Enasmhanna

شارك على مواقع التواصل

انتهى مراد من تعقيم جراح آدم بصمت مطبق من كليهما، نهض ليغسل يديه ثم عاد باسماً : يبدو أن نور قد نسيت أمر القهوة نهائيًا .
ما زال الوجوم يسيطر على تقاسيم آدم الذي أرجع رأسه إلى الوراء متمعناً بالسقف، تقدم مراد ليجلس قبالته وربت على فخذه : ألن تخبرني ما سبب عراك الثيران هذا ؟
تطلع آدم به بابتسامة شاحبة ثم اعتدل ليهتف بحنق  :لو لم تترك اختك حتى انتصاف الليل برفقة ذلك الوقح لما كانت هنالك مشكلة من الأساس ..
انفرجت عينا مراد بعدم فهم :
- إنه ابن عمها

احتقن وجه آدم ونهض وقد استفزه جواب مراد :
-أنت شخص لا مبال إطلاقاً يا أخي .... تتركها معه بمفردهما لمنتصف الليل وتقول أنها مسألة عادية مراد ؟! .
لوح مراد بيده قائلاً بعتاب :
- اسمعني آدم، انا اعرف جيدًا أخلاق ابن عمي ، و أستأمنه على حياتي، لا على شقيقتي فقط افهم ذلك جيداً، كما أنك كذلك تقوم بإيصال نور في كثير من الأحيان الى أي مكان تريده بل نسمح لك بالاختلاء معها حينما تقوم بإعطائها الدروس ولك حرية القرار بشأن الكثير مما يخصها لأنك بمثابة شقيقها وأثق فيك تمامًا كما أثق بكريم فلا داع لتماديك بمسألة العناية بها لأنني ووالدي موجودان عند اللزوم .. والثقة التي نمنحها لكما ليست تهاوناً افهم ذلك وضعه في حسبانك ...
لو رأيت من كريم ما يعيب تجاه شقيقتي لكنت اقتلعت حنجرته ولك المثل...
خرج آدم بغضب إلى الشرفة كيلا يحطم فك مراد، فكيف بجروء من الأساس أن يضع نور بخانة الشقيقة ! كيف يجرؤ على التلفظ بهاتك الحروف القاتلة ؟ هي لم ولن تكون شقيقته، هي حبيبته، طفلته الصغيرة ، عشق شبابه الذي تفتحت مشاعره من خلالها، هي فقط من أثارت بداخله مشاعر الحب الأول، الحب الجميل النقي ، أخذنفسا عميقاً ليستنشق الهواء عله يهدئ من وتيره غضبه كيلا تتصاعد مجدداً...
فكيف لمراد ان يكون أعمى بهذا الشكل الا يرى مشاعره تجاه نور!؟ ألا يرى مشاعر كريم تجاهها؟ ألا يرى نظرات كريم إليها كلما اجتمعوا؟!

قبض على العارضة الحديدية وكأنه سيسحقها تحت وطئ كفيه، فتقدم منه مراد ليستند بظهره على العارضة متأملاً تعابير وجه آدم الانفعالية ، تلخبطت أفكاره وأخذ يفكر بسر غضبه المبالغ فيه ،ثم انفرجت عيناه بعدما استشعر الحقيقة :
-مهلاً ..... هل تحمل أية مشاعر تجاهها !.
باغته السؤال المفاجئ كطلقة رصاص انبثقت من فم مراد لتقتحم صدره .

تطلع فيه بتشتت، بضياع حقيقي، وكأنه أمام قاض في المحكمة، هل سيعترف بجرمه المتمثل بعشق نور ، هل ينكر ، لا ... لا بد وأن يهرب الآن من أمامه .
- أنت فعلاً لا تطاق !
انطلق لسانه يقول تلك الكلمات ودلف إلى الصالة مجدداً هربا ًمن نظرات مراد التي شعر بها تخترق ظهره لتعيث بداخل صدره دمارًا، وكأنه فعلا يبحث عن نور بين ضربات قلبه المفضوح .
-وصلني الجواب ...اعترف بأنك جبانٌ إذن "

نطقها مراد باستهزاء وهو يتجاوز آدم ليخرج لكنه استدار مجدداً وقال محتدا : لو كنت تكن لها أية مشاعر  سأقف في وجهك  .... فمن لا يملك القدرة على الاعتراف بمشاعره لا يستحق حتى الوثوق فيه يا آدم .

واكمل هبوط درجات السلم بعدما فجر قنبلته ليستمع إلى صوت تحطيم من منزل آدم ويبتسم بانتصار بعد تيقنه من الحقيقة....إنه يحبها .
لما يصر الناس على وأد الحب وكأنه عار عليهم ، هو شعور نقي جميل، بل هو هبة الخالق للإنسان ، أعظم هدية بالوجود أن تتآلف روحك بروح أخرى بمشاعر عظيمة هفهافة، لا يجب أن يصمت الإنسان عندما يحب ...يجب بأن يجهر بصوته عاليا ًباثا العالم هذا الخبر العظيم ....اليوم ولد حب جديد.. قصة حب جديدة سيسطرها التاريخ البشري، هو في قرارة نفسه يفهم أن معاملة آدم لنور لا تقتصر على كونه اهتمام اخوي ....بل غيرة رجل على حبيبته ، غيرة عاشق ...بل عاشقٍ حتى النخاع .

وهو كرجل ... بات يفهم نظرات آدم ومشاعره جيدًا، لكنه لو لم يكن يثق فيه لما تجرأ آدم حتى على إلقاء السلام على شقيقته .
دلف مراد الى المنزل وقابل كريم الذي كان متجهاً نحو الخارج ليغادر، تبادلا نظرات سريعة قبل أن يستوقفه كريم :
يجب أن نتحدث.
ربت مراد على كتفه ...
-ربما لاحقاً..المهم أنني عرفت سبب الشجار .
مراد...اسمعني" نطقها كريم على مهل فقاطعه مراد مشددا على حروفه: انت اسمعني...اذهب الآن وارتح في منزلك ولاحقاً لنا حديث طويل.

*******

حطم آدم ما وقع تحت يديه وخرج من الفيلا ليهرول راكضاً عبر الشارع وبعينيه آلاف الشياطين تتاقفز ، كان يسرع الخطى ليطفئ لهيب قلبه الذي ماعاد يهدأ..

و استمرت الأيام.... ورغم اشتياقه لنور لم يستطع حتى رؤيتها بعدما جرى تلك الليلة، لأنه لن يتردد لحظة واحدة في صفعها ليطفئ لهيب ناره لمجرد تذكر قبلة كريم إلى كفها تذرع بالدراسة كلما اتصلت به عبير للجلوس عندهم فتكتفي بإرسال الطعام إليه وتشاركه فيه في كثير من الأحيان أو توصي الخادمة بذلك، أما مراد فهو يتجاهله من حينها، ليفهمه أن عليه بأن يكون صريحاً، صادقاً، جريئاً بالاعتراف كي يصبح جديرًا بها، ونور تخجل من مواجهته فتتذرع بدراستها هي الأخرى كيلا توصل إليه طعام الغداء أو العشاء .

وهذه الأيام كانت كالكابوس بالنسبة لها نظرا  لاقتراب الامتحانات ..وحاجتها الماسة لمن يقوم بتدريسها...
اقتربت من مراد ذات يوم قائلة برجاء رغم معرفتها بانعدام صبره اذا لم تبد استجابة في الفهم: ساعدني هناك مسائل رياضية وهندسية لا أفهمها..
لكن مراد كان مشغولاً جداً في تلك الفترة فما كان من عبير إلا تقول ما خشيت نور أن تسمعه: اذهبي لآدم ..
لكن مراد سارع القول : انه مشغول هذه الفترة بمشروع التخرج يا أمي ..دعينا لا نضغط عليه...ربما بحثت عن أستاذ مناسب ..
لتتنهد نور وترتد جالسة على الأريكة وقالت تجاهد البكاء : وحتى تجد سأظل أتخبط في هذه المسائل! .
فاحتد مراد بحديثه: واين كان عقلك طوال العام حتى لم تفهمي شرح الأساتذة!!
وكأن ارتفاع صوته كان بمثابة القنبلة التي فجرت ما تبقى لدى نور من عقل فغطت وجهها بيدها وتعالى صوت نحيبها فحدقت فيه والدته بانزعاج ثم قالت : اتصل بكريم ليأتي ويقوم بتدريسها حتى ترى أستاذا مناسباً..
تشنج جسد نور تلقائيا وبدلاً من ان تصمت ازداد صوت نحيبها وهرولت خارجة من الغرفة .
ضرب مراد ركبته ثم اشار ناحية نور : هذه نتيجة الدلال الزائد ...تظن أنها لا تفهم حرفا إلا اذا قام أحدهم بإقحام المعلومة برأسها السميك .
فهزت عبير رأسها برفض : تعرف أن البنت بمرحلة حساسة هذا أولاً وثانيا إنها تعاني من رهاب الامتحان... إن كنت قد نسيت ما فعلت أنت في فترة امتحانات شهادة الثانوية فأنا لم أنسى ..
تحولت بسمته لضحكة خافتة ثم اخرج هاتفه ليتصل في كريم ....منقذهم الوحيد في هذه الأزمة الدراسية التي تعاني منها اخته.

حطت الساعة على السابعة مساءً حين دلفت رهف إلى غرفة كريم باستغراب عودته مبكراً الى المنزل حيث أنه عاد وبالكاد تناول القليل من الطعام قبل أن يتوجه إلى غرفته ليتجهز ...
توقفت رهف أمامه مطلقة صفيرا عالياً:
- ألديك موعد غرامي...ما كل هذه الشياكة !؟
ابتعد قليلاً عن المرآة بعد أن أنهى تصفيف شعره
وقال مخاطباً إياها: ذاهب لبيت عمك ..نور تعاني من أزمة دراسية حادة وتحتاج سوبر فهيم ليقوم بتدريسها .
تعالت ضحكات رهف وهي تتخيل شكل نور المنهارة في البكاء بسبب الامتحانات ثم ضيقت ما بين حاجبيها بشك: وكل هذا التأنق لأجل أن تقوم بتدريسها يا ولد؟
تطلعت فيه بمكر لم يخفى عليه فقابها بابتسامة رزينة: هاتي من الآخر...
- أعرف أنك معجب بها.
صمت للحظات محدقاً بشقيقته ثم رفع كفيه بلا مبالاة: لتصحيح معلوماتك...أحبها، وهناك فارق كبير بين الإعجاب والحب .
ثم غمز رهف وغادر الغرفة ففغرت فاهها من جرأة اعترافه! 
لكن هذه هي شخصية كريم التي لا تتغير ...جريء ومندفع  ومدرك جداً لما يريد ..

وفي بيت عمه ..جلس في الصالة وفتح الكتاب أمام نظرات نور المنكبة على اللوح الزجاجي للطاولة..يعرف أنها تحترق خجلاً من  تمهيد اعترافه بحبه لها منذ تلك الليلة التي تشاجر فيها مع آدم ومع ذلك ظل هادئاً وطبيعيا أمامها....
بعد دقائق من الغرق فيها دون ان تشعر به، قال مازحاً: إن انتهيت من تأمل الطاولة فلنباشر في الدرس ..
عضت شفاهها بحرج ورفعت رأسها ناحيته وأومأت له بابتسامة شاحبة...
فمال عليها ليهمس بشيء لكن دخول الخادمة لتقوم بالتوضيب بالصالة ألجمه .. وبدلاً من أن ينطق أمسك قلم الرصاص وكتب على صفحة من صفحات الكتاب ( لا تدعي موضوع اعترافي يؤثر في تصرفاتك معي...كل شيء كما كان..وسيظل)
قرأت خطوطه المنمقة بقلب يرتجف صدمة ، مد يده مجدداً وكتب بخط واضح  (إلا قلبي..فهو ملكك  منذ مدة طويييلة ..طويلة
...شيء ما قد تغير فيه..وماعاد ينبض إلا لك يا سمو الأميرة) .
رفعت وجهها المحتقن لتقابلها عيناه الضاحكتان...نعم كانت عيناه تضحك ككل جزء فيه إلا شفاهه قد جاهدتا للإنغلاق لئلا تنطقان بما يعتمل بصدره ...
تنهد ليرحم احتقان وجهها وقال بعد لحظات : -لنبدأ الدرس .

وبعد توالي الدقائق والساعات...والدروس ..وبعد تواري الخجل في سبيل الجهد والفهم أدركت لما تستدعي العائلة كريم دائماً إن احتاجوا أي مساعدة ...
إنه ببساطة...رائع بكل شيء، ماهر بكل شيء...رياضي، سباح ماهر و ملاكم قوي ذو بنية جسمانية ضخمة...بارع حتى بالرياضيات والهندسة على الرغم من كونه خريج أدب عربي ! إنه مزيج مجنون من التناقضات ! والآن أدركت رغم وحشية الرياضة التي يمارسها إلا أنه يعرف كيف يغازل! يعرف كيف يلقي كلمة أو نظرة  وسط الحصة الدراسية لتربكها وتجعها تتلعثم أمامه !
والأهم انه يمتلك حسا فكاهيا  وطريقة شرح مثالية قضت على التوتر الذي انتابها لاقتراب موعد الامتحان ...

بعد عدة أيام وبعد انتهاء درسهما المعتاد ودعته من عند الباب قائلة بابتسامة ممتنة وهي ترفع وجهها ناحيته:
-شكراً  لك على كل شيء كريم...لقد أنقذتني .
فارتسمت ابتسامة هادئة على ثغره وهو يتأمل عيناها العسليتان اللتين بات يعشقهما أضعافاً :
- بل شكراً لك أنت..سمو الأميرة..عديني أن لا تبكي مجدداً فبالنهاية هو مجرد امتحان.
كان لقب الأميرة الذي أعاده هذه المرة شفهياً لا كتابياً قد زاد من توهج وجنتيها فكبحت بسمتها الخجلى  وردت عليه: مجرد امتحان لكنه سيحدد مصيري...أريد الطب ولا شيء غيره يا كريم..أنا مرعوبة .
رفع ذقنها بأنامله غارقاً بعينيها:
- أنا أثق بقدراتك...ستنجحين...وستدخلين الطب، وستصبحين أجمل وأمهر طبيبة في المدينة وحينها ..إن جئتك جريحاً فداويني..اتفقنا .
ابتلع ريقه بتوتر أمام نظرات الخجل المرتسمة على وجهها فأطرق رأسه أرضاً ثم ابتعد عنها وغادر...أما هي فظلت متعلقة بالباب لفترة تحلم بتحقيق ذلك الحلم الذي سعت لأجله طويلاً...
ولم تنتبه على آدم الذي يجلس على الدرجات أعلى السلم..مختف بجانب السور فلا يبان منه شيئاً... ككل مرة يرى سيارة غريمه تقف أمام المنزل يجلس اعلى السلم لحين انتهاء الدرس .. بات يعلم أن كريم يقوم بتدريسها  مساء كل يوم ...

أما روحه فكانت تغلي بألم بالكاد يستطيع كبحه وكتمانه وهو يرتكز بجانب رأسه محاولا ضبط أعصابه عن تحطيم أضلاع كريم الذي يسلبه رويداً رويداً أعز ما يملك..
أغلقت  نور الباب وجلست في الصالة لتأخذ قسطا من الراحة أنهت والدتها تحضير طعام العشاء فسكبت الطعام في أطباق ورصتها على الصينية ، قدمتها لنور قائلة:  اتصلت بآدم لكنه امتنع عن الحضور على العشاء كالعادة أوصليها له أنا  مشغولة جدًا الآن.
تعللت نور بعودتها للدراسة لكن عبير أصرت : -خمس دقائق إضافية لن تعطل دراستك، هيا اذهبي سيبرد الطعام ..

ألقت كلماتها المقتضبة معلنة انتهاء الحديث وتوجهت مجدداً إلى المطبخ لتزفر نور باستياء وتحمل صينية الطعام مرغمة وتصعد إليه،
بعد لحظات فتح آدم الباب لتتجمد نظراته عليها،  لكم اشتاقها بهذه الأيام التي لم يرها فيها، لكم اشتاق تأمل عينيها الصافيتين الدامعتين على الدوام في الفترة الأخيرة ...لكنه قطب حاجبيه مجيبا  :
- لست جائعاً
قالها بعبوس ظاهر لتنظر له نور بحزن جلي :
-بل أنت جائع ...لكنك لا تريد أن تستلمه مني، سأرسله مع الخادمة إذن وآسفة لإزعاجك .
قالتها وهمت بالرحيل فقبض على الصينية دون أن ينبس بكلمة ودلف إلى الداخل، رفعت أهدابها وخطت الى الداخل بخجل بخطواتٍ مترددة، شعر بها خلفه مباشرة فضرب الصينية على الطاولة لتحدث صوتاً عالياً وقال دون أن يستدير : أتريدين شيئاً آخر ؟ .
-آدم ....
انفرجت شفاهها تلفظ حروف اسمه لتختلج ضلوعه، لكم يصبح اسمه عذباً من بين شفتيها، لكم يعشق رنين حروفها عندما تلفظ حروفه طال صمته ينتظرها أن تبوح بما جاءت لأجله فرجت شفاهها وضمتهما عدة مرات قبل أن تتلفظ بأسف حقيقي : هل التأمت جراحك؟  حارب ابتسامته هذه المرة لكنه لم يفلح ما دامت مصرة على إهلاكه بنوعمتها ورقتها اللامتناهية،

همس بخنوع عاشق وهو يستدير ناحيتها : الجراح الحقيقة هي التي تستوطن روحي إن اقترب منكِ مجددًا ،
الألم الحقيقي هنا ، قالها ورفع كفها ليضعها على صدره، ارتعشت أناملها وتاهت ببريق عينيه الذابلتين، وخقق قلبها باضطراب مربك، اضطراب باتت تستشعره كلما التقت به مؤخرًا...مهما كلمها كريم ومهما غازلها بجرأته المعهودة تبقى مصارحات آدم هي الأعذب...تبقى همسته هي الأحلى والتي تدغدغ روحها بشعور لم تفقهه بعد لكنه شعور جميل جداً ...
وكادت أن تغادر لكنه أدارها إليه مرة أخرى ليهمس بحدة وقد اشتعلت عيناه من جديد : لكن تجرأ ذلك الأحمق على لمسك أو إزعاجك مرة أخرى أقسم بالله العظيم أن أنهش لحمه وألوكه بين أسناني أتفهمين ...لا تعطيه الحق بالتمادي.
ولا تعطيه الحق بتدريسك...من اليوم سيعود كل شيء لما كان...
اتسعت عيناها بذهول من قساوة كلماته المنطوقة لكنها ابتسمت دون حتى أن تفهم السبب لذلك ، هو يريدها ملكه فقط، ولا مانع لديها أبداً بذلك حتى ولو لم يعترف لها علانيةً عما بقلبه، لكنها باتت تحب اهتمامه بها ودفاعه المستميت عنها وغيرته عليها ، فلتكن إذن له وملكه،
قالت بارتباك: و...ومشروع التخرج؟!
- نجاحك هو الأهم.
ابتسمت و هزت رأسها بتلقائية ثم هربت من أمامه بعد ان همست بصوت غير مسموع: شكراً... شكراً لك.

********
بعد عدة أيام حسم كريم أمره وتوجه مساءً ناحية منزل عمه بعدما أعلمه بمجيئه، كان آدم خارجاً للجري كعادته المسائية حينما رأى كريم يلقي السلام على نور و يدلف إلى منزل خالته ، قطب حاجبيه واصطكت أسنانه من الغيظ وأكمل نزول السلم بعصبية بينما كريم كان قد خطى إلى غرفة مكتب عمه ليحادثه على انفراد .

وبعد السلام والتحية قرر الدخول في الموضوع الذي لم يصارح فبه والديه حتى اللحظة ..،تنحنح بارتباك قبل أن يقول لعمه:
اعرف أن الوقت الآن ليس مناسباً للحديث بهذا الموضوع يا عماه وكنت سأنتظر لانتهائها من امتحان الشهادة الثانوية، لكن غيرة آدم الزائدة وتدخله هي من استفزتني .
عقد رضوان حاجبيه عله يستشف التلميحات من وراء كلمات كريم لكنه قال : احكي بني ...أنا أستمع"
بلع كريم ريقه قائلا : .... بصراحة أكثر أريد الزواج من نور على سنة الله ورسوله يا عمي "

جمدت ملامح رضوان وهو يحدق بكريم الذي أطلق كلماته كالسهام بجرأة زائدة لكنه وبعد برهة قال له باسماً: أنت مندفعٌ جدًا كأبيك يا ولد ! لكن وكما قلت أن الوقت غير مناسب الآن للحديث بهذا الشأن، عندما تنتهي نور من امتحاناتها سنتكلم بالموضوع إن شاءالله .
قطب كريم حاجبيه ليسأل مجدداً : أريد معرفة رأيك بالموضوع رجاءً .
ربت رضوان على كتفه قائلاً : أظنك تعرف رأيي جيداً بك وبأخلاقك، من أفضل منك لأستأمنه على ابنتي... لكن المهم هو رأي العروس أليس كذلك .

ابتسامة بلهاء عرفت طريقها إلى ثغر كريم وهو يطالع عمه، دلفت عبير لتقدم القهوة لتلتمس الهدوء الذي يعم المكان وابتسامة رضوان الحانية فابتسمت قائلة : ما شاءالله ، هاقد عادت البسمة لوجه عمك بعد المشكلة الأخيرة ...أبعد الله عنا الخلافات "
اجلسي عزيزتي " حثها رضوان على الجلوس بجانبه فجلست عبير بجانب زوجها بعدما قدمت القهوة لكريم وقالت بحنانها المعتاد علها ترجع الأمور إلى نصابها : إن آدم رغم كونه عصبي لكنه طيب القلب جدًا يا كريم، وأنت كذلك من خيرة شباب العائلة لا تدعوا الشيطان يدخل بينكم يا بني "

-اطمئني يا زوجة عمي الغالي.. كان مجرد طيش شباب وسوء فهم سنحله إن شاءالله، لست هنا اليوم لنتكلم عن المشكلة .....بل لأني أريد مباركتك .
قالها كريم باندفاع مجدداً لتتناوب نظرات عبير بينه وبين زوجها وتتسائل : مباركتي على ماذا ؟ .
تعالت ضحكات رضوان هاتفاً : متسرع واندفاعي  تماماً اصبر حتى يتكلم والدك قبلاً مابك !، ألم أطلب منك تأجيل الموضوع !
-ما القصة؟
قالتها عبير وهي تناوب نظراتها بينهما تبسم كريم بحرج لكن رضوان قال لزوجته : يطلب مصاهرتنا، يريد الزواج من نور .

انفرجت شفاه عبير بصدمة وقالت بارتباك : نور!
لكن نور ما تزال صغيرة على الزواج، والفارق بينكما !
تنحنح كريم مجيبا ً: الفارق بيننا أقل بكثير من الفارق بين مراد وزوجته أليس كذلك عمتي ، وهي خطوبة فقط وستكون بعد تخرجها من الثانوية إن شاءالله، ما أريده فقط مباركتكما وأنا جاهز لكل ما تأمرانني به.

عدلت عبير حجابها مجيبة :انا بالنسبة لي لا مانع لدي إطلاقاً ماشاءالله أنت قمة في الأخلاق، وتعرف رأينا فيك... المهم رأي نور ،لكن رجاءً لا أريد تشويشها الآن بأي كلمة عن هذا الموضوع فدموعها حتى اللحظة لا تنضب بسبب الخوف من الامتحانات .
ارتشف كريم من فنجان قهوته بسعادة وقال ببلاهة : طبعا ً....أكيد.. بالتأكيد ..حتماً لن انطق.
انهى فنجان قهوته وخرج من مكتب عمه باحثاً بعينيه عن نور ليعطيها درسه المعتاد...
سأل الخادمة عنها فأخبرته انها في الحديقة الخلفية....خرج متوجهاً ناحيتها ثم توقف مكانه وهو يراها معه....
شعر بمرار غريب بحلقه تصلب جسده وأكمل خطواته بشكل متسارع وقال بصوت جليدي: حضرت لإعطائك الدرس يا نور ..
تسمرت نور مكانها وحدقت في احتقان عينيه الغاضبتين متجاهلا حتى إلقاء السلام على آدم الذي رمى القلم بتأفف على الكتاب ووقف بتأهب مستعد لاقتلاع عيني غريمه:
-لا أعرف حقا أأنت أعمى ...ألا ترى أننا فعلا ندرس هنا؟!
تصخم صدر كريم وهو يقترب خطوة من آدم وهمس كالفحيح: لست أعمى...لكنني لا أرى الحشرات.
شهقت نور و اندست بينهما وصرخت بصوت عال اجفلهما ....
إخرسا الآن والله لو تشاجرتما لخاصمتكما العمر كله....يكفي ..كفوا عن تصرفات الأطفال تلك .
ابتلع الشابان باقي حروفهما أمام نظراتها الغاضبة فما كان من كريم إلا أن هز رأسه وقال بفحيح: -على كل حال....سنحل هذه الأمور في القريب..
أنا ذاهب الآن..ادرسي جيداً .

******

تجهزت جمانة صباحاً لتذهب لعملها بذلك المقهى الذي باتت تعمل فيه كنادلة منذ عدة أسابيع، ابتاعت لنفسها فطيرة جبن لتتناولها كعادتها أثناء المسير حتى وصلت المقهى وشرعت بالعمل ما بين تقديم كأس من الشاي وفنجان من القهوة أو العصير وبعض المأكولا الخفيفة ..
الزبائن تتفاوت ما بين عشاق ومراهقين وشباب جامعيين، أو حتى متقاعدين ممن نبذتهم الحياة فغدت المقاهي هي ملجأهم وتسليتهم الوحيدة، تختلف الوجوه و لكل منهم حكاية، لكل منهم همومه وآلامه وحتى أحلامه تطلعت في وجوههم المتفاوتة ما بين السعادة والبؤس .الراحة والتوتر .. وشردت مجددًا بماضيها...
لا تذكر سوى أنها عاشت أول بضعة سنوات من عمرها مع زوجين ميسوري الحال لكن و بعدما أكملت التسع سنوات تعرض الزوجين لحادث سير أليم توفيا على إثره فوراً ..تكالب الأقارب لسلب الميراث فعادت إلى الميتم لمدة سنة أخرى حتى احتضنتها أسرة بسيطة الحال هما زوجين يعمل الرجل بإحدى البنوك وزوجته معلمة وكانا لا ينجبان الأطفال فرعياها واهتما بها...
اتهم الرجل بعد عدة سنوات بعملية اختلاس كبيرة  رغم أنه بريء منها إلا أنها أطاحت به بالسجن ليصاب بجلطة دماغية جراء صدمته ويموت مخلفا ًورائه زوجته وهذه الطفلة الصغيرة، تقلب حالهما كثيراً ، لكن الزوجة العاقر أصرت على الاعتناء بجمانة كابنتها تمامًا حتى تعاقبت السنوات ووافتها المنية منذ عام ونصف تقريبًا لتواجه جمانه العالم بمفردها...وكأنها دخلت مرحلة جديدة من الصراع "
-جماانة
-جمااانة !!
انتبهت اخيراً لصوت زميلتها التي تنادي عليها منذ فترة .
- ما بك ! قدمي طلبات الزبون "
تناولت منها صينية القهوة على مضض وهي تنظر لذلك الرجل المتأنق وهو يتفحصها بعيني صقرٍ جائع ككل مرة ٍ منذ مدة أطلقت زفيراً حاداً وتوجهت ناحيتة لتقدم القهوة دون كلمة ...

- الابتسامة بوجه أخيك صدقة " قالها باسماً وهو يرى ذلك العبوس الذي يحتل تقاسيم وجهها الناعم، لتجيب باندفاع : لا رغبة لي بالتصدق اليوم أيها السيد .
-ألا تريدين زيادة حسناتك ؟
ضربت بكفيها على الطاولة قائلةً بغيظ وهي تهمس: لإماطة الأذى عن الطريق حسنة....وأنت الآن بالنسبة لي شخص مؤذ فانتبه لكلماتك كيلا القيك خارجًا وبهذا تكون حسناتي قد تضاعفت ستين مرة .

تعانقت عيناهما بمزيج غريب من الجنون والاعجاب ، ووسط نظراتها الهادرة تجاه استفزازه لها يومياً، ارتفع كفه بتلقائية وهو يحمل فنجانه ليشتم رائحة القهوة قائلاً : الله !! رائحتها شهية ، شكراً حلوتي .

تناولت الصينية مغادرة بحنق وهي تطلق السباب على ذلك الرجل الذي سيصيبها بالجنون فعلاً! .

تبسم مراد بمكر وهو يحملق بتلك الجنية القصيرة ناعمة الملامح والتي سلبته عقله وتفكيره منذ اسبوعين حتى الآن، بعينيها الواسعتين, بلسانها الطويل حتى أن لسانها أطول من قامتها القصيرة! ببناطيلها العسكرية الغريبة! .... وكأنها فعلا صندوق متنقل من الديناميت مستعد للانفجار بأية لحظة، لكنه يعشق الديناميت فعلاً ! كان معتاداً على الجلوس بهذا المقهى بشكل شبه يومي ليشرب قهوته الصباحية قبل أن يتوجه لشركته، فهدوء المكان وبساطته كانت تأسره ،أو لنقل .....هو من أشرف على تصميم هذه المقهى بنفسه ابتداءاً من الأساسات الإسمنتية حتى الديكور الداخلي والتفاصيل الكمالية للمكان بما أن لديه هواية بهندسة الديكور كذلك بجانب عمله كمهندس مدني، لكن ما زاد هذا المكان رونقاً وجمالاً بنظره هو تلك الجنية المدعوة جمانة !
على الرغم من اقتراب موعد زواجه، حيث أنه بعد انتهاء نور من فحوصاتها مباشرة ....

هو يعترف بأنه خائن ...لكن بقاموسه خيانته مشروعة حتى يتزوجها ربما حينها فقط، سيكف عن ملاحقة النساء فلينعم إذن بآخر بضعة أيامٍ بهناء !

رن هاتفه المحمول ليلتقطه ويجيب على المكالمة :
-المشروع سيسلم بمعاده يا أبي لا تقلق رجاءًا ودعني استلذ مرة واحدة بفنجان قهوة دون أن نقاطع خلوتي به "

-خلوة !
تسائل رضوان ضاحكاً ليردف بعد فترة : حسناً تمتمع بخلوتك مع قهوتك ولا تتأخر على الإجتماع وإلا سأغليك مع القهوة بقدرٍ واحد ،الأعمال تراكمت علينا !

أغلق مراد هاتفه وما تزال نظراته مرتكزة عليها بشكل استفزها لكنها حاولت قدر الامكان السيطرة على أعصابها كيلا تدق عنقه فتصبح عاطلة عن العمل للمرة المائة بعد الألف!
ارتشف فنجانه على عجل واخرج النقود من جيبه ليضعها على الطاولة مغادرًا المقهى، تقدمت جمانة من الطاولة لتسحب النقود ومدت لسانها بغيظ وحينها استدار بتلقائية ليراها من خلف الزجاج فتفاجئ من فعلتها الخرقاء فابتسم بتسليةٍومد لها لسانه كذلك بشقاوة ليصطبغ وجهها بألوان الطيف السبعة وهي تتمتم :

-غبية جمانة .... غبية كعادتك يا للحرج !

**********
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.