل آدم اليوم ولأول مرة، انا خائف فعلا من ردة فعله، أفهموه بأني ميت منذ طفولته، لا أعرف كيف سيتقبل هذه الحقيقة، اشتاق لاحتضانه يا حبيبتي، اشتاق للإحساس بمشاعر الأبوة الحقيقية وهو بين ذراعي، وكم أتمنى أن يتقبلني ))
وتذكر عابد أحداث الحادثة في العام 1990
قالها الوطواط بعدما استطاع الوصول إليهما : أتعلم يا عابد..... بوجود رغد على سطح السفينة استطعت ضرب عصفورين بحجر واحد.... القضاء على ذلك العقيد الذي يحفر ورائي منذ مقتل حماك المصون " ثم اقترب منه أكثر وشد بقبضته على شعر عابد المقيد على الكرسي وقد أنهكته آثار الضرب المبرح الذي تعرض له من رجال الوطواط، أردف ولهيب انفاسه الخانقة تغتال روحه: والقضاء عليك بعد خيانتك لي، خيانة عمل العائلة والجماعة.
بصق عابد عليه بكل حقد فركله الوطواط بعنف على صدره وقال جازا على أسنانه: -الخيانة ...تستحق الموت عابد الآغا.
لكن عقوبتي لك ...لن تكون الموت حتما،
لأن الموت رحمة....وانا لا أحب أن أرحم،
اغتالت روحه كلمات الوطواط بعدما سلب منه أعز ما يملك، فأردف الوطواط ساخرا : ست سنوات وأنا أبحث عنك، من بلد لآخر ..وأنت كالفأر تتوارى بزوجتك ولم تكتف بذلك، بل أعلنت صراحة محاربتي، ومن حينها وقعت على صك موتك بيديك يا ابن أخي"
انحنى تجاهه وضغط إصبعه على صدر عابد وقال بمكر شيطاني: الرصاصة اخترقت صدرها، بهذه النقطة تحديداً ،وبهذا خططت النهاية .
والآن انتهى دوري في مسرحيتك السخيفة، وحان دورك أنت في مراجعة التفاصيل لتتسلى فيها حتى آخر أيامك .
صرخ عابد بجنون..أولادي...أولادي أيها الحقير!
لكنه كان قد غادر تاركا إياه مكبلا على الكرسي، زأر عابد كالوحوش، صرخ حتى كفت حنجرته عن إطلاق المزيد، شعر بسكاكين تخترق صدره على فقدها، وبالألم على مصير طفليه آدم وجمانة، ملاكيه الصغيرين اللذين لم يرتوي بعد منهما،
وبعد صراع عنيف مع نفسه وآلام روحه، سمع صوت سيارة الشرطة، ولتداهم الدورية ذلك المنزل المهجور الذي احتجزه في الوطواط وكان أحد رجال الوطواط قد اتصل بالشرطة للإبلاغ عن احتجاز تاجر السلاح عابد الآغا.
أحيل من بعدها فورا إلى المحاكمة بصفته تاجر سلاح، ليصبح سجيناً على أرض الواقع وسجين ماض تنهش ذكرياته رغد دون رحمة، وصدق الوطواط حينما اخبره بأن الموت رحمة له، الموت رحمة بالنسبة لرجم ذكرياته القاتلة، وحاضره خوفاً على مصير طفليه بعدما فجعه المحامي حينما أخبره بأن الصغيرة توفيت في الميتم على أقوال المديرة المسؤولة، وآدم تسلمته خالته بعدما عرفت متأخرة جدا بالفاجعة التي حلت بشقيقتها وابنتها الرضيعة.. .
ربت رضوان على كتفه لينتشله من شروده بالماضي وقال : هيا يا عابد لنغادر "
تطلع فيه عابد بعينين حمراوين كانتا تشتاقان للبكاء، لكن عابد لن يبكي حتما، تعود منذ طفولته أن الرجال لا يبكون، فلم يذرف دمعة بحياته، لم يسمح لها بتجاوز حاجز رموشه، حتى عندما توفيت رغد في ذلك الحادث لم يذرف دمعة واحدة، بل شعر بنار تتأجج في صدره، بحريق لهيبه اكتسح قلبه لتحوله إلى رماد،
طرد تلك الذكريات التي احتلته شر احتلال و
أومئ لرضوان موافقا وعاود ارتداء نظارته السوداء ليغادر مدفن ذكرياته الموجعة .
************