Enasmhanna

شارك على مواقع التواصل

الوقت الحاضر ...

فتح عيناه الرماديتان متململاً فوق فراشه ذو اللون الكريمي لكن آثار سهاد الليلة الماضية لم تفارقه، نظر إلى يمينه ناحية الساعة المتوضعة المنضدة الملتصقة بسريره ، كانت لا تتعدى الثامنة صباحاً ، اعتدل بمجلسه وتناول كأس ماء مرتشفًا منه القليل ثم أعاده ونهض بتثاقل يجر قدميه جراً نحو الحمام .
ملئ حوض الاستحمام بالماء الساخن ثم خلع ملابسه و خطى داخله وانزلق لتغمر مياه الحوض وجهه وأغمض عيناه ...احتضن بكفه تلك السلسلة الفضية المعلقة على رقبته وكأنه يستمد منها القوة والصلابة .. رفع رأسه عن مياه الحوض بعد مدة اختلطت فيه أحلامه بواقعه على صوتٍ يناديه
-آدم، بني هل أنت بالداخل ؟

طرقات عبير على الباب جعلته ينهض بصعوبة ليغطي جسده بالمنشفة ثم بفتح لها الباب، فتساءلت بلهفة بعدما التمست انقباض حاجبيه:
-ما الأمر ...هل أنت بخير بني ؟

عاجلته بمقولتها تلك وهي تتفحصه بعينيها بقلق فأجابها : لا تقلقي، صداع خفيف كالعادة، لكن ما الذي جاء بك منذ الصباح ؟
-ألا يحق لي زيارة ابني الحبيب .
قالتها بعتاب ليمسك كف عبير ويقبلها قائلاً :
-تشرفين بأي وقت تشائين خالتي .

ربتت على ظهره ثم طلبت منه النزول لتناول طعام الفطور الذي جهزته في الطابق السفلي، قبل هروبه الى الجامعة كعادته قبل المرور إليهم فأومئ لها موافقاً، أغلق الباب بعد خروجها وجفف نفسه جيدًا قبل أن يرتدي قميصاً مشابهاً للون عينيه الرمادي المائل للزرقة مع بنطالٍ من الجينز، جلس على السرير ممسكاً هاتفه المحمول بعد أن وصلته رسالة من صديقته بيسان :

(لا تنسى مشروع أستاذ مهند مجددًا وإلا صرت ذبيحة عيد الأضحى)

باغتته ابتسامة تسللت على شفتيه قبل أن يفتح الباب على مصراعيه وتدلف كتلة الإعصار المتحركة ..(عسل) ذات الثمانية أعوام وهي تصيح به:
-هيا آدم بسرعة ألم تعدني أن تصطحبني اليوم إلى الملاهي .هياا
-ملاهي بهذا الوقت اقضيت الليل تحلمين بالملاهي!

تقدمت نحوه تشده من ذراعه فضحك مستسلماً لمطلبها مجبرًا على تنفيذه وانتشلها من على الأرض بغتةً وصار يدور بها بقوة وسط ضحكاتها المجلجلة حتى ارتميا على السرير وقد تعالت قهقهاتها ..
-ها قد أخذتك بجولةٍ سريعة " قالها و نهض يلهث لتزعق الصغيرة استنكارًا وهي تنهض وتلحق به .
-آدم!
-يوووه... أمزح أقسم لك أني أمزح مساءاً سأصحبك كما وعدتك فلا ملاهي تفتح من الصباح الباكر، هيا اخرجي الآن سأجري اتصالاً سريعا وسألحق بك .

-مع حبيبتك المبهرجة أليس كذلك !
توسعت حدقتاه وضربها بخفة قائلاً :
-لا أحب غيرك .
قهقهت وهي تخطو خارجًا بسعادة، تناول مخططات مشروعه الهندسي و هاتفه مجددا ً ليجري اتصالاً مع صديقته بيسان بالكلية وهو يهبط درجات السلم وقبل أن يدلف داخل المنزل، فتح الباب بغتة واندفعت منه نور ذات السبعة عشر ربيعاً لترتطم بصدره بعنف، سقط الهاتف من يده وتبعثرت اوراق مشروعه على الأرض فتلون وجهها بألوان الطيف السبعة وهي تبتعد عنه معتذرة وتهم بالتقاط الأوراق و بقايا الهاتف الذي تحطم وهي تعض على شفاهها بحرج في حين كشر وهو يتمتم :
- أصبحنا وأصبح الملك لله ...

-آسفة آدم لم...أرك "قالتها بتلعثم وهي ترى انقباض حاجبيه بغضب حتى كادا يلامسان بعضهما،

-أتعلمين كم هاتفا غيرت بسببك يا متهورة، كم مرة على إخبارك بأن تنتبهي لتصرفاتك لم تعودي صغيرة !!

اعتصرت حقيبتها الممتلئة بخجل جلي فأردف بذات القسوة :

- وإلى أين تتجهين بسم الله منذ الصباح الباكر ؟ اليوم عطلة في مدرستك !
رفعت عيناها العسليتان وقد استبد بها الحماس مجدداً :

- سأذهب في رحلة مع أولاد عمومتي

- لا والله ! قالها بتهكم مكتفاً يداه على صدره ليستحثها على الحديث كعادته فأردفت بذات الحماس :

-سيذهب الجميع رحلة اليوم إلى شاليه البحر وسأشاركهم .
اغتال ابتسامتها المتحمسة غضبه وهو يدفعها الى الداخل صائحاً :

-ومن أذن لك إن شاء الله لتذهبي مع هؤلاء الحمقى !
خرجت عبير من المطبخ بعد ارتفاع صوته لتجيب نور بغضب وهي تضع بقايا الهاتف والأوراق على المنضدة: أخي سمح لي، لا تتدخل أنت "

كظم غيظه وقال بحدة : وأنا قلت لن تذهبي معهم .
تقدمت عبير تربت على كتفه متسائلة : آدم ! ما المانع من ذهابها برفقتهم إنهم أولاد وبنات عمومتها كما أننا سنتبعهم اليوم مساءً بعد توضيب باقي الأغراض اتفقنا البارحة ..ألم تخبرك نور؟!.
بان الانزعاج على وجهه وأجاب:
- لا "
حدقت نور بوالدتها وهمهمت :نسيت .

ضبطت زوايا تصوير بأصابعها وهي تحدق فيه بمشاكسة وكأنها تضعه ضمن كادر مناسب ثم أخرجت هاتفها المحمول والتقطت له عدة صورة بعبثية: ابتسم يا سنفور غضبان ..

- نور ...كفي عن السخافة !
صرخ فيها بانزعاج ففتحت الفيديو وعكست الكاميرا ليلتقطهما معها ثم قالت بمرح:
أصبح الله أوقاتكم بكل خير... اقتحم المدعو( آ. د )..منزل عائلة المنصور ...بمداهمة صباحية للمدعوة (ن .م) وقام بشتمها علانية لمنعها عن الذهاب برحلة قبيل الامتحان...لكنها تمسكت بحقها بالذهاب بضراوة .... ابقوا معنا لمتابعة باقي التفاصيل...معكم مراسلة أخبار الدار نور المنصووور )
اندفع مراد وانتشل الهاتف منها بغيظ ليوقف التصوير وقد تعالت ضحكات عبير اليائسة من مشاجراتهما الطفولية التي لا تنتهي ..
كتفت عسل يديها أنام صدرها تنتظر بنفاذ صبر ...ثم قالت بسخط تحادث نور : إن انتهيت من هذا التهريج تعالي واحملي حقيبتي.
تعالى بوق سيارةٍ رياضيةٍ أمام الفيلا فالتفتت نور تجاه آدم بانتصار وسحبت هاتفها من يده وخاطبت والدتها متجاهلة كتلة النار المتأججة أمامها : سأذهب الآن كيلا أتأخر ها قد وصلَ كريم لاصطحابي، سلام "
تناولت كف عسل وحملت الحقيبة
واندفعت راكضة مع شقيقتها من أمامهما كيلا تغير والدتها رأيها بسبب كلمات آدم كما العادة بينما هو راقب هروبهما جازاً عل أسنانه بغيظ، رفع عينيه مخاطباً عبير بعتاب كبير
-خالتي ! كيف تستأمنون ذهابها معهم دون مراد على الأقل ؟
ربتت عبير على كتفيه وشبح ابتسامة ارتسم على محياها :

- وأنت بمثابة أخوها أليس كذلك !، اذهب ورافقها من الآن
شغل نفسه بتركيب قطع هاتفه وقال ساخطاً:
-مع الأسف_أخوها _ لديه تقديم مشروعٌ مهمٌ اليوم وإلا سأُحرمُ من التخرج " أنهى كلماته ونهض فورًا من مكانه حاملاً أغراضه ليغادر الشقة فتساءلت بلهفة : والفطور !
-لست جائعاً، ابنتك المصون سدت نفسي.

هبط درجات السلم وخرج من باب الفيلا المكونة من طابقين منفصلين مستقلاً دراجته النارية بغيظٍ من نور، يتمتم ويتوعد مراد الأحمق بل وكريم أيضاً....

وبالكاد وصل قبل موعد المحاضرة الدكتور الممل مهند، بكرشه المتدلي، بتفتفاته التي تغرق الطلاب في كل محاضرة، بعرقه الذي يبلل إبطيه وجبهته وهو يلقي المحاضرة و لا يفتأ يمسحهم بمنديله الذي من أعتاب القرون الوسطى !!، جلس آدم بنفاذ صبر وفكره معلق بتلك المجنونة وبرحلتها المفاجئة وبعقله يؤلف مئة سيناريو عما تفعله الآن برفقتهم !... بل والمصيبة أن كريم هناك! .... كريم ظل يردد اسمه وهو يعض على شفاهه بحنق.
لامس بأصابعه الخاتم الفضي الذي أهدته إياه نور منذ عامين وابتسم غارقًا بتفكيره، سابحاً بعيداً جداً، لأيام طفولته مع عائلة خالته بعد وفاة والدته .

عادت ذاكرته لأيام طفولته بينهم ، لمراقبته تلك الصغيرة نور وهي تكبر يوماً بعد يوم أمام عينيه، تلك المجنونة، عديمة المسؤولية، الهوجاء ، الطائشة، المتخلفة عقليا حتى !

من وجهة نظره جميع مساوئ العالم أجمع تجتمع فيها ومع ذلك هي تجذبه بجنون، تعجبه بشدة، تذيبه بلون عينيها الذي استرقت لون العسل المصفى، بحدقتيها الواسعتين ورموشها الكثيفة ، فاختار منذ سنوات الانتقال إلى الطابق العلوي هرباً من أنوثتها التي بدأت تتشكل يوماً بعد آخر ، كان يحميها من نظراته التي لا يستطيع السيطرة عليها،
يحميها من ملاحقته لها أينما ذهبت، يحميها من نفسه ومن وسوساته التي لا تنتهي بشأنها، من تدخله بكل صغيرة وكبيرة فيها متجاهلاً والدها وأخيها مراد وقراراتهم بما يخصها ،رغم أنه الآن لا يتجاوز الخامسة والعشرون من العمر وكانا ببساطة يستمعان إليه في كثير من الأحيان بما يعتقد أنه الصواب .
ويشعر بالخيانة الفعلية إن تجرأ أحدٌ على تقرير شيء يخص نور مهما كان صغيراً
انتفض على خبطةٍ عنيفةٍ على مقعده ليرتطم بفزع بوجه الدكتور مهند المتصبب عرقاً
- بسم الله "
-هل رأيت شبحاً أستاذ آدم !
- آسف، شردت قليلا"
جز الاستاذ على أسنانه بغيظ وأردف: هل أنهيت مشروعك ؟
مسح آدم وجهه إثر تفتفات مهند ونهض قائلاً بتململ :
- إنه معي دكتور ، تفضل "
ومد بالمشروع تجاه مهند الذي اختطفه من بين يديه مكملاً محاضرته المملة كحاله !

- سنرى ما آل إليه بعد هذا الوقت "

و بعد عدة ساعات اتصل مراد بآدم وما إن أجابه قال مراد بابتسامة واسعة :

- أهلا بالأمير ، كيف حالك اليوم لم أرك صباحا ً!

رجع آدم بظهره مستنداً على الكرسي بحديقة الكلية قائلاً بحنق :

-احمد الله لعدم تقابلنا هذا الصباح وإلا كنت بعداد الموتى .
قهقه مراد وقد فهم مقصده وأجاب :
-إن أنهيت محاضراتك تعال إلى الشركة لننطلق من هنا مباشرةً "

- سأنطلقُ من هنا بدراجتي"

- لا.. التوصيات جاءتني من خالتك شخصياً ( اصطحبه معك فالمسافةُ طويلة ) ولا تريدُ مني حتماً أن أخالف تعليمات والدتي وإلا نمتُ بغرفةِ الجرذانِ اليوم !!
تعالت ضحكات آدم مجيباً : ليتها فعلتها معكَ ذات يوم فأنت تستحقها بجدارة .

******
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.