يوم جديد طويل وشاق كسابقه ؛ " الظاهر أتكتب عليك الشجا يا ويلد لباجي عمرك يا الله كله وعد ومكتوب يا بوي ومين فينا بيهرب من المجدر" هكذا دار الحديث الداخلي لنفس "يزن" الذي أستقل سيارته متوكلا علي ربه لدرب مقر عمله حيث تقبع شركته الوليدة في أحدي شوارع حي دار السلام بالقاهرة ؛ فلقد أرتحل إليها ليرتمي بين أمواج الخلائق في القاهرة المحروسة لعله يشق لمستقبله طريق وينحت بالصخر ليصعد درجات سلم الحياة الطويل.
" يزن" شاب صعيدي في أوائل العقد الثالث من العمر ترعرع بمحافظة المنيا عروس الصعيد لما تتميز به من الكثير من الآثار والمزارات حيث بلدته بهنسا التابعة لبني مزار والتي هي في الاصل سميت " باب المزار" لأنها تعد مدخل لمنطقة بهنسا المشهورة بكثرة المزارات حيث الآثار الفرعونية والرومانية والأسلامية ؛ نشأ " يزن" لأسرة ميسورة الحال وقد أختار والده الراحل هذا الأسم وقام بتسميته أياه.
"يزن" ... وهو أسم عربي أصيل مأخوذ من معني ميزان العدل والمساواة ولأنه مكون من ثلاثة أحرف فقط فكان الأسم محبب للقلب لسهولة نطقه وحلاوة حروفه وهي تنطق؛ وعندما كبر "يزن" وأصبح شابا أنطبعت شخصيته من أسمه ؛ فالأسم يؤثر على شخصية صاحبه فجعلته شخصيةً هادئةً غامضةً إلى حدٍّ ما، حيث لا يمكن التنبؤ بردة فعله حول ما يحدث معه من أمور، فهو أشبه بالرمال الساكنة التي لا يمكن معرفة ما تخفيه تحتها، ويعود الأمر في ذلك إلى أحد المعاني التي يحملها الاسم وهو وادي الرمال العظيم.
كان والده تاجر ذو سمعة طيبة حيث تشتهر المنيا بأنتاج قصب السكر والعسل الأسود المستخرج منه ؛ حيث كان يجمع المحصول من المزارعين ويقوم بتوريده لمصانع أنتاج السكر وكذلك مصانع أنتاج العسل الأسود المميز في أبو قرقاص ؛ وكان رزق الله له وفير للحاج "عبد الكريم" والذي حج بيت الله بمجرد زواجه لتكون أولي خطواته الزوجية حجة هو وزوجته لبيت الله الحرام وهو بمهد العقد الثاني من عمره؛ ليصبح بذلك أصغر حاج بالقرية وكان يليق عليه مصطلح الحاج فهو منذ صغره يتميز بصفات الصلاح والتقوي خصوصا أن والده أي جده ل "يزن" كان فقيه بالدين لذا حرص علي أن يحفظ "عبد الكريم" القرآن منذ نعومة أظافره وتفوق بالفعل بالحفظ بالكتاب الصغير بالقرية وأحبه شيخه " عبد العليم " لأجتهاده في الحفظ وأستذكار معاني الكلمات به والعبارات فقام والده بألحاقه بالمدرسة الأزهرية حتي أتم تعليمه بتفوق ؛ ونظرا لميول "عبد الكريم" للتجارة فلم يستكمل دراسته العليا كما كان يتمني شيوخه لتفوقه وتميزه في تحصيله الدراسي ؛ وأتجه للتجارة وتفوق فيها وأصبح له أسم موثوق فيه في هذا المجال ؛ وعندما جاء "يزن" قرة عين أبيه "عبد الكريم" فرح به فرحة عظيمة لا توصف فلقد رزقه الله بأربعة جواهر " فتنة " ؛" فادية" ؛ " فوزية" ؛ ولتنتهي جواهره النفيسة بآخر العنقود " هدي" نسبة للسيدة هدي شعراوي حيث كانت محافظة المنيا مسقط رأسها ؛ ثم أتم تزيين تاج رأس "عبد الكريم" بالجوهرة الخامسة "يزن" الذي خطف قلب أمه وأبيه فلقد أشتاق الفؤاد لقدوم الصبي ؛ فالمعروف عن أهل الصعيد مدي أهمية أن يرزق كل أب بذكور من صلبه تكن عضده وعكازه في كبره .
وكان "عبد الكريم" يحتضن وليده ويهمس له بحديث خفي ووصايا بأن يكون رحيم بأخواته ويكن لهن رجلا وسندا من بعده ؛ وخط "يزن" خطواته الأولي ووالده يصفق له جزلا بأنه أصبح علي أعتاب مرحلة عمرية جديدة ؛ وعندما أتم عامه الحادي عشر كان يصطحبه والده معه أثناء عقده أتفاقات مع المزارعين لشراء محصولهم سواء من بنجر أو قصب السكر وكانت كلمة "عبد الكريم" سيف علي رقاب العباد فالحق وبالعدل وكلمته بمثابة عقد مكتمل الشروط والأركان فهو في الألتزام لا يشق له غبار ؛ لذلك كان يحصد مع كل صفقة وأتفاق له زيادة محبة وود ووئام بينه وبين كل من يقابله من العباد ؛ وكان سخي في عطاءه ويجعل للفقراء نصيب غير هين من ثروته لذلك أحبه الجميع لأياديه البيضاء معهم دون تفريق
وفي أحدي الليالي الشتوية قارسة البرودة ؛ فلا أحد يعلم عن برد الشتاء القارس في الصعيد سوي أهلها ؛ وبينما يستقل "عبد الكريم" سيارته متوجها لمنزله في ساعة متأخرة من الليل وهطول الأمطار بغزارة لتروي تراب الطريق ونشئة المستنقعات الصغيرة لتجعل من القيادة أمر شبه مستحيل؛ ليفاجيء بأنوار ساطعة أعمت عيناه تشق الطريق مسرعة ويجاهد لتفادي ذلك الضوء المبهر ولكن نظرا لثقل الضباب لتنحرف السيارة وتنقلب بالترعة الإبراهيمية ليفجع "يزن" بالخبر المشئوم.