Enasmhanna

شارك على مواقع التواصل

((مراد))

من يراني من بعيد، لربما يؤمن بسعادتي، لا يدركون أني أبكي كل يوم.. والجرح الذي بداخلي ينزف دائماً وأبداً، أصبحت حياتي مجهولةً كلحنٍ أثيري مبعثر ..ويستمر الليل الطويل دون أن تشرق شمس الأمل...أضحت نيراني رماداً ومن بين الرماد خرجت جمرةً لتحرق ما تبقى من روحي ....وربيعي أغار عليه الريح فتبعثرت حياتي كما تتطاير أوراق الخريف، حتى الزهور من حولي ذبلت، ماتت، تاه عبق ريحها بمستنقع الواقع ... ماتت الدقائق فابتلعتها الأيام والسنوات ...

لم أستطع نسيان الماضي ولن أستطيع، صرت وحيداً في دوامة الحياة بلا هدف، بماضٍ بشعٍ جداً لا أريد استذكاره .. وحاضرٍ يحتضر ومستقبلٍ لا مستقبل له ! كيف جرى كل ذلك !! ولما وصلت إلى هذه المحطةِ بالتحديد ..

بعدما غادرتني جمانة ذلك اليوم الذي لن أنساه حتماً لأنه بداية الموت بالنسبة لي....هربتُ إلى الحانة، المكان الأمثل لأمثالي..وأطلقت فيها طاقتي بالشرب والرقص كمعتوهٍ متمرس... أطلقت كل الألم الذي يستعمرني منها...ومن نفسي .. ومن خيانتي لزوجتي..واكملت ما ابتدأته بالحانة من لهوٍ وعبث وأنا مغيبٌ عما حولي، لتدلف معي تلك الشقراء إلى غرفتي في الفندق،

لا انكر أني بكيت كثيراً حتى وأنا برفقة تلك اللعينة، بكيت وضربتها بشكلٍ هستيري حينما تمثلت جمانة أمامي !! حتى هربت الفتاة من الغرفة لأرتمي أنا باكياً ولأول مرةٍ لأجل امرأة.. تلك الجمانة سحقت روحي، أحرقتني بنيران خطيئتي واستمرت تلك النيران طويلاً....ولم تنطفئ

لم أكن أعرف حينها أن إليسا سقطت على الأرض ونقلوها للمستشفى.. كنت معتكفاً لثلاثة أيامٍ قضيتها بانحرافٍ غير مسبوق، بضياعٍ وتشتتٍ وغضب، أقفلت الهاتف بعدما توالت اتصالاتهم المستميتة لهاتفي واستكملت رحلتي الماجنة انتقاماً من كل من حولي ..

وحينما رجعت كان المنزل يعبق بسكونٍ مخيف، صعدت درجات السلم لأرى تلك الجنية جمانة تعبث بخزانة اليسا وحقيبةٌ كبيرةٌ على السرير! لم أفهم ما الذي يجري حينها! بقيت أحدق بها بصمتٍ حتى تنبهت لوجودي وتطلعت في بعيونٍ كالجحيم..بل أشد وطأةً منه! رميت حقيبتي على الأرض لتغلق هي حقيبة إليسا وتخرج بها دون أن تتفوه معي بحرف، توقفت بطريقها قائلاً بعدم فهم: ما الذي يجري؟ أين الجميع ؟

رفعت بصرها تجاهي ورمقتني بنظرة ازدراء قبل أن تغادر... ناديتها :جمانة! ما الذي يجري؟
- وهل يهمك ما الذي جرى !

-أين اليسا " سألتها بتوجسٍ وشعرت حينها بأن قلبي قد سقط بعنفٍ ليرتطم بخطاياي.....

-إليسا بالعناية المركزة يا مراد... تدحرجت عن السلم وأجهضت الجنين.."
نطقتها بعنفٍ لترتطم كلماتها بأذني لتحرقني حروفها..وطال تحديقي بها دون أن أصدق ما جرى...كما طال الألم الذي عذبت فيه روح زوجتي .. كالألم الذي نهش روحي جراء فقدان طفلي الأول، كم كان انتقام القدر قاسياً مني، كم كان الثمن غالياً بشكلٍ سريع وقبيح، دلف آدم متسائلاً : هل انتهيتٍ ؟"
واقتطعها ما إن رآني أعلى السلم.. واقفٌ كالصنم أحدق بهما ولا أفعل شيئاً سوى التحديق كالأبله ! كالشريد....انتشل آدم الحقيبة من بين يدي جمانة وقال موجهاً حديثه لي : إن كنت تريد زياتها... فهي في مستشفى الحياة.
هيا جمانة " وانطلقا دون أن يضيف أحدهما شيئاً آخر...

وتهشمت روحي.. وتناثرت شظايا القهر كالبلور المكسور لتعيث دماراً نازفاً داخل صدري، وتعاقبت الليالي السوداء التي لم أحسب لها حساباً.. مات الذي كان يربطني بزوجتي، مات حب زوجتي الصغيرة التي لم أصنها كما يجب...ماتت روحي كذلك منذ ذلك الحين.. ورضخت لمطلبها في الطلاق بعدما تعافت مني ومن ماضيي الأسود ولم أعد أعرف عنها شيئاً سوى أنها سافرت للإقامة في دبي عند عمها ...

وجمانة... تلك التي أذاقتني الألم بألوانٍ متعددة... اختفت من حياتي وانسابت كالماء الزلال من بين أصابعي، تزوجت كريم ..صديق الطفولة وابن العم الذي كان بمثابة أخ لم تلده أمي...
تزوجا بحفلٍ لم أحضره ... بل سافرت هرباً منهما ومن كلِ أحدٍ من أفراد أسرتي التي اعتبرتني المسئول عما جرى بشكلٍ أو بآخر"
هربتُ أنا إلى فرنسا واعتكفت فيها كسائحٍ باحثٍ عن الألم فقط..
أكثر من ست سنواتٍ عجافٍ مرت، استنذفت روحي وقلبي وعقلي... أرى كل شيءٍ مر بحياتي.. كالحلم... لا بل كالكابوس... واشتدت تلك الكوابيس عندما هاتفتني نور وأجبرتني على الانصياع لها للعودة لأنها تخرجت من كلية الطب منذ مدة وتحدد موعد زفافها ولا بد من حضور شقيقها الوحيد ! كنتُ أهرب من النار والآن رجعت إليها بل وارتميت بأحضان تلك النيران المتلظية لتعاود نهش ذاكرتي من جديد..

حين عودتي....
ارتمت نور على ذراعي كطفلةٍ شقيةٍ لم تكبر بل ازدادت فتنةً وأما تلك الصبية ذات الاربعة عشر عاماً كانت عسل! نسخةٌ مطابقةٌ من جمانة! بلسانٍ طويل وألبسةٍ عجائبية! حملتها بين ذراعي ودرت بها كثيراً ولربما بكيت وتلك الصغيرة بين أحضاني أقبلها.. لكم اشتقت لعسل الشقية ! .. وتعلقت عيناي على أبي وأمي الذين استقبلاني بكل حبٍ واشتياق..
وهبت نيران الماضي ولفحتني مجدداً عندما دلفت جمانة وكريم وبينهما طفلٌ صغيرٌ لم يتعدى العامين من العمر! تفاجأت جمانة كحالتي لرؤيتها الآن لأنني لم أعلمهم بشكلٍ رسميٍ متى سأحضر لذلك كانت مفاجئةً للجميع ! فابتعلت تلك النار مرغماً وألقيت التحية عليهما وانحنيت لأحمل ذلك الطفل الذي يحمل رائحتها واتساع عينيها الساحرتين...

وتقرر حفل الزفاف وحضرت ذلك الحفل الذي أنساني جزءاً من همومي.. بل وتكلل بحبٍ شهدته أنا على مدار تلك الأعوام! لربما لو كنت وفياً لزوجتي لكان طفلي الآن بعامه السادس.. لكنت مع إليسا ننعمُ بكل سكنينةٍ وحب! واشتقت لها صرت أفتش عن صوري معها، تلك الصغيرة البريئة.. وحش الشوكولاه! تبسمت ومسحت دمعةً خانتني وأنا أتذكر كلما مر بيننا...حتى لحظات الحب كان غريباً معها... لذيذ ًا كقطع الشوكولاه التي تحبها!

وكدت أن أغادر مجدداً إلى فرنسا لكن الجميع منعني عن ذلك...ولكن أكثر دقة لم أشأ أن أهرب بعدما التمست هذا الدفئ الأسري مجدداً لكن كريم، صديق طفولتي. ابن عمي الذي سلب فرحةً كنت ألاحقها سابقاً لم تعد علاقتنا كما السابق، لم يعد ذلك الجدار الذي استند عليه بأشد لحظاتي ضعفاً بل صارت علاقتنا شبه رسمية...

وارتأيت أن أبقى مع عائلتي بعدما صفيت كل أعمالي في فرنسا... وبما أن آدم صار المهندس الرئيسي بالشركة طيلة سنوات غيابي رضخت بكل رحابة صدر بأن أكون تحت ظله !
ومر عامٌ آخر لم يتغير فيه شيء... سوى بأن العمر يهرول بنا سريعاً نحو النهاية..عام اضيف لحصيلة ستة أعوام قضيتها المغيب عن ما حولي...لا أشعر بأحداث الأيام... ولا بمن حولي من أصدقاء ومعارف...
كان (جواد )ابن جمانة عند والدتي ذلك المساء حينما تركه والداه وذهبا لإحدى الزيارات..
كنت ألاعب ذلك الشقي الذي استلب مكر والدته وهمجيتها الجميلة! لكنه وبلحظةٍ وقع ليرتطم رأسه على حافة المنضدة الزجاجية لنصاب بهلعٍ أنا ووالدتي عندما انسابت الدماء من جبينه ...حملته بين ذراعي وهرولت به لأقرب مستشفى وولجت قسم الاسعاف لتتلقفه إحدى الممرضات من بين يدي وتتوجه به نحو سرير المعاينة و ما هي إلا لحظات حتى توقف الزمان بي... توقفت عن التنفس عندما هجمت تلك العينان لتدقا ناقوس ذاكرتي... تلك اليدين اللتين تذوقت من خلالها الشوكولاه بالبندق ! دفعتني دون أن تتنبه على هويتي ومن أكون وهجمت بشعرها الأحمر المتمرد كما تمرد صدري هذه اللحظة وأعلن عصيانه...
وعاينت جرح جواد.. وعالجته بمهارةٍ فائقةٍ وحينها فقط استدارت ناحيتي لتقول : الحمد لله لا يحتاج إلى تق....طيب.

ارتفع حاجباها حينما تطلعت بي اليسا أو عفواً.... الدكتورة إليسا!.. بكى جواد لينتشلني عن شرودي بها فتلقفت الصغير بين يدي بينما اليسا تحدق بنا بصدمة جعلت صدري عاجز على النبض.
قلت بلا وعي وكأنني أدافع عن نفسي لذنبٍ اقترفته : ليس ابني "
هزت رأسها مجيبةً ببساطة : لا يهم... حمداً لله على سلامته "
سكت الصغير ونام بين ذراعي بينما كادت أن تغادر فاستوقفتها هامساً : كيف حالك ؟
هزت رأسها مجيبةً : الحمد لله ".
وبقيت كالأبله أحمل ابن جمانة واتطلع بها فهمت استغرابي وأجابت ببساطة وهي تتحاشى الندر داخل عيني المنهكتين: أكملت دراستي في دبي ودخلت كلية الطب هناك.. ورجعت منذُ فترةٍ وجيزة بعد التخرج لأتدرب "
أومأت لها وأنا أشد بقبضة يدي على الصغير : تغيرتي كثيراً
-كلنا نتغير يا مراد"

تنحنحت مجدداً حينما خاطبتني إحدى الممراض لابتعد فسألتها مجدداً : متى... تنتهين من عملك ؟ أقولها ولا يسعني التصديق أن تلك الصغيرة أضحت طبيبةً شابة! بل ملاكٌ بزيٍ أبيض !
فأجابت باقتضاب : عندي مناوبةٌ اليوم "
فهمست لها وأنا أتطلع لأصابعها الخالية ....
هل ..أنتظر
- افعل ما يحلو لك...

*************

إلى اللقاء في الجزء الثاني...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.